كُتبت في بيروت آلاف الأشعار وأُلّفت فيها وعنها روايات كثيرة. فهي مدينة احتضنت وحَمَت، لعدة أعوام، العديد من المفكرين والروائيين والشعراء والمبدعين العرب وغيرهم، فكانت لهم ملاذاً وبيتاً وإلهاماً. وقد شكلت بيروت في زمن معين، ترجمة فعلية وممارسة براغماتية لنظرة هنري لوفيفر إلى الأثر (oeuvre)، أو مفهومه للمدينة كعمل فنّي جماعي يشترك فيه جميع سكانها.
بيروت أكثر من مجرد سمعة ثقافية أو بقعة جغرافية أو بيت شعر نتداوله، أو استعارة نعيش من خلالها. هي حقّ سكانها فيها وفي صنع القرار وتحويلها كي تتماشى مع رغبات قلوبهم، مثلما يقول دايفيد هارفي، وبالتالي فإنها أكثر من مجرد فضاء مادي. إنها الأمكنة والإيقاعات (أصوات المدينة وضجيجها؛ تنظيمها المدني؛ ترتيب المساحات والأمكنة)، وهي ناسها وترابطهم وعلاقاتهم الاجتماعية - المكانية، وهي تجارب يومية وحكايات وذكريات وممارسات وأعمال فنية.
من خلال هذا المنظور تكون المدينة حقاً لفئات المجتمع كلها، لكن الصورة تختلف عن هذا التصوير اليوتوبي. فجميع المقومات والعناصر المذكورة أعلاه تدور ضمن فلك ديناميات قوة وشبكة سلطوية تفرض السيطرة الاجتماعية والسياسية عبر سياسات هندسة المكان، وتمكّن المنظومة الحاكمة من تهميش فئات معينة، ومن السيطرة والتحكم في حرية الحركة والتنقل والتسكع والمشي، والامتلاك والسكن وغيرها.
بيروت عايشت ولا تزال تعايش صراعات لا تنتهي منذ القدم، وقد تُرجمت هذه الصراعات في الأدب اللبناني كعصبيات قومية، وأيديولوجيات متجذرة في عمق الوعي السياسي العربي واللبناني، وأفكار وتصورات رومنسية تماشي هذه المفاهيم الدوغماتية. لكن هذه الترجمات والتصورات لمدينة بيروت شهدت تغييراً جذرياً مع بداية الحرب الأهلية اللبنانية في سنة ١٩٧٥، إذ حدث شرخ وانشقاق عن الرواية التقليدية القومية وأشكالها وثيماتها. وفي ظل وعي سياسي جديد، أصبح فعل الكتابة فعلاً سياسياً يعكس حقّ الشعوب في تقرير مصيرها، والتصدي لمنظومات مهيمنة ظلماً.
مع تغير شكل الأدب والرواية، وهيمنة هذه الأخيرة على الساحة الأدبية اللبنانية بدلاً من الشعر الذي كان مسيطراً كجنس أدبي قبل هذه الفترة، اتخذت الرواية اللبنانية إطاراً جديداً ليس في الشكل فحسب، بل في تصوير الأحداث والشخصيات والمدينة أيضاً. وتطورت الرواية اللبنانية في زمن الحرب ضمن أجواء استثنائية ملأى بأفكار الثورة والاندفاع الشبابي، وحركات الطلاب، والوجود الفلسطيني الثقافي والسياسي. ويُعدّ الياس خوري من أبرز الروائيين الذين ساهموا في ولادة الرواية اللبنانية بشكلها الحديث، فرواياته تقدم مضموناً تجاوزياً، وشكلاً تجريبياً، بأسلوب فذّ. وتقدم هذه المقالة قراءة نقدية لبعض الأعمال الروائية اللبنانية التي طرحت تصورات متنوعة ومتعددة لمدينة بيروت.
بيروت في الرواية اللبنانية
لقد شكلت الحرب الأهلية اللبنانية منذ اندلاعها في سنة ١٩٧٥، وإعلان انتهائها في سنة ١٩٩٠، وحتى يومنا هذا، مادة أساسية في الرواية اللبنانية الحديثة: دمار وخراب وتهجير وموت وتروما وتهميش، ذلك بأن الحرب، مثلما يعتقد كثيرون من الروائيين والأكاديميين الذين كتبوا عنها، لمّا تنتهِ بعد، وإنما هي إعادة تدوير، وإعادة تحديث لعنف الحرب بأشكال جديدة. ولهذا، ترنحت صورة بيروت في الذاكرة الجمعية، التاريخية منها والأدبية، بين بيروت الدمار والحطام، وبيروت الصاخبة: عاصمة كوزموبوليتية وثقافية، عصية على السقوط، وكثيراً ما سمعنا في إثر كل كارثة حلّت بالمدينة خطابات تطمئن البلاد والعباد بقدرة بيروت على النهوض مجدداً.
