في إحدى ليالي كانون الثاني / يناير سنة 1904 وقع حريق كبير التهم كازاخانة بيروت في محلة المدوّر، وما لبث أن وصل إلى المباني والقصور المجاورة، وقضى على أجزاء كبيرة من الأحياء الواقعة بين هضبة الأشرفية والبحر.
والكازاخانة كلمة معربة عن اللغة التركية تعني مستودع الكاز وهي مادة المحروقات الأساسية التي كانت تُستعمل في ذلك الوقت للحاجات اليومية من إنارة وتدفئة وطبخ. ويعود أصل الاسم إلى كلمة "خانة" الفارسية الأصل، والتي تعني "بيت"، واستعملها الأتراك لتدل على اسم مكان، مثل: "الجبخانة" أو مخزن الذخيرة والأسلحة؛ "الجزخانة" أو الصيدلية؛ "الكرخانة" أو المحل الأسود، والتي كانت تُستعمل للدلالة على معامل الحرير، وتحولت بعد ذلك لتعني بيوت الدعارة.
كان مقر الكازاخانة في المدور يضم مئات البراميل الضخمة التي نقلتها السفن وأُفرغت في مرفأ بيروت، والتي كانت تكفي لتغطية حاجات المدينة لعدة أشهر. وكان يحضر البائعون إلى هذا المكان مع خزاناتهم التي تجرها الحمير ليوزعوها بالمفرق على سكان المدينة. ويقال إنه حدث في إحدى ليالي كانون الثاني / يناير العاصفة أن سقط قنديل في إسطبل الحمير التابع للكازاخانة، فانتشرت النيران بسرعة وامتدت إلى مستودعات الكاز وأحرقتها. واستمر الحريق يومين قبل السيطرة عليه، ولم يسلم من الأحياء المجاورة سوى كنيسة مار مخايل لأنها كانت تنتصب وحدها وسط ساحة، ولا تتصل بأي مبانٍ أُخرى.
كان لهذا الحريق وقع كبير على سكان بيروت، فحُرمت المدينة من الكاز لأشهر طويلة، وسُجلت الحادثة في قيود النفوس، إذ حمل بعض هذه القيود عبارة "يوم حريق الكازاخانة"، بدلاً من تاريخ الميلاد. وكان ذلك في عهد والي بيروت العثماني إبراهيم خليل باشا الذي كان من الجنسية الألبانية. ويقال إنه أراد أن يحسّن صفحته لدى البيروتيين بعد المصيبة التي أصابتهم، فأسس معهداً لتعليم الشباب البيروتي المهن والحِرف والصناعات والمحاسبة، شُيّد في منطقة حي الرمال على مقربة من وسط المدينة، كما افتتح حديقة عامة في المحلة نفسها سُميت منذ ذلك الحين بحديقة الصنائع.
استمرت ولاية إبراهيم خليل باشا حتى سنة 1908، وخلفه محمد علي بك الذي لم تطل مدة ولايته سوى تسعة أيام، إذ جرى عزله في إثر ثورة "تركيا الفتاة" التي أدت إلى خلع السلطان عبد الحميد الثاني وإعلان دستور "المشروطية" الثانية. وكان محمد علي بك هذا آخر والٍ من أصل غير تركي، ليتعاقب على بيروت منذ ذلك الحين ولاة أتراك مقربون من جمعية الاتحاد والترقي. فعُيّن في سنة 1915 الوالي عزمي بك الذي كان يشغل منصب متصرف لواء طرابلس وقبل ذلك مدير شرطة إستانبول. وقد اشتهر هذا الأخير بشغفه بشق الشوارع المستقيمة في أحياء المدن الآهلة. ويقال إنه كان يرتاد مقهى التل العالي في ساحة المدينة المركزية عندما كان متصرفاً للواء طرابلس، فقرر إنشاء شارع عريض يربط الساحة بمحطة القطار ويصلها مباشرة بالميناء. ولا يزال هذا الشارع يُسمى حتى الآن شارع عزمي.
وبعد انتقاله إلى بيروت أطلق عزمي بك مشروعاً أكثر طموحاً لإنشاء سوق حديثة، ولتحقيق ذلك أمر بهدم ثلثَي المدينة القديمة من البحر شمالاً حتى محلة عسّور جنوباً. وجاء في جريدة "لسان الحال" في 22 كانون الثاني / يناير 1914 أنه تم "إنشاء شركة لهدم المدينة القديمة من الميناء إلى سوق النجارين، فالسور، فباب الدركه، فالميناء، لتكون بيروت بأسواقها على نسق أوروبي باتساع الطرق والأرصفة." ونظمت بلدية بيروت احتفالاً حضره الوالي ورؤساء الأديان وكبار المأمورين والأعيان، ويقال إن عزمي بك استخدم في هذا الاحتفال معولاً ذهبياً لهدم أول حجر من أبنية أسواق بيروت القديمة.
