بيروت قديمة، وقد شهدت في تاريخها الذي يمتد إلى ما قبل الميلاد، وأكثر من مرة، انقطاعات باترة جرّاء الخراب والزلازل والحروب، فكانت تكاد تختفي فعلاً، ثم تعود لتنبعث بعد محن مماثلة، في ظروف خاصة ليست الحرب ولا الاستحواذ العسكري ولا الكوارث الطبيعية بعيدة منها.
لكن بيروت في جميع أحوالها القديمة تلك، ما كانت لتنافس المدن العربية والمشرقية الكبرى أو المتوسطة، الراسخة والمثقلة بتاريخها المزدحم ومكانتها، أكانت مقدسة أم شبه مقدسة مثل القدس ودمشق وبغداد وحلب والقاهرة، وهو ما تدل عليه شعرياً القصائد القديمة المتناثرة في مدونات إغريقية ورومانية وعربية طبعاً. وتناثر تلك القصائد القليلة في مدى زمني واسع يعكس بدوره أمرين معاً: الانقطاعات الباترة، ومكانة بيروت قبل القرن التاسع عشر. إلّا إن النقد التاريخي في القرن العشرين، وتحديداً في لحظة ثقيلة الوطأة، لحظة الحرب الرهيبة الممتدة بين سنتَي 1975 و1990، جلا الغبار عن تلك القصائد القديمة وأكسبها أهمية شبه مصطنعة، إذ انطلق من فكرة تقول إن تاريخ القصيدة القديم دليل على عراقة المدينة، وإن وجود قصيدة يونانية وأُخرى أموية دليل على استمرارية وجودها.
بَيد أن بيروت الساحرة والابنة شبه الوحيدة للحداثة العربية، ولدت دفعة واحدة لتصير أبهى مدن المشرق وأكثرها ليونة وقدرة على استيعاب الحداثة والتمدن. وإذا كان المؤرخون، وعلى رأسهم سمير قصير في كتابه البديع عنها "تاريخ بيروت"، يولون أفول نجم مرفأ حيفا أهمية كبرى جرّاء احتلال فلسطين وبزوغ مرفأ بيروت، مركّزين في ذلك على جانب اقتصادي فائق الأهمية، فإن استجابة أهل المدينة وتفاعلهم الحيوي مع ذلك التغيير الاقتصادي لا يقلّان أهمية، بل لعل تأثير ذاك التغيير كان حاسماً في صقل شخصية تلك المدينة الساحرة المنغرسة بقوة وثبات في مياه شرق البحر الأبيض المتوسط، بشكلها الأقرب إلى ضلعَي مثلث منمنم كوردة، وصلب كشوكة.
المدينة هي أهلها، والمدينة بَحْرية بشكل ملتبس، إذ إن ارتباطها باليابسة - يمكن تقدير قوة تأثير هذا الارتباط من علاقتها الاستثنائية بدمشق، محبوبة الشعراء على مر العصور - برهان إضافي على حيوية أهلها وانفتاحهم على الغريب والمختلف واللاجىء والمنفي، وعلى فراستهم في جعل المدينة ذات عينين مختلفتين نظراً: صوب البحر وصوب اليابسة، لكن متساويتين قوةً. وربما يمكن تفسير الأمر بأطروحة المؤرخ الفلسطيني سليم تماري الجميلة عن الفروق بين أهل البحر وأهل الجبل في كتابه "الجبل ضد البحر" الذي نُشرت نواته الأولى في دورية "الكرمل" الفلسطينية.
الميل إلى أهل بيروت، وانعكاس شخصيات الشعراء في القصائد التي قدحت زنادها الحرب الأهلية اللبنانية، ربما يكونان أطروحة مقبولة في هذه المقالة، مثلما أرجو، ذلك بأن تفرّد بيروت بماضيها الخفيف وولادتها الصلبة في القرن التاسع عشر، طبعا إلى حد كبير نظرة شعراء الحداثة إليها، إذ لا أوابد تاريخية ولا معالم لقلاع وقصور تشدهم إليها، في حين أن المعرفة والعلم ومفردات التمدن وطريقة الحياة العصرية – وما يعكس ذلك من بشر مثقفين ومختلفين - هي التي ستظهر بصورة شبه مستمرة لتتبلور لبيروت مكانة ثقافية واقعاً وحلماً.
قبل ظهور بيروت شعرياً في الربع الأخير من القرن العشرين بالتزامن مع نكبتها، ثمة قصيدة غير متوقعة لجهة دقتها وأساها وتحسرها من شاعر الحب والجمال بشارة الخوري (1885 - 1968) الملقب بالأخطل الصغير عن بيروت، يقول فيها بعد أبيات غزلية جرياً على عادة العرب في النسيب:
لهفي عليك أكل يوم مصرع
للحق فيك وكل عيد مأتم
والأمر أمرك لو رجعت إلى الهدى
الحب يبني والتباغض يهدم
رباه هل ترضى الشقاء لأمة
ما أذنبت إلّا لأنك تحلم
عدلٌ قصاصك كم نبي جاءهم
وأراد أن يتجمعوا فتقسموا.
من الواضح أن الأخطل الصغير أجمل في أبيات قليلة معضلة تكوّن لبنان برمته، لا بيروت فقط، مثلما جاء عنوان القصيدة. فالانقسام والتباغض لا يتوقفان، ويوحي الاستنجاد بالرب والأنبياء إلى انسداد الأفق تماماً، ولا سيما أن انتفاء الحب يبدو الثابت الوحيد هنا، وشرط الرجوع إلى الهدى واقع في خانة التمني. وبقطع النظر عمّا لو كانت حادثة بعينها جرت في بيروت وألهمت الأخطل قصيدته هذه، فإن معناها الواقعي والمعبّر والدقيق يبدو صالحاً إلى يومنا هذا.
