الضم الإسرائيلي للأراضي المحتلة بدأ منذ زمن بعيد، فقد فُبرك قبل 53 عاماً، وهو مستمر منذ ذلك الحين حتى اليوم من دون توقف؛ إنه عملية طويلة وممنهجة لضم أراضٍ محتلة، يسمونها في ألمانيا أنشلوس [عملية عسكرية سلمية جرى بموجبها ضم جمهورية النمسا إلى ألمانيا النازية، ولقيت ترحيباً حاراً من طرف العديد من النمساويين]. إن الذي تثور ثائرته اليوم ضد إمكان إعلان إسرائيل ضم مناطق في الضفة الغربية، لم يقم بزيارة إلى هناك منذ وقت طويل، ولا يعرف خريطة هذه المناطق، ولا واقع الحياة فيها. الضفة ضُمت منذ وقت طويل، فهي كلها مزروعة بالمستوطنات، كما أن الخط الأخضر مات منذ وقت طويل، وهو الآن موجود فقط كأداة لمنع حق انتقال الفلسطينيين إلى إسرائيل ذات السيادة.
لدى انتهاء حرب 1967 ترددت إسرائيل بشأن ماذا تفعل بالأراضي الجديدة التي احتلتها - من المحتمل أنها تظاهرت بذلك، أو أنها ترددت فعلاً - لكن القرار اتُّخذ بسرعة: الاحتلال سيبقى إلى الأبد. هو وُجد هنا كي يبقى، لا كي يزول في يوم من الأيام، وكل ما عدا ذلك هو خديعة مستمرة منذ ذلك الوقت؛ خديعة تدّعي أن الاحتلال ظاهرة موقتة، والمناطق هي فقط "ورقة مقايضة" حتى مجيء السلام المنشود، والمستوطنات أقيمت كي تفكَّك في يوم من الأيام. اُعثروا على شريك فلسطيني للسلام مع إسرائيل، وعندها سنخرج من المناطق، وسنُخلي المستوطنات، ونعيد المستوطنين، والاحتلال سينتهي.
العالم وقع في فخ هذه الخديعة مثلما وقع فيه معظم الإسرائيليين. وحدهم المستوطنون عرفوا الحقيقة على الرغم من صرخاتهم بأن هناك مَن ينوي إجلاءهم أو القضاء على مشروعهم. وباستثنائهم، كان من الأسهل على الجميع التصديق بأن الاحتلال موقت. هذه الخديعة تتيح وضع خطط سلام لا نهاية لها، والقيام بعمليات سلام لا تُحصى من دون أن تسفر عن شيء على الإطلاق، وعقد مؤتمرات ومحادثات سلام، وهي التي سمحت بقيام اتفاق أوسلو الذي كان أوضح وثيقة تثبت أن إسرائيل لا تنوي أبداً إنهاء الاحتلال: أوسلو لم يتطرق إلى المسألة الأساسية الأكثر مصيرية وهي مسـألة المستوطنات، وهذا لم يحدث مصادفة، وإنما كان جزءاً من الخديعة.
ومع شعار "الدولة الفلسطينية على الأبواب"، وبرعاية أوسلو، نجحت إسرائيل في زيادة عدد المستوطنات ثلاثة أضعاف. الكل كان راضياً، والكل غضّ النظر، وكلهم عرفوا وسكتوا.
وتحت رعاية هذه الخديعة، ربحت إسرائيل العنصر الضروري لتعميق الاحتلال وترسيخه: عنصر الوقت. حصلت إسرائيل على الوقت لبناء مزيد من المستوطنات، وطرق التفافية، وبنى تحتية بديلة، وتوطين آلاف الإسرائيليين اليهود في الضفة الغربية والقدس الشرقية، وهو ما يتعارض مع القانون الدولي الذي يمنع ذلك، لكنه لا يتعارض مع اتفاق أوسلو الذي لم يمنعه. العالم عبّر أكثر من مرة عن احتجاجه بصورة واهنة على شكل تنديدات، وضريبة كلامية بائسة، لكن الإسرائيليين كانوا مقتنعين بأن مسرحية الاحتلال الموقت حقيقية، وأن جميع الأموال الضخمة التي وُظفت في المشروع الكولونيالي لبلدهم، هدفها تأسيس ظاهرة موقتة زائلة.
