Beirut That Dazzled Me as a Child and Contained Me as a Man
Special Feature: 
Full text: 

أسكن في بيروت، بشكل متقطع أو متواصل، منذ النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي، لكنني، كقاطن سابق في مدينة صور التي كانت تُعتبر يوماً من الأطراف المهمشة، تعرفت إلى بيروت منذ الطفولة في النصف الأول من الستينيات.

ثمّة ذكريات من طفولتي عن بيروت قد تكون ملتبسة، بين ما هو حقيقي وما قد يكون ذاكرة مركّبة؛ من تلك الذكريات ترامواي بيروت ذو اللون الأحمر والأبيض، والذي يمر في ذاكرتي أنني رأيته مرة، بل مرات، حين كان والديّ يعالجانني في مستشفى الجامعة الأميركية في بيروت وأنا طفل، علماً بأن الترامواي توقف عن العمل في سنة 1965. وبالتالي، لو كانت تلك الذاكرة حقيقية، فأكون قد رأيته وعمري لا يتجاوز 7 أعوام، وفي هذا العمر، ربما تكون الذاكرة حقيقية؛ لكنها أيضاً ربما تكون ذاكرة مركّبة، كوني درست في رومانيا حيث الترامواي كان ولا يزال وسيلة نقل عامة أساسية هناك، وكنت أستخدمه يومياً في مطلع ثمانينيات القرن الماضي.

غير أن الذاكرة الحقيقية الأكيدة، هي ذلك الذهول الذي ما زلت أتذكره من طفولتي، لدى زيارتنا خالاً لي كان يسكن في شارع السادات في منطقة الحمرا، إذ عندما دخلنا بسيارة والدي إلى بيروت كانت كلها مضاءة، إلى درجة كاد يغشى بصري فيها. والسبب في ذلك أنني لم أكن معتاداً على هذا الكم من الإضاءة، ففي صور كانت تنتشر بين الأحياء مصابيح صغيرة معلقة في أعلى عمود خشبي ، وكانت تضيء بقعة صغيرة فقط، كما أنه لم يكن فيها، في تلك الفترة، سوى شارعين مزفّتين فقط. بينما سائر المدينة هو عبارة عن طرقات رملية تحيطها كثبان، ولم يكن موجوداً فيها آنذاك سوى بناية واحدة بخمس طبقات، قبل أن يتم إنشاء بناية مماثلة، بمحاذاة المنزل الذي كنا نسكنه وهو في بناية مرتفعة نسبياً في المدينة، كونها تتكون من ثلاث طبقات، بينما معظم أبنية صور هو عبارة عن بيوت من طبقة واحدة، أو طبقتين كحدّ أقصى.

كانت صور مدينة فقيرة، السيارات فيها قليلة العدد، ولا مواصلات داخلية، ما عدا تلك التي بينها وبين القرى المحيطة، وبينها وبين صيدا وبيروت، لكن فيها ما يكفي من الحراك السياسي الذي أذكره تماماً، وخصوصاً ملاحقة المكتب الثاني للناشطين السياسيين من الأحزاب القومية أو الحزب الشيوعي، ومنهم أحد الناشطين من حركة القوميين العرب، والذي كان يهرع إلى منزلنا هرباً من الملاحقة، كوننا نسكن في بناية السيد عبد الله صفي الدين، والد النائب والوزير محمد صفي الدين، المحسوب على العهد الشهابي، وبالتالي فإن البناية كانت محصّنة من المداهمات الأمنية.

عاشت صور، أسوة بصيدا وبيروت، في الربع الأخير من الستينيات ومطلع السبعينيات، حركة تظاهرات ناشطة ضد السلطة، واحتجاجاً على غلاء الأسعار، وكان الطلاب هم المحرك الرئيسي لهذه التظاهرات، كما كان الصيادون من المشاركين الدائمين فيها.

أذكر تحديداً واحدة من التظاهرات كانت الأكبر والأعنف، في نهاية الستينيات أو بداية السبعينيات، وكنت أشاهدها عن بعد كافٍ كي لا أكون مشاركاً فيها، لصغر سني، وقد سقط فيها أول شهيد، كان اسمه على ما أذكر، روبير غنيمة، وهو مسيحي، برصاصة شرطي مسلم، علماً بأن التظاهرات كانت تندد بالسلطة التي تهيمن عليها المارونية السياسية.

