سؤال التحرر ضمن الخصوصية الفلسطينية
ارتبط التعليم التحرري بالشعوب المقهورة أكثر من غيرها. القهر نفسه يولّد أدوات الوعي به عند المقهورين. المقهور إنسان حفر الاستبدادُ في جسده أخاديدَ ونتوءات، إذ إن الصراع بين الطرفين - القاهر والمقهور- هو صراع إرادات ساحته الجسد وأدواته العنف بكل تجلياته: المادية وميدانها الجسد، والرمزية وفضاؤها العقل والذاكرة. فلا يكتفي المستبدُ باستعباد الجسد لاستغلال قوة عمله، بل يسعى لاحتلال عقل المستبد به وإعادة إنتاج وعيه بذاته وعالمه بهدف إقناعه أن هذا قدره وألاّ سبيل إلى تغييره.
القهر والتحرر مفهومان مركزيان في خطابات التعليم التحرري ويتجاوران مع ثنائيات عديدة ضمن شبكة من المفاهيم شكلت ما يمكن أن أسميه "حقيبة التعليم التحرري" من قبيل: الحوار والصمت، التعليم البنكي والتعليم التحرري، المعرفة والمعلومات، المعلم المستبد/الملقن والمعلم الميسر وهكذا. وعلى الرغم من كون القهر والاستبداد ممارسات ممتدة وعابرة لفضاءات المجتمع فإنها اكتسبت أهمية كبيرة في السياقات التعليمية أكثر من غيرها، لأن المدرسة في نظم الاستبداد أداة لقولبة الأفراد وصناعة الوعي في مسعى لتطويع أجساد المتعلمين وعقولهم. ويتجلى القهر في السياق المدرسي في مجتمعات الاستبداد عبر توظيف:
- مناهج وأساليب تدريس تقوم أساساً على الحفظ والتلقين والاسترجاع، وتعتبِر عقل المتعلم وعاء يملأ بالبيانات والمعلومات.
- أنظمة ثواب وعقاب مستمدة من النظرية السلوكية تعتبر المتعلم فرداً منتجاً للسلوك.
- العنف كأداة للضبط الصفي، وهي فكرة قادمة من النظم العسكرية.
يمْنَعُ رسمياً استخدام العنف في المدارس الفلسطينية، وفي ضوء ذلك تراجعت وتائر العنف في العقدين الأخيرين، لكن في الواقع ما زال العنف بكل تمظهراته مكوناً قائماً في الخطاب المدرسي ومسكوتاً عنه، لأن العنف هو جزء من جوهر النظام التعليمي. ولأن المناهج التلقينية وأنظمة الثواب والعقاب ما زالت قائمة، فبعض المعلمين حتى الآن يدخلون صفوفهم وهم يلوحون بالعصي، وأحياناً يضربون الطلاب بلا شفقة، ويمكن تتبع ذلك من خلال وسائط التواصل الاجتماعي، التي تنشر من حين إلى آخر بعض هذه الفضائح. وجود العصا في يد المعلم يبث رسائل للمتعلمين بالجهوزية لإيقاع العقاب. والتهديد في هذه الحالة كامن ويعلن عن نفسه في كل لحظة.
لا أظن أن ثمة من ينافس الشعب الفلسطيني في القهر والاستلاب، فهو يعاني منذ سبعة عقود جرّاء احتلال أرضه والسطو على تاريخه وذاكرته وتراثه وإعادة إنتاجها من منظور كولونيالي صهيوني، وقد حدث كل ذلك وما زال يحدث متزامناً مع سياسات كولونيالية تقيِّد إمكانات نمو الشعب الفلسطيني وتطوير قدراته في كل مناحي الحياة اليومية وفي مقدمتها التعليم.
بعد مجيء السلطة الفلسطينية في أواسط تسعينيات القرن الماضي بنيت آمالٌ عريضة على تطوير قدرات الشعب الفلسطيني في مجالات عديدة أهمها التعليم. وهذه الآمال راودت على الأقل من ظنوا أن التعليم شأن مدرسي داخلي لا شأن له بالسياسة، لكن من سوء طالعهم أن التعليم كما الاقتصاد هو شأن سياسي بامتياز بحسب (بورديو وباسرون،2007) الذي يرى في التعليم الرسمي أداة لإعادة إنتاج الهيمنة[1].
