ليس بلا دلالات أن يتزامن انفجار بيروت مع انهيار لبنان اقتصادياً، وتصدّع مجتمعه، وانحدار حكامه إلى قعر غير مسبوق في تاريخه.
فالانفجار الناجم عن أعوام من الفساد والإهمال والبحث عن صفقات أو عن توظيف عسكري لمادة نترات الأمونيوم المخزنة في عنبر في مرفأ بيروت، في قلب العاصمة اللبنانية، بدا كأنه مآل ما تفرزه إدارة طبقة سياسية ميليشياوية للشأن العام في بلد جرى تناهبه من داخل النظام الطائفي وشبكاته، على نحو أدى إلى تهتّك مؤسساته جميعها وإفلاسها، وإفقار ناسه، وحجز ما تبقّى من أموال مواطنيه في المصارف الخاصة الشريكة في سياسات استدانة وتوزيع مغانم وإنفاق بلا وازع أو طائل.
والانفجار الفظيع هو أيضاً، نتاج ترنّح فلسفة حكم لم يعد من الممكن الحياة في ظلها، مثله مثل مغارة كهرباء لبنان التي امتصت على مدى ربع قرن أكثر من ثلاثين مليار دولار وظلت مقطوعة عن الناس، ومثل قضية النفايات التي لم يتفق أركان الحكم على تفصيلات المحاصصة لإدارة جمعها فتُركت لتُرمى في البحر، أو تُطمر في التربة.
أفول التوافقية بعد قرن على تأسيس وطنها
إن الفلسفة التوافقية التي قام على مبدئها تقاسم السلطة في لبنان بين ممثلي الكتل الطائفية الكبرى، منذ دستور 1926، ثم ميثاق 1943، وصولاً إلى اتفاق الطائف في سنة 1989، تحولت من صيغة موقتة لطمأنة الجماعات الأهلية وتجنّب الهيمنة أو التهميش، إلى مسار من التصارع على الحصص وعلى ما يُفترض أن تمليه بعض الخصائص الديموغرافية. والصلاحيات السياسية التي وُزّعت المناصب الرئيسية فيها على الموارنة والسنّة والشيعة لما قيل إنه توازن بين السلطات، تسللت إلى الإدارة والخدمات والاقتصاد، وصارت زبائنية تستجدي العصبيات وتستثيرها انتزاعاً لميزانية، أو لصفقة، أو لتعيينات.
فلسفسة التوافق، من طمأنة الجماعات إلى التصارع على الحصص.
والحيلولة دون استبداد أو استئثار طرف وحيد بالسلطة نتيجة المعادلات الطائفية، لم تمنع نشوء الأمر نفسه داخل كل طائفة، وخصوصاً بعد قيام الحرب الأهلية وانتشار مقولات من نمط "توحيد الصف"، أو "وحدة الطائفة"، بهدف شحذ الهمم لحظة الصراع، والدفاع عن"الحقوق" عند فرض التسويات والاتفاقات. وهذا الأمر جعل التمثيل السياسي ينحو بعد الحرب نحو احتكارات لتمثيل الطوائف، الأمر الذي كان يشعل التوتر المذهبي عند أي صدام بين محتكري تمثيل الطوائف.
والتوافقات التي نُصّ عليها عند تشكيل السلطة التنفيذية لضمان النصاب "الميثاقي" والقوام الوطني تحولت إلى مادة للتعطيل والابتزاز، ليس أكثر دلالة عليها من البطء الدائم في تشكيل الحكومات، ومن الفراغ المزمن في موقع رئاسة الجمهورية الذي لم يشهد انتخاباً عادياً واحداً له منذ سنة 1982، فالاجتياح الإسرائيلي يومها فرض رئيساً صرعه اغتيال ليحلّ شقيق الصريع مكانه. وعند انتهاء الولاية الرئاسية بعد ستة أعوام هيمن فراغ وتنازع على مشروعية الحكم، ثم انتخاب رئيس أراد التسوية والمصالحة فقُتل، ليُنتخب محله رئيس آخر جرى بعد ستة أعوام تعديل الدستور لتمرير التمديد له. وكان هذا الأمر فاتحة انتهاكات دستورية فرضها النظام السوري المهيمن، وتكرّست في سنة 1998 عند انتخاب قائد الجيش رئيساً، ثم في سنة 2004 تمديداً له، وتكراراً في سنة 2008 عند انتخاب قائد جيش آخر، وصولاً إلى فراغ رئاسي لم يُنهِه سوى انتخاب قائد جيش أسبق في سنة 2016، كان نفسه في سنة 1988، المرشح الخائب والإشكالي، أي قبل ثمانية وعشرين عاماً!
