درجت بيروت على أن تكون ديكوراً للأفلام، لكن شيئاً ما تغير ودعاها لتلعب دور الأبطال أو الأبطال المضادين. ذاك هو الدور الذي خصّها به مارون بغدادي في الفيلم الذي قدّمه في نهاية تخرجه من المعهد العالي للدراسات السينمائية في باريس. صُور الفيلم "بيروت يا بيروت" عام 1974، من دون ميزانية كبيرة بالاشتراك مع الممثل المصري الكبير عزت العلايلي. موضوع الفيلم نقد يوجهه شاب يناهز الخامسة والعشرين من العمر إلى مدينته العاجزة عن تفهّم هواجس أبناء جيله السياسية والفكرية والثقافية والفنية والوجودية والجنسية، والمفتوحة رغم ذلك على جميع الاحتمالات. إنه فيلم الوداع، شهادة استثنائية عن اللحظة التي سبقت السقوط. "بيروت يا بيروت" يصور مدينة أُخرى مختلفة عن تلك التي طالعناها من خلال العديد من الأفلام المصرية العاطفية أو الأفلام البوليسية الطويلة الأوروبية والأميركية. ولنا أن نلمح فيه منذ ذلك الحين هذا المزيج من التشنج والخفة اللذين سيكشف عنهما لاحقاً، في زمن الحرب، المخرج الألماني فولكر شلوندورف (Volker Schlöndorff) في فيلمه "المزوّر"، والمخرج الجزائري فاروق بلوفة في فيلمه "نهلا". وهذا قبل أن يرسم مارون بغدادي نفسه لوحة عن بيروت تتميز بقدر أكبر من العبثية في فيلمه الروائي الثاني "حروب صغيرة" عام 1982. لكن العنف يوم صُوّر "بيروت يا بيروت" لم يكن قد كشف عن نفسه بعد. صحيح أن مارون بغدادي استشعر نهاية قريبة للمدينة، ولكن همه الأساسي في الفيلم كان التعبير عن طموحات جيل يسعى إلى التغيير ويتبنّى، كالمخرج، جميع طروحات اليسار.
لم يكن مارون بغدادي يغالي في تصويره المختلف لبيروت. اتخذت بيروت في فيلمه، بالرغم من كونها قلعة الاستهلاك والليبرالية الاقتصادية، هيئة مدينة يسارية، على الأقل في مظهرها الخارجي. وكانت التظاهرات والمسرحيات والإضرابات ومعارض الرسم تعطي الانطباع بأن الهواء نفسه بات ثورياً. وفي كلية الآداب العليا، كان أبناء المعجزة اللبنانية والطبقة المسيحية الفرانكوفونية يحتسون الشمبانيا احتفالاً بالنصر النهائي للماريشال الفييتنامي جياب.
وجب على صراع الطبقات أن يُمحى ويحتجب لصالح الصراع الطائفي، فالتاريخ يعيد نفسه، كما في القرن التاسع عشر، حين لم تسفر ثورة طانيوس شاهين عن شيء. عبثاً استرعت هذه الثورة انتباه كارل ماركس، فكل ما فعلته هو أنها مهّدت لاندلاع الحرب الأهلية بين الدروز والموارنة في الجبل. قرن مضى على هذه الأحداث وبدا المشهد الطائفي معه للبنان، الذي توسّعت حدوده، أكثر تبايناً، وبدت مسارات الانحراف أكثر تعدداً. كما أن المقاومة الفلسطينية، من خلال وجودها على الساحة اللبنانية، بلورت رؤية للعالم معادية للإمبريالية بشكل جذري، داعية إلى قيام "فييتنام وفييتناميين وعدة فييتنامات"، لكنها خلقت في الوقت نفسه تناقضات أُخرى ارتدادية إلى أبعد الحدود بين المسيحيين والمسلمين. أشارت الأحداث الراهنة إلى شرخ عميق يلوح في الأفق، لا بل ينذر بحرب أهلية وشيكة. حتى لو لم تكن الأمور معلنة بوضوح، بدا بليغاً جداً التداول الذي شهدته، قبل أشهر قليلة من اندلاع الحرب، كلمة "قبرصة" التي راجت بُعيد تقسيم جزيرة قبرص المجاورة بعد اجتياح الأتراك لها صيف 1974.
لم يلجم هذا العيش تحت فوّهة البركان حماسة هؤلاء الذين عارضوا حالة الجمود القائمة، ولا اندفاع هؤلاء الذين ينوون الحفاظ عليها مهما كلّف الأمر، ولا عدم مبالاة أهل بيروت الغارقين في الثروة والملذات. وإذا تمعنا في قراءة الصحف الصادرة في تلك الفترة لرأينا أن البلاد والمدينة تحدوهما رغبة عارمة في السير في جميع الاتجاهات في آن.
مستثمَراً من جميع القوى الاقتصادية والاجتماعية والأيديولوجية التي كانت تُخضعه لها انطلاقة بيروت، بدا لبنان، بعد مرور ثلاثة عقود على استقلاله، بلداً يخوض غمار معركة تغييرات شاملة تتعدى حدود نظامه الضيقة. ومنذ أواسط الستينات، أشارت دلائل كثيرة، رغم صعوبة الاستدلال عليها مباشرة، عن هذا السعي لإيجاد أنماط جديدة للتعبير، وعن مسار لتجديد المجال السياسي - لكنه بقي عقيماً. ثمة ظاهرة عصية على الوصف تقريباً تتحكم بصورة هذه الدينامية الجديدة وتعبّر عنها أكثر من الوقائع الملموسة، وهي هذه الشهية المتنامية باطراد للسياسة، وقد أضاء عليها فيلم "بيروت يا بيروت"، والتي وسمت بطابعها قطاعات شتى من الحياة الاجتماعية، بدءاً بالمجال الثقافي.
فورة ثقافية
من بين آلاف المسارات الفنية، يبدو مسار روجيه عسّاف الأبلغ تعبيراً عمّا جرى في المجال الثقافي. روجيه عساف هو أحد أكبر وجوه المسرح في لبنان، ولا يزال في أوج عطائه مع إطلالة القرن الواحد والعشرين. متحدراً من عائلة مسيحية متغربنة تنتمي إلى الطبقة الوسطى - مثل مارون بغدادي الأصغر سناً منه - ومن أم فرنسية، كاد لا يعرف التحدث بالعربية في شبابه. وكان يؤدي أدواره بالفرنسية في بداية عمله كممثل في أواسط الستينات، سواء في إطار النشاطات المسرحية للشبيبة الطلابية الكاثوليكية، أم في التلفزيون لاحقاً. ولم تكد تمرّ بضع سنوات حتى صار اسمه على ألسنة الناس عام 1968، عندما أخرج مسرحية مجدلون التي كتب نصها هنري حاماتي، أحد مثقفي الحزب السوري القومي الاجتماعي، وقامت بلعب دور البطولة فيها نضال الأشقر، ابنة أسد الأشقر أبرز زعماء الحزب نفسه. منعت قوى الأمن المسرحية بالقوة في المساء الأول لعرضها لأنها تندد بالموقف السلبي الذي اتخذته الدولة حيال ما يجري في الجنوب وتدعوها لدعم المقاومة الفلسطينية. فما كان من الفرقة إلّا أن انتقلت مع جمهورها إلى مقهى الهورس شو حيث قدمت "مجدلون" وسط المشاركة العفوية للحضور، وبقي هذا المشهد إحدى اللحظات الأكثر تأثيراً في ذاكرة بيروت الثقافية. من بعدها، سعى روجيه عساف لإقناع الممثل الكوميدي الكبير شوشو أن يلعب تحت إشرافه دور البطولة في مسرحية "آخ يا بلدنا"، وهي مسرحية تتسم بنبرات شعبوية. ولاحقاً، اعتنق روجيه عساف الإسلام وفُتن بالثورة الإيرانية فجعل من نفسه المدافع الشرس عن المزارعين الشيعة في جنوب لبنان. ثم استلهم الرؤية المسرحية المبدعة التي وسمت مسرح آريان منوشكين Théâtre du soleil، ليستعيد بعد الحرب نفساً مدينياً، لكن مع الإبقاء على وفائه الدائم لقضايا المحرومين.
وفي تتبّعنا لمسار روجيه عساف والمبدعين الآخرين أبناء جيله، نرى أن اللحظة الفصل لانجلاء الأمور كانت الهزيمة العربية عام 1967. عندئذ اجتاح النزاع الإسرائيلي - العربي المشهد الثقافي وأعاد إحياء المشاعر المكبوتة إلى العلن. حتى ذلك الحين، كانت بيروت جمهورية الآداب العربية تمثل جزءاً من المشهد البيروتي الثقافي فباتت بدءاً من تلك اللحظة، لحظة وعي الهزيمة، تمثله على أكمل وجه. كانت الحياة الثقافية في بيروت، وهي حياة لم يغب عنها البعد السياسي، تتلاءم بامتياز مع موجة التساؤلات العارمة التي أثارتها الهزيمة. وبفضل عزيمة جانين ربيز، التي لم تحل أصولها البورجوازية دون حملها لقب جانين الحمراء، استضافت دار الفن، بالإضافة إلى معارض الرسم الكبرى، ندوات احتدّت فيها السجالات وعبّرت جلياً عن سيطرة اليسار على المشهد الثقافي. لم تكن الإنتليجنسيا وحدها المعنية بالتغيير الحاصل، بل كان الجمهور يتابع أيضاً ما يجري. والدليل على ذلك تطور المسرح في اتجاه مضمون سياسي معلن اجتذب إليه فنانين شعبيين.[1] آنذاك، اقتبس جلال خوري، رفيق درب الحزب الشيوعي - ووالده كان الخياط الشيوعي المشهور للطبقة البيروتية الراقية - مسرحية أرتورو أوي (Arturo Ui) من ضمن رؤية تنطبق على النزاع الإسرائيلي - العربي. ثم حقق نجاحاً لافتاً في مسرحيته التي أعادت إحياء شخصية جحا الشعبية للتنديد بما يجري في جنوب لبنان. أمّا مسرح ريمون جبارة، الذي آثر العبثية، فأجاب عن الأسئلة الكبرى المطروحة آنذاك دون أن يتوسل الخطاب السياسي المباشر.