لسنا بحاجة إلى الخوض في ماهية التعليم التحرري، فهو التعليم الذي يهدف إلى إيجاد الوعي لدى المتعلم بضرورة التحرر من كل ما يستلبه مادياً ورمزياً، ونقصد بالاستلاب المادي أسر الجسد وتسخيره كقوة عمل لمصلحة الطبقة المهيمنة، فالمجتمع الرأسمالي يحتاج إلى قوة عضلات العمال وبالطبع لا يحتاج الأمر إلى كثير من البحث للتأكد أن أغلبية من يتصفون بالضعف العلمي منحدرون من طبقات مهمشة وفقيرة بحسب (بورديو وباسرون، 2007)، إذ يرى بورديو أن المتعلمين في الصف الواحد لا يمتلكون الحظوظ نفسها في النجاح المدرسي وهو ما يعني أن نسب التحصيل والنجاح عند أبناء الطبقات الاجتماعية المتنفذة أكبر وأعلى من تلك التي للفقراء والمهمشين. وبالتالي فالتراتبية الاجتماعية والفوارق الطبقية خارج الصف تعكس نفسها في الصف على شكل علاقات قوة. وهي فكرة سبقه إليها ماركس، إذ بيّن (ماركس وإنجلز، 2015) أن التدخل المباشر وغير المباشر للمدرسة هو المسؤول عن التفاوت الطبقي.[2] فأبناء الطبقات الفقيرة يكتفون بالحد الأدنى من التعليم المهني ويذهبون إلى سوق الأعمال المهنية مبكراً، في حين أن أبناء الطبقة الغنية يستمرون سنوات أطول في التحصيل العلمي كي يتأهلوا لوظائف رفيعة المستوى. وهنا نصل إلى ادعاء (فوكو، 1990) في كون الفرد يتشكل ضمن علاقات القوة الفاعلة في المؤسسة.[3] هذا التمييز غير معلن وغير مصرح به، لكنه موجود في عصب النظام التعليمي المؤسس على المقاربة التكديسية.
أمّا الاستلاب الرمزي فهو أسر الوعي، وعي الإنسان بنفسه ودوره في هذا العالم، والمقهور إنسان أسير للوعي الزائف، ويتجلى الوعي الزائف في الإيمان بالخرافة والقدر والرضى بالقسمة والنصيب. المقهور إنسان لا يسعى لتغيير نفسه وعالمه لأنه غير مسؤول عنه كما يعتقد، إنه قدره المرهون بقوى خارجية متعالية. ويتجلى الوعي الزائف في المناهج المدرسية الفلسطينية عبر الاحتكام إلى الأسطورة والتفسيرات الدينية للظواهر العلمية كما بيّن (مهند عبد الحميد، 2019).
إن طرح موضوع التعليم التحرري في فلسطين يعني ضمناً أننا مدركون أن التعليم في الواقع الفلسطيني هو تعليم غير تحرري. وفي ضوء ذلك ينبثق السؤال: ما هو هذا التعليم إن لم يكن تحررياً؟
كمعلم وباحث تربوي أدَّعي من واقع تجربتي أن التعليم الرسمي في الظرف الراهن هو تعليم ينطبق عليه وصف "تعليم سد الذرائع". إنه تعليم سد الحاجات الأساسية للمتعلمين من قراءة وكتابة وحساب. وحتى هذا الاستنتاج هو أقل من الحقيقة في ضوء النتائج التي توصل إليها باحثون في مركز إبداع المعلم وتشير إلى أن 40% من طلبة الصفوف الأولى الأساسية لا يجيدون القراءة والكتابة.[4] لم تدهشني هذه النتيجة لأنني ألمس هذا الضعف عبر الصفوف التي أعلِّمُها.
على مدار العقدين الأخيرين؛ كانت قضايا التعليم وما زالت في فلسطين وما يحيط بها من تعقيدات موضع جدل للمشتغلين في حقل التعليم والبحث التربوي، لكن الجدل تكثَّف في السنوات الأخيرة، بشأن السؤال التربوي وجدوى التعليم ومخرجاته. على طرف تقف وزارة التربية والتعليم الفلسطينية وصناع السياسات التعليمية يمثلون وجهة النظر الرسمية التي ترى أن التعليم ضمن معطيات وتعقيدات الخصوصية الفلسطينية بخير ويؤدي وظيفته كما يجب.
وعلى الطرف الآخر يقف طيف واسع يمثل أفراداً مستقلين ومؤسسات غير حكومية ومراكز أبحاث تربوية ونخباً ثقافية وسياسية، وهؤلاء يرون أن التعليم في فلسطين لا يرتقي إلى المستوى المطلوب لشعب يطمح إلى التحرر والانعتاق من الاحتلال أولاً؛ والانعتاق من أسر الغيبيات والعادات والتقاليد والنظام الأبوي الذي يمسك بخناق الشعب الفلسطيني ثانياً.