تترنح الرواية بين لقطات رومنسية للمدينة في زمن الحرب والسلم المزيف على حدّ سواء، وبين اضطراب وقلق وهوس بمدينة لا تُقهر. فبيروت التي ما إن تلتئم جروحها التي تعود إلى الماضي القريب حتى تتفتح فيها من جديد جروح أُخرى، تتعالى على جروحها في الوعي الجماعي اللبناني (الدعائي)، هذا الوعي الذي تأقلم مع فكرة الصمود والأمل بعد كل مصيبة. ولذلك ليس من المستغرب أن تتخذ صورة بيروت ألف صفة وصفة في الرواية اللبنانية. ولا يمكن قراءة هذا التشبث بثيمة الحرب الأهلية بصفته شبحاً من الماضي، أو دلالة على أن التاريخ يعيد نفسه، بل إنها سردية كبرى، وخطاب مهيمن يعيد منتجة وأدلجة نفسه، ويطمس الجروح تحت استعارات طائر الفينيق الذي هجر أسطورته منذ زمن.
تتحدى الرواية اللبنانية ثقافة النسيان وخطابه اللذين تبنّتهما الدولة اللبنانية بعد إعلان انتهاء الحرب الأهلية، وكرّستهما في ممارساتها النيوليبرالية وسياساتها الإعمارية لبيروت. فبيروت هي الذاكرة والثورة والتعددية، فضلاً عن كونها بيروت الخراب والحطام والجراح، وهي أيضاً بيروت الرواية البديلة التي تروي الأحداث والتفصيلات اليومية في سِيَر حياة أناس عاديين، أو مهمشين. إن الرواية اللبنانية تصور بيروت بجميع حللها وصفاتها وطيّات تاريخها، وبتناقضاتها كلها وتعدد احتمالاتها، متحدية بذلك جماد السردية المسيطرة على التاريخ والأدب معاً.
ظهرت بيروت في الرواية اللبنانية كشخصية متفاعلة مع الشخصيات الرئيسية، وتبلورت علاقتهم بها كعلاقة حميمية تتغير أحوالها مع تغير أحوال المدينة واضطراباتها. فالحرب لا يمكن أن تُقرأ كحدث أُحادي منفصل عن يوميات سكان المدينة وممارساتهم فيها وعن علاقتهم المتقلبة معها، بل هي حالة مستمرة ذات عدة تجليات وتأثيرات في الأفراد والجماعات. وهذه التأثيرات غالباً ما تصوّر أو تمثَّل في الكتابات والدراسات العلمية التاريخية. ومن هنا، فإن الرواية اللبنانية، بتأكيدها أهمية إظهار الروايات والسِّيَر واليوميات والتجارب الشخصية والفردية المتعددة، والتي ظهرت مثلاً في أعمال كل من الياس خوري وربيع جابر وهلال شومان وربيع علم الدين، يمكن قراءتها من خلال الحكايات المتعددة التي تروي تجارب متنوعة للحدث الواحد، في مواجهة هيمنة الرواية الواحدة والصورة النمطية المسيطرة لمدينة بيروت.
ومع أن رواية "طواحين بيروت" لتوفيق يوسف عواد، كُتبت قبيل اندلاع الحرب الأهلية في لبنان، إلّا إنها ترسم حلقة العنف التي تدور في فلك المدينة وتلازمها حتى الآن. وهذا الأمر لا يدل على قدرة عوّاد التنجيمية بقدر ما يكشف شراسة منظومة سياسية وطائفية تعيد إنتاج نفسها وتتربص بالمدينة وأهلها. فمعاملُ "التعصب، وغبارُ الشوارع الغوغائي والزعماء التقليديون وتجّار النفوذ" (ص ١٦٢)، والتبعية السياسية والعصبيات القومية الدوغماتية، والحركات الطلابية، وروح الشباب الثورية ومحاولات زرع الفتن والاندساس في التظاهرات المطلبية لإفشالها، كلها أسس وقواعد ثابتة ما زالت بيروت تصطبغ بها حتى يومنا هذا.
