لا شك في أن انفجار مرفأ بيروت في الرابع من آب / أغسطس الذي خضّ لبنان برمّته، سيبقى أحد مفاصل تاريخ البلد بما لا يقلّ عن الانفجار الذي استهدف رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري في الرابع عشر من شباط / فبراير 2005. فالانفجار الجديد أقوى من القديم، ربما، بما يزيد على ألف مرة. وقياساً على الأعوام الخمسة عشر التي انقضت منذ اغتيال الحريري قبل أن يتمخض جبل المحكمة الدولية الخاصة بلبنان فيولد فأر الاعتراف بعجزها عن إجراء تحقيق يسمح بكشف ملابسات الجريمة كاملة، لن يكون هناك كشف رسمي لجميع ملابسات انفجار المرفأ في مستقبل منظور، بل ستبقى الحقيقة الخاصة بالانفجارين مرهونة بانهيار الأنظمة والقوى التي تحول دون إجراء تحقيق كامل في شأنهما، مثل غيرهما من الأحداث التي اكتشف المؤرخون حقيقتها بعد فتح أرشيفات أنظمة ساقطة.
بَيد أن ما لا يحتاج إلى إثبات، لأنه جليّ بما يكفي ويفي، هو أن مسؤولية الانفجار تقع على كامل الطاقم السياسي اللبناني، أي جميع الذين توالوا في مناصب مسؤولية متعلقة بأمن البلاد وعاصمتها ومرفئها طوال الأعوام الستة التي قضتها شحنة نترات الأمونيوم الفتاكة مستودعة في العنبر رقم 12 في مرفأ بيروت، من منصبَي رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة، إلى منصب المشرفين على إدارة المرفأ وأمنه، مروراً بالوزارات المعنية والأجهزة الأمنية العامة، فجميع هؤلاء مسؤولون سواء انتموا إلى الدولة اللبنانية الرسمية، أو إلى الدولة الموازية التي يشكلها "حزب الله" في لبنان، والتي تشرف على مطار بيروت ومرفئها.
وهذا المنطق ذاته يسري على مَن تقع مسؤولية انهيار الاقتصاد اللبناني عليه، بل إن مدة تراكم المسؤولية إزاء المأساة الاقتصادية هي خمسة أضعاف المدة المذكورة، إذ تبلغ ثلاثين عاماً انقضت منذ نهاية حرب الأعوام الخمسة عشر في سنة 1990 حتى يومنا هذا. فقد حكمت لبنان خلال العقود الثلاثة المنصرمة طبقة سياسية ملتحمة بأهل القطاع المصرفي، أشرفت على "إعمار" لبنان وعاصمته، ضامنة لنفسها أرباحاً جمة بطرق شرعية وغير شرعية، وهي فاسدة في كلا الحالين. وخير مَن يجسد هذا الالتحام بين أهل السلطة السياسية وأهل القطاع المصرفي هو رياض سلامة، حاكم مصرف لبنان، أي وكيل السلطة السياسية في الإشراف على هذا القطاع، والذي لا يزال في منصبه منذ تعيينه في سنة 1992. وهذه المسؤولية المشتركة هي ما يرمز إليه شعار "انتفاضة 17 تشرين" اللبنانية الشهير: "كلّن يعني كلّن".
لقد شاركت أطراف الطبقة السياسية اللبنانية كلها في السلطة وفي تحمّل مسؤوليتها خلال الأعوام الثلاثين المنصرمة، بعد إنهاء الحرب بناء على اتفاق الطائف الذي أُبرم في سنة 1989 برعاية المملكة السعودية والنظام السوري، وهما مَن أشرف على حكم لبنان. أمّا دور سورية، فتعزز عبر مشاركتها في الحملة الأميركية على العراق في إثر اجتياح الكويت في سنة 1990.
وكان التجسيد الأبرز للوصاية المزدوجة على لبنان، هو التعاون الذي قام بين رفيق الحريري، وكيل المملكة اللبناني، وغازي كنعان، رجل الاستخبارات السورية والمفوض السامي للنظام السوري في لبنان. ولم يُستثنَ من الصيغة سوى الرجلين اللذين اعتبرتهما دمشق عدوين لدودين لها: ميشال عون الذي لجأ إلى فرنسا، وسمير جعجع قائد تنظيم "القوات اللبنانية" الذي أودع السجن.
لكن الاجتياح الأميركي للعراق في سنة 2003، كان بمثابة إعلان انتهاء المرحلة الأولى من الوفاق السعودي – السوري، إذ إن النظام البعثي السوري لم يرضَ عن حرب هادفة إلى إسقاط النظام الجار والمشابه له، خشية أن يكون مستهدفاً بدوره، وخوفاً من أن يستلهم الشعب السوري من سقوط الديكتاتورية البعثية المجاورة فينتفض بدوره. وقد انفرط عقد الوفاق السعودي - السوري بسبب تدهور العلاقة بين دمشق وواشنطن، بعد أن وقفت الأولى ضد غزوة الثانية لبغداد، بينما عملت الثانية مع باريس على تمرير مجلس الأمن الدولي لقراره رقم 1559 الداعي إلى خروج القوات السورية من لبنان (يجدر التذكير بأن موسكو وبكين سمحتا بتمرير القرار من خلال اختيارهما الامتناع عوضاً عن ممارسة حق النقض).