لا يبدو لي أن التعليم في فلسطين يضع في برامجه الأسئلة الكبرى للشعب الفلسطيني، المتمثلة بسؤال التحرر الوطني والاجتماعي.
حسناً، لننظر إلى الواقع الفلسطيني في العقدين الأخيرين ونرصد الأحداث الكبرى والظواهر التي طرأت عليه وإلى أي مدى حضرت هذه الأحداث في لوائح الخطاب التعليمي.
بدأ الانقسام الفلسطيني - الفلسطيني في صيف سنة 2007، وهو يتعمق عاماً بعد عام بحيث صار أمراً واقعاً، ويعمل طرفا الانقسام على تعميق الخلاف ومراكمته ومأسسته. استفادت إسرائيل من الانقسام واستغلته بذكاء، إذ أقنعت العالم بأنه لا يوجد شريك فلسطيني يمكن التفاوض معه. وعلى هذا النحو تراجعت القضية الفلسطينية في المحافل الدولية وحتى في الساحة العربية التي تدخل هذه الأيام في سباق التطبيع المجاني مع إسرائيل. وتزامن ذلك مع أربعة حروب على غزة وحصارها وعزلها عن العالم، ثم تكللت بصفقة القرن ومحاولة ضم الضفة الغربية من جهة، وانسداد أفق التطلعات الفلسطينية نحو الانعتاق والحرية وانشغال الناس بلقمة العيش من الجهة الأُخرى.
هذا على المستوى الدولي. أمّا داخلياً فنلحظ نمواً متصاعداً لدور العشيرة بشكل غير مسبوق وتدخلها في عمل المؤسسات وخصوصاً التعليمية. وقد بينا في موقع آخر[5] كيف أن التحالف بين العشيرة والحزب السياسي ورأس المال المحلي أدخل رموز العشيرة إلى مواقع صنع القرار في المؤسسات وخصوصاً المدارس والبلديات.
إن الأحداث التي أشرنا إليها أعلاه والتي مست كل مواطن فلسطيني لا تحضر في المناهج الفلسطينية سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، كما لا تحضر ضمن الخطاب المدرسي، علماً بأن المناهج تم تطويرها أكثر من مرة خلال هذه المرحلة، وفي كل مرة يتم تجاوز هذه الأحداث كأنها تحدث في بقعة أُخرى من العالم. وإذا ما نظرنا إلى موضوعات إشكالية أُخرى من قبيل التنوع الديني والحريات ومكانة المرأة والقيم الاجتماعية السائدة، سنكتشف أن المناهج لا تطرح البدائل الحداثية بل تعزز في الغالب وجهة النظر الأبوية والذكورية السائدة في المجتمع. ففيما يتعلق بمكانة المرأة باعتبارها مجالاً للقهر الاجتماعي تظهر بعض الأبحاث أن المناهج الفلسطينية بنيت من وجهة نظر ذكورية إلى درجة أن نسبة مشاركة المرأة في تأليف المناهج التي من المفترض أن تحررها لا تتجاوز 27.3% في مقابل 72.7% للرجال.[6] كما بيّن مهند عبد الحميد[7] أن المدرسة المحافظة تعزز الفهم الديني للقضايا العلمية على حساب التفسيرات العلمية للظواهر الطبيعية، وهو ما يعزز استلاب الوعي الذي أشرنا إليه سابقاً. والأبحاث في هذا السياق كثيرة ولا مجال لذكرها هنا.
يتذرع واضعو السياسات التعليمية ومصممو المناهج بأن السلطة الفلسطينية محكومة باتفاقيات تلزمها بتحييد المناهج التعليمية بصورة خاصة والمدرسة بصورة عامة، من حلبة الصراع. ويعتبرون من دون تصريح بذلك أن خطاب التحرر وبناء الهوية الوطنية للمتعلمين هو شأن صفي يقوم به المعلم ضمن برامجه وخططه غير الرسمية. لكن حتى هذا الادعاء مشكوك في إمكان تطبيقه ونجاعته في ضوء متطلبات المعلم الثقيلة.
التعليم التحرري في السياق الإنساني
ارتبط مفهوم التعليم التحرري بالمفكر البرازيلي باولو فريري (1921-1997)، علماً بأن التعليم التحرري سبقه فكراً وممارسة بمئات وأحياناً آلاف السنين. فالتعليم بدأ تحررياً، عندما لم يكن مرتبطاً بالمؤسسة ولا بالأيدولوجيا أو بمصلحة الطبقة المهيمنة، بل ارتبط بحاجة الإنسان إلى المعرفة. فالتعليم في تشكلاته البدائية هو أصلاً تعليم تحرري، من دون الحاجة إلى تسميته بهذا الاسم. لكن حين أدرك الإنسان أن التعليم في ظل الدولة الحديثة يستلب الإنسان ويقهره، أدرك الحاجة إلى التعليم المضاد وسماه التعليم التحرري.
