وصلتُ إلى بيروت للمرة الأولى قبل منتصف السبعينيات قبل حادثة "بوسطة عين الرمانة"، وعبر رحلة قطار مهجور ومتمهل من عمّان إلى الشام، وهو قطار يواصل ذهابه وإيابه الأزلي على مقطع من سكة حديد الحجاز، لا هدف ولا غاية. ومن دمشق إلى بيروت في شاحنة صغيرة تنقل علباً من الفواكه الشامية المجففة، وافق سائقها الذي كان يتصيد القرويين تحت شجرة خارج المحطة، على أن يضيفنا أنا ورجل من درعا وابنته إلى حمولته بنصف الأجرة.
نزل الحوراني وابنته في "المصنع"، وواصلت الطريق مع السائق حتى ساحة البرج. وصلنا مساء وكانت الأضواء قد أُشعلت، وعلى زاوية مضاءة بقوة في الساحة تستند حزم كثيرة من قصب السكر، بينما يتدافع في الخلفية طابور من الناس أمام محل للعصير. كان ذلك مشهد بيروت الأول، وكان مدهشاً.
دلني السائق، ناقل الفواكه المجففة، إلى أحد الفنادق المنتشرة في الساحة، يبدو أنه يعرف صاحبه، وكان اسمه "زهرة راشيا". سأكون فيما بعد في عشرات الفنادق على مساحة العالم، وسأجد صعوبة في تمييزها والاهتداء إلى أسمائها وغرفها، لكن اسم ذلك الفندق بردهته الطويلة المعتمة، والحاجز الخشبي القصير على بسطة درج ضيق ومسود، سيبقى واضحاً في كل استعادة، كما الآن.
كان هذا الفندق هو "الفندق" الأول في حياتي التي ستمتلىء بغرف الفنادق وأسرّتها وردهاتها والتهذيب المدروس لموظفي الاستقبال فيما بعد.
لم يكن "زهرة راشيا" فندقاً تماماً، هو "فرصة" متسامحة للمبيت تحصل عليها بعد أن يشير لك رجل يجلس خلف حاجز خشبي قصير نحو كومة من "الفرشات" والأغطية والوسائد في زاوية المدخل، وبعد أن يضع ليراتك القليلة المطوية بحرص في حصالة أطفال خشبية ثبّتها على الحاجز.
سلسلة الحركات تلك، والردهة المعتمة شبه الفارغة التي وجدت نفسي فيها، كانتا تشبهان إلى حد بعيد السفر واقفاً في حافلة شعبية مهلهلة، لكنها، أي الحافلة، تمنحك فكرة الوصول نفسها، إذ يمكنك سماع صوت المدينة كاملاً من عتمة الردهة.
كنت مراهقاً ومفلساً، وكانت بيروت مضاءة بكل شيء. في الليل امتلأ الفندق فجأة بالناس والأصوات واللهجة المصرية؛ فرقة سيرك مصرية كانت هناك منذ وقت طويل، فالخبرة الواضحة في اختيار الفرشة وزاوية النوم وأواني المطبخ والعلاقة مع رجل الحصالة على الحاجز تشي بذلك؛ نساء ورجال لا تبدو عليهم الموهبة، لكنهم يواظبون على الخروج معاً كل مساء كعائلة سعيدة لتقديم عرض في مكان ما، وقبيل منتصف الليل تُسمع أصواتهم من الدرج الضيق المُسوَدّ للفندق مختلطة بأصوات الساحة، وبعد دقائق ترتفع ضحكاتهم ويبدأ نشاط في زاوية الردهة حيث تكومت أواني الطبخ وأنبوبة غاز. كانوا كرماء وطيبين، ومنذ الليلة الأولى حصلت على وجبة عشاء وكثير من الرعاية، أمّا بعد العشاء فسيهدأ سكان الردهة وتخرج "الست"، وهذا اسمها، من غرفتها للعمل، وتبدأ شابة من الفرقة اسمها سعاد بالغناء.
كل صباح كان يصل فتى لبناني اسمه الياس، أظنه من أقارب رجل الحصالة، وكان يروي مغامراته بصوت مرتفع وإشارات جسدية مكشوفة للأشباح شبه النائمة في عتمة الممر. مغامرات الياس هذه، وعرضه الصباحي، كانا أشبه باستحضار "ندّاهة" يوسف إدريس لهؤلاء المصريين المنهكين، وإطلاقها نحوهم في الردهة.