عند قراءة بيروت من هذا المنطلق في رواية عوّاد يخيل إلينا أن شيئاً لم يتغير على الرغم من تغير كل شيء، وأن بيروت تلبس ثوب ثورة تلو أُخرى، فكأن هاني الراعي، صديق تميمة بطلة الرواية، يذرع شوارع بيروت بعد ثورة تشرين الأول / أكتوبر ٢٠١٩، ويقول: "جنون؟ - طبعاً، أكثره جنون. ولكن وراء هذا الجنون انقلاباً عظيماً. إنه كفر بالقيم التي آمن بها الناس حتى اليوم وقدّسوها. تمرد على كل سلطة. رفض لكل مبدأ. تحطيم لكل شيء" (ص ٧٢)، وكأنه الآن في ساحات المواجهة مع عناصر مكافحة الشغب، بعد تفجير المرفأ (٤ آب / أغسطس ٢٠٢٠) يصيح: "كالقدر تغلي بيروت. والقدور على النار في عواصم العرب كلها. المهم ما نطبخ" (ص ٩٩). المهم ما نطبخ، إذ لم يعد في استطاعتنا اليوم، بعد تفجير المرفأ والكارثة التي حلّت على أبنائها وأماكنها، أن نقرأ المدينة ونعيشها مرددين شعارات وهمية وهوائية، أو أن نعتبرها أحداثاً مرحلية، فنمثلها في أدبنا على هذا الأساس.
في مجموعة رسائل مرسلة إلى فواز طرابلسي ومنشورة تحت عنوان: "عن المدن والنساء: رسائل إلى فواز"، ترى إيتيل عدنان أنه لم يعد ممكناً قراءة المدينة كقطب مضادّ للريف، أو تصنيفها كتجربة مغايرة، إذ إن الأنظار تحولت نحو المدينة - الإنسان المبنية على مفهوم ترابط وتجانس التجربتين، وخصوصاً في سياق الحرب الأهلية وما بعدها. وتكمن أهمية هذه الرؤية في تصوير المدينة بشكل يتعدى صفتها كفضاء عام فقط، إلى تصور حُللها وأحوالها على أنها متجانسة. ففي "ست ماري روز"، تصور عدنان المدينة كمزيج من الباطون والعنف والشهوات الحيوانية؛ هي بيت للدعارة والباطون وإعادة الإعمار، وهي غابة معدنية ملأى بالعنف، ليس فقط صُوَرياً، بل إن العنف المديني بات سلعة يتم بيعها وشراؤها. غير أن بيروت أبقت على شيء من نُبلها، مثلما ترى عدنان، ومن واجبنا الحفاظ على كثير ممّا تبقّى، وخصوصاً أن هناك كثيراً ممّا يمكن اكتشافه بعد، وهكذا تصبح بيروت مدينة عصية على التعريف، ومقاوِمة للثبات والركود المميت، على الرغم من الدمار المستمر والعنف المحتّم. وكم تخطىء عدنان التقدير حين تقول إن بيروت بعد عشرة أعوام (من تاريخ كتابة الرسالة المذكورة في كتابها عن المدن والنساء)، ستتحول إلى علبة أمان، إلّا إنها تعود وتوضح أن في عالم الخيال ذلك ستبقى بضع ابتسامات والقليل من الذكريات والسماء: الدولار والسماء. مستقبل بيروت بالنسبة إلى عدنان يسكنه حفنة من الشعراء والرجال / النساء الآليين، فهي مدينة يصعب العيش فيها، ويتعذر العيش من دونها، كما أنه لا سبيل لراحة الجسد فيها، فالحرب الدائرة في أحيائها لمّا تنتهِ بعد.
