تتعيّن أهمية هذا الكتاب الذي أنجزه المؤرخ الدكتور ماهر الشريف في جمعه شتات آراء ومواقف وسجالات عدد كبير من مثقفي فلسطين وكتّابها في النصف الأوّل من القرن العشرين، وفي تبيانه كيفية رد هؤلاء المثقفين من خلال الصحف والمؤلفات السياسية والفكرية والأدبية، ومن خلال الأحزاب السياسية والمنابر المختلفة على الانتداب البريطاني وعلى الغزوة الصهيونية، وفي الوقت نفسه كيفية معالجة بعض القضايا الداخلية الخاصة بالمجتمع الفلسطيني وحركته الوطنية.
ذلك أنه لم يكن من الهيّن الرجوع إلى عدد كبير من المصادر والمراجع؛ من صحف ومجلات ومؤلفات ويوميات ومذكرات وخطب وتصريحات على امتداد نصف قرن زاخر بالحراك السياسي والثورات وردود الأفعال المتنوّعة على حركة الاستعمار وربيبته الحركة الصهيونية التي وجدت الفرصة سانحة لتلبية المطامع الاستعمارية في بلدان الشرق العربي، ولتحقيق حلمها في إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين بحسب وعد بلفور المشؤوم.
ولم يكتف الدكتور ماهر الشريف بتوثيق هذا الكم المتنوّع من الآراء والمواقف والأفكار وتقديمه للقراء من دون أفق أو سياق للمادة التي تجمّعت بين يديه، بل إنه ببعد نظر المؤرخ وبفراسة المفكر النابه استطاع أن يضع نتاجات نصف قرن من الزمان الفلسطيني في سياق العلاقة مع الحداثة التي تعني محاكمة الواقع والتأمّل فيه وفي تفاصيل مكوّناته لرفضه ولمحاولة تغييره نحو الأفضل، أو تعديله بدرجات متفاوتة بحسب وعي المتنطّعين للتعديل أو للتغيير، وتعني متابعة العلاقة مع الغرب وما لديه من رؤى وأفكار ومن حضارة ورقي وتقدّم في العلوم وفي الفنون وفي غير ذلك من منجزات العصر الحديث للأخذ بها ولتهيئة المجتمع الفلسطيني للتصدي للانتداب البريطاني وللحركة الصهيونية الطامعة في إحلال مهاجرين يهود قادمين من شتى بقاع الدنيا في مكان أهل البلاد الأصليين الذين أصبحوا مهدّدين إنْ عاجلًا أو آجلًا بالتهجير القسري من وطنهم.
ما يلفت الانتباه في هذا الكتاب أن مؤلفه لم ينطق نيابة عن مثقفي تلك الفترة، بل جعلهم هم الذين ينطقون ويعبّرون عن خلجات أنفسهم سواء أكان ذلك في التنبّه المبكّر لخطر الحركة الصهيونية ولمخاطر الهجرة، أم في الوقوف ضد القيادة التقليدية التي تزعّمت حركة الشعب الفلسطيني وظلت ميّالة إلى المهادنة والمساومة، في حين ظل بعض مثقفي تلك الفترة واقفين على مسافة قريبة من هذه القيادة.
وضمن هذا السياق تعرّض الكتاب للمهاترات التي كانت تحتدم بين الحين والآخر على صفحات الصحف وفي المنتديات بين المثقفين أنفسهم، وبين بعض أطراف الحركة الوطنية الفلسطينية وبين المعارضين لنهجها لجهة مواقف أكثر جذرية أو ضد المتساوقين مع حكومة الانتداب على هذا النحو أو ذاك، ما أسهم في نوع من تمزيق الصف الوطني وفي تبديد الوقت والجهد في صراعات جانبية لم تكن في صالح النضال الوطني الفلسطيني في كثير من الأحيان.
وما يلفت الانتباه أن متابعة بعض الإشكالات التي وقعت في الماضي سواء أكان ذلك على صعيد المجتمع الفلسطيني أم على الصعيد العربي تجعل المتلقي يشعر بأنّه يرى بأمّ عينيه زمننا الراهن وما فيه من انقسام وصراعات، كما لو أن التاريخ يعيد نفسه على شكل مأساة في الماضي وفي الحاضر سواء بسواء.
الجدير بالذكر أن الدكتور ماهر الشريف لم يكن مجرد ناقل للآراء وللمواقف والسياسات من دون خطة أو أفق؛ بل إنه أجرى على نحو مقنع تأطيرًا للمواقف وللآراء التي تمّ توثيقها، بحيث يتبيّن القارئ لهذا الكتاب أين كان موقف المثقف الفلسطيني من القضايا الوطنية والسياسية والاجتماعية، ومن العلاقة مع الغرب رفضًا أو تأييدًا أو رغبة في أخذ النافع من ثقافة الغرب وترك الضار من هذه الثقافة، ومن المشروعات السياسية التي كانت تطرح لحل الصراع بين الشعب الفلسطيني والمهاجرين الصهاينة.