في الوقت نفسه، كانت بيروت تضج بالتظاهرات الطالبية والعمالية التي لم نكن نعرف عنها، نحن صغار السن، شيئاً، لأن الوسيلتين الوحيدتين للأخبار كانتا التلفزيون والإذاعة اللبنانيين اللذين لم يكونا ينقلان مثل تلك الأخبار، بينما كانت الصحف التي لم نكن نقرأها، مقتصرة على كبار السن.

 حرب السنتين

ظلت علاقتي ببيروت من خلال والدي والزيارات العائلية، إلى ما قبل حرب السنتين (1975 – 1976)، حين أقنعني صديق طفولة (كان يكبرني سناً) بالذهاب إلى بيروت لحضور فيلم سينمائي في ساحة البرج، وقضاء النهار هناك، وطبعاً من دون إخبار والديّ. وكان هذا الصديق يعمل في حسبة صور (سوق الخضار)، وهو صغير السن، مثله مثل كثيرين من فقراء المدينة، ويتابع دراسته في الوقت ذاته، فالدعوة بالتالي كانت على حسابه، لأن مصروف الجيب الذي كنّا نأخذه لم يكن يكفي سوى لسندويش فلافل وزجاجة مشروب غازي (جلول، أو غلاييني، ولاحقاً آر سي).

كانت تلك المرة الأولى التي أتجول فيها في شوارع ساحة البرج، وقد شاهدنا فيلماً صباحاً عند وصولنا إلى المكان، وكان بعض السينمات يعرض أفلاماً متواصلة على امتداد 24 ساعة، ثم "تسكعنا" في الشوارع وأكلنا ساندويشات فلافل، وعدنا إلى مدينتنا الصغيرة التي كانت بدأت تكبر شيئاً فشيئاً.

بعد عام أو أكثر قليلاً من هذه المغامرة، اندلعت حرب السنتين، وفي أيامها الأولى، ذهبت برفقة والدي إلى بيروت، كي نوصل خالتي وعائلتها إلى المطار، لأنها كانت عائدة إلى السعودية، إذ إنها كانت متزوجة من رجل سعودي هاجر والده صغيراً إلى فلسطين وتزوج فيها، وبعد النكبة عاش فترة قصيرة في لبنان قبل أن يعود إلى السعودية ويستعيد جنسية ذلك البلد. وفي منطقة الدامور، شهدت لأول مرة ما بات يُعرف لاحقاً بالحواجز الطيّارة، إذ ظهر فجأة مسلحون ملثمون (لم أعرف في حينه ولا أعرف اليوم إلى أي ميليشيا يمينية ينتمون)، نصبوا حاجزاً وباشروا إيقاف السيارات، لكن سيارتنا كانت قد عبرت قبل ثوانٍ من نصب الحاجز، وعرفنا لاحقاً، بعد عودتنا إلى صور، أنه تم خطف عدد من الفلسطينيين على هذا الحاجز.

لم تكن لي في السنة الأولى من حرب السنتين علاقة مباشرة ببيروت، بل من خلال ما نستمع إليه من أخبار، وما أخبرني به أخي الكبير الذي كان عضواً في حركة "فتح"، عن ذهابه مع مجموعة من شباب "فتح" في منطقة صور، إلى الخندق الغميق، بعد أن توسعت المشاركة الفلسطينية في الحرب، وكذلك من خلال النازحين من بيروت إلى صور هرباً من المعارك، وخصوصاً في مناطق التماس، وقد لجأت عائلة تقطن في الشياح إلى أقارب لها في صور، ربطتنا بأفرادها ممّن هم في عمرنا علاقة لعب ولهو.

كانت صور في تلك الفترة قد تطورت بناء وبنية تحتية، وخصوصاً بعد تمدد الفصائل الفلسطينية خارج المخيمات بعد اشتباكات سنة 1973، وتدفُّق كثير من فلسطينيي الأردن وسورية ومن العرب المناصرين للفلسطينيين واليسار اللبناني، لمؤازرة القوات الفلسطينية – اللبنانية المشتركة، كما تدفقت أموال عربية لمنظمة التحرير الفلسطينية، وتحول ميناء الصيادين في صور إلى استقبال سفن السيارات المستعملة والمواد الغذائية والأسلحة، وباتت صور مدينة حقيقية تتوسع أفقياً وعمودياً، فنشأت عشرات البنايات المتعددة الطبقات التي لامس بعضها الطبقات العشر، وقيل إن كثيراً من تلك البنايات هو لمنظمة التحرير الفلسطينية، وإن كان مسجلاً بأسماء لبنانيين، ومنها البناية التي اتخذها الحاكم العسكري الإسرائيلي مقراً له بعد اجتياح سنة 1982، في محلة جل البحر شمالي شرقي المدينة، والتي فجّرها الاستشهادي أحمد قصير في تشرين الثاني / نوفمبر 1982، وكانت بداية لسلسلة من العمليات الاستشهادية الكبيرة ضد الجيش الإسرائيلي.