إن المدينة التي صارت منارة ثقافية في ستينيات القرن الماضي، جذبت إليها شعراء عرباً كثيرين، وخصوصاً من الدول القريبة منها، المشرقية تحديداً، ولأسباب سياسية غالباً. ومن هنا يكتسب النظر في بعض قصائد السوريين والفلسطينيين الذين أقاموا فيها أهمية خاصة، إذ إن الموقف السياسي ممّا جرى في أثناء الحرب الأهلية، حكم إلى حد كبير تلك القصائد، نظراً إلى العلاقة "الوثيقة" التي تجمع تلك الدول التي شكلت فيما مضى شبه وحدة اسمها بلاد الشام، على نحو يمكن فيه القول إن النظرة إلى بيروت بقيت محكومة بالنظر إلى نشوء "لبنان الكبير" من جهة، وأثر تضعضعه في الحرب الأهلية غير الخالية من العوامل الخارجية والأجنبية من جهة ثانية.
ولعل هذا ما يفسر نفور الشاعر السوري أدونيس من بيروت، في قصيدته "ريشة الغراب"؛ صحيح أن أدونيس دأب على الانطلاق من انتقاد الوضع العربي ظاهراً، لكن نظرة أعمق إلى طريقته في رؤية الواقع تبيّن إلى حد كبير أن الكراهية تحرك جزءاً كبيراً من شعره. ففي القصيدة المذكورة يبدأ من نفي باتر لجذره ومنبته حين يصل بيروت: آتٍ بلا زهر ولا حقولْ / آتٍ بلا فصولْ؛ / لا شيءَ لي في الرّمل في الرّياحْ"، وذلك قبل أن يضفي على نفسه ملامح المقدس، وهو أمر منسجم مع نظرته إلى نفسه ومع انتمائه إلى تيار الأسطورة في الشعر العربي الحديث، والذي يُعدّ أدونيس أحد أعمدته. لكنه حين ينظر إلى بيروت نراه ينفي وجودها وأسباب حياتها مؤكداً وجوده وذاته في آن واحد:
بيروتُ لم تظهر على طريقي
بيروتُ لم تُزهرْ وها حقولي
بيروتُ لم تُثْمِرْ
وها ربيعُ الجراد والرمل على حقولي،
وحدي بلا زهرٍ ولا فُصولِ
وحدي مع الثمارْ
من مغرب الشمس إلى ضُحاها
أعبر بيروتَ ولا أراها
أسكن بيروت ولا أراها
وحدي أنا والحب والثمار
نمضي إلى النهار
نمضي إلى سواها.
المعنى الرهيب الذي ولّده أدونيس في قصيدته هذه، يشير إلى استحالة تلازم وجود الشاعر والمدينة وحتمية الفراق، فضلاً عن نزع كل ما له علاقة بالطبيعة عنها – أي بالحياة - وإضفاء قدسية على الشاعر النبي الذي بدوره يمتلك الطبيعة (حقولي). من الصحيح القول إن المتطلبات الفنية في تيار الأسطورة يستلزم اللجوء إلى الآلهة والطبيعة، إلّا إن المعنى الرئيسي الذي يولّده ينحو منحى الحب والخير وإقامة العدل، فآلهة الأساطير القوية تفرض العقاب وتقيم العدل بيدها متحالفة مع الطبيعة لإعلاء الخير لا الشر. أمّا أدونيس في قصيدته هذه، فيستند إلى المقدس والطبيعة ليلعن مدينة بيروت ويحرمها من الطبيعة / الحياة؛ يعاقبها وينفي وجودها ثم يبتعد عنها إلى سواها غير المحدد، متجاهلاً تماماً أساس قوة الآلهة التي لا تنصرف بل تعاقب وقد تقتل وتسيطر لإعلاء الخير. السيطرة النهائية وانتصار الآلهة أمر حتمي، لا العقاب ثم الانصراف كما فعل أدونيس.
تقول لافتة عريضة إن من تيار الأسطورة أيضاً، ظهرت التجربة القوية للشاعر اللبناني خليل حاوي (1919 - 1982). ولعل شخصية الشاعر القلقة المطبوعة على اليأس والتشاؤم، هي التي أضفت على قصائده نظرة واقعية ترى الهزيمة أحياناً قبل وقوعها، وفي هذا، تبدو نسبة الشاعر إلى تيار الأسطورة غير دقيقة بل متعجلة ومبتسرة لتجربته. صحيح أن حاوي كان بارعاً في تضليل "أنا الشاعر" عبر صوتين: الصوت المتوقع في تيار الأسطورة، والصوت "الوطني" المتوقع لمَن انتسب إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي، إلّا إن ذلك لم يحجب تماماً ذاتية حاوي الطاغية، المصقولة قبل أي شيء من عصاميته القوية. حاوي في مسيرته الشخصية، مثال ممتاز لبناء شخصية المثقف الدؤوب، ثم انكسارها نظراً إلى واقعنا العربي الذي نعرفه، وسيظهر التمازج بين هذه المؤثرات كلها (الأسطورة، الحزب القومي السوري الاجتماعي، الثقافة والتعليم)، في قصائده التي تعكس انكسار المثقف قبل أي شيء آخر. علينا وضع الأمور الآنفة في الاعتبار عند قراءة قصيدته "ليالي بيروت":
في ليالي الضِّيقِ والحرمانِ
والريحِ المدوِّي في متاهاتِ الدروبْ
مَن يُقَوِّينا على حَمْلِ الصليبْ
مَن يَقينا سَأمَ الصَّحْراءِ.