في هذا الصدد، ومن مقارنة سريعة بين مواقف المثقفين على اختلاف توجّهاتهم الفكرية والسياسية تتضح الرؤى الأبعد نظرًا والأكثر حداثة للمثقفين العلمانيين من أمثال خليل السكاكيني وأحمد سامح الخالدي، وللمثقفين اليساريين المنضوين في إطار "عصبة التحرّر الوطني" من أمثال فؤاد نصار وإميل توما وإميل حبيبي؛ سواء أكان الأمر متعلقًا بالأسس الصحيحة للنضال الوطني ومتطلباته وأهمها تنظيم القوى السياسية وجموع الناس، أم بالموقف من الصهيونية والتفريق بينها وبين اليهود غير الصهاينة، ومن الوحدة العربية وضرورتها لدعم نضال الشعب الفلسطيني والشعوب العربية، والسخرية من الجامعة العربية المفرغة من أي دور إيجابي، والحثّ على قضايا العمل المنتج والعدالة الاجتماعية للفلاحين وللطبقات الفقيرة، والاهتمام بتعليم النساء ورفع الظلم عنهن، و كذلك إيلاء عناية خاصة بالتربية والتعليم باعتبارهما المدخل الحقيقي للحداثة المنشودة.
وثمة وقفة عند الظاهرة الدينية وهي التي ما زالت تشغل بال المثقفين في زمننا الراهن وخصوصًا بعد ظهور التنظيمات الأصولية المتطرفة في عدد من البلدان العربية، ففي الكتاب عرض لمواقف متباينة لمثقفين فلسطينيين، منهم من كان علمانيًّا غير مستعد لتوظيف الدين في السياسة أو في إثارة النعرات الطائفية، ومنهم من كان غير ذلك، وفيه إشارة إلى دور الاستعمار في تغذية التفرقة الطائفية وإذكائها لضرب الوحدة الوطنية في المجتمع وللتمكّن من إضعاف الحركة الوطنية والتوصل إلى تحقيق أهدافه في الهيمنة وفي خدمة الحركة الصهيونية ومطامعها التوسعية الإحلالية.
لذلك؛ لا يبدو الكتاب مقطوعًا عن الحاضر الذي تحياه القضية الفلسطينية؛ بل هو واقع في صلب هذه القضية، وفي الحث غير المباشر على تجنّب نواقص العمل الوطني الفلسطيني وتعزيز عوامل النجاح التي تقود بالضرورة إلى تحقيق هدف التحرر من الاحتلال، ومن هنا جاءت المحافظة على الأرض التي هي محل الصراع، والعناية بالفلاح الذي يزرع الأرض ويحميها من التسرب إلى أيدي الأعداء.
من يتابع العناوين التي لخّصت أفكار المثقفين الفلسطينيين في زمن سابق فسوف يجد منظومة متسقة من الرؤى التي تشكل منهجًا ذا مواصفات تقدمية للاسترشاد به وللسير على هديه؛ من دون أن يكون في ذلك أي تدخل قسري من المؤلف لتطويع النصوص لكي تتساوق مع قناعاته الفكرية، إذ إنه كما ذكرت سابقًا يترك لهذه النصوص أن تقدم نفسها بنفسها من دون إكراه.
لكنه في الاستخلاصات التي جاءت في آخر الكتاب يحلل بعمق مجموع الظواهر الوطنية والفكرية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية التي وردت في الكتاب، ويجتهد في شرح الأسباب التي حالت دون نجاح مشروع الحداثة الذي حمله المثقفون الفلسطينيون على تفاوت فيما بينهم، وجعل المهاترات التي كانت تنشب بينهم؛ وهو محق في ذلك، سببًا من أسباب عدم نجاح المشروع، علاوة على إشارته إلى الآثار السلبية للانقسام الذي شاب النضال الوطني الفلسطيني في أدق مراحله احتياجًا للوحدة الوطنية، وإلى ضعف البنية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية للمجتمع الفلسطيني الذي ظل تقليديًّا، ونهج القيادة الفلسطينية التقليدية المتمثل في المساومة مع المستعمرين الانكليز، وتواطؤ الحكام العرب وعدم جدّيتهم في نصرة الحق الفلسطيني.
لذلك، يشكل هذا الكتاب باستخلاصاته العميقة وبمضمونه الشامل ومتابعاته لأفكار المثقفين الفلسطينيين على امتداد أربعين سنة تأكيدًا غير مباشر على ضرورة تجنب النواقص والسلبيات التي أدت إلى ما أدت إليه من هزائم، وعلى تعزيز صمود الفلسطينيين في وطنهم.
إنه كتاب جدير بالقراءة، وكل التقدير للمؤرخ الدكتور ماهر الشريف على هذا الجهد البحثي العلمي الكبير.
المثقف الفلسطيني ورهانات الحداثة (1908-1948)/ ماهر الشريف/ مؤسسة الدراسات الفلسطينية- بيروت/ 326 صفحة من القطع الكبير/2020.
الكتاب موجود في مكتبات رام الله/ فلسطين.