حالت خطورة الطريق إلى بيروت طوال سنة 1975، بيننا وبين زياراتنا العائلية لأقاربنا، ولم أكن قد التحقت في حينه بأترابي في الذهاب إلى جبهات القتال. لكن في سنة 1976، بدأت مسيرتي في المشاركة في المعارك، فذهبت أولاً إلى منطقة صنين، ثم إلى جوار مدينة جزين بعد دخول الجيش السوري، لكن زياراتي لبيروت كانت محدودة.

علاقتي الحميمة ببيروت بدأت عملياً في سنة 1977، مع تسجلي للدراسة في جامعة بيروت العربية، وسكني في شارع عفيف الطيبي، وتعرّفي إلى معالم شارع الحمرا والروشة، وعيش حياة ليل بيروت في هاتين المنطقتين مع زملائي وأصدقائي، ثم مجدداً في سنة 1979، عندما تفرغت للمرة الأولى للعمل الفصائلي الذي كنت أتنقل خلاله بين مخيم شاتيلا والشيّاح، وذلك قبل أن أترك لبنان للدراسة في رومانيا.

لم تكن الأوضاع الأمنية مريحة في تلك الفترة، لكن بيروت كانت حاضنة حنونة تُسعد مَن تحتضنه. وقد تعرفت إلى شوارعها، وارتدت مقاهيها الرائعة: الويمبي والمودكا والهورس شو والكافيه دو باريس، وشاهدت أجمل الأفلام في سينماتها: البيكاديلي وستراند  والسارولا وإلدورادو وفيرساي والمونريال ومونتي كارلو وغيرها من سينمات الحمرا، وكذلك في السينمات الأُخرى المنتشرة في أحياء بيروت في البربير والزيدانية وغيرهما.

أذكر تماماً مطعم الشمعة وحلويات أبو علي في محلة الفاكهاني، ومقهى دبيبو في الروشة.. وبار جعيتا في الحمرا. وكان هناك ملهى ليلي في الروشة، لم أعد أذكر اسمه، كان لنا رفيق يعمل فيه ساقياً، فكنا نذهب متسللين من دون أي قرش في جيبنا؛ لكن لا بأس، فإن رفيقنا الساقي كان يحسم من كل كأس لزبون قليلاً، ويجمع ما حُسم جانباً، ثم يزوّدنا بكؤوس لا تكاد تنتهي، وبـ "بلاش".

كنّا مجموعة من الصبايا والشباب من لبنان والضفة الغربية والأردن، وقد أصبحنا أصدقاء، نلتقي بعد انتهاء الصفوف، ونتجه صوب الحمرا لنحتسي القهوة في واحد من مقاهي الشارع، أو نتناول طعام الغداء في مطعم شحرور في الروشة، أو نأكل ساندويشات من مطعم مرّوش سواء في الروشة أو الحمرا... ولا بد من ذكر مطعم ملك البطاطا.. ساندويش واحد يكفي كي يشبع أكثر الشبان شرهاً.

أمّا عندما نشتاق إلى أكل البيت، فكنّا نتوجه إلى محلة البربير، وتحديداً إلى مطعم العرب، حيث كنّا نلتهم النيفا والفوارغ والكروش.. ما أشهاها!

وبعد وجبة دسمة كتلك، كنا نمشي طويلاً من البربير إلى الروشة حيث نقف قليلاً كي نتأمل صخرتها الشهيرة، قبل أن نتجه نزولاً صوب مدينة الملاهي، وربما نحتسي كوب قهوة في مقهى شاتيلا، أو نكمل سيرنا على طول الواجهة البحرية في اتجاه عين المريسة.

