Solace behind Prison Bars
Date: 
December 09 2020
blog Series: 

ألقى كل من كان في طابور الركض الصباحي ما في جعبته من تعليقات ساخرة فوق رمال هذا الصباح، ونحن نصعد صوب أعلى يومنا لنُهيمِن على خفاياه. عند الساعة الثامنة فُتح باب الفورة فخرج إليها بعض الشباب وعاد بعضهم إلى زنزانته. أمّا أنا فأخذت استراحة رياضية، على رأي مذيعي الفضائيات، ورحت أمشي على راحتي قبل الانتقال من الركض مدة ساعة إلى التمارين لساعة اضافية.

وبينما كنت على هذه الحالة وبنفسية مرحة كما الزملاء في الطابور، لاحظت أمراً غريباً أثار حفيظتي، إذ تكتّل البعض على شكل حلقات همس، صمتت ألسنتهم كلما اقتربت منهم، فلم أجد تفسيراً للأمر، وازداد الأمر غموضاً عند اقتراب عبد الناصر عيسى مني على غير عادته في تلك الأثناء، وفتح معي حديثاً غريباً مقطّعة كلماته ومبعثرة، فسألني تارة عن حالي وتارة عن أخباري، ثم قفز إلى الإشادة بي معلّلاً إشادته بأنني رجل من الصابرين المحتسبين وأمتلك تجربة كبيرة، أجبته وأنا أتفرّس في تعابير وجهه وحركة جسده محاولاً قراءتها بوضع النقاط على حروفها: بارك الله فيك يا أبا حذيفة، لكن لِمَ هذا، وفي هذا التوقيت بالذات! فأنت كل يوم تراني ولا جديد في أمري. حاولت ربط خيوط هذا الحديث بدوائر الهمس، أجابني عبد الناصر بتلكّؤ لا داعي يا مواطن للقلق، فقد أردت الاطمئنان عليك، تركني وذهب، وانشغلت بممارسة التمارين، وبعد عشر دقائق تفاجأت بأبي حذيفة وقد عاد وبصحبته الأخ عمّار الزّين وطلب مني أن نتمشّى سوياً، عند أول الخطى فسحا لي المجال لأكون بينهما. سرت كمن يمشي وهو نائم، وضع أبو حذيفة يده على كتفي ونظر إليّ بتأثّر، أمّا عمّار فقد ابتسم في وجهي ابتسامة بانت بصعوبة على وجهه، وهو يهز رأسه كأنه يمهّد طريقاً للحديث.

قال أبو حذيفة بحذر وتردّد: اسمع يا مواطن، لا أريدك أن تقلق أو تذهب بعيداً بكلامي، هناك بعض الشباب سمعوا من إحدى المحطات المحلية في مدينة الخليل أن أخاك ذياب (أبو خالد) قد أصيب بوعكة صحيّة ثم تعافى قليلاً، كانت شديدة بعض الشيء، لكن إن شاء الله ستكون أموره بخير. تسارعت نبضات قلبي واضطربت أنفاسي فأخي أبو ذياب مريض، وسبق أن أُجريت له عملية قلب مفتوح، بعد أن أُصيب بسكتة قلبية. ثار بركان مخاوفي وغطّى دخانه مدى رؤيتي بلونه الرمادي وشعرت بأن غرباناً سقطت على رأسي وراحت تنعق، فهذه المقدمة هي توطئة لخبر الموت، وبمثل هذه الكلمات تشقّ الطريق لتمر منها الفاجعة فتتهيّأ أجواء السجين لاستقبال أحزانه. فأنا بنفسي سبق أن شاركت في مراسم كهذه، مندفعاً بعواطف هذا الكابوس، قلت: دعك يا أبا حذيفة من المراوغة بالموت فهي أصعب من الموت نفسه، فإنني أُذبح بسكين لم تُشحذ جيداً، وربّ الكعبة مات أخي.

تعثّرت الكلمات في فمه وهو يطلب مني ألاّ أتسرّع؛ فالخبر مازال أولياً، ونحن لم نتأكد بعد من الوفاة، وطلب مني أن أجلس، جلب لي عمار كرسياً وبدأ يتجمّع كل من كان في الفورة حولي بصمت حزين، عندها تبخّرت شكوكي وترسّخ يقيني بموت أخي، فقد ربطت بين سرعة استجابتهم والالتفاف حولي وذلك الهمس والوشوشة التي عمّت الفورة.