هذا كله جعل الداخل اللبناني، الواهن والمنقسم، شديد الهشاشة في علاقته بالخارج، وخصوصاً بالإقليمي، وعُرضة للاستخدام كساحة صراعات وتسوية حسابات، أو منطلق استقواء لتحسين حضور وانتزاع امتيازات، الأمر الذي دفع الأطراف الطائفية في لبنان إلى البحث دوماً عن رعاة خارجيين، ودفع الأخيرين إلى اختيار حلفاء لهم يتحولون عند الضرورة إلى عملاء معدومي السيادة على القرارات الأساسية. وقد تطور الأمر في الأعوام التالية لخروج النظام السوري من لبنان الذي كان، خلال احتلاله البلد واستباحته سياسياً وأمنياً ومالياً، مرجعية خارجية وحيدة مرضيّاً عنها (حتى سنة 2003 على الأقل) أميركياً وفرنسياً وسعودياً وإيرانياً، فتبع خروجه المبني على اغتيال رئيس حكومة، تنازع إيراني - سعودي ترجمه تنازع شيعي - سنّي على قيادة البلد بعد تراجع نجم مسيحييه (بسبب تهميش النظام السوري لهم بعد الحرب، وانحسار حضورهم الديموغرافي، وأوهامهم السياسية التي حلّت مكان الحسابات الدقيقة وما تقتضيه من مواقف).
حزب الله، أو فائض القوة التي لا يستقيم معها عقد سياسي
ولعل ما تكشفت عنه وقائع الأعوام التالية لسنة 2005 واصطفافاتها الكبرى بعد اغتيال الحريري، مواجهةً للنظام السوري، أو موالاة له، هو فائض قوة حزب الله المسلح، واستعداده لتوظيف الفائض المذكور ضبطاً للوضع اللبناني على الإيقاع الإيراني المتصاعد منذ اجتياح أميركا العراق وسقوط صدام حسين. فالاستناد الإيراني إلى حلفاء أقوياء في بغداد يتيحون عبوراً للتأثير الإيراني نحو الحليف السوري، ومنه إلى الحزب الشيعي اللبناني، وفّر لطهران تمدد نفوذ جغرافي، وعمقاً استراتيجياً، ووضعها على ضفاف المتوسط وعلى حدود إسرائيل. وكشفت حرب تموز / يوليو 2006 بين حزب الله وإسرائيل التموضع الإيراني هذا، وخطّ التّماس الإقليمي بين طهران وتل أبيب، كما أظهرت المقتلة السورية المستمرة منذ اندلاع الثورة الشعبية ضد نظام الأسد في سنة 2011، استماتة الحزب في نصرة حليف إيران في دمشق، ودفعه بآلاف مقاتليه إلى الحرب بعيداً عن حدود لبنان، وعن الصراع مع إسرائيل الذي هو حجة سلاحه المستمرة، وأصل مشروعيته الشعبية منذ نشأته وصعوده العسكري بعد الاجتياح الإسرائيلي وطوال أعوام احتلال إسرائيل للجنوب، وما تخللها من جولات حرب أهلية وتصفيات وتبدلات عميقة في البيئة الشيعية.