وترافق تدمير المدينة القديمة مع انتشار المجاعة التي عمّت بيروت وجبل لبنان بعد أن ضربت الأساطيل البريطانية والفرنسية الحصار على موانىء الساحل السوري واللبناني، وبعد أن قامت السلطات العثمانية بتبنّي سياسة احتكار المواد الغذائية ومنع التجارة بالقمح والحبوب. ويقال إن بعض الأعيان والتجار، وأيضاً بعض الجميلات من النساء البيروتيات، تمكنوا من الاستحصال على تصاريح من الوالي عزمي بك لإحضار مواد غذائية من الداخل السوري، فارتفعت الأسعار ارتفاعاً جنونياً واغتنى البعض، بينما كانت الأغلبية الساحقة من السكان تعاني الجوع والفقر، وشبح الموت يحصد الأرواح بسبب انتشار الأمراض والأوبئة.
بعد سقوط السلطنة العثمانية دخلت القوات الإنجليزية والفرنسية إلى شواطىء بيروت، فوجدت نفسها في وسط شبه مدمر، ونسيج مديني فقد تماسكه. فارتكزت سياسة سلطات الانتداب الفرنسي في سورية ولبنان على التجربة التي تراكمت لديها في المغرب العربي خلال أكثر من قرن من الزمن، والتي أنتجت النمط الكولونيالي لتخطيط المدن.
وانطلاقاً من الخروقات التي أحدثتها السلطات العثمانية في نسيج المدينة القديمة، شقت السلطات الفرنسية الشوارع الرئيسية التي حملت أسماء قادة الجيوش المنتصرة: شارع الجنرال أللنبي الذي قاد جيوش الحلفاء في مواجهة الجيش العثماني في فلسطين وسورية، وشارع فوش وهو المارشال الفرنسي الذي تسلّم في قطاره الخاص أوراق الهزيمة من القيادات الألمانية في نهاية الحرب العالمية الأولى، وشارع باسم مساعده الجنرال ويغان في مكان سوق الفشخة القديمة. وعلى أنقاض النسيج القديم أُنشئت ساحات جديدة: ساحة النجمة التي صُممت بحسب نظام شعاعي يحاكي بشكل مصغر ساحة النجمة الباريسية، وساحة عسّور التي نُظمت بعد تدمير أسواق الجملة التي كانت قد أنشئت على أطراف المدينة القديمة بين باب يعقوب، وباب الدركة، وساحة البرج التي أعيد تخطيطها على طراز حديقة فرنسية كلاسيكية، والتي سُميت ساحة الشهداء تكريماً للوطنيين السوريين واللبنانيين الذين أعدمهم جمال باشا.
وبعد أن أعلن الجنرال غورو قيام دولة لبنان الكبير في أيلول / سبتمبر 1920، وُضعت أسس النظام السياسي القائم على توزيع المناصب الأساسية في أجهزة الدولة بنسب محددة بين الطوائف، وهذا النظام الذي كرسه بعد الاستقلال ميثاق وطني غير مكتوب، جرى على أساسه تنظيم الحكم في البلد منذ سنة 1943. وقد أدخل هذا النظام البلد في سلسلة من الاضطرابات أظهرت هشاشة التركيبة السياسية التي أنتجها، كما أظهرت عجز هذه التركيبة عن تأمين أسس السلم الأهلي المستدام. فبعد أحداث سنة 1958، وفشل التجربة الشهابية، دخلت البلاد منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي في أتون حرب أهلية أنهكت قواها وأسفرت عن مقتل نحو مئة وعشرين ألف إنسان معظمهم من المدنيين، ونزوح المليون تقريباً.
وكان لبيروت نصيبها من الحرب الأهلية، فتحولت إلى مسرح لمعارك ومواجهات مسلحة كانت تتجدد باستمرار. وتسبب انفجار العنف في وسط بيروت ببتر المدينة عن قلبها لتصبح شبيهة باستيهام رولان بارت في كتابه "إمبراطورية الإشارات": "مدينة تدور حول مكان محظور تحجبه الأشجار، يسكنها إمبراطور مجهول لا يراه أحد، حلقة كثيفة من الأسوار والسطوح لم يعد مركزها سوى فكرة متبخرة."