كانت هذه خديعة القرن. وكان من الأسهل على الجميع - الولايات المتحدة وأوروبا والسلطة الفلسطينية التي قامت في هذه الأثناء ضمن إطار هذه المسرحية التافهة للدولة الفلسطينية التي على الأبواب، وطبعاً الإسرائيليون الذين أرادوا فقط أن يريحوا ضمائرهم - ألّا يروا قبح الاحتلال، وألّا يدفعوا أو يعاقَبوا بأي طريقة من الطرق على وجوده. عندما يكون الاحتلال موقتاً، كل شيء يصبح مسموحاً.
في هذه الأثناء، استُبعد الاحتلال عن جدول الأعمال الإسرائيلي بصورة مطلقة تقريباً. فبعد الانتفاضة الثانية، وبعد فشل مؤتمر كامب ديفيد الذي شارك فيه إيهود باراك وياسر عرفات، انهار معسكر السلام في إسرائيل، والذي منذ البداية لم يكن صارماً ومتماسكاً بما فيه الكفاية، ومنذ ذلك الحين لم يُعَد بناؤه. الكذبة التي أطلقها باراك بعد عودته من كامب ديفيد نجحت نجاحاً كبيراً، وفحواها أنه لا يوجد شريك فلسطيني لإسرائيل، بينما قام استهداف الباصات، وتفجير الانتحاريين أنفسَهم في ساحات المدن، بما تبقّى. قررت إسرائيل أن تسدل الستار على الفلسطينيين، وعلى حقوقهم وضائقتهم وكوارثهم، ولم يعد يهمها بعد الآن مصيرهم ومستقبلهم. لقد أُبعدت احتمالات السلام مع الفلسطينيين عن النقاش العام الداخلي في إسرائيل، فالسلام لم يعد كلمة ذات محتوى، كما أن الدولة الفلسطينية باتت شعاراً فارغاً، وتحول الاحتلال والمستوطنات إلى أمور طبيعية في نظر أغلبية الإسرائيليين، ولم يعد أحد يتحدث عن السلام. انتقلت إسرائيل إلى موضوعات فردية تتعلق بالناس الذين يعيشون فيها، كالاقتصاد، والدين، والمجتمع، وأوقات الفراغ، والعائلة، وأهملت بحث الموضوع الذي يحددها ويبلورها أكثر من أي موضوع آخر.
هكذا بدأت أكبر عملية كبت وإنكار في المجتمع الإسرائيلي، بمساعدة وسائل الإعلام، المتعاون الأكبر على إخفاء الاحتلال. ففي رأي هذا الإعلام، إذا لم نتحدث عن الاحتلال، ولم ننشر تقارير عنه، فهذا يعني أنه غير موجود، ذلك بأن الفيل الكبير الموجود في الغرفة لا يكون موجوداً فيها إذا لم ننظر إليه. وحتى حقيقة وجود شعب فلسطيني تحولت إلى موضوع خلاف في إسرائيل، بل إن الحجة القائلة بعدم وجود مثل هذا الشعب بدأت تترسخ من جديد كما في أيام الاحتلال الأولى.
في ظل شعور بلا جدوى المفاوضات السياسية، وجدت إسرائيل الحل: إنكار الواقع. مجتمع بأكمله دخل في العتمة، لا يعرف شيئاً عن واقع الاحتلال ولا يريد أن يعرف شيئاً. وتطوع عملاء المعلومات، وعلى رأسهم وسائل الإعلام بدعم من الحكومة والأذرع الأمنية، من أجل المساهمة في ترسيخ هذا الشعور الوطني الذي لا يريد أن يعرف شيئاً ويجد تبريراً لكل شيء. إنه نظام لا مجال آخر لوصفه سوى أنه نظام أبارتهايد يعتبره أصحابه النظام الديمقراطي الوحيد في الشرق الأوسط، كما أن جيش الاحتلال الذي يُعتبر من أكثر الجيوش وحشية في العالم، هو في نظر كثير من الإسرائيليين الجيش الأكثر أخلاقية في العالم. ومع ذلك، فإنه على بعد مسافة نصف ساعة من منازلنا يعيش الجيل الثالث والرابع من اللاجئين وأحفادهم مقتلعين من دون حقوق، وقابعين وراء القضبان وتحت أحذية الظالمين واللصوص - مَن في إسرائيل يهمه أمرهم، ومَن يريد أن يسمع شيئاً عنه؟
لا يبدو أن هناك طريقة أُخرى سوى الكبت والإنكار من طرف دولة قمعية في باحتها الخلفية توجد ديكتاتورية وحشية عسكرية تستخفّ بالقانون الدولي، وبقرارات المؤسسات الدولية، وتشعر في الوقت عينه بأنها على حق وليست مدانة أخلاقياً. الإسرائيليون بارعون في ذلك، وبمساعدة وسائل الإعلام طوروا مهارة لا تُصدّق من أجل التعايش مع الاحتلال، مصحوبة بقناعة داخلية عميقة بأن الاحتلال غير موجود، أو أنه نوع من القدر، قوة عليا، ولا يوجد خيار آخر، أو أنه ليس فظيعاً على الإطلاق.