ولم تكن جمهورية الآداب بمنأى عن التداعيات. أثار نشر كتاب الفيلسوف السوري صادق جلال العظم "نقد الفكر الديني" في بيروت فضيحة، وهو أحد الكتب الذي يطرح على بساط البحث المسائل الجوهرية في الثقافة العربية. صودر الكتاب بإيعاز من المراجع الدينية، ولم تنجح التعبئة التي أعقبت هذا الإجراء في رفع الحظر عن الكتاب، لكنها أرغمت على الأقل الرقابة السياسية على التراجع. والدليل على ذلك استمرار الأعمال الجسورة في المسرح والنشاط المحموم لدور النشر. فبالرغم من سابقة صادق جلال العظم، كان جوهر السجالات الجارية في العالم العربي ينعكس في إصدارات الناشرين في بيروت التي اتسمت بصبغة يسارية واضحة، الأمر الذي صنع شهرة دور النشر الناشئة كدار الطليعة التي يملكها البعثي بشير الداعوق، ودار ابن خلدون بإدارة محمد كشلي، وهو عضو قديم في حركة القوميين العرب وانضمّ لفترة وجيزة إلى منظمة العمل الشيوعي في لبنان. أمّا دار الفارابي فكانت تابعة للحزب الشيوعي اللبناني، وحاولت انطلاقاً من خطّها الماركسي التقليدي منافسة الدُّور الأُخرى. ونجحت في جعل نشاط الحزب يمتد إلى خارج الحدود اللبنانية. وانضم إلى دُور النشر هذه المؤسسة العربية للدراسات والنشر بإدارة المؤرخ الفلسطيني عبد الوهاب الكيالي. وفي غضون ذلك، كان مركز الأبحاث الفلسطيني التابع لمنظمة التحرير ومؤسسة الدراسات الفلسطينية، وهي مؤسسة مستقلة، أطلق سجالات حادة من خلال ترجمات نُقلت عن العبرية ومنشورات تضع في أولوياتها معالجة تطور إسرائيل والصراع الإسرائيلي - العربي. وفي كلتا المؤسستين، كان البحّاثة اللبنانيون والفلسطينيون يعملان معاً لدرجة أنه لم يعد بالمستطاع التمييز بينهم. ولاحقاً اجتذب المعهد العربي للإنماء الذي تموّله ليبيا بحّاثة لبنانيين آخرين من بينهم وضاح شرارة وأحمد بيضون وهما قطبان عتيدان من أقطاب المشهد الثقافي والفكري، لكن لن يتسنى الوقت لهذا المعهد بالشروع في أعماله قبل اندلاع شرارة الحرب. كما سعت سلسلة من المجلات إلى تقديم أجوبة على الأسئلة الكبرى التي أعقبت هزيمة 1967، وتحديداً مجلة "الطريق" وهي الناطقة بلسان الحزب الشيوعي، و"دراسات عربية" و"الفكر العربي المعاصر" و"مواقف" برعاية الشاعر أدونيس بعد تركه مجلة "شعر"، حيث الإبداع الأدبي يسير جنباً إلى جنب مع الهموم الفلسفية.
أضحت بيروت مركزاً للنشر العربي بحيث اجتذبت إليها معظم الأدباء والفنانين. لا شك أن مقهى الدولتشي فيتا فقد بريقه. فعندما تسلّم حزب البعث السلطة في دمشق وبغداد، لم تعد بيروت مركز الجاذبية للحزب كما كانت حين أقام فيها ميشال عفلق لمدة طويلة. صحيح أن البعثيين المتمردين في صفوف الحزب قصدوا بيروت كلاجئين سياسيين، لكن وحشية النظامَين اللذين استلما الحكم وقدرة أجهزتهما الاستخبارية على التدخل في لبنان دفعتا المنفيين إلى العمل في الخفاء. ويشكل اختطاف الصحافي الشهير في جريدة "النهار" ميشال أبو جودة، الذي غالباً ما كان ينتقد النظام السوري، دليلاً ساطعاً على قدرة التدخل هذه التي تمتع بها الموالون لحزب البعث أو الذين يعملون لمصلحته. لكن القدرة على المواجهة التي تمتعت بها المقاومة الفلسطينية عوّضت إلى حد كبير عن الفراغ الذي خلقه حزب البعث فضمت إلى صفوفها، في بيروت وفي المؤسسات التابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية في معظم الأحيان، مفكرين ومناضلين وافدين من تونس والمغرب والسودان والعراق ومصر. ولا يمكن إغفال الحديث عن الفلسطينيين أنفسهم، من أمثال محمود درويش الذي غادر حيفا عبر طريق موسكو - وكان إلى ذلك الحين عضواً في الحزب الشيوعي الإسرائيلي. لم تتعدَّ إقامته في القاهرة بضعة أشهر، ثم أتى ليقيم في بيروت عام 1972 حيث أمضى عشر سنوات تجاوز خلالها لقب شاعر المقاومة ليصبح أحد أهم الأصوات الشعرية في نهاية أواخر القرن المنصرم بعد أن أتاحت له الإقامة في بيروت أن يتشبع بجوّها التوفيقي المذهل كما تدلّ عليه آثاره المطبوعة في بيروت ولاحقاً في باريس.
غدت صحافة بيروت صورة مصغّرة عن عالم مصغّر، ومهيأة سلفاً لمواكبة الأحداث والمتغيرات. ولم تحل الهدنة الإسرائيلية - العربية غير المعلنة من تمويل الحكومات العربية لصحافة بيروت، لا بل زادت منه بسبب ازدهار عصر النفط. لكن المهاترات السياسية المستمرة أفسحت المجال، على الأقل، في ارتفاع وتيرة الأصوات المشككة للراديكالية المتطرفة. صحيح أن الخلافات لم تُمحَ كلها، لكن تعاطف الناس مع الجماعات اليسارية طغى على جميع العناوين. وفي عام 1972، استطاع طلال سلمان، بفضل تمويل ليبي أن يطلق جريدة "السفير" التي أرادت أن تكون "جريدة لبنان في الوطن العربي وجريدة الوطن العربي في لبنان"، وقد تمرّست في مكاتبها نخبة من أفضل صحافيي العرب. ثم برزت صحيفة "المحرّر" وصحيفة "بيروت" المواليتان للعراق وصحيفة "النداء" الناطقة الرسمية بلسان الحزب الشيوعي اللبناني لتكمل صورة الصحافة الناطقة باسم اليسار اللبناني. ولكن، كان يمكن التعرّف على هذه النزعة في صحف أُخرى من بينها جريدة "النهار" التي أصبحت العنوان المهيمن في مجال الصحافة وسجّلت، بصورة دائمة الأرقام القياسية في قائمة المبيعات. تمحورت كل التناقضات على الساحة اللبنانية في مبناها القائم في شارع الحمراء. وظل مكتب ميشال أبو جودة، الذي غالباً ما تحوّل إلى محجّة للقادة الفلسطينيين بعد أن كان محطّ رحال البعثيين، فيما كان مكتب غسان تويني الذي يعلوه بثلاث طبقات، نقطة التقاء رجال الحكم حيث تُصنع الحكومات وتُحلّ، ومورد أهل الفكر. وكانت مكاتب تحرير هذه الجريدة الليبرالية، في الطبقتين الثانية والثالثة، مرتعاً لمناضلي اليسار ومن بينهم الصحافي الشاب أمين معلوف الذي تولّى الإشراف على الصفحة الاقتصادية. أمّا "ملحق النهار الثقافي" الذي أُطلق عام 1976 برعاية أنسي الحاج فكان منبراً للإبداع الشعري و"هايد بارك" المعارضة السياسية والفكرية.
وشاركت الصحافة الفرانكوفونية في هذه الفورة الفكرية. وبهمّة جورج نقاش العابر من فكر "باريس" (Barrès) إلى الفكر اليساري، عبّرت جريدة "الأوريان" عن تعاطفها مع الثقافة الفرنسية من خلال الصفحات الأدبية التي أشرف عليها جورج شحادة ردحاً من الزمن، وعن روحية المعارضة التي جسّدها سمير فرنجية ابن أخ الرئيس العتيد، الذي أُطلق عليه لقب "البيك الأحمر" بسبب نضاله في الحزب الشيوعي، ثم على هوامش هذا الحزب. أمّا جريدة "لوجور"، الذي أطلقها عام 1965 مناهضون للشهابية وعلى رأسهم غسان تويني بدعم مالي من بعض رجال الأعمال فلم تستجب كثيراً لمصالحهم. ففي ظل إدارة جان شويري وإدوار صعب، مراسل جريدة "لوموند"، تميزت الجريدة بأسلوب مفعم بالشباب وروحية ليبرالية - فوضوية ذهبت غالباً بعكس اتجاه مموليها الرئيسَين. وفيما تألق فيها مروان حمادة، شقيق الشاعرة ناديا تويني والوزير العتيد المقرّب من الحزب التقدمي الاشتراكي بزعامة جنبلاط، كان الملحق الصادر عنها Un Jour des jeunes، يجسّد تطلعات جيل تأثر بانتفاضة أيار [مايو] 68 لشباب فرنسا، وكذلك بتجربة حركة التحرر العربية الراديكالية إثر هزيمة 1967. ودُمجت الصحيفتان في جريدة واحدة عام 1971 تحت عنوان L’Orient Le Jour فجمعت المواهب الأدبية والمعارضة البيروتية الراقية تحت سقف واحد.
الطلاب في الشارع
يشهد المسار الذي سلكته جريدة "لوريان لوجور" كما يشهد مسار روجيه عساف على أهمية المنعطف الذي عرفه لبنان في نهاية الستينات إثر تداعيات هزيمة 1967، بالإضافة إلى انطلاقة الثورة الطلابية في فرنسا عام 1968. وانعكست آثار هذا التلاقي بين الظاهرتين - وقد دفع بالبعض للقول إنه إذا جُمع 67 مع 68 فإنك تحصل على 69 أي على اتفاقية القاهرة - بشكل ملموس في أوساط طلاب الجامعات وبعض المدارس. واجتاحت تأثيرات أيار [مايو] 68، بفعل ثقافة جيل الشباب في المجتمع اللبناني، النخب الفكرية الفرانكوفونية وقسماً كبيراً من أبناء العائلات الراقية. ومنذ بدء العام الدراسي 1968 - 1969، تشكلت لجنة عمل في ليسيه البعثة العلمانية حيث كان عدد من المتعاونين الفرنسيين يعملون للتنسيق والتعاون بين الحركات الطلابية الفرنسية واللبنانية، وكذلك في المعهد العالي للآداب الذي أسسه غبريـال بونور (Gabriel Bounoure). تولى أعمال التنسيق في تلك الحقبة ميشال كورفان (Michel Corvin) وهو أستاذ أدب متخصص في الدراسات المسرحية، وقد تركزت تلك الحركة الراديكالية في صفوف الشبان المنتمين إلى الطبقات الميسورة. وتلاقت هذه الراديكالية مع حركة الرفض التي أطلقها طلاب الجامعة الأميركية بالإضافة إلى الأفواج الكبيرة لطلاب الجامعة اللبنانية التابعة للدولة، ممّا مهّد السبيل لنشوء حركة طلابية واسعة النطاق بين 1968 و1975.[2]
وبالرغم من القمع الاستنسابي الذي مارسته الشرطة، تضاعفت الإضرابات والتظاهرات بشكل يومي في بعض الحقبات. وضمت المواكب المتجهة إلى قصر الأونيسكو حيث مقر وزارة التربية أو إلى ساحة النجمة أمام البرلمان، عشرات الآلاف من الشباب ومن بينهم أولاد العديد من الوزراء والنواب، وأوشك ابن شقيق رئيس الجمهورية وابن شقيق رئيس الوزراء، لأكثر من مرة، أن يمضيا ليلتهما في مركز الشرطة. وفي ما يتعدى الشباب الميسور، شملت حركة الاعتراض الطلاب من جميع الأوساط وكافة الجامعات، لا بل تعدتها إلى المؤسسات الخاصة التي يرتادها أبناء الطبقة الوسطى كليسيه البعثة العلمانية الفرنسية أو مؤسسات البورجوازية الكبيرة مثل الإنترناشيونال كولدج في الجامعة الأميركية، لتصل أخيراً إلى المدارس الرسمية. وبالإضافة إلى الرهانات السياسية والأيديولوجية، ظلت الساحة السياسية مفتوحة على كل الاحتمالات.