 بوخارست – بيروت - بوخارست

لم تكن الثورة سلاحاً فقط، بل انتفاضة ثقافية واجتماعية وتعليمية أيضاً. فقبل ما سُمي العصر الذهبي لمنظمة التحرير في لبنان، كانت بيروت وحدها مدينة تشبه مدن الغرب، بينما مدن الأطراف مثل مدينة صور، مناطق بتقاليد شرقية تقليدية ومتزمتة أحياناً. لكن مع انهيار سلطة الدولة ونشوء سلطة الفصائل الفلسطينية والأحزاب اللبنانية وانتشار السلاح، والتحاق كثير من الشبان والشابات بتلك الفصائل والأحزاب، شهد المجتمع ثورة اجتماعية برزت من خلال تمتع المرأة باستقلالية كبيرة، وبشخصية جديدة غير تقليدية، فكانت متحررة فكراً وجسداً، الأمر الذي يستحق أن يُفرد له أبحاث عن الثورة وتحرر المرأة، وخصوصاً نساء الأطراف.

استفدت مثل كثيرين من الكم الهائل من المنح الدراسية في دول المعسكر الاشتراكي، فقد عُرضت عليّ، ضمن مروحة من العروض، دراسة الصحافة في رومانيا، فوافقت، والتحقت بكلية الصحافة في بوخارست في نهاية سنة 1981.

كنّا نستعد لتقديم امتحانات في كلية الصحافة في بوخارست عندما بدأ الاجتياح الإسرائيلي في سنة 1982، فقاطعتُ مع كثيرين من الطلاب اللبنانيين والفلسطينيين والعرب تلك الامتحانات، وجئنا إلى لبنان عبر مطار دمشق، وتموقعنا في القماطية قرب عاليه، استعداداً للدخول إلى بيروت التي كنّا نشاهد كيف كانت تُقصف نهاراً بجميع أنواع الصواريخ والقنابل التي كانت تحوله إلى ليل، وليلاً فتضيئها الحرائق وبريق الانفجارات؛ ولم ندخل بيروت، وإنما حوصرنا في الجبل حيث قصفنا الجيش الإسرائيلي بأطنان من الصواريخ والقنابل، فاستشهد بعضنا، وأُسر بعضنا الآخر، ونجا آخرون بأعجوبة، وأنا منهم، فعدت إلى رومانيا لأكمل دراستي وأتخرج من كلية الصحافة في سنة 1984.

 دمشق – بيروت

من بوخارست، كنت أتلقف أخبار لبنان بالتنقل بين موجات الإذاعات العربية من خلال راديو أحضره لي أخي من ألمانيا، وكنت ألتقط عليه الموجات الطويلة (LW) والمتوسطة (MW). ففي رومانيا لا خبر سوى عن الرئيس القائد الأب نيكولاي تشاوتشيسكو وزوجته المناضلة ووالدة الشعب الروماني إيلينا، علاوة على ما كان يتسرب للفصائل والأحزاب اللبنانية الموجودة في رومانيا من أخبار. هناك تتبّعنا ما يجري في شاتيلا من مجازر، فتواصل الطلاب اللبنانيون والفلسطينيون / اللبنانيون مع أهاليهم عبر الصليب الأحمر الدولي، وكنت أنا من هؤلاء، إذ اطمأننت على أهلي، وهم اطمأنوا عليّ.

بعد التخرج، انقضت عدة أشهر وأنا أبحث عن طريقة أعود فيها إلى لبنان الذي أُغلق أمام الفلسطينيين، بل إن السفارة اللبنانية في بوخارست رفضت تجديد وثيقة سفري الصادرة عن السلطات اللبنانية. وكان الخيار الوحيد المتاح هو الذهاب إلى دمشق حيث يُسمح للاجئين الفلسطينيين المنتهية صلاحية وثائق سفرهم بالمرور عبرها إلى لبنان.

رحلة العودة إلى بيروت استغرقت 4 أعوام قضيتها في دمشق، مع زيارات عمل كصحافي في مجلة "الهدف" لمخيمات بيروت والشمال والبقاع. وفي سنة 1985 تتبّعت الانسحاب الإسرائيلي من منطقة صيدا حيث دخلتُ مخيم عين الحلوة الذي كان يتصرف، على الرغم من الانسحاب، كأنه لا يزال تحت الاحتلال.. غياب للسلاح نهاراً، ودوريات وكمائن ليلاً، وقد رافقت خلالها كميناً لنساء المخيم المقاتلات، وتعرفت إلى مجموعات العمل السري التي كانت تعمل تحت الاحتلال.