الضيق، والريح، والمتاهة، والصليب، والصحراء، جميعها كلمات أكثر من موحية، فهي تبني معاني الواقعية السياسية، إن جاز القول، التي حكمت نظرة حاوي المتشائمة والصائبة، والتي ستزداد نكداً كلما امتدت القصيدة: "أعينٌ مشبوهَةُ الوَمضِ / وأشباحٌ دَميمَةْ". وحين يصل إلى وصف المدينة، يبرع بانتقاء عبارات قليلة شديدة الإيحاء وبعيدة من العاطفة:
إنَّ في بيروتَ دنيا غيرَ دنيا
الكَدحِ والمَوتِ الرتيبْ
إنَّ فيها حانةً مسحورةً
خمراً، سريراً مِن طيوبْ
للحيارى
في متاهات الصحارَى
في الدهاليزِ اللعينَةْ
ومواخيرِ المدينَةْ.
كأن حاوي الواقعي يداري قلبه العاطفي، فهو دقيق الوصف، ماهر في الإيجاز والإيحاء، عارف واقع مدينته جيداً، مهذب لن يلعنها ولن يذمّها، بل سيؤاخي المدينة بأهلها – عن طريق ضمير نحن – فيكتب: "مَن يقوِّينا على حملِ الصليبْ / كيف نَنجُو مِن غِواياتِ الذنوبْ / والجَريمَةْ"، قبل أن ينعطف بقوة نحو "أنا الشاعر" الغارقة بالتشاؤم والانهيار، فيقول:
آهِ مِن نومي وكابوسي الذي
ينفُضُ الرُّعْبَ بوَجْهي وَجَحيمَهْ
مُخدعي ظِلُّ جدارٍ يتداعى
ثُمَّ ينهارُ على صَدْري الجِدارْ
وغريقاً ميِّتاً أطفو على دَوَّامةٍ
حرَّى ويُعميني الدُّوارْ
آهِ والحقْدُ بقلبي مِصهرٌ
أمتَصُّ، أجترُّ سمومَهْ.
غرفة الشاعر هي حياته الداخلية النفسية المنهارة التي تعكس انهيار المدينة، فالنوم والمخدع والصدر والجدار والقلب، هي عناصر غرفة الشاعر النفسية، غرفة شاعر منهار متألم ومتشائم، قضى انهيار بيروت أمام عينيه عليه تماماً، فوحّد ذاته المسكينة مع المدينة المسكينة، ورفع صوت أناه بالصراخ، وأبعد صوت الجماعة؛ انعكس انهيارها على روحه، وزاد في مأساته مأساة... ثم انتحر.
ستقال أسباب كثيرة في انتحاره، لكن ما لا ريب فيه أنه كان صادقاً جداً في معاناته، وأن قلبه انفطر لرؤية حال بيروت. بَيد أنه لم ينجح في وضع عاطفته في القصيدة، وعاقب نفسه الكسيرة بحرمانها من التعبير عن الحب، وربما لو فعل لارتاح قليلاً. لكن شخصيته العصامية، وإيمانه بالثقافة والعلم، والأهم واقعيته السياسية المتشائمة، كبتت روحه القلقة المعذبة الرقيقة. خليل حاوي شاعر معذب أولاً وأخيراً، حادّ الوعي، وماهر في التعبير عن التشاؤم والمأساة. عَكَس شخصيته القلقة المنهارة على المدينة وصيّرها مرآته في لحظة محددة. وإذ ظلم نفسه في حجب قلبه، قتلته تلك اللحظة المحددة بـ "اجتياح إسرائيل لبيروت". لا بد من أنه أحب بيروت كثيراً، فلم يلعنها ولم يمدحها، وإنما منحها روحه كلها.
بيروت بؤرة وعي الشعراء بذواتهم، فالمدينة غاوية مهما تكن لحظتها مأسوية، ومهما تكن ظالمة أو متكبرة، كسيرة أم مهزومة، وهي بسبب تعدد أهواء سكانها وتنوعهم، تظل بؤرة مشعة تجذب الناس بمغناطيسها المتعدد الوجوه.
شاعر آخر انتمى – ربما لأسباب طريفة - إلى الحزب القومي السوري الاجتماعي وسكن في بيروت، هو السوري محمد الماغوط الذي تنتقل قصيدته بسلاسة لافتة من الشخصي إلى العام، وتستطيع عبر الحكاية الشخصية الهامشية التعبير عن حكاية الجماعة؛ جماعة الشعوب العربية المقهورة. يعتمد الماغوط، من أجل هذا، على لعبة المفارقات والسخرية وتلك السينيكية [الكلبية] الواضحة للقارىء أكان متمرساً في قراءة الشعر الحديث، أم لا. ببسيط الكلام، يرسم الماغوط صورة بيروت في قصيدة عنوانها دقيق، هو "مقهى في بيروت". يبدأ القصيدة ساخراً: "لا شيء يربطني بهذه الأرض سوى الحذاء"، ثم يصير عاطفياً: "لكن مَن يلمس زهرة فيها / يلمس قلبي". والتوازن بين الأمرين هو قوة الماغوط الذي يؤكد الطابع المديني الحديث لبيروت من خلال: أولاً، اختيار المقهى، وثانياً، عبر ذكر أسماء شوارعها في منطقة الحمراء الشهيرة: "من بلس إلى جاندارك، ومن جاندارك إلى بلس". ثم كما فعل حاوي، سينعطف نحو نفسه، مشيراً بشكل واهٍ إلى أهل المدينة الذين يعرفونه: "رفعت يدي مئات المرات / محيياً مئات الأشخاص / باليد التي تكتب / اليد التي تأكل / واليد التي تجوع". وتمتد القصيدة عبر خيال الماغوط الذي يستدعي أطياف عائلته، الأخت الصغيرة والأب ومن ورائهما يظهر مشهد مسقط رأسه، على نحو تبدو فيه بيروت ذريعته للكلام عن نفسه، أو بصورة أدق، يعكس الماغوط نفسه في مرآة بيروت، متجاهلاً إلى حد ما المدينة التي نجح في القبض على مزاجها:
سرت آلاف الكيلومترات المرصوفة فوق بعضها
رأيت أطناناً من النساء والخادمات
تأملت النقود البرية
والحلوى الهادرة تحت الجسور
تأملت أصابع النادل الرفيعة
وهي تمسح دموعي عن طاولة الحساء.
