Treason Isn’t the Story
Full text: 

ماذا نسمّي هذا الزمن الذي يعربد فيه الاحتلال الإسرائيلي في المشرق العربي مثلما يشاء؟

هل نقول إنه زمن الخيانة؟ أم نقول إنها سحابة انحطاط جديدة تخنق الفضاء الفلسطيني، وتفرض سلطتها على بلاد العرب؟

وما هي العلاقة بين الانحطاط والخيانة؟

هل إيصال المجتمعات العربية إلى أسفل الأسفل هو الخيانة، أم إن الخيانة قادت إلى هذا الأسفل الانحطاطي الذي يهيمن على الفضاء العربي؟

تساءل بدر شاكر السيّاب في إحدى قصائده، لماذا يخون الخائن، وهل يستطيع إنسان أن يخون نفسه وبلاده؟

ولا يزال هذا السؤال يحوم حولنا، ويحاصرنا، ويعطينا شعوراً خطأ بأننا ندور في حلقة مفرغة.

تاريخ خيانة فلسطين لم يبدأ اليوم كي نصاب بالعجب، فقضية فلسطين، كقضية عربية، ولدت في رحم الخيانات والعجز.

وأنا لا أستخدم كلمة خيانة بدلالاتها التحقيرية، بل أسعى لترجمتها كأداة لوصف واقعنا.

إذا عدنا إلى ثورة 1936، أو إلى حرب النكبة، فإننا نجد مستويين متداخلين:

سعي الأنظمة العربية للبقاء، وهو السعي الذي حكم تحالفها كي لا نقول عمالتها للاستعمار البريطاني، ومحاولة بعضها توسيع نفوذه ومدّ سلطته على حساب الأرض الفلسطينية، قادا إلى إجهاض ثورة 1936، موصلاً المنطقة إلى هزيمة الجيوش العربية بشكل مخزٍ، في حرب النكبة.

كما أن الحركة الوطنية الفلسطينية لم تنجح في مواجهة ما كان يخطَّط لها، وإنما وقعت ضحية السياسة البريطانية التي وضعت نصب عينيها تطبيق وعد بلفور في إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، حارمة فلسطين وحدها، بين دول المشرق التي خضعت لنظام الانتداب، من البنى الدولتية، ومن الإطار الذي يسمح للفلسطينيين بتشكيل كيانهم السياسي. أمّا بعد نهاية حرب 1948، فتكفلت الأنظمة العربية مجتمعة في تفتيت الفلسطينيين وتحويلهم إلى شعب من اللاجئين يعيش في معازل مقفلة سُميت مخيمات.

قد نفسر الخيانة بالعجز، فالأنظمة العربية التي خرجت مهشمة من حرب 1948، كانت عاجزة عن مواجهة إسرائيل، فلجأت إلى قمع الفلسطينيات والفلسطينيين واستخدمت لغة قومجية، وتمثَّل إنجازها الوحيد في تلك البرامج الإذاعية المحزنة التي يبحث فيها اللاجئون عن أفراد عائلاتهم التي تمزقت، ويُطمئنون بعضهم بعضاً بأنهم لا يزالون في قيد الحياة.

العجز سيستمر مع أنظمة الانقلابات العسكرية التي وصلت بها الأمور إلى تأكيد أن هزيمة حزيران / يونيو الكارثية، كانت مجرد نكسة، لأن العدوان فشل في إسقاط الأنظمة التقدمية!

هذا المنطق الذي يستند إلى العجز الفعلي ويترافق مع خطابية وَطَنجية مهيمنة، قاد إلى كامب دايفيد المصري - الإسرائيلي، وإلى أوسلو ووادي عربة.

وقد ترافق هذا الانحدار مع جنون القمع الذي تعرّض له الفلسطينيون في المنافي العربية التي هُدمت فيها مخيماتهم من شاتيلا إلى تل الزعتر إلى اليرموك إلى آخر ما لا آخر له.