وكان البعد الاجتماعي للحركة الطلابية ملموساً بشكل خاص في الجامعة اللبنانية حيث كان الطلاب ينتمون إلى الطبقات الشعبية والوسطى، وحيث تبرز مشاكل الاندماج الاجتماعي بسبب انعدام فرص العمل أمام الخريجين من الجامعة اللبنانية، الأمر الذي أبقى الطلاب في حال من التعبئة الشاملة.[3] وفي الواقع، لم تكن المواد النظرية التي يتهافت عليها طلاب الجامعة اللبنانية تفتح لهم آفاقاً وظيفية أبعد من التعليم أو الحصول على الوظائف المتواضعة. أمّا الاختصاص الوحيد الذي يَعِد بفرص عمل مشجعة فهو الحقوق. لكن الانتساب إلى فرع الحقوق شهد إقبالاً ملحوظاً أضحى معه التأهيل للسلك القضائي أمراً غير ذي جدوى بسبب الاضطرابات الاجتماعية والسياسية التي طرأت.
وهكذا، شكّل افتتاح كليتَي هندسة وطب تابعتين للدولة مطلباً دائماً للحركة الطلابية، لكن السلطة لم تستجب لهذا الطلب. وكان من المتعذر على الطلاب الذين نالوا شهادات في الطب من الاتحاد السوفياتي بفضل المنح التي كان الحزب الشيوعي يوزعها، من ممارسة المهنة قبل نجاحهم في امتحان خاص يسمى الكولوكيوم، خلافاً لهؤلاء الذين يحملون شهادات من فرنسا أو الولايات المتحدة.
وكشف النظام بوضوح أنه عاجز عن استيعاب ما يحصل. سعى غسان تويني، بعد أن عُين وزيراً للتربية في أول حكومة شُكلت في عهد فرنجية إلى استيعاب حركة المعارضين فنزل إلى الشارع وتحاور مع المتظاهرين، لكن مسعاه لم يكلّل بالنجاح لأنه لم يحظَ بدعم رئيس الجمهورية، وعندما لوّح بالاستقالة من منصبه تعبيراً عن غضبه واستيائه من توليه منصب الوزارة، جاء دور الطلاب ليتضامنوا معه من خلال تظاهرات جديدة. ثم تولى منصب وزارة التربية وزراء آخرون من بينهم المهندس هنري إده الذي أقاله فرنجية عام 1973 - وهي المرة الوحيدة التي يُقال فيها وزير في تاريخ الجمهورية اللبنانية كله.
ولم تخفف المشاكل الخاصة بالتربية، وتحديداً تلك المتعلقة بالجامعة اللبنانية، من الطابع السياسي البارز للمعارضة الطلابية.[4] كانت الحركة الطلابية، التي تشكل حلقة الوصل بين سجالات الإنتليجنسيا والصراعات الاجتماعية، تعزّز التسييس المتنامي للنضالات النقابية في أوساط الطبقة العاملة وأيضاً في الفئات الوسطى. تدفق الطلاب إلى الشوارع على إثر القمع الدامي لتظاهرة قام بها مزارعو الجنوب وكذلك أثناء إضراب لعمال مصنع غندور. ومن هذا الفصل الأخير الذي أوقع قتلى، استوحى بول مطر، وهو مغنٍّ ملتزم، أغنية بالفرنسية تدعو المستمعين إلى تجنب أكل الشوكولا لأنه ملوث بدم الأبرياء، وكان وقع هذه الأغنية إيجابياً في صفوف زملائه الشبان الفرانكوفونيين المعارضين في المعهد العالي للآداب. وما حفز التعبئة الطلابية قربها من مراكز المقاومة الفلسطينية. استبقت المظاهرات التي انطلقت مع حلول العام 1968 السجال السياسي الرسمي، ووضعت في الواجهة مسألة المكانة التي يحتلها لبنان في الصراع الإسرائيلي - العربي ودعم الكفاح الفلسطيني المسلح.[5] انتظم الطلاب تحت هذا الشعار وواصلوا تحركهم بانتظام لمطالبة السلطة بانتهاج سياسة دفاعية عن جنوب لبنان ضد الهجمات الإسرائيلية وإعلان مناهضة السلطة للمخططات الأميركية، لا سيما في أوساط طلاب الجامعة الأميركية.
بالطبع، لم تكن منظمات اليسار تختصر وحدها المشهد الطلابي، وبالمقابل، كان خطابهم يؤثر في كل الأحزاب الناشئة في الوسط الطلابي ومن بينها حزب الكتائب. وإذا كانت سجلات الأحداث لا تزال تحتفظ بذكرى مدوّية شهر خلالها بشير الجميل مسدسه في وجه طلاب كلية الآداب، فإن فرع شؤون الطلاب الكتائبيين الذي أشرف عليه كريم بقرادوني وميشال سماحة، وهما وزيران عتيدان في فترة ما بعد الحرب - كان أقل جنوحاً نحو اليمين من سائر أقسام الحزب. كان هذا القسم ميالاً للحوار والانفتاح على العروبة ويتلاقى طوعاً مع أحزاب اليسار على العديد من المسائل، وتحديداً فيما يخص المطالب المتعلقة بالجامعة اللبنانية. وبين الكتائب واليسار، كانت هناك حركة الوعي التي وُلدت في أحضان الجامعة اللبنانية واجتذبت إليها عدداً متنامياً من الشبان المسيحيين الآتين إجمالاً من الأرياف والمقاطعات، متسلحة قبل كل شيء بخطاب علماني ذي مضمون اجتماعي طاغٍ.
اصطدمت الشهابية، في ظل نظام شارل حلو، بمنطقة مسدودة. وتعاظمت حال المراوحة في ظل عهد فرنجية الذي كشف فجأة عن عجزه عن اللحاق بالديناميات التي تتجاذب المجتمع اللبناني وتطويعها في هذا الظرف الدقيق. لا شك أن فرنجية أرسى في مطلع عهده "حكومة من الشباب" لا تتجاوز أعمار أعضائها الأربعين برئاسة صائب سلام. كما حافظ على المؤسسات المدنية التي أنشأها الرئيسان شهاب وحلو[6] التي واصلت تطورها وفقاً للخطط المرسومة لها آنفاً، كتوفير الدواء للأمراض المستعصية الذي أُقرّ سنة 1971 والذي كان امتداداً لمؤسسة الضمان الاجتماعي عام 1964. وبعد أن تلاشت حالة الغبطة الأولى بعد مضي الشهور الأولى لوجوده في الحكم، كان واضحاً مع ذلك أن الدولة لم يكن يحكمها منطق حازم متسلح بالعصرنة. لا بل خلافاً لذلك، رفض فرنجية تقديم الدعم لوزرائه المجددين، لغسان تويني أولاً والدكتور إميل بيطار الذي كان ينوي إصلاح سياسة الدواء والياس سابا الذي حاول إيجاد تعرفة جمركية تشجع الصناعة، وأخيراً هنري إده الذي أُقيل في أجواء مشحونة للغاية. ومنذ نهاية "حكومة الشباب"، بعد سنة من تشكيلها، أعاد فرنجية إحياء الزبائنية ومحاباة الأقارب - حتى إنه عيّن ابنه وزيراً وأطلق سياسة التهاون الاقتصادي المتحررة من كل قيد، ولم يبدُ عليه أنه مهتم بتقديم أجوبة على الأسئلة الجوهرية التي تُطرح باستمرار منذ الاستقلال، والتي جعلتها التطورات الاجتماعية أكثر إلحاحاً.
ولم تكن التشكيلات الحكومية ممثلة للأطراف الاجتماعية الجديدة، باستثناء "حكومة الشباب" التي لم تعمّر طويلاً. والحق يقال، كانت حالة الجمود السياسي القائمة يجسدها وجود فرنجية نفسه على سدّة الحكم. وفيما كانت تقود بيروت، بوصفها عاصمة الثقافة، حركة الإبداع في العالم العربي وتضجّ أنديتها بألف سجال وسجال، كان لبنان محكوماً من الرئيس الأكثر خشونة في تاريخه. وكانت الرسوم الكاريكاتورية تصوره مرتدياً ثياب فلاح حاملاً بندقية الصيد في كتفه، وكأنها تريد أن تشير إلى سخرية القدر التي جعلت منه حاكماً على بيروت المدينة الراقية على حد قول ألبرت حوراني.[7]
لكن الأمر لا يتعلق فقط بشخص الرئيس. بدا النظام كله عاجزاً عن إحراز أي تقدم في عام 1972 - قادت الانتخابات التشريعية إلى البرلمان فريق الزعماء والوجهاء التقليديين. ومع ذلك، كانت هناك بعض الإشارات القوية التي تشير بأن صفحة سياسية جديدة قد فُتحت. في طرابلس تفوّق المرشح البعثي على رشيد كرامي من حيث عدد الأصوات التي نالها. وفي دائرة بيروت الثالثة كشفت النتيجة بشكل جلي عن أزمة ثقة يواجهها النظام. صحيح أن صائب سلام استطاع أن يؤمن النجاح لاثنين من حلفائه في القائمة الانتخابية، لكن حليفه الأرثوذكسي انهزم أمام منافسه في التنظيم الشعبي الناصري نجاح واكيم الذي لا يتجاوز الخامسة والعشرين من عمره. وأظهرت النتائج الانتخابية أن الناخبين السنّة في الدائرة اقترعوا إفرادياً لصالح وجهاء طائفتهم، فيما اقترعوا بشكل مركز للشخصية التي تمثل المعارضة في الطائفة الأُخرى. وما خلا هاتين الحالتين وبعض الشخصيات الأُخرى المنتمية إلى اليسار المعتدل والذين انتُخبوا في أغلبيتهم بفضل شبكات التحالف التقليدية التي أقامها جنبلاط؛ وما خلا نواب حزب الكتائب الموجودين على الجهة الأُخرى من المشهد السياسي - وكلهم لا يشكلون إلّا 15% من مجمل نواب البرلمان - فإن مجلس النواب الجديد ظل على غرار المجلس السابق، عاجزاً عن مواجهة التطورات الاجتماعية المستجدة على الساحة اللبنانية. وكان عقم النظام الانتخابي بديهياً، لا لشيء، إلّا أقلّه بسبب التفاوت بين التمدنن المتنامي للسكان منذ عقدين من الزمن وبين إلزام المواطنين الاقتراع في دوائر النفوس التابعين لها وليس في مركز إقامتهم أي في المكان الحقيقي لعملهم ومحيطهم الاجتماعي، أي في المكان الذي يمارسون فيه عملهم الفعلي ونشاطهم الاجتماعي حيث تتبلور هويتهم الحقيقية.[8]
وفي السنة التالية أثبتت أزمة 1973 عجز النظام الكلي.