تبدأ بيروت، بالنسبة إليّ، من تلك الرحلة وشخوصها، وليس من أي مكان آخر. لم تُحضرني الكتب إلى بيروت ولا البحر ولا الحرب التي كانت تتهيأ في الظلال. ذهبت إلى بيروت لأن أبي كان يذهب إلى هناك، ولأن عالماً من الغموض والبهجة كان يتخفى وراء صوته كلما عاد من تلك السفرات الطويلة، ولأن أكوام الصور في درج مكتبته تمتلىء بالرفقة، ولأن النساء في صوره يضحكن تحت أشجار معمّرة، ولأن أيدي النساء تبدو متحررة ومبتهجة في تلك الصور.
من ذلك الدُّرج البني الغامق في مكتبة والدي تبدأ ملامح بيروت. ومن اهتزازات القطار العثماني الصبور، ومن الرحلة، تبدأ المدينة بالتشكل إلى أن تصبح الرحلة هي المدينة نفسها.
سأعود إلى بيروت في نهاية السبعينيات، لكنها ستكون مختلفة. المدينة الأولى لم تعد موجودة، بل إنها تبددت تماماً، وثمة بيروت ثانية حلّت محلها، وعليّ من الآن أن أتعافى من الخسارة، وأن أحمي كل شيء والمقتنيات القليلة التي منحتني إياها المدينة في رحلتي الأولى، من التبدد الذي التهم كل شيء؛ عليّ أن أعثر في الوقت نفسه على لغة للتفاهم مع هذه المدينة الغريبة التي تحدق بي بعينين واسعتين من عربات الحرب الأهلية.
لم أجد تلك اللغة، وبدا أنني أفقد بيروت وأننا نلتقي من دون مصافحة، فقد كانت غريبة وكنت غريباً.. لم تحبني ولم أحبها.
لا أستطيع أن أتذكرها كمدينة خلال الحرب، فقد فقدت تلك اللمسة الخاصة، وتخلت عن النظرة التي تجد السحر في الأشياء البسيطة، مثل أن تدهشك حزم من قصب السكر في ساحة، أو يد مبتهجة لامرأة بفستان صيفي مشجر في صورة بالأبيض والأسود.
كتبت مرة أن بيروت لم تكن بالنسبة إليّ "الإسكندرية التي أفقدها"، كما تشكلت في مخيلة وكتابات كثيرين ممّن مروا عليها، وإنما كانت مدينة ملتبسة تماماً، لكنها ذات سطوة وإرادة، مدينة قوية. كانت قادرة على طي أزمانها كما تُطوى ملابس قديمة في خزانة قبو، وسيبدو كونها عاصمة لبنان تفصيلاً في الحاشية.
هكذا كنت أفكر وأنا أصعد سلم السفينة اليونانية المتجهة إلى عدن في رفقة استثنائية من المقاتلين والمثقفين الفلسطينيين والعرب والكرد بعد حصار صيف سنة 1982.
لقد أكملت بيروت طي الحرب الأهلية، فهذه مدينة أُخرى لا أعرفها! هذا بالضبط كان إحساسي وأنا أجلس في مقهى في شارع الحمراء في الصيف الماضي. دخلتها بجواز سفر فلسطيني حقيقي وباسم حقيقي، لكنها لم تكن هناك. كان فكرتي عنها أكثر صفاء منها، وتقبّلي لها أكثر كثيراً من لامبالاتها.
بيروت الثالثة هذه كانت فقيرة ومظلومة، وغير حقيقية، وكانت قاسية على نحو غير مبرر. الفتى السوري الذي يعمل في معرض للملابس بذل جهداً مؤلماً ليصبح لبنانياً، وكان خائفاً أيضاً مني ومن رب العمل الغائب، ومن سوريته ومن لهجته الحلبية. بقي تائهاً في اللهجة المصطنعة وهو يعرض عليّ قمصانا زاهية بدلاً من القميص الأزرق الذي أبحث عنه، حتى اكتشف من لهجتي أنني فلسطيني، فعاد فجأة إلى سوريته وبدت لهجته الحلبية المحببة تصعد من قلبه وتملأ المكان مثل غيمة.