وقبل الانتقال إلى شاعرين هما الأشهر في الكتابة عن بيروت: محمود درويش ونزار قباني، سيكون الإصغاء إلى صوت بعض الشاعرات مفيداً لإظهار اختلاف "أنا الشاعرة" عن "أنا الشاعر".
البداية مع الشاعرة اللبنانية ناديا تويني (1935 - 1982) التي كتبت بالفرنسية، نظراً إلى أهميتها في المشهد اللبناني الثقافي ذي الطابع الفرانكوفوني. فهذه الشاعرة التي وصفها نزار قباني بـ "الفراشة"، ليست فراشة حقاً، إذ على الرغم من الرقة الفائضة في قصائدها، فإنها ناجحة أيضاً في ابتكار استعارات رقيقة، لكن خالية من الميوعة العاطفية والرومانسية، وفي أحايين كثيرة باترة. تكتب ما يشبه حافة نصل حاد؛ الحافة الأرقّ والأدقّ والأقوى في البتر: في فم المدن الأسود / يدق جرس الزهور الحزين / مات البلد جمالاً / مقتولاً بقهقهة / قنبلة في الأرض حفرت بسمة".
في قصيدتها عن بيروت ترسم تويني صورة ملحمية لبيروت تقوم على تزاوج من المتناقضات: "لئن كانت محظية أو عالمة أو ورعة / شبه جزيرة الضجيج والألوان والذهب"، وعلى استلهام الأساطير وفعل آلهتها في الانبعاث: "ماتت ألف مرة وعاشت ألف مرة من جديد"، وقد تعيّن مكانها الأسطوري هذا من حضارتين بحريّتين هما، إن صح التعبير، الإغريقية والفينيقية. فمن الأولى نجد اسم الكاهنات: "نساؤها بعيونهن الشاطئية التي تشعل الليل / ومتسوّلوها يشبهون كاهنات بيثيا قديمة"، ومن الثانية الاسم الفينيقي: Béryte، "بيروت القصور المئة وبيريت من الأحجار". لكن ذلك لا يعني، بأي حال من الأحوال، أن الشاعرة تنفي عن مدينتها حضارتها العربية، فتويني تستعمل اللفظ الصريح (عربية) في وصف المدينة أيضاً: "كونها فينيقية، عربية أو من العامة". لكن الجملة الأساس في القصيدة، تبدو أقرب إلى روح المدينة التي عرفتها الشاعرة وأحبتها قبل الحرب في إبان عصرها الذهبي، إذ تكتب: "في بيروت كل فكرة تسكن منزلاً / في بيروت كل كلمة مباهاة"، حيث تتحدد المدينة لا من خلال جغرافيتها بل من خلال عناصر ثقافية (الفكرة / الكلمة) متوطّنة في المكان ومدعاة فخر لأهله، وسيظهر الدور المحوري لهذه الجملة من خلال أثرها في خاتمة القصيدة: "بيروت في الشرق هي الملاذ الأخير / حيث الإنسان يستطيع دوماً ارتداء الضوء". فتحديد المكان بـ "الشرق" وربطه بالحرية هما مآل الفكرة والكلمة، أو بصورة أُخرى، فإن بيروت تكتسب أهميتها من الثقافة، ويتعيّن حيّزها الجغرافي بلفظ بسيط معبّر هو الشرق، ففيه تنصهر الحضارات الأُخرى التي وردت في القصيدة وأشارت إليها الشاعرة. إن دقة الشاعرة تويني في الوصف، جنّبتها الوقوع في فخ المباشرة والأيديولوجيا والبروباغاندا الرائجة عادة في تلك الفترة، وخصوصاً في قصائد موضوعها الأساسي هو المكان. ونظرة تويني إلى بيروت تنسجم مع صورة بيروت المشتهاة لا باعتبارها منارة ثقافية فحسب، بل هي أيضاً الصورة التي تتجاهل واقع المدينة المعقد سياسياً وطائفياً، وتبدو أقرب إلى نظرة خارجية. فالمدينة وفقاً لتويني "ملعونة"، لكنها تنبعث باستمرار، بسبب قوتها الكامنة في ثقافتها وحريتها. وبكلام آخر، فإن الحروب المعبّر عنها بـ "ملعونة" تحيل على أمر خارجي، وهو ما ينسجم بسلاسة مع المقولة السياسية الرائجة وقتذاك: حروب الآخرين على أرض لبنان.
الشاعرة والفنانة، السورية اليونانية المولودة في بيروت في سنة 1925، إيتيل عدنان التي تكتب بالإنجليزية والفرنسية، غزيرة الإنتاج، وواسعة الثقافة، والأمور في ذهنها واضحة فنياً وسياسياً. ففيما يتعلق بتحديد مواقفها السياسية، تبدو إيتيل منحازة فعلاً إلى الأضعف والضحية، ذلك بأن مشاعرها الإنسانية ونزاهتها تضعها في موقع متفرد في خريطة شعر على الحافة، مكتوب بغير لغة الضاد، لكنه نابع ذهنياً وحسياً وإنسانياً من هموم الإنسان العربي. عدنان من طينة الشعراء الذين يجمعون الوعي إلى اللاوعي برهافة، ويقودها في ذلك انتماؤها الصريح إلى القضايا الإنسانية. وكان السوري نذير العظمة قد أفرد لها فصلاً في كتابه "أدب المقاومة بين الأسطورة والتاريخ"، تناول فيه شعرها الذي "يضجّ بالمقاومة، والذي يرقى إلى مستويات إنسانية سامية"، مركزاً على قصيدتها الشهيرة "القطار السريع - بيروت الجحيم" التي نشرتها في باريس في سنة 1973، وفيها تنبأت بالكارثة اللبنانية قبل أن تقع، وكذلك قصيدتها المطوّلة "رؤيا العربي الأخيرة"، "وهي قصيدة طويلة "تبتدىء بالكلام عن الفاجعة اللبنانية شمسها المتشكلة دماً ومساء وبحراً وفصولاً، وتنتهي بالحضارة العربية الواثبة من رحم التاريخ فرساً أصيلة لا يلجمها الشوط رغم زحام الرهان وتنافس الأمم والحضارات".