تناحر الطوائف
شرّعت أزمة 1973 مسألة تقاسم السلطة بين وجهاء الطوائف.[9] وبالرغم من فترة الهدوء التي سادت العلاقات اللبنانية - الفلسطينية، كانت المسألة لا تزال مطروحة، فوقوف المسلمين اللبنانيين إلى جانب المقاومة الفلسطينية عزّز موقعها التفاوضي مع الدولة. ومن ثمار هذا التحالف أنه ضاعف من قدرة المسلمين على المواجهة، وألقى الضوء على مدى الغبن الذي كان يتذمر منه وجهاؤهم. وأصبح آنذاك كل أمر مطروح مثاراً للنعرات والحساسيات. فأتفه الأمور المتعلقة بآداب الرسميات والبروتوكول، إذا ما أُخلّ بها، وإن بالحدّ الأدنى، باتت تُعتبر انتهاكاً لكرامة الطائفة المسلمة. لكن، تجدر الإشارة إلى أن الوجهاء الذين اشتكوا من الغبن اللاحق بطائفتهم لم يكونوا في الحقيقة يولون إلّا اهتماماً شكلياً بالمظالم التي يعاني منها القسم الأكبر من ناخبيهم.[10] ولم يكونوا يطمحون على مستوى قاعدتهم السياسية إلّا إلى إعادة التفاوض بشأن تقاسم السلطة حيث تجسّد نفوذ الموارنة بتمسكهم بمنصب رئاسة الجمهورية.
كان الرئيس، في نظر الأعيان المسلمين، يتصرف وكأنه في نظام رئاسي فيما كان دستورياً غير مسؤول، وبالتالي غير قابل للعزل. بالمقابل، كانوا يعتبرون أن المشاركة التي يطالبون بها بإمكانها إصلاح الطابع البرلماني للنظام، ويُفترض على رئيس الوزراء الذي يختاره النواب وليس رئيس الدولة أن يكون مسؤولاً عن السلطة التنفيذية. والمشاركة تعني أيضاً المناصفة بين المسيحيين والمسلمين في البرلمان بدلاً من نسبة ستة إلى خمسة المعمول بها. كما يجدر الاهتمام بالجانب العسكري من المشاركة، فالجيش يجب إصلاحه ويُفترض به أن يكون جيشاً همّه المحافظة على أرض الوطن ودرء الهجمات التي تقوم بها إسرائيل، ويجب إنشاء قيادة عسكرية متعددة الطوائف للجيش بدلاً من أن يضطلع بها قائد الجيش الماروني وحده. ولم يضع الأعيان المسلمون، إبان حملتهم المعتدلة في النهاية، الميثاق الوطني موضع شك، لا بل استندوا إليه. لكن حملتهم اصطدمت بالرفض القاطع الذي أظهره فرنجية ومعظم رجال السياسة المسيحيين.*
وكان لانتشار المقاومة الفلسطينية على أرض الجنوب تأثير مباشر على أوساط الشيعة، لا سيما إن إدراكهم للخلل القائم في النظام الاجتماعي كان أكثر حدّة بكثير. صحيح أن رئاسة المجلس كانت من نصيبهم، لكن تركيز اهتمامهم على منصب الرئاسة فاق اهتمام أبناء الطائفة السنيّة التي ينتمي إليها رئيس الوزراء. ثم إن الطائفة الشيعية اعتبرت نفسها ممثلة بشكل سيئ في جهاز الدولة، وتحديداً على صعيد الوظائف العامة، علماً أنها باتت الطائفة الأكثر عدداً في البلاد، حسبما تؤكد الوقائع. هذا صحيح، لكنه مبالغ فيه إلى حد بعيد. بَيد أن الرهان تعدى مسألة توزيع السلطات. على أية حال، لم يكن الوجهاء هم الذين يتحركون للمطالبة بنزع الغبن عن الطائفة الشيعية، فهم أيضاً كان يُنظر إليهم بصفتهم حلفاء "الحكم الماروني". وكان المحرّك الأكبر الإمام موسى الصدر، رئيس المجلس الأعلى للطائفة الشيعية الذي اعتمد خطاباً جديداً كان يطالب فيه بالعدالة الاجتماعية ويعارض في الوقت نفسه زعماء الطائفة التقليديين الذين اتُّهموا بأنهم عقبة في طريق ازدهار الطائفة. وفي الإطار نفسه، بدا هذا التجييش أكثر راديكالية لأن الإمام كان على اتصال مباشر بجماهير المحرومين.
وسعى الإمام الصدر إلى تنظيم الطائفة الشيعية، وشجّعه في ذلك بدايةً المكتب الثاني في الستينات. وكان همّ المكتب الثاني آنذاك الوقوف في وجه الزعماء المناهضين للشهابية من الطائفة الشيعية، وتوجيه الطبقة العمالية الشيعية المستقلة، المنتشرة باطراد في ضواحي بيروت، في قنوات الاعتدال.[11]
ولم يلبث أن اتسم خطاب الإمام الصدر ومعه نشاطه بالتصلب في المواقف نتيجة سلسلة من العوامل تضافرت في بداية السبعينات، ومن بينها احتدام الصراعات الاجتماعية والاستقطاب الطائفي وتفكك سلطة الدولة في جنوب لبنان والدمار الذي شهدته هذه المنطقة على يد الجيش الإسرائيلي، بالإضافة إلى هجمة اليسار الماركسي. لم يتردد الإمام بين 1973 و1974 في إحياء تجمعات شعبية واسعة ضمت عشرات الآلاف من الأشخاص المسلمين في أغلبيتهم. وخلال هذه التجمعات كان يُحتفل علانية بحمل السلاح الذي اعتُبر "زينة الرجال". ولكن الاستعمال المتكرر لكلمة "محرومين" أضفى على الإمام هالة ثورية، وقد قام بمبادرات رمزية كمثل مشاركته في محاضرات أُقيمت في زمن الصوم في إحدى كنائس بيروت فذاع صيته على أنه رجل حوار وانفتاح. لكن طائفته ظلت متمسكة بضرورة إعادة صياغة المشاركة الطائفية من خلال إدخال نخب شيعية جديدة في النظام.
أدى تمركز المقاومة الفلسطينية إلى إحياء منطق آخر، أكثر راديكالية في الأوساط الشيعية. وفي ما يتعدى الهدف الذي كان يطمح إليه زعماء الطوائف المسلمة والمتعلق بإعادة التوازن إلى الوضع المؤسساتي القائم، كان اليسار يجد أيضاً في الدعم الذي تقدمه المقاومة الفلسطينية حافزاً يدفعهم لمناقشة الزعماء التقليديين والمنطق الطائفي للإمام الصدر في آن. صحيح أن اليسار ترفّع عن الممارسات الطائفية من خلال إعادة طرح الطائفية السياسية على جدول البحث، لا بل إعادة طرح السلطة برمتها، لكنه كان يتورط، رغماً عنه في لعبة الصراع الدائر بين الطوائف. فمن خلال التعبئة التي كان شعارها الدفاع عن المقاومة الفلسطينية وتحت ستار التحرر القومي، استقامت المعادلة التي تجمع المسلمين المطالبين بالمشاركة بالفئات اليسارية المعارضة لنظام الحكم القائم. وعلاوة على ذلك حصل التباس في مفهوم "الجماهير الشعبية"، إذ بدأ يُسقط من حسابه أن عدداً من المسيحيين يشكل أيضاً جزءاً من هذه الجماهير.
ولم يكن الإمام الصدر بمنأى عن تأثير الإشكالية الاجتماعية التي يتمحور حولها اليسار، بالرغم من مناهضته الدؤوبة للشيوعية التي عبّر عنها مرات عدة.[12] وبدورها طغت مقولة "المحرومين" التي استفاض فيها الإمام الصدر على خطاب اليسار نفسه. وانتشرت صيغ وتعابير مغلوطة تروّج مقولة أن الشيعة يؤلفون "الطائفة المحرومة" لا بل الطائفة - الطبقة، وقد احتل هذا الرأي الهجين المنسوب إلى منظمة العمل الشيوعي اللبناني الكثير من المساحة في أعمدة الصحف اللبنانية واستُعمل ضمن سياقات صحفية بالرغم من أنه غير مُدرج في أي نص يتعلق ببرنامج لحزب، فهو لم يُعتمد كمفهوم قط، ولم يكتسب أية قيمة نظرية.[13] ومع ذلك كان الأثر الذي مارسته مدمراً. ومن خلال هذه الانزلاقات، آل الأمر باليسار [إلى] ركوب موجة الانقسام الطائفي. ونتيجة لهذه التطورات، ثَبُت للحزب الشيوعي اللبناني والحزب السوري القومي الاجتماعي أن قاعدة المناصرين في حزبيهما تشهد إقبالاً ملحوظاً من لون طائفي واحد على حساب الانتماءات القديمة في الوسط المسيحي. وعلى رأس التحالف اليساري، كانت هناك شخصية كمال جنبلاط الذي، بالرغم من رؤيته الإصلاحية، طرح نفسه كناطق بلسان الطوائف المسلمة وليس فقط الدرزية، وكان موقفه هذا يزيد من التماهي الحاصل.