غير أن العبء الحزب إلهي على السياق اللبناني لا يتوقف عند ولائه الإيراني المترجم حروباً وبنية عسكرية تفوق في عدّتها وعديدها قدرات الجيش اللبناني، بل صار يتخطاه إلى تحكّم في مفاصل الأمن في البلد، وسيطرة على أكثر مواضع السلطة السياسية والإدارات العامة فيه، وخصوصاً بعد إيصاله حليفه الماروني ميشال عون إلى رئاسة الجمهورية، وتشكيله وسائر الحلفاء أكثرية نيابية تتيح تحكماً في السلطتين التشريعية (التي سبق أن عطلها لأعوام حين لم تكن الأكثرية إلى جانبه)، والتنفيذية. ويمكن لمراقب أن يقول إن في ذلك ترجمة أمينة لقوة الحزب ومهارته السياسية في توسيع شبكة المريدين له بين سائر القوى الطائفية اللبنانية، أو إن الولاء لطرف خارجي ليس حكراً عليه، فأبرز خصومه يوالون السعودية. هذا في الظاهر صحيح، لكن الفارق الذي يطيح بالصحة المشار إليها هو في السلاح واستخدامه الذي لا يملكه سواه، وفي الرابط الأيديولوجي الذي لم يشهد لبنان في تاريخه ما يوازيه، وفي متانة العلاقة المؤسساتية المادية بالمؤسسات الأم في إيران، كما في اعتماد الحزب السياسة كأداة حماية للعسكر ولشروط تفرّغهم للحروب الإقليمية.
وقد أظهرت التطورات السياسية اللبنانية المتسارعة منذ 17 تشرين الأول / أكتوبر 2019، يوم انطلاق الانتفاضة الشعبية ضد الطبقة السياسية ونظامها، وضد شريكة النظام في الإفلاس المالي – أي جمعية المصارف الخاصة – أن حزب الله ظل القوة السلطوية الوحيدة المتماسكة، وأنه شنّ هجوماً مضاداً على الانتفاضة واستخدم العنف وسيلة لقمعها، وحمى السلطة من الانهيار بعد استقالة الحكومة، فشكّل حكومة تُواليه، بعيداً عن فلسفة النظام التوافقية بتوازناتها ومراميها المتهالكة، فارضاً بالتالي (وللمرة الثانية خلال عقد بعد حكومة سنة 2011) إرادته الأحادية على سائر اللاعبين اللبنانيين.
بيروت ونهايات دورها العربي
في هذا كله، لم يبقَ من التوافقية التي افترض بعض مؤسسيها الفرنسيين واللبنانيين أنها السبيل الأفضل لحفظ كيان أقليات دينية عسير الولادة وصعب القيادة، سوى واجهة وآليات دستورية تُستخدم للتعطيل وفرض الاتفاقات حيناً، أو يجري تجاوزها بفائض قوة لم يعد يحتاج إلى شكلياتها حيناً آخر.
وفي المقابل، لم ينشأ نتيجة أفول التوافقية أفق سياسي بديل، أو مشروع تغييري أو إصلاحي محمول من قوى لبنانية قادرة على الكفاح لفرضه أو لفرض بعض بنوده على السلطة وحماتها، منذ هزيمة مشروع اليسار اللبناني المتحالف مع المقاومة الفلسطينية، مع اندلاع الحرب واجتياح النظام السوري للبلد ثم اجتياح إسرائيل له، على الرغم من عدة محاولات شهدتها بيروت طوال التسعينيات وأوائل الألفية الثانية. ولم تُحدث الثورات العربية التي قامت منذ سنة 2011، من تونس إلى مصر فليبيا وسورية والبحرين واليمن، صدمة إيجابية في لبنان، أو تعديلاً في موازين القوى السياسية يسمح بطرح بدائل، على الرغم من حملات شعبية من نوع "طلعت ريحتكم" في سنة 2015، وتجارب انتخابية نقابية أو محلية مثل "بيروت مدينتي" وغيرها خلال انتخابات سنة 2016 البلدية.
في الوقت نفسه، تفاقمت مع اللجوء السوري إلى لبنان، بعد مجازر النظام الأسدي وحلفائه، مظاهر عنصرية كان الفلسطينيون والعمال والعاملات الأجانب ضحاياها في السابق، فتوسعت، وبدا الانحطاط السياسي موازياً لانحطاط سلوكيات في أكثر من منطقة، ولتمادٍ في التردي الاقتصادي المالي الذي أشار اقتصاديون إلى قرب تسبّبه بإفلاس جرّاء الإيغال في خيارات الاستدانة وتزايد عجز الموازنة وتفشي الفساد وتوقف النمو وارتفاع معدلات البطالة.