قبل ذلك، في سنة 1984، زرت مخيمات بيروت التي كانت لا تزال تعيش تحت وطأة المضايقات والملاحقات قبل انتفاضة 6 شباط / فبراير التي أخرجت الجيش اللبناني الموالي للرئيس أمين الجميل من بيروت، وخصوصاً مخيم شاتيلاً الذي لم يبرأ من المجزرة التي ارتكبتها ميليشيات يمينية بإشراف مباشر من الجيش الإسرائيلي ووزيره أريئيل شارون.

وفي دمشق، ومنها، تتبعت أخبار حرب المخيمات، واطّلعت، بحكم عملي كصحافي وقربي من قيادات فلسطينية، على الوساطات التي كان بعض قادة الحركة الوطنية اللبنانية يقومون بها.

كانت دمشق في حينها توأم بيروت، والشريان الحيوي الذي يصلنا، نحن عشاق بيروت، بمدينتنا التي احتضنتنا حتى بتنا جزءاً منها، وباتت تجري في دمنا.

حان الوقت للعودة إلى رحم تبنّانا نحن المولودين من رحم آخر. كانت سنة 1988 سنة العودة إلى بيروت للعمل في إذاعة "صوت الشعب"، بالتوازي مع دخول لبنان مرحلة جديدة تمثلت في الشروع في البحث عن حل لحرب أهلية لا تكاد تنتهي، بعد بلوغ عهد أمين الجميل نهايته من دون التوصل إلى توافق على مَن سيخلفه؛ ولمّا استحال التوصل إلى حل، بدأت إرهاصات اتفاق الطائف تتكون، مع بروز نجم قائد الجيش العماد ميشال عون الذي تمرد على الحل، وشنّ حربين: في سنة 1989 خارج البيت المسيحي عُرفت بحرب التحرير، وقُصفت خلالها بيروت الغربية والطريق إلى دمشق وصولاً إلى شتورا، وفي سنة 1990 داخلية ضد القوات اللبنانية عُرفت بحرب الإلغاء، وتسببت بتخريب المنطقة الشرقية وتهجير عشرات آلاف المسيحيين اللبنانيين.

خلال تلك الفترة، اختبرت بيروت حالة أمنية خطرة، وخصوصاً من خلال قصفها المكثف وتوالي انفجار السيارات المفخخة التي خفّت قليلاً خلال حرب الإلغاء، في الوقت الذي كانت عملية ترتيب اتفاق الطائف قد وصلت إلى خواتيمها، ولم يتبقّ أمامها سوى إزاحة العماد عون من بعبدا، بعدما عيّنه الرئيس الجميل رئيساً لحكومة عسكرية انسحب منها الجنرالات المسلمين، لتبقى حكومة بجنرالات مسيحيين فقط.

لكن على الرغم من المخاطر الأمنية في بيروت، كانت الحياة متواصلة، نهاراً وليلاً؛ فبعد انتهاء عملنا في إذاعة صوت الشعب، وغالباً بعد الواحدة بعد منتصف الليل، كنا نذهب إلى شارع بلس حيث نأكل مناقيش من أفران لبنان، أو نتجه إلى عين المريسة لاحتساء القهوة، وهذا أمر مارسناه حتى في ليل اليوم نفسه الذي تعرضت فيه الإذاعة لقصف مركز بقذائف الـ 155 ملم.

بدأت مرحلة الطائف في نهاية سنة 1989 بسيل جديد من الدم، فبعد أيام على انتخاب رينيه معوض رئيساً للجمهورية الثانية في 5 تشرين الثاني/ نوفمبر 1989، شهدت بيروت تفجيراً في 22 من الشهر نفسه استهدف معوض الذي قُتل مع مرافقين له وبعض المدنيين، فانتُخب الياس الهراوي بعد يومين رئيساً، لكن العماد عون بقي مصراً على البقاء في قصر بعبدا. وفي 13 تشرين الأول / أكتوبر 1990، كانت الساعة الصفر التي تم التوافق عليها إقليمياً ودولياً لإزاحة عون قد حُددت، وذلك عبر عملية عسكرية سورية بمشاركة القسم من الجيش اللبناني المتمركز في المناطق الواقعة تحت سيطرة سورية والأحزاب والقوى التابعة والمتحالفة معها، فقُصف قصر بعبدا بالطائرات الحربية السورية، واحتمى عون بالسفارة الفرنسية ليعلن من هناك الاستسلام ويغادر إلى باريس حيث ظل حتى سنة 2005.