لكننا نعيش اليوم، منذ ما أُطلق عليه اسم "اتفاقية أبراهام"، مرحلة جديدة من مسار الانحطاط، وهي مرحلة تختلف عن سابقاتها في أنها تستخدم للمرة الأولى في "تاريخ الصراع العربي - الإسرائيلي" لغة واضحة وبلا أقنعة.

"سقط القناع عن القناع"، كتب محمود درويش، و"سقطت جميع الأقنعة"، قال سميح القاسم. لقد خلعوا "وجوههم المستعارة"، ليس في لبنان فقط، مثلما كتب خليل حاوي، بل في المنطقة العربية بأسرها أيضاً.

في زمن كمامات "كورونا" التي تخفي الوجوه، كشفت اللغة السياسية السائدة حقائقها التي كانت مضمرة وتختبىء خلف فكرة السلام والعدالة.

لقد تم التخلي عن السلام والعدالة معاً، ودخلنا في لعبة "ما بعد الحداثة"، والتقدم التكنولوجي، والاقتصاد المالي المعولم القائم على هدر الريوع النفطية، والتعاون مع إسرائيل والتبعية الكاملة لها.

"ما بعد الحداثة الأبراهامية" تخفي الانحطاط والخيانة، بل هي الطريق إليهما. فخلف كلامولوجيا التقدم والتكنولوجيا والعلم، يقع انحطاط العالم العربي، وتحوُّله إلى ملعب تتصارع على أرضه القوى الإقليمية والدولية.

الاسم الخفي لهذا الانحطاط، هو البقاء في السلطة فقط لا غير.

أنظمة وحكومات فقدت كل شرعية فلجأت إلى القوى الاستعمارية القديمة والجديدة، واستسلمت لها، بحثاً عن الحماية. هذا هو عنوان المرحلة، وهو عنوان يحتاج إلى بحث آلياته وتفصيلاته وقدرته على المبادرة بعد تراجع آفاق الربيع العربي المغدور.

البقاء في السلطة بأي ثمن ومهما يكن الثمن، هو الخطر الداخلي الكبير الذي يهدد فلسطين اليوم.

قادة فلسطين التاريخيون من عز الدين القسّام إلى عبد القادر الحسيني، ومن خليل الوزير إلى ياسر عرفات، اختاروا طريق الصمود والمواجهة، ولم يسقطوا إلّا شهداء.

وسط الحصار الشامل والعربدة الإسرائيلية والتخلي العربي المعلن، تجد فلسطين نفسها أمام خيار مَن لا خيار له.

الاستسلام ليس متاحاً، لأن إسرائيل رفضته حين أسقطت أوسلو، وستواصل رفضه على الرغم من، أو بسبب دفء الخيانات العربية، إلّا إذا كان يعني شيئاً واحداً، هو اندثار فلسطين نهائياً وتحولها إلى مستعمرة تدور في فلك الأبارتهايد الإسرائيلي.

فلسطين تقع اليوم في مكانين:

سجون الاحتلال حيث يحمل الأسرى وشم الشرف الفلسطيني في أرواحهم وعلى أجسادهم، وقد جاءت ملحمة صمود ماهر الأخرس صائماً مئة يوم، لتبرهن أن الحق يستطيع أن ينتصر للحقيقة الفلسطينية.

وتقع فلسطين أيضاً في ضمير الفقراء الذين يناضلون من أجل البقاء وحماية الأرض التي تقدست بدماء الشهداء والضحايا.

أمّا ما تبقّى فلم يتبقَّ لنا.

الخيانة وقعت على رؤوس أنظمة الاستبداد والتسلط، لكنها لم ولن تكون الحكاية.

فحكاية فلسطين لا يستطيع أن يستولي عليها أحد، لأن فلسطين عصيّة على الخيانة.

في الماضي، حين انطلقت الثورة الفلسطينية توحّد أحرار العرب بها، لأن الألم الفلسطيني عبّر عن آلامهم وأحلامهم.

واليوم تعانق فلسطين الألم العربي ونكبات شعوب المشرق، فالألم يوحّدنا، ومواجهة الخيانة لها اسم واحد هو الحرية.

فلسطين لن تخون نفسها، ولن تسمح لأحد بأن يفرض عليها هذا العار.