تكمن قوة إيتيل عدنان الشعرية في تضافر عدة عوامل: ثقافتها الواسعة، واهتمامها بالفلسفة، ونقاء نظرتها السياسية، وغيرها من الأمور الحاسمة في تهيئة خامة قصائد كبرى، لكن الخامة تتحول إلى قصيدة كبرى من خلال موهبة الشاعرة التي يمكن لمسها فنياً.
قدرة إيتيل على الترميز والاستعارة وبناء تشبيهات غير مألوفة ولا مسبوقة، تكمن في لغة هي نسيج تجربة الشاعرة؛ لغة أجنبية بروح عربية معاصرة، بل معاصرة جداً، فضلاً عن وعيها المرهف بالحرية بأسمى معانيها، أكانت تتعلق بحياة عدنان الشخصية، أم بالانتصار للضعيف وللقضايا الإنسانية كافة. هذه الحرية المتوهجة يمكن وصفها بكلمة واحدة: النزاهة، وهي الصفة التي لا يمكن إطلاقها إلّا على عدد محدود جداً من الشعراء الذين كرسوا حياتهم ومواقفهم للشعر الذي يضيف ويضيء.
كتبت إيتيل عدنان كثيراً عن بيروت، نثراً في رسائلها الاستثنائية إلى فواز طرابلسي في "عن مدن ونساء؛ رسائل إلى فواز"، وشعراً حيث حضرت بيروت باسمها الصريح في أكثر من قصيدة.
في "النشيد الخامس عشر" (ترجمة خالد النجار)، وعبر خمسة مقاطع فقط، تكثّف عدنان المشهد كله. يبدأ المقطع الأول حيادياً وموحياً في آن معاً: "اِتّبعني، قال الملاك / ثم انزلق من على كتفيّا. / وهجم الضوء / من كل صوب." وفي المقطع الثاني ثلاثة ألفاظ ممهدة لوجهة القصيدة (مشرط، وبؤس، والماء الأزرق): "الزمن يستخدم مشرطاً / فوق جسده. والليل / لم يعد أبداً كافياً لتأمل / بؤسنا. وهناك برودة / في هذا الماء الأزرق". لو أن القارىء فكر أن بيروت هي المقصودة لتلونت معاني الألفاظ الثلاثة البسيطة، وشكلت أمام عينيه مشهد المدينة. بَيد أن دور تلك الألفاظ هو تمهيد فقط، ليكون المقطع الثالث محورياً في تأدية المعنى: "بيروت هي تكدس / حواجز في طريق / الجنّة".
للمرء الآن أن يستمر في قراءة القصيدة أو يعيد من البداية، ليتأمل صنيع إيتيل عدنان المتفرد في التعبير بجمل بسيطة عن بيروت. الحب والانحياز إليها واضحان، والموقف السياسي كذلك، لكنهما لا يظهران البتة بصورة مباشرة. فالشاعرة تتقن بناء القصيدة فنياً، وهي ماهرة حقاً في وضع الجرعات الملائمة الصحيحة سواء للجانب الفني، أو للمعنى السياسي.
لكنها شاعرةٌ مقاومة وموهوبة، ولو أرادت أن تكون مباشرة من دون التنازل عن الفني في القصيدة، لاستطاعت، ففي مقطع من قصيدة أُخرى عن بيروت تكتب:
لن أرى بعد اليوم تلك النظرة الخضراء
التي حوّلها الموت إلى حجر!
وفي برك الماء المنتشرة في الشوارع
كان ظلي يتأوه طوال سنوات
لكَم قلتُ لكم إن حياتي شاحنة ملغومة
في القصيدة اكتملتْ فحولة رامبو المنقوصة
هذا الطفل امتزج بعَرَقي في الثكنة الخاوية
في ضاحية بيروت.
سيكون الأمر مجازفة نقدية متهورة، ربما، لو تم "شرح القصيدة"، فالأمر أشبه بتفسير الماء بالماء لقارىء متدرب على قراءة الشعر الحديث. بَيد أن الأمر يستحق المجازفة، فهذه الجمل الثماني تختصر مشهداً يتحدث عن أثر الحرب في عين الشاعرة وقد تحولت بسبب الموت إلى حجر، في مكان مدمر، وأن الشاعرة تعذبت وتألمت بسببه لأعوام. ثمة طفل أيضاً وثكنة خاوية، يعبّران عن الخسارة الكبرى في مكان محدد هو بيروت.
من النادر أن يجد المرء حساسية مماثلة في التعبير الشعري، والأمثلة المستقاة من الشاعرتين السابقتين (تويني وعدنان)، تضفي على القول بتنوّع حساسية الشاعرات، بعداً ملموساً، الأمر الذي يمكن الإضاءة عليه من خلال قصيدة "بيروت" لمنى السعودي الفنانة والشاعرة: "بيروت / الأرض مقفلة بالمفتاح / السماء حظيرة مهجورة، والشجرة بلا باب". هذه الجمل الثلاث تصف المشهد القيامي لبيروت مثلما هو واضح، وسنجد في القصيدة أيضاً الألفاظ الدالة على طابع المدينة الثقافي: "يسكنها كلام كثير يطفو حول ترهّل بطنها"، أو "يسكنها كلام ميت ولا يشبه الموت". فضلاً عن أن السعودي - كما عدنان وحاوي - ستنحني أمام تأثير المدينة الساطع في جعل الشعراء ينعكسون في مرآتها ويُسقطون حالتهم النفسية عليها: "أيها السقوط الجميل أعطيك قلبي وأفعالي". من هنا، فإن القول بتأثير بيروت العميق في الشعر والشعراء، يصير أكثر من وجيه، إذ لدينا إلى الآن أربعة شعراء (الأخطل الصغير، وأدونيس، والماغوط، وحاوي) وثلاث شاعرات (تويني، وعدنان، والسعودي).