وجاء اغتيال رفيق الحريري في هذا السياق، غير أن مفعول العملية جاء بعكس ما توخى الذين أمروا بها، إذ هبّت في لبنان عاصفة شعبية لم يرَ البلد مثلها في تاريخه حتى ذلك الحين. فقد اضطرت دمشق إلى سحب قواتها من لبنان، إلّا إنها حافظت على القسط الأعظم من سطوتها على أمور البلد من خلال رعايتها لائتلاف ثلاثي شمل "حركة أمل" حليف النظام السوري بامتياز في لبنان، و"حزب الله" الذراع اللبنانية للنظام الإيراني حليف دمشق، وميشال عون بعد أن عاد إلى لبنان في إثر الانسحاب السوري لينقلب حليفاً لدمشق ولأعوانها اللبنانيين. موازين القوى هذه فرضت إعادة إحياء التعاون السعودي - السوري في حكم لبنان، متجسداً بالتعاون بين سعد الحريري، ابن رفيق، وحلفائه في "14 آذار" (بمَن فيهم جعجع الذي أُخرج من السجن بعد الجلاء السوري) من جهة، والائتلاف الثلاثي من الجهة الأُخرى.
هكذا فإن شعار "كلّن يعني كلّن" كان صائباً تماماً في تحميله أعضاء الطبقة الحاكمة كلهم، ومن دون استثناء، مسؤولية الوضع المزري الذي وصل إليه لبنان في سنة 2019، فهم جميعاً شاركوا، في وقت أو آخر، في النظام الفاسد واستفادوا منه.
غير أن الانهيار الاقتصادي الذي شهده البلد جاء تعبيراً عن منعطف جديد يتعلق بدور واشنطن، ذلك بأن وصول إدارة ترامب إلى الحكم ترافق بتشدد كبير في السياسة الأميركية إزاء طهران، ومعها سياسة محميتها المملكة السعودية. وقد عبّرت عن الأمر المحاولة الفاشلة التي قام بها وليّ العهد السعودي في إجبار سعد الحريري على إنهاء التعاون مع "حزب الله" من خلال احتجازه في الرياض في سنة 2017. بَيد أن سحب الغطاء السياسي والاقتصادي عن الوفاق الحاكم في لبنان عجّل في انهيار اقتصاد كان منهكاً في الأساس، وما حال دون انهياره سابقاً هو الدعم الدولي الذي كان يقدَّم إلى لبنان.
في هذه الأثناء كان "حزب الله" قد أصبحت له اليد العليا في لبنان بعد تلاشي سطوة النظام السوري الذي بات خاضعاً هو بالذات للوصاية الإيرانية نتيجة ارتهانه لمساعدة طهران له في الحرب التي نشبت في سورية في أعقاب "الربيع العربي". وقد اختار الحزب أن يواجه ما رأى فيه ابتزازاً أميركياً - سعودياً باستئثار الائتلاف الثلاثي بالسلطة من خلال حكومة حسان دياب، إلّا إن انفجار مرفأ بيروت قضى على تلك المناورة. فعَظُم الأمل لدى الحركة الشعبية اللبنانية بأن ثمة خيراً وراء شر الكارثة من خلال فسحها المجال أمام ضغط دولي حازم من أجل تحقيق مطلبَي "انتفاضة 17 تشرين" الرئيسيين: حكومة مستقلة تماماً عن الطاقم السياسي الحاكم تقليدياً، وانتخابات نيابية جديدة على قاعدة قانون انتخابي جديد.
واعتقد كثيرون أن زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لبيروت بعد يومين من الانفجار، بشّرت بمثل ما أملوا به، غير أنهم أخطأوا فَهْم سياسة ماكرون. فهذا الأخير جعل من الوساطة بين واشنطن وطهران لبّ سياسته الشرق الأوسطية، الأمر الذي انعكس على لبنان في مساندته للوفاق بين ممثلي النفوذين المتنافسين. وقد تجسد نهجه في تدخّله الحاسم في إفلات الحريري من احتجاز وليّ العهد السعودي له ومواصلته ترؤّس حكومة وفاق، ثم في سعيه الفاشل لتنظيم لقاء بين دونالد ترامب ووزير الخارجية الإيراني على هامش قمة منظومة الدول السبع التي أُنقذت في فرنسا في العام الماضي. وها هو ماكرون يدفع بقوة اليوم من أجل عودة لبنان إلى الوراء نحو إعادة تشكيل حكومة وفاق تقليدية.
وبعد، ما هو مصير البلد؟ في الحقيقة لن تستطيع أي صيغة توفيقية مجددة أن تنهض به وباقتصاده وتفسح المجال أمام مرحلة تنفس اصطناعي جديدة، إلّا إذا دعمتها واشنطن ودعمها حلفاؤها الخليجيون. ولا سبيل إلى ذلك سوى إذا فاز جو بايدن، منافس ترامب، في الانتخابات الرئاسية الأميركية في تشرين الثاني / نوفمبر المقبل، وتمكّن من إعادة إحياء الاتفاق النووي مع إيران مع بعض الشروط الإضافية إرضاء للرياض، وهذا ليس مؤكداً حتى لو فاز بايدن. أمّا لو تواصل التوتر العالي الراهن بين واشنطن وطهران، فإن انفجار بيروت قد يستحيل مدخلاً إلى انفجار الدولة اللبنانية بأسرها، ورمزاً مأسوياً له.