The Battle of the Hunger Strike
Date: 
October 21 2020
Author: 
blog Series: 

شهد تاريخ الحركة الأسيرة الفلسطينية طوال عقود الثورة الفلسطينية، عشرات العشرات من معارك الإضراب المفتوح عن الطعام، سواء أكانت تلك المعارك الجماعية التي انخرطت وشاركت فيها جميع أطياف الحركة الأسيرة الفلسطينية وحققت انتصارات مرموقة، وشكلت نموذجاً للعطاء اللامحدود لأسرانا في السجون، أم الإضرابات الفردية التي حققت أيضاً انتصارات على الرغم مما تثيره من حالة جدل داخل سجون الاحتلال في صفوف الأسرى أو خارجها بين الهيئات التي تتابع ملف الأسرى.

أود من خلال هذه السطور أن أنقل صورة لمعنى وحقيقة وفحوى أن أقول إن الأسرى قد قرروا خوض معركة الإضراب المفتوح عن الطعام كسبيل أخير وليس أول لتحقيق مطالبهم الحقوقية الشرعية وفق الشرائع الدولية، وهنا أقول سبيلاً أخيراً لأن أسرانا داخل السجون يدركون كل الإدراك ماذا تعني تفصيلات معركة الإضراب عن الطعام، من معركة تحمّل وصبر وعطاء قد تصل، وقد وصلت في مرات عديدة حد الجود بالنفس والاستشهاد. لذلك فإن قرار الإضراب عن الطعام ليس قراراً عفوياً بل هو قرار يحتاج إلى دقة في كل تفصيلاته، وإلى تحشيد نفسي ومعنوي وجسدي، وإلى شرح أسباب الإضراب لجميع الأسرى المشاركين في المعركة، مع إصدار كم كبير من التعليمات التي يجب على الأسرى المضربين التزامها، وعلى رأسها قرارات لجنة الحوار التي يشكلها الأسرى قبل خوض المعركة، كونها اللجنة المسؤولة عن قيادة الإضراب وبته وإصدار القرارات خلال المعركة.

قبل أيام من خوض المعركة، تبدأ قيادة الإضراب المعتمدة من الفصائل المشاركة والأسرى بتوزيع التعميمات الداخلية على قواعدها، بهدف التحشيد وتفسير الأسباب التي تقف خلف قرار الإضراب، والتي تكون في الغالب فشل اللجان الحوارية في الحصول على بعض الحقوق عبر قنوات الحوار الاعتيادية التي تمثل مصلحة السجون الاحتلالية. ثم يبدأ التحشيد والتعليمات وعملية تقسيم الأدوار بين الأسرى المشاركين في الإضراب، والأسرى الذين يشكلون هيئات طوارئ مساندة لمعركة الإضراب، وهي هيئات يجب أن تكون جاهزة لتعزيز قاعدة المضربين عن الطعام فور الحاجة إليها. كما يبدأ التواصل مع الجهات والهيئات القانونية والإنسانية التي تهتم بشؤون الأسرى لضمان تحشيد التضامن المحلي والعربي والدولي مع الإضراب، وتستمر هذه الخطوات حتى ليلة إعلان خوض صراع الإضراب عن الطعام.

بعنفوان المقاتل، وبسمة المغامر، وثقة الواثق

في ليلة خوض المعركة، يجلس كل أسير مشارك في الأضراب مع نفسه، يفكر في أحبابه وضرورة صموده في هذه الخطوة، يصارع كل الشكوك التي قد تراوده بشأن مدى تحمله الإضراب مهما يطول، فهو إنسان ولديه قدرات وعواطف ونقاط ضعف ونقاط قوة، ليحسم أمره بأن التزام الإضراب ضرورة لا تراجع عنها، وأن الصمود حتى النهاية هو الطريق الوحيد لإنجاز أهداف الإضراب ولنيل الحقوق. يكتب بعضهم وصيته، فهو يعرف أن ضمانة الانتصار غير محسومة، ويدرك كل الإدراك أن العدو ليس سهلاً، وأن حياة الأسرى لا تساوي لديه شيئاً، وما يكسر الاحتلال هو فقط الإرادات الصلبة. يفكر الأسير في خطوة الإضراب، يقلق على من يحب، ويقلق بشأن سير الخطوة، فيحسم قراره، يشارك بعنفوان المقاتل، وبسمة المغامر، وثقة الواثق.