قبل دقائق كنا نضحك ونمرح والآن نغرق في نواح وبكاء

عندما فتحت الفورة الساعة التاسعة، اجتاحتني هستيريا الفاجعة فأخذت أضرب بيديّ على وجهي وأشدّ شعري وأنا أهذي من حمّى المصيبة، مات أخي؟! مات أخي؟! ولم يعد من الأحياء يمشي مثلهم، أو يتحرك كما يتحركون، تلاشت الأنفاس في صدره وصمت قلبه عن النبض. يا إلهي! قبل دقائق كنا نضحك ونمرح والآن نغرق في نواح وبكاء، يا ناس، يا عالم، الله أكبر، الموت كامن كأنه قشرة موز ألقاها قرد المصير في طريقنا بعد أن أكل أعمارنا لننزلق بها من دون أن نراها. كان من يجلس على الكرسي بجواري يمسح بيديه على كتفي بدفء المواسي، وتدفّقت كلمات التعزية من الشفاه مشفوعة بنظرات حزينة، وغطى الانفعال صفحات الوجوه من حولي. بعضهم طلب الدعاء له، وآخر طلب أن أُكثر من قراءة القرآن والصلاة ترحمّاً على روحه.

تدحرجت الدموع على وجهي، تركتها بعفويتها تكتب ما يدور في وجداني، فدموع العيون تسقي عواطفي، فأنا لا أعتبرها انتهاكاً لذكورية الشرق، وقلت والكلمات تكاد تختنق في حنجرتي: "إنّا لله وإنّا إليه راجعون، ولا اعتراض على حكم الله."

لكن، يا ناس، الموت انتشر في السجن كالطاعون، كل أسبوع هناك بيت عزاء يُفتح في الساحة، ولم يمضِ على وفاة أمي ستة أشهر رحمها الله، وتلك الجروح لم تلتئم بعد، وعدوني أن تأتي لزيارتي مستقلة سيارة الأسعاف بتنسيق مع الصليب الأحمر لأنها تعاني شللاً نصفياً، فخرجت إلى زيارتها لأتفاجأ بأنهم جلبوا لي خبر موتها. أمّا في الزيارة التي مضت، فقد جاء لزيارتي ابنه وليد، وهو الوحيد الذي داوم على زيارتي، إضافة إلى زوجتي وأولادي منذ خمس سنوات، طلبت منه يومها أن يبعث لي صوراً لوالده، وها هم قد جلبوا لي خبر موته، يا الله، ما أقسى قلب الحياة! ملهوفاً تفتح بابها فيفتح لك القدر ليصفعك على وجهك بحذائه المهترىء، انتابني إحساس بأن السماء هوت على رأسي وسوّتني بالأرض، واجتاحتني دوّامة الأسى، وازدحمت مخيّلتي بصور محزنة لأخي ذياب أبي خالد، لتذكّرني به كيف كان يفرح، وبرنين ضحكته، أو عندما كان يغضب فيمتلىء وجهه بتعابير الحزم والصرامة، أو حينما يسافر وأودعه، أو حينما يعود فيغمرني في أحضانه.

مسكين أيها السجين لا تمتلك إلاّ ذاكرتك لتتواصل بها مع العالم الخارجي، فالزمان والمكان لديك توقفا منذ أن وضعت الأغلال في يديك. خيّم الصّمت على المعزّين ونظروا إليّ كأنهم يشاهدونني أول مرة، توقفت عن الندب لأجيب عن سؤال الأخ مهند جرادات عن موعد الجنازة، أجبته أنني لا أعرف، لكن هناك من كان يعرف أكثر مني، قال الأخ رافع الخطيب وعيونه مصوّبة نحوي: اليوم بعد صلاة العصر. كان الأخ رافع أول من سمع الخبر مساء من إذاعة الحريّة في الخليل، واحتار كيف يُعلمني فأخبر كلاً من صالح وأبو القسّام، فاتفقوا بدورهم على تأخير الموضوع حتى الصباح ليجدوا من يقاسمهم عبء الخبر.

دخلت من الساحة وأنا أتخيّل الشباب أشجار واحة خضراء حفيفها أنفاسهم، احتميت بها هروباً من قسوة صحراء الأسمنت التي تلفّني. وبعد الانتهاء من الاستحمام عدت إلى زنزانتي، حاولت الانكفاء على ذاتي للاحتماء ببعض الدفء من برودة السجن والموت والطقس، لكن الفاجعة لها ارتدادات واهتزازات تخرج عن السيطرة لتصل بك إلى حد الهذيان، إذ تخيلت أن السماء تشاطرني الأحزان، فأسطورة الطفولة تقول إن المطر دموع السماء.

 انتهت زيارة الغرف، فاستعد الزوار للمغادرة، لكن وائل الشيخ أصرّ على دعوتي لتناول مأدبة الطعام عن روح أخي كما جرت العادة، حاولت الاعتذار مبرّرا ذلك بحالتي النفسية، لكنهم أصرّوا وعلّلوا إصرارهم بأن هذا الأمر جزء من عاداتنا.

قلت له أننا في سجن، وبِحِلٍّ من هذه القيود، قال الشيخ: السجن صورة مصغّرة عن ذلك المجتمع، وضغط على يديّ في أثناء السلام، قلت مسلّماً: حسناً كما ترون، واتفقنا على الموعد.