لا تختلف صورة بيروت في رواية حنان الشيخ "بريد بيروت"، عن تلك التي رسمتها عدنان. فالرواية تغوص في انشغال بطلتها أسمهان بالهروب من عنف الحرب من ناحية، وبالاستمتاع بليل المدينة الصاخب من ناحية أُخرى. وهنا تظهر المدينة بتناقضها، فيتداخل العنف بالمتعة، وتصبح أسمهان لا تدري مَن هي، ولا تتعرف إلى ما آلت إليه المدينة، ذلك بأن بيروت هي الشيء ونقيضه في آن واحد. وعلى غرار عدنان، تصور الشيخ بيروت من خلال رسائل تكتبها بطلة الرواية أسمهان، لكنها، وبخلاف عدنان، لا ترسلها. تكتب ما تعيش، فتظهر بيروت المتناقضة على الورق، لكنها تحاول عبر رسائلها التمسك بكل ما تألفه، بما في ذلك صورة بيروت التي تعرفها وتحنّ إليها قبل نشوب الحرب الأهلية فيها. وفي رسائلها أيضاً رفض لواقع فُرض على المدينة ولا يبدو أنه سيتغير في الأجل القريب. رسائل أسمهان أيضاً تترنح بين نقيضين: الهرب من الحاضر عبر الحنين إلى الماضي، وكتابة تجربة الحرب الأليمة مثلما تعيشها كي لا تُنسى. ففي الحالة الأولى، تختلط أحرفها بنسيج من الشعرية والحنين أو النوستالجيا إلى بيروت التي لم تدمرها الحرب بعد، فنراها ترسم المدينة كنصّ شعري تتصفح أبياته عبر بلاغة تصويرية ومجازية طاغية كأنها تكتب فيها أغنية، لكنها سرعان ما ترسم بيروت الحاضر، حرباً وخراباً وصخباً ومجوناً. وتقف أسمهان أمام هذه المشهدية غارقة حائرة مثل بيروت، إلّا إنها وعلى خلاف أصحابها، لم تستطع أن تترك المدينة، فأصبحتا هي وبيروت وحيدتين في عزلتهما. وبيروت، كبطلة الرواية، غير متصالحة مع واقعها، وهو ما يبدو من خلال ممارسات سفسطية. تصبح بيروت صديقة أسمهان، لكنها صديقة شوّهتها الحرب فلم يعد في استطاعتها التعرف إليها، ولا التخلي عنها، إذ كيف لها أن تتعرف إلى مدينة لا تتخطى تناقضاتها: قتال مستمر ورقص مستمر؟ فما كان من أسمهان إلّا أن لجأت إلى الكتابة والرقص والعلاقات العابرة. تكتب أسمهان بيروت معترفة بأن هذه الأخيرة فقدت ناسها ولم تعد ملكهم. لقد صنعت منها بيروت احتمالَي الشهيدة أو الشاهدة، أمّا المدينة، فلم تعد تدري مَن هي، إذ غدت شهيدة وشاهدة في آن.
تصطدم بيروت باحتمالاتها، والواقع بالخيال، في "بيريتوس: مدينة تحت الأرض" لربيع جابر. يخطّ جابر خريطة لعالمين متوازيين لبيروت، واحدة تُحاك من الذاكرة والأُخرى من واقع يعيشه بطل الرواية. فحارس مبنى "بيروت بالاس" يسقط إلى عالم تحت الأرض، فيصبح في الرواية بيروتان: بيروت التحتا وبيروت الفوقا مثلما يسميهما. بيروت التحتا مدينة متخيلة، تحمل ثقل تصور غياب بيروت الحقيقية، لكنها في الوقت نفسه تعلن خوفها منها، ذلك بأن الناس تحت، هم أشباه إنسان، وكأن حال سكان بيروت التحتا، اللاإنسان، هي من مخلفات العالم "البرّاني". يقرر بطل الرواية أن يرسم خريطة تعيد إليه حسّه المكاني وارتباطه بمدينة خسرها. فكلما خطا خطوة في الدهاليز تخيل شارعاً أو عمارة توازيه في بيروت الفوقا. فهو شبه متأكد أن "الباب الطيب [....] يقع تحت 'القصر الحكومي'، أو تحت 'السفارة اليابانية' المجاورة للقصر المذكور، أو تحت المرآب السفلي للفيلات ولنادي الرياضة الفخم الواقع أعلى وادي أبو جميل" (ص ١٤٦ - ١٤٧). لكنه يعترف أن هذه المطابقات قد لا تكون دقيقة، إلّا إن تصوره يمكّنه من رسم خريطة يتداخل فيها العالمان. وتكمن أهمية رسم خريطة لبيروت في هذه الرواية في إصرار بطلها على تصور مدينته وترجمة هذا التصور إلى شيء ملموس، فهو بذلك يستطيع حفظ مدينة تاه عنها. فبيروت التحتا ليست انعكاساً لبيروت التي يعرفها، بل إنها تأخذ شكل متاهة دائرية. ويمكن أن يكون هذا التيه غربة مواطِن لفظته مدينته نزولاً. إن بُعد الحارس عن مدينته هو أيضاً بُعد عن ذاته، بحيث تصبح المدينة في هذه الرواية عامل أساس في قولبة ساكنيها الذين يقومون بدورهم، من خلال ممارساتهم اليومية، بخلق مدينتهم. يقول الحارس: "الظلمة الدامسة، الصمت، الشخير اللطيف الذي يتواصل، كل هذا يضعني في مسرح غامض، فأضيع معلقاً في فراغ الكهف البارد، أضيع معلقاً في الفضاء، ولا أعود أدري أين أنا. ومع جسمي الذي صار نحيلاً، هذا البدن الذي ما عادت جاذبية الأرض تجذبه إلى الأعماق، ينتابني الإحساس أنني لست أنا. أنا لست أنا. أين أنا؟ أضيع ولا أعود أعلم مكاني. ولا أعود أعرف مَن أكون" (ص ١٥٩). تشكل الخريطة التي يرسمها الحارس حاجته إلى محاربة النسيان علّه يستعيد شيئاً من ذاته، فهو لا يريد أن يموت تحت الأرض، وإنما يريد أن يتذكر معالم مدينته مثلما كان يعرفها، حتى لو كانت ذكرياته ملأى بالخراب والدمار.