وماذا عن أشهر شاعرين - محمود درويش ونزار قباني - في أشهر القصائد لبيروت؟ قصائد خرجت من الكتب وصارت في الحياة اليومية والوجدان، وهي التي تستعاد كلما استلزم ذلك حدث سياسي أو مأسوي أو غيره، بل تستعاد أيضاً من دون مناسبة.
في قصيدته الشهيرة المغناة "يا ست الدنيا يا بيروت"، ينطلق السوري نزار قباني (1923 - 1998)، من تقاليد شعرية عربية راسخة في رثاء المدن، فهو الذكي الماهر الذي لم يتّبع مرة "موضة" هجاء المدن التي سادت في سبعينيات القرن المنصرم، تقليداً لشعر غربي ينتقد مدناً حديثة عصرية تطحن الإنسان، فأبدت كراهيتها لمدن عربية شبه مهزومة وشبه حديثة (مثلما فعل أدونيس عن دمشق، وعبد المعطي حجازي عن القاهرة).
في هذه القصيدة، والعنوان مستمد من المحكية وهو إنجاز نزار الأقوى، يبدأ بالرثاء، بوصف انتقال المدينة من الجمال إلى البؤس:
يا ست الدنيا يا بيروت...
من باعَ أساوركِ المشغولةَ بالياقوتْ؟
من صادر خاتمكِ السحريَّ
وقصَّ ضفائرك الذهبيّةْ؟
من ذبح الفرح النائم في عينيك الخضراوين؟
من شطّب وجهكِ بالسكّين،
وألقى ماء النار على شفتيك الرائعتين.
ولن يتأخر قباني في إدانة الفاعل مباشرة: "رماد الحرب الأهليه" أو "مَن كان يفكر أن تنمو للوردة آلاف الأنياب؟ / مَن كان يفكرُ أنّ العين تقاتل في يوم ٍ ضد الأهداب؟" هنا خطاب سياسي شهير مناقض للخطاب الذي انضوت تحته قصيدة ناديا تويني، والذي يحيل إلى "الحرب الأهلية"، في وصف ما جرى في بيروت (1975 - 1990). لكن حساسية نزار وميوله القومية، ستقف بالمرصاد لأي استنتاج مماثل، إذ إن شاعر الحب سيغطي في القصيدة كلها، بيروت بالغزل والحب والمديح، وسيمرر أيضاً موقفاً شجاعاً لإدانة خذلان العرب لبيروت، وهو موقف منسجم مع ميوله القومية: "نعترف الآن.. بأنّا كُنّا يا بيروت، نحبُّكِ كالبدو الرحَّل.."، أو "نعترف الآن.. بأنّا كنّا أميين.. / وكنّا نجهل ما نفعل.. / نعترف الآن، بأنّا كنّا من بين القتلة.. / ورأينا رأسك../ يسقط تحت صخور الروشةِ كالعصفور / نعترف الآن.. / بأنّا كنّا - ساعة نُفِّذ فيكِ الحكم - / شهود الزور..". أمران اثنان مهمان في المقطع السابق: استعمال ضمير نحن، والإشارة إلى أقوى ما يميز بيروت: العلم والمعرفة، عبر توصيف كل ما عداها بالأمية والجهل.
يخطو نزار خطوة أُخرى في الرثاء - المعاصر حقاً - حين يكتب: "نعترف أمام الله الواحد.. / أنّا كنّا منكِ نغار.. / وكان جمالكِ يؤذينا..". ربما توحي عفوية قصائد نزار بـ "براءتها"، لكن لفظ الله في المقطع السابق دخل إلى القصيدة ليؤدي دوراً أساسياً في رسم صورة بيروت بعينَي نزار: المدينة المقدسة، فحين يستنهضها للقيامة والانبعاث في أشهر مقاطع القصيدة، يقول: "قومي إكراماً للإنسان ../ إنّا أخطأنا يا بيروت ../ وجئنا نلتمس الغفران"، فالغفران يلتمسه البشر عادة من الإله.
صحيح أن نزار قباني سار فوق طريق معبدة في رثاء المدن ومديحها، وسكب موهبته الشعرية في قصيدته تلك، إلّا إن قوته تأتي أيضاً من تفلّته البارع من تحميل القصيدة خطاباً سياسياً خاضعاً لأيديولوجيا محددة، فاستعمل نحن، بعد القول بالحرب الأهلية، ومرر نظرته الشخصية إلى بيروت مدينة مقدسة (في عينيه)، ولم يبخل عليها بأي حب، وإنما أغرقها به.
أمّا الاستثنائي محمود درويش (1941 - 2008) فسيلمّ بيديه المرهفتين ما قبله وما بعده، ويقدم للنقد فرصة ممتازة لتأمل التطوير الكبير في مشروعه الشعري بفترة قياسية مداها هو الزمن بين قصيدتين فقط هما: "قصيدة بيروت" و"مديح الظل العالي". لكن لا بد من التذكير بوضع الشاعر في المدينة: فهو الفلسطيني في بيروت، وكانت منظمة التحرير الفلسطينية التي ينتمي إليها الشاعر، طرفاً مستهدفاً ومنخرطاً في الحرب في سنة 1975، ولم يكن الفلسطينيون "الرسميون" موجودين حين حطت أوزارها في سنة 1990 عبر اتفاق الطائف، إذ كانوا قد أُخرجوا منها صوب البحر وتونس.
لدرويش حساسيات متنوعة تعمل مثل لاقطات شعورية ممتازة، وحساسيته المتعلقة بـ "التضاريس والجغرافيا" من أقواها (لأسباب موضوعية كما لا يخفى)، ومن هنا يتخذ البحر دوراً محورياً كلما جاءت بيروت قصيدته.