إلّا إن الميل إلى التجدد السياسي، الجلي في أوساط الحركة الطلابية وفي المجال السياسي، أفضى، من الناحية العملية، إلى إعادة انبعاث للمرجعيات الطائفية. وباستثناء هؤلاء الملتزمين بأفكارهم حتى النهاية، ظل الانتماء الطائفي يحدد الهوية سواء اللبنانوية أم العروبية، وطالت الظاهرة أوساط الشباب.[14] وأظهر بعض اليساريين تنبهاً للأمر وبينهم الكاتب المسرحي جلال خوري، ففي مسرحية "الرفيق سجعان" يُصوّر قرية مسيحية حيث الولاء السياسي سواء كان لموسكو أو لواشنطن ناتج عن خصومات محلية. وعلى مستوى البلاد، كانت الخيارات الأيديولوجية تعبّر عن ذاتها عن طريق تجييش الأجراس ضد المآذن، والعكس هو الصحيح.
وشهدت الحياة السياسية استقطاباً طائفياً ملحوظاً على الصعيد اليومي،[15] حتى لو تابعت بيروت تجلياتها في الاقتصاد والثقافة وأنواع الترفيه. بالطبع، لا يمكن اعتبار جميع المسيحيين والمسلمين في حالة مواجهة. فبالرغم من التشنجات في العلاقات بين فرنجية والوجهاء السنّة، ظلت التشكيلات الحكومية تعبيراً عن أزمة التعايش الحاصلة على مستوى البلد. وبعد أن وصلت حكومة الرئيس تقي الدين الصلح الموسعة إلى طريق مسدودة، تشكل فريق وزاري جديد برئاسة أحد أقربائه، النائب رشيد الصلح الذي عُرف عنه تقربه من جنبلاط. ضمّت حكومته ممثلين لمختلف الكتل النيابية ومن بينها حزب الكتائب. وبالرغم من ذلك، كانت الأمور المطروحة في العمق تدور في فلك الأزمة، إذ عاد الخلاف الحاد حول عروبة لبنان يطرح نفسه، وأُسقط من الحساب أن الحكومة التي تولت إخراج البلاد من الحرب الأهلية عام 1958 والتي كان بيار الجميل في عدادها قد أكدت بشكل لا يقبل التأويل الهوية العربية. باتت الانتماءات الطائفية واضحة كانت أم مموهة تسيطر على كل السجالات، محفّزة من جهة حمى التغيير، ومتمسكة من جهة أُخرى بالثوابت الأيديولوجية والسياسية. وما عادت مسألة الوجود الفلسطيني المستثمرة في الصراعات اللبنانية تُطرح في إطار جدلي مع أن الوضع الإقليمي شهد آنذاك تغيراً كان بإمكانه أن يمهّد أو يسهل تصوراً ما لإزالة التشنج السياسي والطائفي القائم.
صعود التطرف
أثبت امتحان القوى الذي جرى في أيار [مايو] 1973 أن حالة انقسام المجتمع والطبقة السياسية لا تسمح بتحجيم المقاومة الفلسطينية ولا بتصفيتها من دون تعريض البلاد لأخطار جسيمة. في الظاهر بدا وكأن الجميع استخلص العبر من الأحداث السابقة. وأشارت بعض الدلائل إلى أن صفحة جديدة فُتحت مع افتتاح حوار رسمي بين حزب الكتائب ومنظمة التحرير. كما أظهر فرنجية تضامناً مع سورية خلال حرب تشرين [أكتوبر] عام 1973، ما سمح له بالتقارب مع نظام الرئيس حافظ الأسد. لا بل جرى تعيين فرنجية أثناء قمة الرباط ليمثل كافة رؤساء الدول العربية في منظمة الأمم المتحدة خلال الدورة الخاصة التي عقدتها الجمعية العمومية للبحث في شؤون المسألة الفلسطينية في نوفمبر / تشرين الثاني 1974، وحيث كان على عرفات أن يعلن ظهوره لأول مرة أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة. ضمّ الوفد، الذي رافق فرنجية، كميل شمعون وشارل حلو بصفتهما رئيسَين أسبقَين، بالإضافة إلى رؤساء الحكومة ورؤساء المجلس السابقين بغية شمول التمثيل كافة الفئات اللبنانية المعبّرة عن وحدة البلاد في دفاعها عن القضية العربية. كانت التطورات التي يشهدها الوضع الإقليمي إثر حرب أكتوبر [تشرين الأول] من شأنها أن تخفف ظاهرياً من هذا التشنج. وبدا الاعتدال سيد الموقف في جميع العواصم العربية كما أظهرت ذلك قمة الرباط. تضاعف نفوذ العربية السعودية، وهي الحليفة لأميركا، بعد قرار وقف تصدير النفط والثروات التي تدفقت عليها نتيجة تثبيت أسعار النفط الخام. أمّا الولايات المتحدة، وبالرغم من تضامنها مع إسرائيل خلال الحرب، فإنها أنشأت علاقات قوية مع القاهرة وكذلك مع دمشق. قام ريتشارد نيكسون بجولة ناجحة في الشرق الأدنى في ربيع 1974، قبل أسابيع قليلة من استقالته. وبدا أن حلاً سلمياً لأزمة الشرق الأوسط بدأ يلوح في الأفق، وقد انضمت إليه منظمة التحرير من خلال إعلانها برنامجاً انتقالياً تتنازل فيه عن هدفها الرامي إلى تحرير كامل لفلسطين، لصالح دولة في الضفة الغربية وقطاع غزة.
لكن التخلي عن خيار القوة لصالح الحلول الدبلوماسية كان مخادعاً. وفيما بدا العرب راغبين في حل سلمي للأزمة، كانت الولايات المتحدة تقوم آنذاك بدور الحَكَم ولا تسعى إلّا إلى احتواء الصراع وفقاً لأولوياتها بالذات، واضعة في الصدارة منطق إدارة الأزمة بدل السعي الجدي إلى حلّ النزاع سلمياً.[16] بَيد أن المساحة اللبنانية بدت في مكان والحسابات الأميركية في مكان آخر. وبالرغم من اعتماد المقاومة الفلسطينية موقفاً براغماتياً دبلوماسياً، شكل وجودها في لبنان إخلالاً بالنظام، ليس فقط من خلال عمليات الكومندوس التي نشطت عبر الحدود، ولكن أيضاً وبشكل خاص عبر الاهتمام الدولي الذي حظيت به منظمة التحرير الفلسطينية انطلاقاً من بيروت. لم تكن إسرائيل تشك في ذلك إطلاقاً، ولم تسعَ بسبب من ذلك إلى التخفيف من عملياتها العسكرية في الأراضي اللبنانية، بل على العكس، استخدمت طيرانها لقصف المخيمات المنتشرة في بيروت وطرابلس في نوفمبر [تشرين الثاني] عام 1974، فيما كانت مواقف عرفات وفرنجية في منظمة الأمم المتحدة، المتزامنة عملياً مع تلك الاعتداءات، تشهد لخيار السلم الذي ارتضى به العرب باعتماد سياسة معتدلة. ولم تنقضِ أسابيع على دورة الأمم المتحدة حتى قامت إسرائيل باجتياح قرية كفرشوبا في منطقة العرقوب وكادت أن تزيلها من الوجود.
كان لبنان الحلقة الأضعف في المنطقة، ونظراً لهذا الأمر، لم يستطع لبنان أن يقطف ثمار تسوية النزاع الإسرائيلي - العربي، بل ازدادت حدّة الصراع الدائر على أرضه خلافاً لذلك، وتجمعت على أرضه كل العوامل المؤدية إلى الإخلال بالاستقرار والتي ينوي المنطق الأميركي لإدارة الأزمة أن يبعدها عن سائر دول المنطقة ويحصرها داخل الحدود اللبنانية. في لبنان، وفي لبنان فقط، كان بإمكان النزاع الإسرائيلي - العربي أن يعبّر عن نفسه ويتجسد على الأراضي ويرفع الشعارات المناهضة للنظام الأميركي. وظلت المقاومة الفلسطينية توجه المحورين، محور الصراع مع إسرائيل ومحاربة السياسة الأميركية. وبالرغم من قبولها سابقاً بمبدأ الحل السلمي للأزمة عبر التفاوض، يبقى أنها بدافع من تكوينها الأساسي قادرة أن تعتمد الأساليب الثورية بسبب الدعم الجماهيري الذي تحظى عليه من شرائح واسعة من الفئات الشعبية التي تشجعها على اتخاذ مواقف متصلبة.
لم تفقد مسألة الوجود الفلسطيني إذاً شيئاً من حدّتها في السجالات اللبنانية. بل خلافاً لذلك، اشتدت الحملة التي شنّتها الأطراف المسيحية حول مقولة انتهاك السيادة والتجاوزات الفلسطينية. في مطلع عام 1975 اتخذت هذه الحملة انعطافة أكثر حدة عندما قدّم بيار الجميل مذكرة مدوّية يندد فيها بتخلي الدولة عن سلطتها ويطلب فيها بالاتفاق مع شمعون، إجراء استفتاء حول المسألة. لكن، ميدانياً، أصبحت مرحلة الجدل جزءاً من الماضي وأخلت المكان لمرحلة التعبئة الشعبية. بدأت تُشكل ميليشيات متصلة بالأحزاب المسيحية وتتدرب على استعمال الأسلحة بفضل الدعم الذي حظيت به من القطاعات النافذة في الجيش، على أعلى مستوى لقيادة الأركان وأجهزة الاستخبارات. وبدا أن أخصام الوجود الفلسطيني قاموا بتحليل دقيق لتبعات أزمة أيار [مايو] 1973. وإذا كان الجيش عاجزاً لأسباب داخلية وخارجية معاً عن فرض نفسه على منظمة التحرير الفلسطينية، فإن هناك وسائل أُخرى متوفرة.