يعيد جابر كتابة المكان والمدينة في ثلاثيته "بيروت مدينة العالم"، وهو يفعل ذلك من خلال رواية تتحدى نمطية السرد التاريخي وجماده. يتنقل جابر بين الماضي والحاضر، ويُبرز المدينة كتجربة معاشة ويومية. وهنا، يتداخل دور المؤرخ مع دور الروائي في روايات جابر، لكنه لا يدّعي أنه يكتب تاريخاً، أو يحاول استبداله بسرد روائي، بل إنه يدعو القارىء إلى قراءة بديلة من التاريخ والأدب معاً. فتضارب الحقيقة مع الخيال مقصود لهذه الغاية، أي خَلْق سردية مغايرة تشمل ما يستثنيه التاريخ في روايته السائدة، بما في ذلك تصوير المدينة. فالتاريخ يجرد الحدث من يوميات أناسه وتجاربهم الشخصية والفردية في سياق الحدث، كما يستثني الخاسرين والأناس العاديين، ويُسكت تعدد الروايات والتجارب للحدث الواحد. وهنا نتذكر أهمية الحكاية وحكاية الحكاية، مثلما سمّاها الياس خوري، والتي غالباً ما يستثنيها السرد التاريخي الجامد.
يمكن إذاً اعتبار هذه الروايات وغيرها من الروايات اللبنانية والعربية التي تُعنى بالأمكنة والمدينة، مثل "بناية ماتيلد" لحسن داوود، و"بيروت ٧٥" و"كوابيس بيروت" لغادة السمان، و"بيروت، بيروت" لصنع الله إبراهيم، وغيرها، على أنها تعطي صوتاً تمثيلياً لمَن لا صوت لهم في بيروت، وتصور المدينة بشكل مغاير هو أقرب إلى واقعها التعددي والمتناقض. فصوت الميليشياويين مثلاً في "يالو" لالياس خوري، و"طيور الهوليداي إن" لربيع جابر، هو أصوات وتجارب نادراً ما تمثِّل أو تشفّ عن المدينة كما هي، بحيث تظهر المدينة في هذه الأعمال حقاً (ولو كان مستباحاً) لجميع سكانها.
في "بيروت مدينة العالم" يقف ربيع جابر بشخصه في روايته، كمؤرخ يكتب تاريخ عائلة بيروتية. فجابر الروائي يكتب جابر المؤرخ، ويتداخل الدوْران أحدهما مع الآخر لتبيان صعوبة كتابة التاريخ من ناحية، وأهمية دور الأدب من ناحية أُخرى، من خلال العملية الدينامية التي تجمع الأدب والتاريخ في الرواية. ومع أن جابر لا يكتب تاريخاً بل رواية، إلّا إنه يُظهر للقارىء عملية كتابة التاريخ وصعوبتها، وبالتالي يُجبر القارىء على قراءة بديلة من التاريخ والرواية والمدينة. إن تطابق الأسماء والمقاربة إلى حد الضبابية بين الربيعين، فضلاً عن التقنيات العلمية التي يستخدمها جابر في رواياته (كالفهرس أو قائمة بالمصادر مثلاً)، يدلان على نقد ذاتي ووعي في أثناء كتابة المدينة. فعلى سبيل المثال، عندما يضيع جابر بطل الرواية بين كتابة التاريخ وقراءته وكتابة الرواية، يذكّره صديقه وليد بأنه يكتب رواية وليس تاريخاً، وهنا تنقشع أمام القارىء عدة مقاربات لتصور المدينة وكتابتها في خضمّ هذا الصراع القائم بين الواقع والخيال، وبين الرواية والتاريخ.