 تفجيران وحروب كبرى وصغرى

بإبعاد عون إلى خارج لبنان، ثم سجن رئيس القوات اللبنانية سمير جعجع، وأيضاً إبعاد الرئيس أمين الجميل، شهدت المنطقة المسيحية تغيّراً ملحوظاً مع إبراز أدوار لقيادات التحقت بالجو السوري، وأُخرى نشأت من خلال هذا الوجود، بينما كانت المنطقة الأُخرى قد وقعت كاملة قبل ذلك تحت السيطرة السورية. وبسبب الدعم الإقليمي والدولي لسورية في لبنان، تمكّن النظام السوري من الهيمنة على القرارين السياسي والأمني اللبنانيين بداية، ثم مد يده إلى الاقتصاد لاحقاً، والذي كان من حصّة الرئيس رفيق الحريري بدعم من السعودية، أحد الأطراف الرئيسية في اتفاق الطائف.

كان العامان الأولان من التسعينيات بمثابة مرحلة تمهيدية لوصول الحريري إلى رئاسة الحكومة في سنة 1992، والذي تولى الملف الاقتصادي وباشر إعادة الإعمار، وخصوصاً وسط بيروت ومطارها الدولي، وبقي على وئام مع النظام السوري وعلى خلاف مع بعض حلفائه في لبنان حتى سنة 2000، حين تولى بشار الأسد الرئاسة السورية بعد وفاة والده حافظ الأسد، فساءت العلاقات، ولا سيما بعد أن مدّ النظام السوري يده إلى الملف الاقتصادي، وصولاً إلى سنة 2005 حين أظهر الحريري ميلاً إلى الانفصال عن الحلف السوري، ليلقى حتفه في تفجير في 14 شباط / فبراير 2005، عُدّ في حينه أكبر التفجيرات التي يشهدها لبنان.

كنت حينها قد انتقلت منذ 5 أعوام إلى العمل في جريدة "المستقبل"، وشهدتُ المتغيرات المذهلة التي حدثت في حينه، حين نزل مئات الآلاف إلى الشارع في انتفاضة سبقت الربيع العربي الذي انطلق من تونس في نهاية سنة 2010.

نجحت انتفاضة 2005 في دفع الجيش السوري إلى الخروج من لبنان، لكن حلفاء دمشق كانوا أقوياء كفاية لامتصاص ارتدادات زلزال الخروج السوري، وخصوصاً بوجود قيادات تقليدية على رأس تحالف 14 آذار المناهض للوجود السوري، والتي ساهمت في وأد انتفاضة 2005 بعد تحالفها مع حلفاء دمشق الذين عُرفوا باسم تحالف 8 آذار، في وقت انتشرت عمليات اغتيال بتفجير عبوات في سيارات قيادات وشخصيات محسوبة على 14 آذار.

وبينما كان يبدو أن لبنان في طريقه إلى تجاوز زلزال اغتيال الحريري، وخصوصاً اقتصادياً، إذ سُجل نمو في الدخل القومي، وتدفّق السياح إلى البلد، حدثت حرب تموز / يوليو 2006 بين حزب الله وإسرائيل، وفيها دُمر معظم البنية التحتية للبنان، على الرغم من عدم قدرة إسرائيل على تسجيل انتصار حاسم على حزب الله.

مرة أُخرى بدا كأن لبنان مقدم على نهضة اقتصادية جديدة في أعقاب انتهاء حرب 2006، وبعد معركة نهر البارد في سنة 2007 بين تنظيم "فتح الإسلام" الإرهابي والجيش اللبناني، والتي تسببت بتدمير المخيم الفلسطيني. غير أن حزب الله وحلفاءه اجتاحوا بيروت في أيار / مايو 2008، وحدث في ذلك اليوم أمر لن أنساه ما حييت؛ فقد سمعت مجدداً عبارة تكررت بمكبرات الصوت بينما كنّا محاصرين في حرش صغير على أطراف مدينة عاليه في سنة 1982: مخرّب سلّم تسلم.. ما تغير في العبارة التي سمعتها في ليل 7 / 8 أيار / مايو 2008 هو كلمة "مستقبل" بدلاً من كلمة "مخرب"... كان أفراد الميليشيات التي قصفت مبنى جريدة "المستقبل" وحاصرتنا داخل مبنى الجريدة وفي فندق البوريفاج المجاور، يصرخون: "مستقبل.. سلّم تسلم"!!