كانت الأسلحة متوفرة منذ وقت طويل في لبنان كما أظهر ذلك الرصاص الذي أُطلق ابتهاجاً بانتخاب فرنجية عام 1970 لساعات عدة متواصلة في الجبل وفي جميع الأحياء المسيحية في بيروت. لم تكن ظاهرة الميليشيات جديدة تماماً في الأوساط المسيحية، إذ اتسمت الكتائب منذ تأسيسها عام 1936 ببنية شبه عسكرية. وشكلت ذكرى الاحتفال بحزب الكتائب مناسبة سنوية للقيام بعرض في البذات العسكرية في شوارع بيروت. وكانت هذه القوى المنخرطة بانتظام في المشاحنات مع الشيوعيين أو القوميين السوريين تتشارك بقوة في المواجهات التي جرت عام 1958. كما كان لحزب الطاشناق الأرمني جناح شبه عسكري. ولكن، منذ نهاية الستينات وظاهرة العنف تتخذ أشكالاً متعددة. بعد ظهور المقاومة الفلسطينية على الساحة اللبنانية، حصلت تدريبات عسكرية في صفوف مناضلي حزب الكتائب أكثر تعقيداً وتطوراً.[17] في عام 1973 بلغت ميليشياتهم حداً كافياً من التماسك لكي تتمركز في الشوارع، لا بل لتضطلع بمسؤولية الدفاع عن الأحياء المسيحية. كذلك حصلت تدريبات في حزب الوطنيين الأحرار لشمعون عُرفت بميليشيا "النمور"، وكانت لرئيس الجمهورية ميليشياته في منطقة زغرتا حيث تقديس السلاح عادة ترقى إلى عهد بعيد. وكان الإقبال على اقتناء السلاح يلاحظ في بيروت نفسها حيث تنامى اهتمام السكان المسيحيين بشراء قطع السلاح الحربي الفردي، وخصوصاً الكلاشينكوف الذي كان يُختصر بـ "الكلاشين" كما درجت اللهجة المحلية على تسميته، وكان يُشرى في معظم الأحيان من المخيمات الفلسطينية!
بعد 1973، بات كل شيء معلناً، ولم يعد بالإمكان اللجوء إلى الذرائع، فقد اعتمدت قيادة الجيش، بإيعاز من فرنجية نفسه، سياسة شبه رسمية تفسح المجال أمام الميليشيات المسيحية التزود المنتظم بالأسلحة وتمنحها تسهيلات لتدربها. وكان النظام يغضّ الطرف أيضاً عن الأعمال التي يقوم بها صغار الضباط، ومن بينهم الجنرال العتيد ميشال عون الذي كان ينشط لإنشاء ميليشيا جديدة أطلق عليها اسم "التنظيم" وضمّت أعضاء من البورجوازية الوسطى الميسورة. بات التدرب ضمن الميليشيات يسبق الالتحاق بالحزب التابع لها - هذا في حال كانت تابعة لأحد الأحزاب. ولم تعد دورات التدريب العسكري تقتصر فقط على المنتسبين إلى الأحزاب التي تنظمها. بات وجود ميليشيا بحد ذاته وسيلة للتعبئة وكأن الشعارات الأيديولوجية لم تعد مهمة. تجاوزت ظاهرة الميليشيات على أية حال الانقسامات الحزبية التقليدية، وبدت وكأنها معيار التصرف السياسي بالنسبة لوسط مسيحي هاجسه الوحيد "الدفاع عن السيادة". لا شك أن فئات من السكان المسيحيين ظلوا بمنأى عن هذه الظواهر. وكانت هناك عدة شخصيات تتميز بسلوكها السياسي عن شمعون والجميل، كريمون إده، أحد أقطاب التحالف الثلاثي القديم، رغم أنه كان متحفظاً جداً حيال العمل الفلسطيني، فهو لم يوافق على اتفاق القاهرة وطالب مراراً ولسنوات بتحييد الحدود مع إسرائيل من خلال نشر قوات حفظ ا لسلام الدولية على الحدود مع إسرائيل. لكن ذلك لم يستطع الحؤول دون تشكل ميليشيا من قبل بعض أنصاره التقليديين في منطقة الدكوانة بجوار مخيم تل الزعتر.
بات التعبير عن السيادة يتم بإحكام الحصار على المخيمات الفلسطينية التي أقامت حواجز عسكرية حول مراكز تواجدها، وأخضعت السكان لعمليات تفتيش دقيقة شعر معها المواطن اللبناني بأنه غريب في وطنه. لكن، بالنسبة للأكثرية، كانت السيادة رمز الهوية الوطنية/الطائفية التي يجب الدفاع عنها كما تتجسد من خلال بنية السلطة.[18] من هنا الدور المركزي الذي لعبه حزب الكتائب منذ عقود ظناً منه بأنه البديل عن الدولة أو الاحتياط الاستراتيجي لها.[19] وكان حصول النزاعات الناتجة عن التجاور وانتشار المسلحين الفلسطينيين المبالغ فيه حول المخيمات يساعد على ترويج مقولة "السيادة المنتقصة"، وقد عبّر عن نفسه في تموز [يوليو] 1974 من خلال احتكاك مسلح افتعله بعض المفترين، وما كان منه إلّا أن تحول إلى مواجهات مسلحة بين ميليشياويين ينتمون إلى حزب الكتائب وفلسطينيين في منطقة الدكوانة.
لم تكن الأحزاب المسيحية وحدها التي تسلحت. فاليسار أيضاً عمد إلى السلاح ولو في مرحلة لاحقة، وتشهد على ذلك حالة عدم التحضر للمواجهة التي أظهرها أنصاره في ربيع 1975. صحيح أن العديد من اللبنانيين التحقوا مباشرة بحركات فلسطينية وتدربوا نتيجة لذلك على استعمال الأسلحة، لكن الأحزاب لم تنخرط في هذه الطريق إلّا بعد أزمة أيار [مايو] 1973. وآنذاك، دفع التحالف الذي نشأ بين اليسار والمقاومة الفلسطينية، بمنظمة التحرير الفلسطينية إلى توفير تدريب عسكري للأحزاب اللبنانية المتحالفة معها وتزويدها ببعض الأسلحة. وفيما اتخذ تطور الميليشيات في أوساط المسيحيين شعاراً له "الدفاع عن السيادة"، كان الشعار المحفز لدى اليسار "الدفاع عن الثورة الفلسطينية وعروبة لبنان". لا شك أن اليسار كان، خلف هذه الشعارات، يبحث عن شيء آخر بالرغم من أن فكرة استلام السلطة بقوة السلاح لم تُطرح قط، ولم تخطر على بال أحد من قبل. وكان جنبلاط بوصفه أحد أركان السلطة ومن دعاة تطوير النظام السياسي في الوقت نفسه، قد اعتبر الوجود الفلسطيني ورقة يفاوض بها شركاءه / أخصامه في الطبقة السياسية أكثر منها رافعة تدفعه إلى واجهة السلطة: أي أنه أراد بالمقابل حداً أدنى من الإصلاحات الاجتماعية الاقتصادية وتعديلاً في بنية النظام من خلال مشاركة أوسع للمسلمين، وذلك لأن الحلفاء الطبيعيين لمنظمة التحرير الفلسطينية سيكونون قادرين والحالة هذه على حمل المنظمة على القبول بتفسير جدي وحاسم لاتفاق القاهرة، كما وُفق هو نفسه إلى ذلك خلال تسلمه وزارة الداخلية عام 1970.[20]
وكانت أحزاب أُخرى كالحزب الشيوعي ومنظمة العمل الشيوعي تحديداً، تتبنّى هذا الخيار المعتدل في العمق، وكان هذان الحزبان مقربَين جداً من جنبلاط. ومع ذلك، لم يستطع هذا الخيار السيطرة على التطورات الحاصلة ميدانياً فتدفق الأسلحة ولغة التحدي السائدة أفشلا كل المحاولات المبذولة، وأخليا الساحة للمواجهة العسكرية. اتجهت فصائل صغيرة متجذرة في الطبقة العمالية المستغلة إلى العمل المباشر. وقامت منظمة ثورية اشتراكية لبنانية عام 1974 بمحاولة سطو على بنك أوف أميركا (Bank of America) الواقع في وسط بيروت متخذة بعض موظفي المصرف رهائن. كما ظهرت مجموعة صغيرة أُخرى في بيروت ودمشق في ربيع 1975 بعد اندلاع الحرب تطلق على نفسها اسم المنظمة الشيوعية العربية. وأدى تدخّل بعض الدول العربية إلى إذكاء نار المزايدات. واستعادت الحركة الناصرية وحدتها بعد أن كانت مفككة، لتركب موجة العنف المسلح. أمّا نظام المراقبة الزبائني المزدهر في الستينات فكان متعطلاً منذ وفاة عبد الناصر، والمكتب الثاني الشهابي مشرذماً.[21] وارتبط القبضايات الجدد الذين ظهروا على الساحة آنذاك بـ "أولياء أمر" من الخارج، من سورية والعراق وليبيا وخصوصاً المنظمات الفلسطينية.[22] وولّد تماهي اليسار مع المسلمين شعوراً بالرضى في الأوساط اليسارية فتح الباب واسعاً أمام استعادة دور القبضايات إن لم نقل العصابات.[23] ولكن، بدل أن تحدّ هذه الفوضى من التعبئة الطائفية في صفوف أركان السلطة، فقد دفعت رجال الحكم السنّة إلى مسايرة لغة الشارع مع أنهم لم يكونوا يمسكون بزمامه.
ووُظفت المخاطر الناتجة عن انتشار السلاح والاستقطاب الطائفي بطريقة دراماتيكية في نهاية شهر شباط [فبراير] الذي يمكن اعتباره مقدمة الحرب الآتية،[24] وهي التي بدأت في صيدا ثم انتقلت إلى بيروت. ففيما كان معروف سعد، وهو نائب صيدا السابق وأحد أبرز القيادات الناصرية، يسير على رأس تظاهرة صغيرة قام بها الصيادون احتجاجاً على إنشاء شركة كبيرة للصيد البحري، أصابته رصاصة أطلقها أحد الجنود وقتلته. وما زاد الأمر تفاقماً هو أن الشائعات التي سرت في الأوساط الشعبية أخذت تتحدث عن ارتباط شمعون بالشركة الجديدة التي تنوي احتكار صيد الأسماك، علماً أن معروف سعد هو الذي قاد حركة العصيان في مدينته عام 1958 ضد شمعون. وتحولت حركات الاستياء والاحتجاج العارمة التي أثارتها هذه الحادثة إلى مواجهات بين الناصريين واليسار بدعم من الهيئات الفلسطينية من جهة وبين الجيش من جهة أُخرى. وفيما كان معروف سعد يُحتضر فوق سريره في مستشفى الجامعة الأميركية، تواصلت التعبئة في الشارع، وفي الاتجاهين المعاكسين. لم يكن جنبلاط راغباً في التصعيد وحاول إنقاذ الحكومة، لكن أحزاب اليسار انتشرت بكثافة في شوارع بيروت وفي غير مكان. أمّا الأحزاب المسيحية فردّت على خروج الجيش من صيدا من خلال استعراض كبير لقوتها تأييداً له. استُدعي الشعب المسيحي في لبنان للقيام بتظاهرة وطنية في بيروت، وتقدم التظاهرة رجال الشرطة فوق دراجاتهم، وانضم إلى الموكب الذي جال الأحياء المسيحية في بيروت طلاب حزب الكتائب وحزب الوطنيين الأحرار الناشطين عادة يواكبهم مراهقون فتيان وصبايا بثياب المدرسة اصطُحبوا في باصات مدرسية بأعداد كثيفة من قراهم في الجبل بمباركة الراهبات والأساتذة.