اعتاد أرسطو أن يأخذ طلابه المشائين في ارتحالات طبيعية في الغابات وقمم الجبال وضفاف الأنهار لكي يتعلموا في أكثر الأماكن ملاءمة للتعليم، وهو ما يعني أن التعليم لا يرتهن بمكان ولا زمان محددين، بل هو عمليه مستمرة يمكن أن تحدث في كل لحظة وأي مكان. إذ يبدأ التعليم منذ اللحظة الأولى في الحياة ولا ينتهي إلاّ بموت الإنسان. إن ربط التعليم بالمدرسة كان أول خطوة على طريق استلاب الإنسان في العصور الحديثة.
وقد لاحظنا خلال تجربتنا الطويلة في التعليم والبحث انخفاضاً حاداً في التواصل بين المدرسة والطبيعة، وبين المدرسة والمجتمع. فالمتعلمون لا يخرجون إلى الحقول والجبال والغابات ولا يزورون المصانع ومعامل الإنتاج، وإن حدث ذلك فغالباً لا يكون مخططاً فيشتمل على نشاطات تعليمية، بل يحدث أحياناً تحت عنوان الترفيه فحسب.
إذاً، التعليم والتعلم هما عملية مدرسية تحدث داخل المدرسة فحسب، وهذا ما حدا بايفان اليتش Ivan Illich (1926–2002) إلى نقد التعليم المدرسي من خلال أطروحاته التي ضمنها في كتابه الذائع الصيت "مجتمع بلا مدارس" (1970)، ودعا فيه إلى تحرير التعليم من هيمنة المؤسسة. وعلى الرغم من تقدير اليتش للتعليم الإلزامي والاعتراف بأهميته، فإنه انتقد فكرة المساواة بين التعليم والمدرسة، وعارض أن يكون حق الإنسان بالتعليم مرهوناً بذهابه إلى المدرسة. فمن وجهة نظر اليتش المدرسة ليست مكاناً محايداً ولا هي بريئة، طالما أنها مرتبطة بمصالح الطبقة المتسيدة في المجتمع، وهدفها أولاً الحفاظ على الأوضاع الراهنة Status Quo بما تتضمنه من تفاوت طبقي واقتصادي ومعرفي، والمدرسة برأيه مؤسسة تحتكر التعليم وتتجاهل كل ما يتعلمه الطالب خارجها، وتربط المعرفة بالنخب المعاد إنتاجها من خلال مؤسسات التعليم المتعددة.[8]
إن العبرة التي نستفيدها من أرسطو وإيفان إليتش فيما يتعلق بنهج التعليم التحرري هي ضرورة كسر طوق العزلة عن المدرسة من خلال فتح المدرسة على فضاءات المجتمع والطبيعة.
ويتقاطع إيفان إليتش مع بورديو وباسرون ( 2007) في أن المدرسة كمؤسسة اجتماعية في المقام الأول، تسعى لقولبة الفرد تمهيداً لتدجين المجتمع فيما يسمى عملية التنشئة الاجتماعية، فهي تستقبل أفراد المجتمع في مرحلة ما ثم تعيدهم إليه لاحقاً بعد 12 عاماً، وقد أعيد إنتاجهم وفقاً لمعايير وشروط وسياسات تضعها المؤسسة الحاكمة. وإعادة الإنتاج هذه تنطوي على برمجة ذهنية للمتعلمين ليشاركوا مستقبلاً في إعادة الإنتاج نفسها.
يرى فريري أن البرمجة الذهنية التي أشرنا إليها أعلاه تتجسد في مدرسة القهر فيما سماه التعليم البنكي أو الإيداعي،[9] فالمتعلم وعاء يملأه المعلم بالمعلومات. ويقترح فريري التعليم الحواري بديلاً ثورياً للتعليم التلقيني، إذ يرى أن التعليم التحرري ينهض على الحوار، الحوار بين المعلم والمتعلم، والحوار بينهما له هدف يتمثل في فهم الواقع وتغييره، وهذا يعني ضمناً أن يكون التغيير هدفاً مشتركاً لكل من المعلم والمتعلم على حد سواء. إذاً، ثمة مصلحة مشتركة بين الطرفين، إذ يستحيل أن يكون التعليم تحررياً من غير هذا الشرط.