من هذا الثقب الأسود الذي غطى وسط المدينة كان يمتد خط فاصل على طول طريق الشام القديمة؛ جدار رمزي يقطع بيروت إلى شطرين، وتخترقه بوابات كانت تُفتح أحياناً لتبادل السلع والتنقل من شطر إلى آخر، ثم تُقفل لتتحول إلى مصيدة للمارة عند اشتداد المعارك. هذا العنف فتّت حيز المدينة التي أحكمت الميليشيات سيطرتها على الأجزاء المبعثرة منها، واستقطعت مناطق نفوذها الطائفية التي راحت تنغلق على نفسها بالتدريج.
بلغ العنف ذروته خلال الاجتياح الإسرائيلي للبنان في صيف سنة 1982، فصمدت بيروت أربعة أشهر في وجه حصار أطبق عليها من البر والبحر والجو، بينما أمسك سكانها بمدى مدينتهم لتحويله إلى فضاء مقاوم. وعلى الرغم من عدم التكافؤ في القدرات العسكرية بين المدافعين عن المدينة ومقتحميها، فإن بيروت اختارت أن تقاوم الغزاة على أمل بأن تنعكس دائرة الصدمة في جميع أنحاء العالم العربي لتخرجه من جموده، إلّا إن العالم العربي كان قد دخل في مرحلة العجز الكامل بعد اختلال التوازنات، نتيجة خروج مصر من المعادلات الإقليمية، وتخبّط العراق في مستنقعات حربه مع إيران، وانتقال نقطة الثقل نحو دول الخليج النفطية التي جددت ولاءها للسيطرة الأميركية. فأتت مجازر صبرا وشاتيلا، وسقوط أول عاصمة عربية في نهاية هذا الصيف الطويل، لتُعلن نهاية مرحلة كاملة من تاريخ العرب الحديث.
ما إن استفاق أهل بيروت من كابوس الحرب في خريف سنة 1990 حتى شاهدوا جرافات الإعمار تقضي على ما تبقّى من ذاكرة وسط مدينتهم. فبعد أن سُلّم إعمار هذا الوسط إلى شركة عقارية خاصة، جرى تدمير أحياء بأكملها، ومُنع سكانها من العودة إليها، وتحول قلب العاصمة إلى قلعة للأثرياء معزولة عن محيطها. ولم يسلم من النسيج القديم سوى الأحياء التي أعيد إعمارها على أنقاض المدينة العثمانية في إبان الانتداب الفرنسي، فتم تأهيل هذه الأحياء عبر إخراج مسرحي يدّعي الحفاظ على التراث، لكنه يُخفي في داخله عملية ممنهجة تؤدي إلى اغتيال هذا التراث.
لقد ارتكز مشروع الإعمار على سلام ناقص قائم على تسوية بين أمراء الحرب وأثرياء البترول، فآل على نفسه محو آثار الحرب للانتقال نحو أفق جديدة. إلّا إن هذا المشروع لم يؤدّ في الحقيقة سوى إلى تكريس ما أنتجته الحرب من تجزئة لحيز المدينة، بل أعاد إنتاج شروط اندلاع حروب جديدة عبر إنكار ذاكرة المدينة المجروحة، بما في ذلك ذاكرة العنف الذي اجتاحها.
اليوم، وبعد سقوط جميع الأوهام التي ارتكز عليها هذا المشروع، من صفقات سلام في المنطقة تعيد إلى بيروت الدور الذي فقدته كمركز تجاري ومالي وسيط بين الشرق والغرب، بينما تسمح الهيكليات المالية بتحويلها إلى ملاذ لأمراء الخليج، أصبح قلب المدينة الذي هُدم وأُعيد إعماره جسماً ميتاً لا تدبّ فيه الحياة إلّا حين ينزل إليه المتظاهرون ليسجلوا على جدرانه المهجورة علامات غضبهم.
*****
هكذا، يمكن اختصار تاريخ بيروت الحديث بأنه تاريخ دمار يعيد نفسه باستمرار، ويؤسس عبر تكراره لشروط دمار جديد. في هذا السياق الشبيه بالتراجيديا الإغريقية تندرج الفاجعة التي أصابت المدينة جرّاء انفجار المرفأ في 4 آب / أغسطس 2020، والتي طالت أحياء المدور والكرنتينا والبدوي ومار مخايل والرميل والجميزة ومار نقولا، وامتدت إلى برج حمود والأشرفية والباشورة وزقاق البلاط وصولاً إلى سائر أحياء المدينة، مخلفة وراءها تدمير ما يقارب مئة مبنى تدميراً كاملاً، وتهديد أكثر من مئة مبنى آخر بالسقوط، كما أدت إلى تهجير عشرات الآلاف من سكان المنطقة.