وهكذا، اكتملت جميع العناصر كل منها على حدة لتتلاقى في بيروت وتكتمل صورة المواجهة المحتمة تدريجاً. واستعرض زياد الرحباني، الابن المبدع والطفل المعجزة لفيروز وعاصي الرحباني عام 1974 التفاعل الناجم عن تصادم هذه العناصر في مسرحيته الغنائية "نزل السرور" حيث يظهر أحد الجائعين المنادين بالثورة في نزل عائلي اجتمعت فيه شخصيات متباينة للغاية. فالمدينة المختلطة اجتذبت الأضداد وكانت عاجزة عن صهرها في بوتقة واحدة. اتسعت الهوة بين التحضر والمواطنية، بين السعي إلى التمايز الفردي والانكفاء إلى الشرنقة الطائفية، ازداد التعارض بين الانفتاح الاقتصادي والثقافي وبين الديناميات التعبوية التي استدعتها الارتكاسات الدفينة، والمفارقة التي أثارتها عملية الانطواء على الهويات "ما دون القومية" في صميم عاصمة القضية العربية.
عاصمة الألم
بعد المواجهة التي جرت في صيدا، اندلعت الشرارة يوم الأحد في 13 نيسان [أبريل] 1975 وكانت انطلاقتها في عين الرمانة، الضاحية المسيحية الشعبية، حيث كان بيار الجميل يشارك في تدشين إحدى الكنائس. وفجأة، سُمعت طلقات رصاص وسقط أحد حراس بيار الجميل قتيلاً. وصودف مرور باص يقلّ فلسطينيين كانوا عائدين من احتفال تكريمي في مخيم تل الزعتر، إلى مخيم شاتيلا، فوقعوا في كمين سقط فيه 27 قتيلاً في صفوفهم. وللحال، بدأت المواجهات بين عين الرمانة والشياح، الضاحية المواجهة والمكتظة بساكني حزام البؤس. وبدأ الظهور المسلح يجتاح جميع الأحياء وتدريجاً.
وعشية الثالث عشر من أبريل / نيسان، دخل لبنان في دوامة الحرب. بدأت الحرب على شكل جولات ثم اتسعت رقعة الاشتباكات في الثاني من أيار [مايو] (أي الجولة الثانية) حتى بلغت طريق دمشق وخلقت هناك ما يسمى خط تماس. في البداية، لم يشأ اللبنانيون الكلام إلّا عن الأحداث، ولم يشرعوا في استعمال كلمة "حرب" إلّا مطلع الخريف. ولكن، خلف استعمال التورية هذه، كانت الحرب قد اندلعت في بيروت منذ الربيع وبدت المدينة مستسلمة لها بلذة مشؤومة. اتسعت المعارك تدريجاً لكن عسكرة المجتمع أوحت دفعة واحدة باتساع حالة الحرب. لم تمتد المواجهات إلى خارج حدود المدينة ولم يكن السكان مجرد شهود على المواجهات الدائرة أو ضحايا لها، ولم تفرض الأجهزة الحربية نفسها على الساحة البيروتية رغماً عن إرادة السكان. بدأت المواجهة بين سكان الأحياء المجاورة وامتدت لتشمل كل أحياء العاصمة. بدأت التعبئة النفسية للحرب قبل أن تكتمل التعبئة المسلحة، وتم الانتقال من الاستقطاب الطائفي إلى المواجهة. أصبح الحي المجاور فجأة أرضاً محظورة بحيث لا يمكن الدخول إليه من دون التعرض للخطف أو القتل وبات الآخر يشكل خطراً ملموساً. نشطت الأعمال الحربية الرئيسية في كافة أرجاء المدينة وتبادل الطرفان قذائف المدفعية وانتشر القناصة على سطوح الأبنية العالية، ومن أماكنهم المحصّنة راحوا يزرعون الموت في الشوارع المواجهة. كل ذلك مهّد لنشوء خط تماسٍ واضح بين "هم" و"نحن". وبالرغم من أن الجغرافيا الطائفية للمدينة كانت غير مكتملة فقد بقي العديد من الأحياء متجانساً، الأمر الذي ساهم في التباعد الذي أخذ يفصل شيئاً فشيئاً بين بيروت الشرقية وبيروت الغربية.
وكل ما فعلته فترة الهدوء في الصيف بعد "جولة" ثالثة هو أنها جيشت النفوس أكثر، وكانت الحكومة المصغرة التي شُكلت لإطلاق الحوار الوطني برئاسة رشيد كرامي وضمّت كميل شمعون بصفته وزيراً فوق العادة، غير قادرة على التفاهم. وبعدها انتقلت المعارك إلى محيط مدينة زحلة ثم اشتعلت الجبهة بين زغرتا وطرابلس - المدينتين التابعتين لرئيس الجمهورية ورئيس الحكومة ثم رسّخت الحرب أقدامها في بيروت. في 17 أيلول / سبتمبر، أُضرمت النار في الأسواق القديمة غربي ساحة الشهداء. وبعد شهر طالت الحرب منطقة الفنادق الكبرى المواجهة للبحر.
في بداية شهر ديسمبر / كانون الأول، دخل وسط المدينة دوامة الحرب بعدما كان يؤمل عقب كل فترة هدوء فاصلة بين جولات العنف استعادة الحياة الطبيعية: أثبتت إحدى الحملات التأديبية التي أوقعت عشرات القتلى بين صفوف المسلمين - وبعض المسيحيين الذين سقطوا خطأ - أن وسط المدينة لم يعد بإمكانه أن يكون مكاناً للقاء بين اللبنانيين. وخلف المقاتلين، بدأ النهابون يعدون أنفسهم للعمل المنظم. وأحياناً كان يتبادل المقاتلون والنهابون الأدوار. جرى تجريد المصرفين البنك البريطاني (British Bank) والبنكو دي روما (Banco di Roma) من جميع محتوياتهما، وتعرّض المرفأ لعملية سطو منظمة.[25] ازداد النزاع تعقيداً وتحوّل البلد إلى ساحة حرب شاملة. في أول حزيران/يونيو 1976 دخل الجيش السوري إلى لبنان لمواجهة حلفائه القدامى في اليسار والمقاومة الفلسطينية. وقبل ذلك التاريخ، أُوقفت الهجومات على مواقع الميليشيات المسيحية التي استطاعت أن تحظى بدعم سورية وإسرائيل معاً، وأُحكم الحصار على مخيم تل الزعتر الذي سقط في غضون شهرين وسقط معه آلاف القتلى. من جهة أُخرى، أدّت المصالحة التي جرت بين دمشق والقاهرة في الخريف إلى تشريع الوجود السوري عبر قوات الردع العربية إثر القرار الذي اتخذته جامعة الدول العربية، ومن بين المهام التي اضطلعت بها دعم جهود الرئيس الجديد الياس سركيس لإعادة الوضع إلى طبيعته.
الخريطة رقم 1: خط التّماس خلال الحرب
الخريطة رقم 2: خريطة بيروت الكبرى المقسومة إلى شرقية وغربية في نهاية الحرب
لكن الحرب لم تنتهِ. ترك اغتيال كمال جنبلاط، الذي جرى ربما بأمر من الرئيس حافظ الأسد، اليسار يتيماً، بالرغم من تولّي ابنه وليد قيادة الحزب التقدمي الاشتراكي، الأمر الذي زاد من حدّة التناقضات الطائفية فيما بعد. وعلى المدى المباشر، أدى إضعاف اليسار إلى توفير هامش أكبر للتدخل السوري في مراقبة البلاد، وزاد في الوقت نفسه من تورط منظمة التحرير الفلسطينية في الشؤون اللبنانية. في غضون ذلك، أتاحت المحاولات لإعادة الهدوء إلى بيروت القيام بوضع مشروع لإعادة إعمار وسطها المدمر، لكن سرعان ما انتقلت الحرب فوراً إلى الجنوب حيث استطاعت إسرائيل إقامة شريط أمني داخل الأرض اللبنانية يشمل ثلاث مناطق تشرف عليها الميليشيات المسيحية. وبعد زيارة السادات لإسرائيل في نوفمبر [تشرين الثاني] 1977، تمكنت إسرائيل أن تتصرف بحرية وتبادر للقيام بأول اجتياح واسع في مارس/آذار 1978 تعدّى حدود "حزام الأمان" الذي يُمسك به حلفاؤها المحليون، ممّا أدى إلى تمركز قوات الطوارئ الدولية في الجنوب التي سرعان ما اضطرها إلى تولّي مهام أمنية وأحياناً تلقّي الضربات. في غضون ذلك، أدى التغيير في الجغراسياسة الإقليمية إلى قطع التحالف القائم بين سورية والأحزاب المسيحية، كما أدى التشنج الملحوظ في بيروت الشرقية منذ خريف 1987 إلى حدوث مواجهات عنيفة طيلة أشهر الصيف الثلاثة. وعُرف هذا الفصل من الحرب بـ "معركة الأشرفية". وبالرغم من المبادرة إلى تسوية جديدة، بقي وسط المدينة الذي تأثر بهذه المعركة "جبهة تقليدية" حتى 1982. ولم تمنع العودة الجزئية إلى الوضع الطبيعي من تفاقم الانشقاقات، ووطدت الأحزاب المسيحية بزعامة بشير الجميل صلاتها بالحكومة اليمينية في إسرائيل التي يترأسها مناحم بيغن. وصل التحالف إلى ذروته أولاً في ربيع 1981 خلال معركة زحلة وأزمة قواعد صواريخ سام السورية المضادة للطائرات المنتشرة في البقاع التي استتبعها التدخل الدبلوماسي للولايات المتحدة، وثانياً خلال الغارات الجوية على أحياء بيروت، وأخيراً في حزيران [يونيو] 1982، إبان الاجتياح الإسرائيلي الأكبر للبنان.