تبدأ "قصيدة بيروت" من البحر: "تفاحة للبحر. نرجسة الرخام. فراشة حجرية. بيروت. شكل الروح في المرآة". هذه التشابيه الثلاثة تجمع الحياة إلى الموت، ففي مقابل الثمر والزهر والفراشة، ثمة بحر ورخام وحجر. وهذا التشوش الشعوري تجاه المدينة التي يحبها، وتحت الوطأة الثقيلة للوضع الفلسطيني فيها، سيجد منفذاً عاطفياً – ربما بصورة غير واعية - حين يستعمل درويش لوصف بيروت مكانين بعيدين منها حين يكتب: "بيروت من تعب ومن ذهب وأندلس وشام". والأندلس والشام في جميع المدونات العربية رديفتان، تقريباً، للجنّة، وإن كانت الأولى قد ضاعت، فإن الشام أي دمشق (محبوبة الشعر العربي الأولى) في متناول قلبه.
بَيد أن التشوش الشعوري سيستمر في القصيدة، في المقطع الذي يبدأ بـ "سبايا نحن في هذا الزمان الرخو"، وتؤكد عليه لازمة القصيدة "بيروت خيمتنا". هنا مثال ممتاز للتعبير عن شعور الفلسطيني في نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات الملتهبة في بيروت. رويداً رويداً ستغيب بيروت عن قصيدتها، ليحل مكانها خطاب فلسطيني: "وجئنا من بلاد لا بلاد لها... فأُعطينا جداراً واحداً لنصيح يا بيروت".
ستظهر بيروت عبر كلمات متناثرة في قصيدة تقبض على لحظة الفلسطيني فيها قبل أي شيء آخر، مثلاً: "شكراً للجريدة"، أو "أحمل اللغة المطيعة كالسحابة / فوق أرصفة القراءة والكتابة"، أو "هل كسرت شظاياه كؤوس الشاي في المقهى؟"
تغيب بيروت كلما امتدت القصيدة، وينفتح المشهد على العالم العربي برمّته وبكل تعقيداته: "أسأل آخر الإسلام / هل في البدء كان النفط / أم في البدء كان السخط؟" والمشهد العربي البائس حقاً، يفضي إلى "صورة" على حافة هجاء بيروت: "خذ بيروت من بيروت، وزّعها على المدن / النتيجة: فسحة للقبو / ضع بيروت في بيروت، واسحبها من المدن / النتيجة: حانة للهو". تتشعب القصيدة الملحمية، وتستوعب حوارات وأوصافاً مباشرة: "أحرقنا زوارقنا، وعانقنا بنادقنا"، وتبيّن بشكل واضح الوطأة الثقيلة للحظة الفلسطينية فيها، وثقل الخطاب السياسي. المقاطع المتراقصة عن بعلبك وبيروت في القصيدة، ستؤدي دورها في كبح الوطأة الثقيلة تلك ولو قليلاً. نحن في المحصلة أمام قصيدة كُتبت في ظروف شديدة الوطأة والاستثنائية، فكيف يفعل الشاعر؟
ربما لا مسافة زمنية تقريباً بين "قصيدة بيروت" و"مديح الظل العالي"، لكن الفرق بينهما كبير. أرادت الأولى وصف المدينة فشوشتها فلسطين، أمّا الثانية فببراعة قبضت على لحظة الفلسطيني في بيروت في زمان محدد، فظهرت بيروت المدينة غير المنبتّة عن واقعها وتعقيداته، وغير المنفصلة عن الهمّ الفلسطيني.
درويش من أشطر الشعراء في المطالع، سيبدأ "مديح الظل العالي" بقوة (والناس ستحفظه عن ظهر قلب): "بحرٌ لأيلولَ الجديدِ. خريفُنا يدنو من الأبوابِ... / بحرٌ للنشيدِ المرِّ. هيَّأنا لبيروتَ القصيدةَ كُلَّها. / بحرٌ لمنتصفِ النهارِ". لن يتلكأ الشاعر "العاطفي" – وإن كان لا يحبذ وصفاً مماثلاً - في سكب قلبه في القصيدة: "واستطاعَ القلبُ أن يرمي لنافذةٍ تحيَّتهُ الأخيرةَ"، وسيصوّب اللازمة، فبدلاً من "بيروت خيمتنا"، نجد: "بيروت قصَّتُنا / بيروت غصَّتنا / وبيروت اختبارُ اللهِ". انتقلت بيروت من تشوش صورتها بفلسطين، إلى بيروت التي انكسر الفلسطيني فيها، وتماماً تحت وطأة عين المقدس. الأمر الذي سيؤكد عليه في مقطع لاحق: "القمحُ مرٌّ في حقول الآخرينْ / والماءُ مالحْ / والغيم فولاذٌ. وهذا النجمُ جارحْ"، وطبعاً سيتجه صوب فلسطين واللحظة الفلسطينية في القصيدة. لن نورد مقاطع للدلالة على هذا، لأنه خارج موضوعنا، مع أن تأمل امتزاج اللبناني بالفلسطيني في القصيدة جدير بدراسة نقدية.
لم يكن وصف درويش بـ "الشاعر العاطفي" نزوة نقدية، فالقلب أحد مفاتيح شعر درويش. وسيعبّر درويش عن بيروت وعن حبه لها وعن اللحظة الفلسطينية فيها ضمن ثلاثة مقاطع في "مديح الظل العالي". تصير بيروت في الأول ابنة الشاعر لفرط عاطفيته:
نامي قليلاً، يا ابنتي، نامي قليلا
الطائراتُ تعضُّني. وتعضُّ ما في القلب من عَسَلٍ
فنامي في طريق النحل، نامي
قبل أن أصحو قتيلا
الطائراتُ تطير من غُرَفٍ مجاورةٍ إلى الحمَّام، فاضطجعي
على درجات هذا السُّلّم الحجريِّ، انتبهي إذا اقتربتْ
شظاياها كثيراً منكِ وارتجفي قليلا
نامي قليلا.