لكل من التاريخ والأدب دوره، لكن ماذا يحلّ ببيروت عندما يصرّ التاريخ على نسيانها؟ يطرح جابر في روايته المذكورة إشكالية تعذّر قدرتنا على تخيل بيروت في سنة ١٨٤٠ في زمننا الحالي، فيأتي تساؤله دفعاً وإصراراً على تجسيد صورة بيروت الحالية، وكتابتها قبل أن تنحدر إلى ذاكرة سرعان ما تصبح مشتتة ومفقودة. وتصبح هذه الحاجة أكثر إلحاحاً إذا ما أخذنا في الاعتبار سياقها السياسي المتمثل في خطاب فقدان الذاكرة الذي تبنّته المنظومة السياسية الحاكمة منذ إعلان نهاية الحرب الأهلية، وفنّدته من خلال ممارساتها النيوليبرالية. بيروت في روايات جابر مدينة تصرّ على ماضيها وحاضرها، وعلى حفظهما على الورق من النسيان الممنهج.
وعلى غرار جابر، يكتب الياس خوري بيروت، فيصوّرها مدينة تأبى النسيان وتتحدى الصمت المطبق عليها وعلى حكاياتها. من الصعب كتابة مدينة جريحة ومنكوبة، ومن الأصعب جعل حكايات بيروت تنطق بلسان حالها الأليم. وتظهر صعوبة كتابة المدينة في "أبواب المدينة"، إذ يحيك الياس خوري مدينة أسطورية لا اسم لها، يطوف حولها ويمشيها رجل غريب لا اسم له أيضاً، يحمل أوراقه وأقلامه، لكنه يكتب وتتساقط أوراقه منه كلما مشى. تتبلور المدينة في كتابات خوري اللاحقة ومعها ثيمة عدم القدرة على كتابة الألم والدمار على الرغم من المحاولات الحثيثة لأبطال الروايات. لكن المدينة الآن ترتسم بممارسات وتجارب يومية، عادية، فتُكتب من خلال مآسي سكانها وتجاربهم التي تُظهر عمق التجربة الإنسانية في زمن الحروب، أكانت الحرب الأهلية اللبنانية، أم النكبة الفلسطينية المستمرة. إن المدن تُبنى من تعدد حكاياتها واستمرارية تجاربها اليومية، والمدينة، في أعمال خوري، كالحكاية تحمل في طيّاتها آثار مدن مضت وحكايات انطوت. المدينة الحكاية في روايات خوري ليست سطوراً على ورق تشيد موقعاً جغرافياً أو تُسقط تجربة على توبوغرافيا بيروت، ولا هي استعارة أو المدينة الأسطورة. بيروت الحكاية هي الـoeuvre الذي تكلم عنه لوفيفر. هي أخبار وسير وروايات وتجارب أولئك الذين يفاوضون مساحات المدينة وسياساتها على مكان لهم، ويفرضون وجودهم. وهكذا، تتعدد في المدينة الاحتمالات، إذ يُفهمنا خوري مقصده من حكاية الحكاية، فتظهر المدينة متقمصة حكاية العشق والحب والموت والفقدان والثورة والنضال والحرية. وبتعددها ترتقي بيروت فوق جميع الاستعارات ومحاولات التعليب والتعريف، فنراها بعيون أبنائها، كمدينة أقرب إلى الواقع من أي وصف لمكان مجرد من حكاياته.