مع انتهاء الحديث فُتح الباب فذهب الشيخ عبد الخالق والأخ وائل وبقي أبو ماجد يتحدث معي من شبّاك باب الزنزانة بشأن الاتصال الهاتفي مع الأهل، فالسجين مسموح له الاتصال بالعالم الخارجي في حالتين فقط، عند وفاة قريب أو زواج قريب، شرط أن تكون صلة القرابة من الدرجة الأولى ولمدة عشر دقائق، قلت يا أبا ماجد كما كان يحبُّ أن نناديه، فماجد اسم رفيق سلاحه الذي استشهد في أثناء العملية العسكرية التي نفذتها مجموعتهم، قلت: أرجو أن تحاول كل ما في استطاعتك كي يسمحوا لي بالاتصال في أيام العزاء، لأن الأهل بالتأكيد مجتمعون هناك، فأَستغِلّ ذلك التجمّع لأتحدث معهم؛ فكثير منهم لم اسمع صوته منذ سنين، قال: اطمئن يا مواطن سأقوم بكل ما في وسعي، لكنك تعرف تلكؤهم ومماطلتهم عندما يتعلّق الأمر بحقوقنا.

وكان على ممثّل الأسرى أمام الإدارة أن يسير على حبل مشدود من إحدى طرفيه بحاجات يوميّة للأسرى تنمو في ظل الحاجة القصوى، وهي الحاجة إلى الحرية، ومن طرفه الآخر تشدّه الإدارة بساديّة لتسقط ممثّل المعتقلين ومعه من يمثّلهم في هاوية الذل والحرمان، فيبقى يناور ويحاور ما استطاع إلى ذلك سبيلا، فينقذ ما يمكن إنقاذه. قلت: حسناً يا أبا ماجد، أنا مقدّر صعوبات الوضع وكلّي ثقة بك، قال: أنا قدّمت الطلب وعندما يأتي ضابط الأمن على الفور سأحضر لإخبارك. شكرته وعدت إلى برشي وأنا قابض على جمرة الحزن والحاجة إلى الاتصال والتواصل. في الخارج كانت الأجواء تزداد سوءاً، والريح تولول وتزمجر، تحاول اقتلاع كل ما يقف أمامها، لكنها تضطر إلى الانحناء أمام جدران السجن.

كان التقاط إذاعة الحرية التي تبث من الخليل أو أي محطة من المحطات المحلية يشبه الصيد بصنّارة، لكن السمكة هنا تسبح في بحر من الهواء، صيدها يحتاج إلى سلك نحاسيّ طرفه مثبّت بسماعة الراديو وطرفه الآخر مدلّى من النّافذة مربوطة به قطعة معدنية صغيرة الحجم، كنا في بعض الأحيان نسمّي السلك شعرة معاوية، لكن إدارة السجن لها ثعالبها، وكثيراً ما كانت تلك الثعالب تنقضّ على السلك فتقطّعه إرباً مدفوعة بجوعها الأمني.

أمّا صالح فبقي منهمكاً في نصب الكمين لمحطة الحرية، كانت حالته تتوافق مع المثل الشعبي الذي يقول: "الصياد يتقلّى والعصفور يتفلّى،" فوجدت في جعبتي متسعاً من الوقت رحت أتخيّل فيه معالم الطريق الذي سوف تسلكه الجنازة وصولاً إلى مثواه الأخير في مدفن العائلة الواقع في مقابل سوق الخضار القديمة في مدينة الخليل.

وعلى الفور تسمّرتُ في ذاكرتي أمام شرفة بيت أختي أم مهند المطلة على مقبرتنا حيث كنا ومعنا أخي أبو خالد نجلس في أثناء زيارتنا لبيتها، إذ كانت تلك الشرفة بمثابة صالون الضيوف، ومن دردشات تلك الزيارات طغى على سطح ذاكرتي أننا اتفقنا على أن العمر من مسقط الرأس إلى مثوى الجسد في هذه الصناديق الحجرية هو عبارة عن ساعة رمليّة والأيامُ حبّاتها، حاولت استدعاء وجوه الأقارب التي توارت في الثرى، لم يبقَ من ملامحها إلاّ أسماء وأرقام تطل من شواهد تآكلت أطرافها وتعرّت ألوانها بفعل الرياح والأمطار، فهي تقف عارية في شوراع الموت. لكن أهم ما شاغلني في تلك اللحظة، أين يقع قبر أخي على يمين أمي أم على يسار قبر أبي، أمام قبر جدتي أم خلف قبر جدي؟!!

 

*النص أعلاه مقتبس من قصة كتبها أيمن الشرباتي في سنة 2008 عن وفاة أخيه، وترد في كتاب سيصدر للأسير الشرباتي يحوي قصصاً من الحياة الاعتقالية وتأملات وقصصاً للأطفال.

انظر

From the same blog series: The Prisoners

Read more