ولن يستعمل درويش الحساس ضمير نحن بل أنا حين تنقضّ الطائرات، فالقصد أن الفلسطيني مستهدف، وإذ هو على أرض بيروت، فسيحاول عن طريق الحب تجنيبها رؤية الموت من خلال المقطع الذي يبدو أقرب إلى هدهدة الصغار. لكن العاطفة لا تشوش الشاعر العاطفي الذي سيفصل بوضوح بين هويته وبيروت: "كنا نَعُدُّ على أصابع كفِّك اليُسرى مسيرتَنا ونُنْقِصُها رحيلا"، وسيفيض حباً حين يرتّب بيروت كما لو أنها قلبه / بيته: "وتَفَقَّدي أزهارَ جسمكِ، / هل أُصيبتْ؟ / واتركي كفِّي، وكأسَيْ شاينا، ودعي الغَسيلا / نامي قليلا / لو أستطيع أَعدتُ ترتيب الطبيعةِ: / ههنا صفصافةٌ... وهناك قلبي / ههنا قَمَرُ التردُّد / ههنا عصفورةٌ للانتباهِ / هناكَ نافذةٌ تعلّمكِ الهديلا / وشارعٌ يرجوكِ أن تَبْقَي قليلا". وهو الذكي النابه الذي لن يفوته الاعتذار منها مؤكداً من جديد هويته المنفصلة عن بيروت، لكن الوثيقة الصلة بها: "هل كنتِ غاضبةً علينا، دون أن ندري.. وندري / آهِ مِنّا... آهِ ماذا لو خَمَشْنا صُرَّةَ الأُفقِ / قد يَخْمِشُ الغرقى يداً تمتدُّ / كي تحمي من الغَرَقِ".
في المقطع الثاني سيخاطب بيروت كما لو أنها كبرت ولم تعد الطفلة التي تهدهدها أغنية، وإنما صارت امرأة:
أنا لا أُحبُّكِ،
كم أُحبُّكِ!
غيمتانِ أنا وأنتِ، وحارسان يُتَوِّجان الانتباهَ بصرخةٍ
ويُمَدِّدان الليلَ حتى الليل الأخير. أَقول حين أَقولُ
بيروتُ المدينةُ ليست امرأتي
وبيروتُ المكانُ مُسَدَّسي الباقي
وبيروتُ الزمانُ هُوِيَّةُ ((الآنِ)) المضَّرجِ بالدخانِ
أنا لا أُحبكِ،
كم أُحبكِ !
غمِّسي باسمي زهورَك وانثريها فوق مَن يمشي على جُثَثَي
ليتّسع السَّرايْ
لا تسحبيني من بقاياكِ، اسحبيني من يديَّ ومن هوايْ
ولا تلوميني، ولوكي مَنْ رآني سائراً كالعنكبوتِ على خطايْ.
فضلاً عن المثنى المعبّر في بداية المقطع، فإن من الصعب على المرء أن يمنع نفسه من الانتباه إلى الجملة الآتية: "غمِّسي باسمي زهورَك وانثريها فوق مَن يمشي على جُثَثَي"، الزهور نصيب المدينة، والجثة نصيب الفلسطيني القتيل. هل نقارن بين هذا المقطع ومقطع من "ريشة الغراب" لأدونيس؟ نعم نقارن لنتأمل الفرق بين الشاعر الذي ينطلق من الكراهية (أدونيس) والشاعر الذي ينطلق من الحب (درويش)، بين مَن يمنع الحياة عن المدينة، ومَن يجترح من موته حياة لها. نستطيع أن نزيد، فنتأمل دلالة الاسم في المقطع نفسه، درويش يمنح روحه واسمه للمدينة. لو أردنا التصنيف، لاعتبرنا المقطع حتى نهايته (وأصير نايْ) واقعاً في غرض الرثاء، ولو تابعنا القراءة لوجدنا الحب:
أنا لا أحبكِ
غمِّسي بدمي زهورَكِ وانثريها
حول طائرةٍ تطاردُ عاشقينْ
والبحرُ يسمعُ، أو يوزِّعُ صوتَهُ بين اليدَيْن.
وأنا أحبكِ
غمِّسي بدمي زهورَكِ وانثريها
حول طائرةٍ تطاردني وتسمع ما يقول البحرُ لي.
من الممكن الاستمرار أكثر لنرى بيروت مديح الظل العالي، جامعة لأفضل معاني وتقنيات الشعراء السابقين، ومتفوقة عليها. لكن هذه القصيدة الملحمية الغنائية، امتازت أيضاً بقدرتها على الكشف والتلون، وعلى بثّ المعاني المتجددة، والبناء المحكم، والخطاب السياسي، والواقع المعقد لتلك اللحظة الفلسطينية في بيروت، فبيروت عكست درويش، وهو انغمس فيها من دون أن يفقد شيئاً من هويته الساطعة الجريحة. إن كان النقد يقول إن درويش هو الأفضل، فالكلام أعلاه اقتراح نقدي بسيط يمكن الاستزادة فيه بالمقارنة بناء وبلاغة وعروضاً أيضاً، فضلاً عن تلك النزاهة الرفيعة التي تمتع بها درويش، في شعره كما في مواقفه.
وبعد، فإن المدينة البحرية الساحرة المتعددة لم تكن محظوظة شعراً، ومن سوء الحظ أنها دخلت الشعر العربي الحديث من بوابة مأساتها (1975 - 1990). وكم يتمنى المرء أن تستجيب المدينة لصورتها الشهيرة فتنهض من مأساتها الأخيرة، بأفرادها وبقصائد تراها من دون نظارة الحروب والمآسي.