هذا العام هو عام وباء الكورونا، إنه عام ثقيل على كاهل قلوبنا، وجعل الفراق كالسرطان يطغى على مشاعرنا. لكننا على الرغم من هذا لم نتوقف عن الزيارات لرؤية أسرانا، ومهما تكن الظروف فلن نتوقف عن ذلك.
تغيّر نظام الزيارات، وتم سحب تصاريح الدخول عبر الحواجز الاحتلالية، كما جرى تغيير تصريح الزيارة وتحويله إلى تصريح آخر يتيح لنا الزيارة مرّة كل شهرين، بعدما كانت الزيارات شهرية. لكن حتى التصريح الجديد لم يسعفنا، فكان انتشار الوباء حاجزاً إضافياً، ويمكن القول إن الاحتلال اتخذ من هذا الحاجز ذريعة لتبرير منع الزيارات من خلال تأجيلها دونما تعويض عنها.
بعد خمسة أشهر من انتشار الفيروس سمحوا لي بزيارة خطيبي الأسير في سجن النقب الصحراوي، كان ذلك ضمن السماح لعدد محدود من أهالي الأسرى بالزيارة، فكانت زيارة في آب/أغسطس وتلتها أُخرى بعد ثلاثة أشهر في تشرين الثاني/نوفمبر الجاري. لكن التقييدات الشديدة المعهودة أصبحت أكثر تشديداً، إذ اشترطوا السماح لشخص واحد بدلاً من ثلاثة من الأقارب درجة أولى، وألّا يكون الزائر أو الزائرة من كبار السن أو ممّن هم تحت سن الثامنة عشرة، وأن نلتزم شروط السلامة والوقاية باستخدام الكمامات والقفازات، وأن يجلس كل شخص في مقعد لوحده في الباص المخصص لنقل أهالي الأسرى، بعد أن اعتدنا عليه مكتظاً بالزوار.
وفعلاً التزمنا كل سبل الوقاية والإجراءات التي نقلها لنا موظفو الصليب الأحمر، وكان التزامنا بها ذهاباً وإياباً، فكانت هاتان الزيارتان هما الوحيدتان اللتان سمحوا لنا بهما منذ بداية انتشار الوباء حتى هذا اليوم.
شعرت بالإرهاق والتعب وبحمل ثقيل جداً وأنا أصعد درجات الحافلة، فقد كنت أحمل على عاتقي ومسؤوليتي أتعاب رحلة هذه الزيارة في ظل هذه الظروف الموبوءة. وفكرت في أسرانا وكم تحمّلوا من أساليب القمع والقهر الممنهجة والقاسية داخل السجن من جانب إدارته وسجانيه خلال هذا العام.
حين وصلنا إلى حاجز الطيبة الاحتلالي، وبعد المرور بمرحلة التفتيش وإجراءاتها، انتقلنا إلى المحطة الثانية في المعبر ذاته وهي مقصورة فحص تصريح السفر والهوية. ولفت نظري أنني ملتزمة شروط السلامة، بينما في المقابل لم تلتزم بذلك تلك المجندة التي لمست تصريحي وهويتي بيديها، فأخذتُ بطاقتي والتصريح وخرجت من الحاجز وكان أول ما قمت به هو أن أخرجت المعقّم ومحارم معطرة وقمت بتعقيم بطاقتي والتصريح، كما استبدلت القفازات بأُخرى احتياطية كنت أحملها في حقيبتي. بعد ذلك انطلقنا متجهين إلى سجن النقب. ساعات طويلة من السفر المضني لاجتياز المسافات البعيدة، حتى وصلنا السجن، وخلال هذه الفترة كنت أفكر في رؤية رأفت وأنا متأكدة من أنه ينتظر رؤيتي بلهفة وسعادة.
ما خفف عني قلقي والشعور بأعباء السفر كان معرفتي بزوجة أحد الأسرى في الحافلة، وكانت طوال الطريق تنشر السعادة حولها، هذه الفتاة التي تشع بالأمل أشعرتني بفرحة، فطلبت منها أن تبقى رفقتنا في الزيارات.
دخلنا إلى ساحة السجن، وبدأ أحد الضباط ينادينا بأسماءالأسرى. أخدت رقم أسيري واتجهت إلى شباك الكنتين وقمت بتسليم الملابس التي أحضرتها لخطيبي بعد أن أخضعوها للتفتيش الدقيق، فالملابس جديدة مع شارة الإنتاج والسعر، لكنها تخضع لقوانين وإجراءات الأمن. ولا يُسمح بجميع الألوان وذلك لتفادي أن تشبه ألوان زيّ السجانين الموحد، كذلك الأمر بالنسبة إلى نوعية القماش، وكثيراً ما يسحبون الرباط من دكة البنطال، بحجة الأمن.
بعد انتهاء الجولة الأولى التمهيدية، بدأ أحد الضباط مجدداً بالنداء وبدعوة الفوج الأول للدخول إلى قاعة الزيارة، وكنت ضمن هذا الفوج.
بعد الخضوع للتفتيش الجسدي دخلت إلى قاعة الانتظار.. وبقيت أنتظر اكتمال الفوج لندخل سويّة بعد ذلك إلى القاعة التي ينتظر فيها كل أسير عائلته، وإذا بخطيبي واقفاً ينتظر دخولي من باب القاعة، كانت الكمامة تغطي ابتسامته كما غطت كمامتي ابتسامتي ومعالم فرحتي، فلا يكفي الحاجز الزجاجي الموصد بيننا، فقد أُضيفت الكمامة.
تجوّل الحراس بيننا في القاعة بالإضافة إلى حراس آخرين من جهة مجالس الأسرى. لم يُسمح لنا بإزالة الكمامة فقد حذرنا الحراس من انتزاعها وراقبونا، ونحن ندرك أن أي إشكالية قد تؤدي إلى توقيف الزيارة. بقينا على هذه الحال حتى نهاية وقت الزيارة المحدد وهو خمس وأربعون دقيقة.
اكتشفت أن الزيارات في زمن الكورونا قد صودرت منها تفصيلات جميلة كنا نلمحها بالنظر إلى وجه بعضنا بعضاً، كما حرمتنا أجمل اللحظات التي ننتظرها بشوق بعد أن نقطع المسافات الطويلة ونستغرق الساعات العديدة كي نرى ملامح أحدنا الآخر. ومع ذلك كانت راحة نفسية تخفف عنا تلك الأحمال عندما نتبادل النظرات، فقد كانت العيون تتكلم عن لهفة الانتظار والاشتياق، وكانت الراحة الأكبر عندما كنت أطمئن بأن أسيري بخير.
على مدى سنوات السجن الطويلة، شكّلت الزيارات االلحظات المكثّفة التي تمدّنا بالقوة وتشحن قدراتنا على الاحتمال، إلى درجة أن تجعل منا صابرين ثابتين على العهد والحب والوفاء. لم تجعلنا مشقاتها يائسين، بل العكس، كلما كانت الصعوبات تعترض طريقنا وتشدنا في الاتجاه المعاكس كنا نقف ونصدها ونجعل من مسيرتنا المتقدمة أملاً مشرقاً، مسترشدين بأن بعد كل عسر يسر، وبعد كل ظلامٍ فجر جميل يبعث الأمل. هذا ما نحن عليه متمسكين بالصبر وبالإرادة بأن نبني من آلامنا واقعاً جميلاً وحلماً واعداً ننتظر تحقيقه باللقاء والحرية.