وإذا تمعنّا في قراءة تسلسل محطات الدمار، من حريق الكازاخانة إلى انفجار المرفأ، يتبيّن لنا أن كل محطة من هذه المحطات كانت تأتي لتعلن نهاية مرحلة، كأن قدر مدينة بيروت أن ترسل عبر دمارها إنذارات بقرب حدوث تحول جذري في تاريخ المنطقة: فحريق كازاخانة المدور أتى ليعلن قرب نهاية نظام الحكم المطلق في السلطنة العثمانية والدخول إلى الحقبة الدستورية بعد نجاح ثورة "تركيا الفتاة"؛ ودمار بيروت القديمة على يد الوالي عزمي بك كان إنذاراً بسقوط الدولة العثمانية وتقسيم المنطقة العربية وفقاً لمعاهدة سايكس - بيكو؛ أمّا العنف الذي اجتاح بيروت خلال سبعينيات القرن الماضي، واحتلالها من طرف الجيش الإسرائيلي، فأتيا ليعلنا نهاية الحلم الذي كانت تحمله حركة التحرر الوطني العربية، ودخول المنطقة في دوامة رقصة الموت بين الغطرسة الإسرائيلية والشراهة النفطية والأصولية الدينية؛ أمّا جرافات الاعمار التي قضت على ذاكرة قلب بيروت فكانت دلالة على خضوع العالم العربي الكامل لنظام العولمة النيوليبرالي، وتخلّيه عن آخر شعارات التحرر الاقتصادي والتقدم الاجتماعي.
يدور التاريخ على نفسه كأنه يعيد تكرار الحكايات نفسها، وكأن خرائب كل مرحلة من مراحل الدمار تتراكم فوق رواسب المراحل السابقة لتشكل ذاكرة المدينة. لكن بيروت مدينة لم يعد لها ذاكرة. مَن يتذكر اليوم حادثة حريق الكازاخانة التي قضت على كامل الأحياء الواقعة تحت هضبة الأشرفية، والتي كانت قد سُجلت ذكراها في سجلات نفوس سنة 1904 المشؤومة؟ مَن يتذكر حارات بيروت القديمة التي دمرها مشروع عزمي بك واستبدلها الانتداب الفرنسي بتشكيلات كولونيالية بُنيت على أنقاض نسيج المدينة التاريخي؟ وماذا بقي من ذاكرة وسط بيروت الذي كنا نسميه "البلد"، والذي كان يتسع لجميع فئات المجتمع، سوى بعض الأجزاء التي فُصلت عن جسم المدينة فتحولت إلى نعوش فارغة تشهد على موت المدينة؟
*****
عندما انفجرت القنبلة النووية التي أصابت مدينة هيروشيما في السادس من آب / أغسطس 1945، دُمرت المدينة بشكل كامل ضمن دائرة بلغ قطرها نحو أربعة كيلومترات. وانفجرت القنبلة فوق مبنى مخصص لعرض المنتوجات الصناعية يسمى مبنى غنباكو، لم يبقَ منه بعد الانفجار سوى بعض الواجهات المدمرة والهيكل المعدني للقبة البيضاوية التي كانت تعلوه.
في سنة 1996 أُدرج هذا المبنى على لائحة التراث العالمي لمنظمة اليونسكو كمعلم إنساني يشهد على هول الانفجار النووي، ويرمز إلى الأمل بألّا تتكرر مثل هذه الكارثة.
ألم يحن الآن وقت استعادة الذاكرة المفقودة لبيروت عبر الحفاظ على أهراءات القمح التي تنتصب على مقربة من موقع انفجار المرفأ بصومعتها المشوهة وجسمها الخرساني المجروح؟
إنه لواجب علينا أن نعمل على المحافظة على هذه الأهراءات مثلما خلّفها الانفجار كشهادة ليس فقط على هول فاجعة الرابع من آب / اغسطس 2020، بل على تراجيديا الدمار التي تأسس عليها تاريخ بيروت الحديث أيضاً، وكرمز لقدرة المدينة على الصمود، وعلى عودة الحياة إلى جسمها المجروح.
أهراءات بيروت بعد الانفجار