تنطلق المعركة، ويبدأ الصراع منذ اللحظة الأولى من تنكيل متعمّد بحق الأسرى المضربين عن الطعام من جانب الجلاد، ومن تفتيشات ومداهمات تعسفية، وتنقلات بين السجون بهدف إرهاق الأسرى عبر كثرة تنقلهم "بالبوسطات" ما بين أقسام العزل الموزعة على السجون كافة. ولعل أول خطوة يقوم بها الجلاد هي عزل قيادة الإضراب لمنع أي اتصال وتواصل مع باقي الأسرى. وتبدأ عملية التشكيك من جانب الجلاد بمدى نجاح هذه الخطوة في محاولة منه لكسر الإضراب منذ البداية، إلاّ إن هناك تعليمات مع الأسرى بعدم التواصل مع الجلاد إلاّ من خلال لجنة قيادة الإضراب. وبعد أيام قليلة من الإضراب يغيب الشعور بالجوع ويبدأ التعب الجسدي يتغلغل في أجساد الأسرى فيتسامرون ليتغلبوا على الشعور بالتعب، وفعلاً يتغلبون عليه من خلال إيمانهم بقناعاتهم، وثقتهم بأن قيادتهم لن تبيعهم في المعركة وأن حركة الشارع الفلسطيني معهم. وعلى الرغم من التراجع الوطني الشامل فإن الأسرى في معاركهم لا يملكون حق الانسحاب منها كما يملكه أي مناضل خارج السجون، إذ إن المعركة مستمرة بإضراب أو من دون إضراب. تكثر التفتيشات الليلية ويزيد ضغط الجلاد لكسر الخطوة، وهنا لا أريد أن أخوض في تقييم تجربة إضراب معين أو الإنجازات التي يحققها الإضراب، لكن هناك دائماً خطوة تتكرر في كل إضراب، وهي أن إعلان انتهاء الإضراب بغض النظر عن نتائجه لا يحدث إلاّ من خلال قرار تصدره لجنة قيادة الإضراب، إذ إن التنظيم والانضباط والتزام الأسرى المضربين الكامل يكون أجمل من الانتصار نفسه.

ينتهي الإضراب ويعود كل أسير إلى غرفته في السجن الذي يقبع فيه، وتبدأ الأحاديث عن تفصيلات الإضراب وتقييم الخطوة ويصبح الزمن الصعب الذي مر على المضربين خلال المعركة عبارة عن نهفات وضحكات نستذكرها بشكل فكاهي. وما يلفت النظر هو أن الأسرى جميعهم يدركون خطورة هذه الخطوة إلاّ إنهم على استعداد دائم للجود بالنفس إذا ما اقتضت الحاجة إلى ذلك وفق وعي كامل بأن هذا القرار ليس عفوياً ولا ينبغي له أن يكون عفوياً، كما أن الاستعداد والجهوزية النفسية ليسا عفويين بل يُبنيان على قواعد ضرورة تحصيل الحقوق.

أذكر خلال إضراب سنة 2011 حين تم عزل ما يقارب التسعين أسيراً في قسم عزل في سجن أوهلي كيدار في بئر السبع، كان القسم لا يحتوي على شيء سوى البطانيات والفرشات المتواضعة، وكانت إدارة السجن تجري التفتيشات الليلية المفاجئة لإرهاق الأسرى وكسر إضرابهم، ناهيك عن محاولة بث الشائعات بأن الشارع الفلسطيني غير متضامن مع حالة الإضراب، وألاّ أحد يكترث لقضية الأسرى في محاولة للطعن بالثقة في القاعدة الجماهيرية والشعبية، بل والأكثر خطورة من ذلك محاولة إدارة السجون التشكيك في مدى صدقية وإخلاص لجنة قيادة الإضراب فيما يتعلق بالإضراب نفسه تحديداً بعد عزل اللجنة عن الكل الاعتقالي. ثمّ إن ما زاد في تعقيدات الموقف هو تنفيذ صفقة تبادل الأسرى (وفاء الأحرار) خلال الإضراب وخروج أسرى مضربين عن الطعام ضمن صفقة التبادل من داخل قسم العزل، وكان هذا الموقف تكلله عمق المشاعر الثورية ما بين أسير مضرب عن طعام وأسير سيتحرر وهو أيضاً مضرب عن الطعام، ليعاهدوا البقية بمواصلة معركة الإضراب حتى ما بعد الإفراج، هو عهد المواصلة والوفاء.

حاولت إدارة السجون إثارة المخاوف في صفوف الأسرى سعياً لكسر الإضراب، وفي الوقت ذاته كانت تتفاوض مع لجنة قيادة الإضراب من دون علم أحد فلا إمكان للتواصل بين الأسرى المضربين وقيادة الإضراب، ومع استمرار المراوغة، لاقت رداً لم تتوقعه من الأسرى المعزولين في سجن أوهلي كيدار، وهو أنه في حال تم الاستمرار في التشكيك بقيادة الإضراب سيقوم الأسرى بالإضراب أيضاً عن الماء، مطالبين بحضور ممثلهم فوراً إلى القسم بهدف التواصل معه، وفي هذه الحالة لم يكن أمام إدارة السجون سوى الرضوخ وتكثيف قنوات الحوار إلى أن توصلت إلى اتفاق مبدئي مع قيادة الإضراب، ولم ينه الأسرى إضرابهم إلاّ بقرار مباشر بحضور لجنة القيادة، وهنا كانت الصدمة الصاعقة التي تلقتها إدارة السجون بكل هيئاتها، وهي أنهم قد يحبسون أجساد الفلسطينيين لكنهم لا يستطيعون حبس أو قمع إرادتنا.

 وتوصلت إدارة السجن إلى الاستنتاج بأن الغلبة هي لنا نحن الأسرى، فلم ولن نسمح بمرور كل تلك الألاعيب والمناورات لكسر إرادتنا. فالجود بالنفس لا يمكن أن يعجز عن كسر عصى الجلاد، نملك إرادتنا الحرة على الرغم من القضبان والجدران، نملك وعينا وصلابة موقفنا ووحدة كلمتنا لإحقاق حقوقنا المشروعة.

انظر

Read more