تُجرّد المآسي والمصائب والحروب المدينة من مقوماتها كلها، فلا يبقى سوى الكلام، وهذا ما تقوله منال لآدم في "أولاد الغيتو"، وما يقوله خليل في "باب الشمس": "صنعنا بيتاً من كلمات، ووطناً من كلمات، ونساء من كلمات" (ص ٤٩٩). بحيث تأتي الحكاية هنا وروايتها كحاجة سياسية ملحّة. يُوصّف خوري بيروت على أنها مرآة مكسورة، وحافز المرآة هذا يظهر في أكثر من عمل لخوري. وإذا كانت بيروت في تصور خوري مرآة مكسورة، فإنها أيضاً في تصوره صفة من صفات الكتابة، يستخدمها الكاتب كأداة أو تقنية للولوج إلى الذات وتحقيقها. فمن خلال الكتابة يسعى آدم، مثلاً، بطل ثلاثية "أولاد الغيتو"، لأن يصبح "كاملاً"، فيقول: "أمّا أنا، فلن أكتب ذاكرة ناقصة أو مثقوبة، سوف أملأ كل ثقوب الحكاية، وحين تعوزني الوقائع سوف أجدها في كتابات الآخرين، هكذا أصنع مرآتي، وأكتمل بها" (ص ٢١٤). فالمرآة تعكس وتُشعل في آن، مثلما يردد خوري. وحين توصف المدينة كمرآة مكسورة، فإن ذلك يعني أمرين: أولاً، توصيفها كمرآة تعكس الأشياء يدل على أنها مدينة غير قادرة أصلاً على رؤية ذاتها، لأنها تعكس الأشياء ولا ترى، وبالتالي يتعذر عليها وصف نفسها أو التعريف عنها. ثانياً، إن كونها مكسورة يلغي إمكان إتمامها لمهماتها، أي عكس صورة الأشياء، إلّا إنها الآن، بحكم شظاياها، تستطيع أن تعكس بعضها بعضاً، أي أنها تستطيع أخيراً أن ترى نفسها من أكثر من زاوية، فكأن بيروت لم تعد قادرة على تحمّل حُلّة ألبسوها إياها، ورواية أنطقوها بها، فتشظت إلى حكايات مبعثرة.
في رواية "سينالكول" لالياس خوري نكتشف بيروت عبر إشكالية شخصية سينالكول نفسه، وهو شخصية غامضة لا نعرف عنها شيئاً سوى ما يتناقله الناس من أخبار عنه. فهو تارة شبحاً لا وجود له، وطوراً مقاتلاً شرساً وبطلاً أسطورياً، ومرة شبّيحاً يسيء إلى الثورة، لكنه السبب الذي أعاد كريم إلى بيروت. سينالكول هو المرآة التي يبحث عنها كريم، ومن خلال رحلة بحثه هذه تنقشع بيروت له وللقارىء، فمنذ رحيله إلى فرنسا، لا يعرف بيروت إلّا من خلال ما يتذكره عنها وعن رفاقه. يكتب خوري: "كأن الذاكرة تحوّل كل شيء إلى علاقة شبحيّة. كأنه لا يتذكر نفسه. بل يرى إنساناً آخر يشبهه" (ص ١٢٣). وهكذا، تصبح عملية بحث كريم عن سينالكول محاولة لتجميع شظايا المرآة (وبيروت) المبعثرة، إذ على الرغم من كون بيروت مدينة مكسورة، فإنها بفضل كريم قادرة على تجميع انعكاسات شتّى تُقرّبنا من واقع المدينة كمجمع من التناقضات. وتجدر الإشارة إلى أنه يمكن قراءة حافز المرآة هنا بالتوازي مع مشروع بناء مرآة جديدة لبيروت، تعكس واجهة أو وجهاً جديداً وبراقاً لمدينة يُعاد تشييدها، وهو انعكاس قائم على خطاب وسياسة التناسي والنسيان، ومتمثل في عملية إعادة إعمار بيروت الإشكالية. فالمهندس أحمد دكيز في سينالكول، والذي يتولى مشروع بناء المستشفى الذي أغرى به نسيم أخوه كريم للعودة إلى بيروت، متورط مع سوليدير، وفخور بفكرة اللعبة الإلكترونية التي تسمح للاعب بتدمير مدينة بيروت وإعادة إعمارها. فبالنسبة إلى انتهازيين يبغون الربح على حساب أرزاق الشهداء والمتضررين من الحرب، ليست بيروت سوى لعبة وسلعة، ولبنان، مثلما يقول أحمد، بلد بلا ذاكرة. فها هي بيروت المرآة تعكس صورتين متناقضتين عن حالها من خلال شخصيتين في الرواية: كريم اليساري المنهزم، ونسيم (وأمثاله كالمهندس أحمد دكيز) الرأسمالي الجشع، قبيح الأخلاق، الذي يسعى لإعادة إعمار بيروت بأي ثمن يفسح أمامه الفرصة لأن يزيد في أرباح الطبقة الاجتماعية التي ينتمي إليها، وهي طبقة تتشبث بعثّ الخطاب الطائفي والطبقي، وتعيد إنتاج منطق الاقتصاد الميليشياوي، كما سمّاه نجيب حوراني. تظهر بيروت في هذه الرواية بوجوهها المتناقضة لتبقى حلبة صراع حتى يومنا هذا، فكل شيء في بيروت "هشّ وغير قابل للاستمرار" مثلما يقول كريم (ص ١٠)، بل إنها مدينة "على حافة السقوط في وادي العتمة"على الدوام (ص ١٠). إن بحث كريم عن سينالكول (وربما هو البحث عن الفكرة بعد سكرة الحرب، إذ إن كلمة سينالكول، مثلما قالت برناديت لكريم، تعني بلا كحول في الإسبانية) الذي يتقمص عدة شخصيات ليصبح كالشبح يسيطر على الرواية، يمكن توصيفه على أنه بحث عن بيروت التي كانت ولم تعد، وعن الذكريات التي لم يتمكن كريم من استحضارها في فرنسا وإعادة صوغها، وفي الوقت عينه تلك التي لم يتمكن من تجاوزها، وعن نفسه التي فقدها فيها.