ومع ذلك كله، بقي للفعل الثقافي في بيروت دور يعوّض أحياناً عن غياب البديل السياسي فيها. فعلى الرغم من إقفال صحف ونوادٍ ثقافية ومسارح وصالات معارض وسينما، فإن المدينة استمرت في احتضان أنشطة إبداعية ولقاءات فكرية وأدبية وحقوقية متنوعة، كما ظل للحريات العامة والخاصة حيّز لم تقوَ عليه الرقابة الطائفية والأمنية. وهذا الأمر يذكّرنا بحقبات مشابهة شهدتها المدينة، في ظروف سياسية صعبة (ومختلفة)، في مطلع سبعينيات القرن الماضي، أو في أواسط تسعينياته.
غير أن تراكم الأزمات حاصر الفعل المذكور، فدور بيروت العربي والمتوسطي الذي وفّر لها على مدى عقود، العديد من مقومات الرفاه والنمو والحيوية وجذب الاستثمارات، والتي لا تحيا مدينة كوسموبوليتية وتتوسع من دونها، انحسر بالتدريج جرّاء أحوالها الأمنية المتوترة والقلقة بعد سنة 2005، ونتيجة سطوة حزب الله على الاجتماع السياسي فيها، وكذلك نتيجة انتقال المراكز الإعلامية والبحثية والاستشفائية، ومعها المعارض والمؤتمرات التي كثيراً ما أقامت فيها، إلى مدن خليجية (في قطر والإمارات) يبحث حكامها المتنابذون عن أدوار إقليمية، وعن نفوذ يبزّ نفوذ الشقيق السعودي الأكبر وعدوّه الإيراني. كما أن تصاعد الصراعات الدموية في المنطقة وعليها، وبروز داعش، واستجلاب أنظمة لتدخلات روسية وأميركية، ونزوح الآلاف من العاملين (والمستهلكين) في قطاعات الفنون والثقافة عامة، من العراق وسورية ومصر إلى أوروبا، أمور حرمت هذه المنطقة من حيويات كثيرة، وزاد الطين بلّة محاولات القمع والتدجين الفكري المنبعثة من الثورات العربية المضادة وصانعيها.
وإذا عطفنا على مجمل ما ورد، الهجرة الاقتصادية الشبابية من بيروت، وخصوصاً بعد سنة 2015، وتوقّف المساعدات الخارجية لأسباب عقابية سياسية، أو لاشتراط القيام بإصلاحات لم تحدث، أو لانخفاض في أسعار النفط وعائداته، وتراجع التحويلات بالعملة الصعبة واستمرار السرقات والهدر وسياسات الهندسات المالية في لحظة هبوط صادرات وتهريب أموال، لوقفنا على أسباب الانهيار الاقتصادي المروع في سنة 2019، والذي أطاح بكثير من ودائع الناس المصرفية وقدراتهم الشرائية وجعل أيامهم كوابيس، على الرغم من محاولات جيل بيروتي ولبناني جديد التصدي للأمر وإطلاق انتفاضة حاصرتها الظروف لاحقاً (مثلما حاصرت مثيلاتها في العراق والسودان والجزائر).
في الخلاصة، عمّم انفجار مرفأ بيروت الذي هو رئة لبنان الاقتصادية الأساسية وصِلته الأولى بالعالم المتوسطي (وواحد من أبرز موانىء المشرق منذ نكبة فلسطين ومرفأ حيفا)، الإحساس بالموت لبنانياً، وجعله واقعاً وحشياً تجسده الدماء وأشلاء الأرصفة والمباني المتداعية مثل الدولة نفسها وأجهزتها التي نهشها الفاسدون المتحكمون فيها.
ولا يطوي الانفجار بهذا المعنى صفحة في حياة المدينة والبلد فحسب، بل يدفنها أيضاً تحت ركام لا سبيل لإزاحته إلّا باستئناف الانتفاضة وفك الحصار عنها، وبتعديل موازين قوى يسمح يوماً بولادة أمل، أو بصيص نور جديد.