وخلال بضعة أيام، تحول الاجتياح الذي بدأ في 6 حزيران [يونيو] بقيادة أريئيل شارون وزير الدفاع الإسرائيلي إلى حصار منظم لبيروت الغربية. وخلال ثلاثة أشهر تعرّض هذا القسم من المدينة الذي احتشد فيه المقاتلون الفلسطينيون ومقاتلو اليسار إلى قصف مركز على المدينة جواً وأرضاً وبحراً. سيطر الطيران الإسرائيلي سيطرة تامة على الجو وأخذ يصول ويجول في طلعات استعراضية مع فارق وحيد هو أن هذه الطلعات تسببت في وفاة الآلاف. وذات يوم دُمّر مبنى في منطقة الصنائع بثانية واحدة إثر إلقاء "قنبلة فراغية" والسبب أن الإسرائيليين ظنوا أن عرفات موجود فيه. لكن، بصرف النظر عن هذا القصف وعن محاولة اختراق عبر المطار، اصطدم الجيش الإسرائيلي بمقاومة شرسة. وأخيراً فرضت الولايات المتحدة حلاً سياسياً فأرسلت قواتها البحرية لتنضم إلى جنود الفيالق الفرنسية والمشاة الإيطاليين لحماية الجلاء المنظم للقادة الفلسطينيين وغالبية المقاتلين من بيروت. وفي غضون ذلك، أتاح وجود جيش الاحتلال الإسرائيلي تأمين النصاب لانعقاد مجلس النواب تمهيداً لانتخاب بشير الجميل رئيساً لجمهورية لبنان.
لم يتسنَّ للقائد العسكري المسيحي الوقت لكي يرتدي الزي الرسمي حتى لو ضمّن خطابه العديد من الألفاظ المعسولة. بعد ثلاثة أسابيع من انتخابه وقبل عشرة أيام من حلول الموعد لتسلمه مهامه، تسببت محاولة اعتداء على مقر الحزب في مقتله ومقتل الكثير من رجاله. وللحال أفاد الجيش الإسرائيلي من الفرصة لكي يُحكم الحصار على بيروت الغربية ويصادر الأسلحة الثقيلة ويؤمّن رحيل القوى المتعددة الجنسيات. وتلقائياً، تشكّلت مقاومة جديدة في صفوف الأحزاب والحركات. وفيما كان جورج حاوي الأمين العام للحزب الشيوعي ومحسن إبراهيم الأمين العام لمنظمة العمل الشيوعي يطلقان النداء لتشكيل جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية، كان بعض أنصارهم بالاشتراك مع أنصار الحزب القومي وبعض الفدائيين الفلسطينيين الذين بقوا في لبنان، ينفذون عمليات عسكرية ضد الجيش الإسرائيلي. وخلال نزهة كان يقوم بها ثلاثة جنود في شارع الحمراء وخلال جلوسهم على رصيف أحد المقاهي، أطلق مناضل في الحزب القومي السوري الرصاص عليهم وأرداهم قتلى.
كانت بيروت أول عاصمة عربية تقع تحت الاحتلال الإسرائيلي، وانطلقت حركة المقاومة الشعبية التي أسفرت في ظرف ثلاث سنوات، عن انسحاب الجيش الإسرائيلي من كافة الأراضي اللبنانية المحتلة وتحديداً من مدن صيدا وصور والنبطية. لكن، للأسف، حصلت في شهر أيلول [سبتمبر] 1982 أفظع مجزرة بشرية جماعية هي مجزرة صبرا وشاتيلا حيث قُتل أكثر من ألف مدني فلسطيني ولبناني على يد مقاتلين في ميليشيا القوات اللبنانية بمباركة الجيش الإسرائيلي.
وأعادت هذه المجزرة التي أثارت ردود فعل عالمية القوى المتعددة الجنسيات إلى بيروت للقيام بمهمتين: حماية السكان الفلسطينيين المدنيين من جهة، وتقديم الدعم لأمين الجميل الرئيس الجديد، الأخ الأكبر لبشير الجميل الذي جرى انتخابه بشبه إجماع نتيجة الانفعال الذي أثاره مقتل أخيه. وبما أنه كان أكثر اعتدالاً في مواقفه من أخيه المتوفى، أو ربما بسبب من ذلك، لم يستطع أمين الجميل أن يتفاهم مع القوات اللبنانية، ولا أن يُرغم إسرائيل على الانسحاب دون تقديم تنازلات تمسّ السيادة. وظهرت التناقضات الطائفية من جديد وعادت معها الحرب الأهلية عبر الشوف بين القوات اللبنانية ودروز وليد جنبلاط. واستعدّت سورية التي عززت تسلحها بفضل الاتحاد السوفياتي أيام أندروبوف، للضغط من جديد، فيما أدى الخلاف بين إيران والولايات المتحدة إلى القيام بعملية انتحارية ضد السفارة الأميركية تبعتها عمليتان انتحاريتان متزامنتان ضد معسكر المارينز ومقر دراكار للجنود الفرنسيين. ووسط هذه الأجواء، عادت الحرب إلى بيروت في خريف 1983. وعادت من جديد البيروتان، بيروت الشرقية وبيروت الغربية وبينهما خط التّماس نفسه ووسط المدينة المدمّر نفسه حتى عام 1990 موعد انتهاء ما سُمّي "حرب التحرير" التي أعلنها الجنرال ميشال عون ضد الجيش السوري.
لم تتغير جغرافيا بيروت، بل ظل الترقب سيد الموقف. أخذت بيروت الغربية، التي تشكل القسم الغالب من المدينة الإدارية تبهت ابتداء من الثمانينات بالمقارنة مع بيروت الشرقية التي واصلت امتدادها المتزايد على الشاطئ الشمالي لتطال مرتفعات الجبل. وفي البيروتَين، طالت المعارك جميع الأحياء بالتناوب أو بالتزامن. لكن الشاهد الأكبر على طول الحرب كان الميدان المقلق لوسط المدينة. وبعد كل فترة هدوء، أصبح وسط المدينة المكان الذي يجسد الرفض لاستعادة السلام.
وعندما كانت الحياة تسعى أحياناً لاستعادة مجراها في الأمكنة الأُخرى، كانت "الجبهات التقليدية" تأتي للاستقرار فيها بطريقة آلية لتمنع عودة الحياة إلى طبيعتها. نجا شارع المصارف المهجور من الدمار بإرادة خفية من أصحاب المال والنفوذ من جميع الطوائف. وانتقلت إلى بعض الأنحاء مجموعات من حزام البؤس التي شرّدتها الحرب. أمّا وسط المدينة الواقع بين ساحة الشهداء وساحة النجمة وشارع فوش وشارع أللنبي وسوق الطويلة، فصار مسرحاً للكلاب الشاردة الباحثة عن قوتها. ونمت الأشجار والنباتات البرية التي لم يقف بوجهها شيء من قلب ركام الأبنية لتعلن موت المدينة. وكانت الهياكل المتفحمة لفندقَي فينيسيا والسان جورج تحرس وسط العاصمة الكوسموبوليتية للشرق التي لم تعد إلّا عاصمة الألم.<
* هذا النص هو الفصل الحادي والعشرون من كتاب: سمير قصير، "تاريخ بيروت"، ترجمة ماري طوق غوش (بيروت: دار النهار، 2006).
المصادر:
[1] Ghassan Salamé, Le Théâtre politique au Liban (Beyrouth: Publications du Centre Culture Universitaire, Dar al-Machreq Editeurs, 1975).
[2] راجع:
Agnès Favier, Générations politiques au Liban, Université d’Aix-Marseille 3.
[3] راجع:
Claude Dubar et Salim Nasr, Les classes sociales au Liban (Paris: Presses de la Fondation Nationale des Sciences Politiques, 1976), p. 328.
[4] Halim Barakat, “Social Factors Influencing Attitudes of University Students in Lebanon Towards the Palestinian Resistance Movements”, Journal of Palestine Studies, no. 1 (Autumn 1971); J. Jabra et N. Jabbara, “Political Culture and the Rural Urban Dichotomy in Lebanon”, Political Science Review (Jaipur, India), vol. 19, no. 3 (July-September 1980).
[5] وضاح شرارة، "السلم الأهلي البارد: لبنان، المجتمع والدولة، 1964 – 1967" (بيروت: معهد الإنماء العربي، 1980)، ص 767.
[6] Fawaz Traboulsi, “Identités et solidarités croisées dans les conflits du Liban contemporain”, thèse de doctorat en histoire, université de Paris-VIII, p. 767.
[7] Albert Hourani, “Ideologies of the Mountain, Ideologies of the City”, in: Essays on the Crisis in Lebanon, edited by Roger Owen (London: Ithaca Press, 1976), p. 40.
[8] Traboulsi, op. cit., p. 444.
[9] Wadi R. Goria, Sovereignty and Leadership in Lebanon, 1943-1976 (London: Ithaca Press, 1985), pp. 142-146.
[10] Walid Khalidi, Conflict and Violence in Lebanon: Confrontation in the Middle East (Cambridge, Massachusetts: Harvard Center for International Affairs, 1979), p. 73.
* في عام 1989، استعاد اتفاق الطائف معظم هذه النقاط، باستثناء ما يتعلق بقيادة الجيش، وأُدرجت عام 1990 في الدستور.
[11] Michael Johnson, Class and Client in Sunni Beirut: The Sunni Muslim Community and the Lebanese State, 1840-1985 (London: Ithaca Press, 1986), p. 149.
[12] Fouad Ajami, The Vanished Imam: Musa al-Sadr and the Shia of Lebanon (New York: Cornell University Press, 1986), pp. 48-49.
[13] Traboulsi, op. cit., pp. 17-18, 28-30.
[14] راجع:
Jabra et Jabbara, “Political Culture…”, op. cit.
[15] Goria, op. cit., pp. 157-172.
[16] Philippe Rondot, Le Proche-Orient à la recherche de la paix, 1973-1982 (Paris: Presses Universitaires de France/PUF, 1982), p. 68.
[17] جوزيف أبو خليل، "قصة الموارنة في الحرب" (بيروت: شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، 1990)، ص 17 - 18، 27.
[18] Samir Kassir, La Guerre du Liban: De la dissension régionale au conflit regional (1975-1982), (Paris: Karthala/Cermoc, 2nd édition, 2000), pp. 76-79.
[19] Frank Stoakes, “The Supervigilantes: The Lebanese Kataeb Party as a Builder, Surrogate and Defender of the State”, Middle Eastern Studies, vol. 11, no. 3 (October 1975); Karim Pakradouni, La Paix manquée: Le mandat d’Elias Sarkis (Beyrouth: Editions D’art FMA, 1983), p. 100.
انظر أيضاً: أبو خليل، مصدر سبق ذكره، ص 18.
[20] راجع:
Traboulsi, op. cit., p. 454.
[21] راجع:
Johnson, op. cit., p. 180.
[22] Ibid., p. 178; Khalidi, p. 99.
[23] راجع:
Johnson, op. cit., p. 182.
[24] Kassir, op. cit., pp. 95-102.
[25] بشأن الحرب بين سنتَي 1975 و1982، راجع: Ibid.