لقد سعت هذه المقالة لعرض بضع تصورات لمدينة بيروت في الرواية اللبنانية، بحيث تظهر هذه المدينة بجميع تناقضاتها، وبالصور التي تقمصتها، على أنها مدينة تتحدى النسيان عبر التشديد على قصص وحكايات أبنائها المهمشين والعاديين، وتبيان أهمية تمثيلها لتجاربهم اليومية والشخصية فيها. فتعدُّد الأصوات والحكايات في رواية الحدث الواحد، ولا سيما تلك المهمشة منها، تعكس صورة دقيقة، إذا صح التعبير، لواقع المدينة وتصوراتها. أمّا بيتر تُركي فيصف الكاتب كرسام خرائط أو كارتوغرافير، الأمر الذي يعطي الكاتب قدرة تمكينية وسياسية، وخصوصاً إذا ما كان يكتب المدينة وعنها، لأن ذلك يمكّنه، مثلما هي حال الروائيين الذين تناولتهم هذه المقالة، من خلق سردية بديلة من المدينة وتاريخها. لقد كانت بيروت مدينة إشكالية، بمعنى أنه يتعذر وصفها بدقّة وبحيادية، كما يقول سمير قصير، فهي، مثلما يصفها في كتابه "تاريخ بيروت"، مدينة الأخطار كلها التي كثيراً ما وقفت على حدّ السكين؛ فالعنف والدمار ليسا غريبَين عنها. وهذه الروايات الواردة هنا، تدعونا إلى قراءة المدينة بشكل مغاير للسردية السائدة، طامحة بذلك إلى مقاومة هيمنة خطاب النسيان والاستبعاد الممنهج لسير بديلة (تمثل فئات مجتمعية مهمشة أو مستثناة) من جهة، ومواجهة تطبيع هذا الخطاب وما ينجم عنه من صور وتصورات لبيروت من جهة أُخرى. فالمطلوب هو حماية ما تبقّى لنا من هذه المدينة من ذكريات وحكايات وأمكنة.
المراجع
بالعربية
جابر، ربيع. "بيروت مدينة العالم - الجزء الأول". بيروت: دار الآداب، ٢٠٠٣.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ. "بيروت مدينة العالم - الجزء الثاني". بيروت: دار الآداب، ٢٠٠٥.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ. "بيروت مدينة العالم – الجزءالثالث". بيروت: دارالآداب، ٢٠٠٧.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ. "بيريتوس مدينة تحت الأرض". بيروت: دار الآداب، ٢٠٠٦.
خوري، الياس. "أولاد الغيتو: اسمي آدم". بيروت: دار الآداب، ٢٠١٦.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ. "باب الشمس". بيروت: دار الآداب، ١٩٩٨.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ. "سينالكول". بيروت: دار الآداب، ٢٠١٢.
الشيخ، حنان. "بريد بيروت". بيروت: دار الآداب، ١٩٩٦.
عدنان، إيتيل. "ست ماري روز". بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ١٩٧٩.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ. "عن المدن والنساء: رسائل إلى فواز". بيروت: دار النهار للنشر، ١٩٩٨.
قصير، سمير. "تاريخ بيروت". بيروت: دار النهار للنشر، ٢٠٠٦.
بالإنجليزية
Lefebvre, Henri. The Production of Space. Translated by Donald Nicholson-Smith. Malden: Blackwell Publishing, 1991.
Turchi, Peter. Maps of the Imagination: The Writer as Cartographer. San Antonio, Texas: Trinity University Press, 2004.