سبق سقراط فريري في مدرسة "اغورا" التي تأسست على أسلوب الجدل الذي سماه فريري الحوار، تكمن الفكرة في اتجاه التواصل بين المتعلم والمعلم، ففي مدرسة القهر يكون الاتجاه واحداً من المعلم إلى المتعلم، وهذه هي السمة الغالبة لاتجاه الخطاب في مجتمعات الاستبداد إذ نلحظ أحادية اتجاه الخطاب من قمة الهرم الأعلى سلطة إلى القاعدة الأقل سلطة، كما هي الحال في أماكن العبادة حيث يسود الوعظ، وفي المؤسسات السياسية حيث تتسيد لغة الأوامر، الأمر الذي يعني أن الخطاب حتى وإن كان معرفياً فهو يحمل في ثناياه السلطة، سلطة من يمتلك المعرفة تجاه من يجهلها. وهذا يؤسس لغياب الحوارية كممارسة ضرورية للتحرر. إن التلقين التعليمي في الصف هو الصورة الانعكاسية للوعظ الديني في أماكن العبادة وسياسة الإملاءات في مؤسسات الدولة الاستبدادية.
خاتمة
إن معظم من كتبوا تحت عنوان التعليم التحرري، انطلقوا في توصيفاتهم من المدرسة وما يحدث فيها من نشاطات تعليمية اجتماعية، كأن هذا يمهد إلى فهم أن الانطلاق نحو التعليم التحرري يبدأ من المدرسة ويصب فيها. وأن التعليم التحرري هو مسألة مدرسية قابلة للتحقيق بمعزل عن المجتمع والدولة وسياساتها. وهذه وجهة نظر تخدم السلطة السياسية وتعززها.
الذين طرحوا هذه الرؤى رأوا ضرورة الفصل بين المجتمع والمدرسة ولم يدركوا "التمفصل"، ولم يروا العملية التربوية باعتبارها أصلاً عملية اجتماعية ثقافية وهي بالتالي عملية سياسية بامتياز.
في الواقع إن التعليم التحرري هو قضية سياسية أولاً تبدأ من المجتمع وتصب فيه وهي غير قابلة للتحقيق إلاّ ضمن تحرر الأنسان، وما المدرسة إلاّ الأداة التي تخلق الوعي بضرورة التحرر.
يحارب دعاة التعليم التحرري على جبهتين، أولاً جبهة العقل السياسي الذي يريد احتكار المال ومصادر الإنتاج وأدواته، لمصلحة الطبقة الرأسمالية. وثانياً العقل الاجتماعي المتمرس خلف العادات والتقاليد والدين. والواقع أن العقل السياسي والعقل الاجتماعي في تحالف متين سواء بوعي أو من دون وعي. إن الحفاظ على اللحظة الراهنة هو في مصلحة الطرفين. فكيف السبيل إلى كسر حلقة في هذه السلسلة؟
ربما نبدأ بسؤال من قبيل: كيف يكون التعليم التحرري مطلباً شعبياً؟
[1] بيار بورديو، وجان كلود باسرون (2007)، "إعادة الإنتاج: في سبيل نظرية عامة لنسق التعليم" (المجلد الأول)، ترجمة د. ماهر تريمش (بيروت: المنظمة العربية للترجمة).
[2] كارل ماركس، وفريدريك إنجلز(2015)، "البيان الشيوعي"، ترجمة العفيفي الأخضر (بيروت: منشورات الجمل، ط 1).
[3] ميشيل فوكو (1990)، "المراقبة والمعاقبة"، ترجمة علي مقلد (بيروت: مركز الإنماء القومي).
[4]-جريدة الحياة الجديدة، العدد 6232 (الأحد 10 آذار/مارس 2013). انظر رابط المقال المنشور على موقع جريدة الحياة: http://www.alhayat-j.com/newsite/pdf/menu.php
[5] مشهور البطران، "المدرسة من الداخل: سوسيولوجيا مدرسة مقهورة"، كتاب غير منشور.
[6] عمر علي دحلان، "صورة المرأة في كتب اللغة العربية للمرحلة الأساسية الأولى في فلسطين"، مجلة "البحث العلمي في التربية"، العدد 16/ 389 (2015)، ص 404.
[7] مهند عبد الحميد (2019)، "المناهج المدرسية بين استثمار الرأسمال البشري وهدره" (رام الله: مؤسسة روزا لكسمبورغ).
[8] الكتاب متوفر على الرابط: http://www.ecotopia.com/webpress/deschoolingillich.pdf
[9] باولو فريري (2002)، "نظرات في تربية المعذبين في الأرض"، ترجمة مازن الحسيني (رام الله: دار التنوير للنشر والترجمة والتوزيع).