وما زاد الوضع سوءاً في لبنان في مرحلة العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، انتقال ثورات الربيع العربي إلى سورية، واندلاع حرب ضروس تدخّل فيها حزب الله مباشرة، في الوقت الذي كان قد سيطر بشكل مباشر وغير مباشر على الحياة السياسية والإدارية الرسمية في لبنان، عبر تحالفه مع التيار الوطني الحر برئاسة ميشال عون.

نخر الفساد جميع مفاصل السلطة السياسية والإدارية في لبنان، وتمدد الفساد أفقياً وعمودياً، بالتوازي مع تمدد تدخّل حزب الله بدفع إيراني، في مشكلات المنطقة كلها، من سورية إلى العراق وصولاً إلى اليمن، وهذا كله مصحوباً بزيادة الضغط الأميركي على إيران في أعقاب وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، ثم الضغط الأميركي والعربي على إيران وحزب الله، عبر عقوبات اقتصادية، وحرب سريّة على اتساع الإقليم، بل العالم.

كان لبنان عامة، وبيروت تحديداً، قد دخلا اعتباراً من سنة 2008، مرحلة هبوط متدرجة على مختلف الصعد السياسية والإدارية والاقتصادية، ووصلت في النصف الثاني من سنة 2019 إلى وضع اقتصادي ومعيشي وكمّ من الفساد غير محتمل، لتنفجر انتفاضة ثانية في 17 تشرين الثاني / أكتوبر 2019، ضد جميع الفئة الحاكمة، الموالية لإيران ودمشق، وتلك المعارِضة لها، تحت شعار "كلن يعني كلن"، والتي أُطلق عليها وصف "أوليغارشية".

وبينما كانت أجواء لبنان ملبدة بوضع اقتصادي ومعيشي خانق أطاح بكثير من مظاهر الازدهار السابقة، بحيث تعطلت الحياة في معظم شوارع بيروت التجارية والسياحية، وبدا شارع الحمرا الشهير مقفراً بمتاجره ومطاعمه وفنادقه التي باتت تقفل الواحدة تلو الأُخرى، وضمرت الحركة تماماً في وسط بيروت التجاري، ولم يبقَ سوى شارع الجميزة وامتداده إلى شارع مار مخايل وصولاً إلى الأشرفية، مناطقَ يمكن لمَن يريد أن يرتاح قليلاً أن يلجأ إليها، دوّى عند السادسة وبضع دقائق من بعد ظهر يوم الثلاثاء 4 آب / أغسطس، انفجار هائل في بيروت، شعر كل منزل فيها بأنه قريب منه، لتتوضح المأساة بأن قسماً كبيراً من بيروت دُمر، وخصوصاً منطقتَي الجميزة ومار مخايل، وأن أضراراً كبيرة وقعت في الأشرفية، بينما دُمر القسم الأكبر من مرفأ بيروت حيث وقع انفجار يقال إنه بسبب تخزين أطنان من نترات الأمونيوم بشكل فوضوي، ووجود مواد متفجرة ومشتعلة في العنبر نفسه.

بيروت اليوم... وبعد الانفجار الزلزال الذي سُجّل على أنه رابع أقوى انفجار في العالم، تبدو في ثوب حزن لا يليق بها، ويتيمة على مأدبة لئام: بوارج حربية غربية رست في مرفأ بيروت المدمر، وجسور جوية بين مطارات العالم ومطار بيروت تجلب المساعدات.. بينما أهل بيروت المنكوبون والمتمسكون بكرامتهم والمطالِبون بإعادة بناء سريعة، لا يجدون سوى سلطة فاقدة للشعور، وفجور قيادات سياسية ما بعده فجور، وتوزيع لحصص غذائية كأنهم شحاذون، في الوقت الذي تحتجز المصارف أموالهم.. أمّا فيروس كورونا، فينتشر ويتمدد.

ضوء صغير التُقط في شارع الجميزة بعد يومين من المأساة، يشي بأن بيروت لا تموت؛ حانة صغيرة في الشارع المدمر أصرت، على الرغم من ذلك الدمار، أن تشرّع بابها الصغير المخلوع الذي أعيد تركيبه، لرواد اعتادوا ارتيادها وهم ليسوا من الشبان الصغار.. يشربون كأس الحياة على الرغم من الموت، ويعلنون أن بيروت عنقاء تولد من الرماد.