جاء وقت بدأت فيه عملية مشابهة في أنحاء العالم: العالم تعب وضجر ولم يعد مهتماً. إن فرض عقوبات على إسرائيل لم يكن قط احتمالاً قائماً جرّاء أحداث الماضي، لكن بسبب نفوذ إسرائيل وقدرتها على الابتزاز، فإنها عرفت كيف تتجاهل التنديدات العديمة الأهمية. هكذا، وبالتدريج، بدأ العالم أيضاً في إبعاد الاحتلال الإسرائيلي عن جدول أعماله، وتحول إلى موضوعات أُخرى أكثر إلحاحاً. تُرك الفلسطينيون وحدهم في مواجهة مصيرهم، في عزلة لم يشهدوا مثلها منذ سنة 1948، وحتى الدول العربية لم تعد مهتمة بهم. وعندما وصل إلى الحكم في الولايات المتحدة رئيس يحب الطغاة ويمقت الضعفاء والمظلومين، شعرت إسرائيل حينها بأن هذه هي اللحظة الملائمة من أجل تحقيق إنجازات وجعل الاحتلال مستمراً إلى الأبد. إن الضم بات ممكناً بصورة قانونية، وهو ليس مطروحاً فقط كأمر واقع، بل أصبح تحقيقه ممكناً.
ما يبعث على الدهشة أكثر من أي شيء هو أن معارضة ضئيلة نشأت في إسرائيل ضد الضم، لكن العالم أيضاً استقبل هذا الأمر حتى الآن بصوت ضعيف. فالكنيست يضم أغلبية واسعة تؤيد الضم، وباستثناء مجموعة صغيرة من الاحتجاجات الشعبية، فإن المجتمع الإسرائيلي ليس مهتماً بالموضوع، لأن الآن هو زمن كورونا، والناس تقلقهم أمور أُخرى. وحتى الفلسطينيون الذين يعيشون في المناطق تحت الاحتلال لا يُظهرون في هذه الأثناء اهتماماً خاصاً بالضم، وبالتأكيد لا يبدو أنهم مصممون على خوض نضال ضده، باستثناء تظاهرات منظمة بصورة جيدة. هذا الذي يحدث في أيام اليأس والانقسام والعزلة وغياب قيادة، وعدم وجود روح نضالية.
دول العالم، من جهتها هددت باتخاذ خطوات لا تزال حتى الآن في الحد الأدنى، لكنها في جميع الأحوال، لا تبدو قادرة على كبح إسرائيل. المفتاح كان وسيبقى في واشنطن حيث يوجد رئيس يصارع من أجل بقائه، بينما يوجد في إسرائيل رئيس حكومة متهم جنائياً يريد أن يحوّل الضم إلى إرث له.
لدى كتابة هذه الأسطر في نهاية حزيران / يونيو، ليس واضحاً بعد ما هي وجهة الضم، وكيف سيجري الرد عليه في المنطقة والعالم، لكن من الواضح أن أي خطوة ولو رمزية يمكن أن تحدث. وعلى ما يبدو، فإن المعارضة لهذه الخطوة، داخلياً في إسرائيل، وفلسطينياً في المناطق المحتلة، وعلى الصعيد الدولي، ليست قادرة على وقفها.
يمكن الافتراض أن السماء لن تقع عندما سينفَّذ هذا الضم الجزئي. صحيح أنه سيفتح الباب أمام مزيد من عمليات الضم، وخصوصاً إذا كانت المعارضة ضعيفة. وصحيح أيضاً أن هذا سيقضي نهائياً على أي احتمال لقيام دولة فلسطينية، وسيُدخل إلى دائرة الحديث في إسرائيل والعالم، مصطلحاً جديداً هو مصطلح الضم. لكن إلى جانب هذه الظواهر الخطرة يمكن أن تنمو أيضاً ظاهرة معينة عن الضم.
الضم سيشكل مرآة بالنسبة إلى الذين ينكرون الواقع في إسرائيل وفي العالم، وسيمزَّق قناع الاحتلال الموقت، وسيظهر علناً ما نعرفه منذ وقت طويل: الاحتلال ليس موقتاً، ولم يخطط له قط لأن يكون موقتاً بالنسبة إلى إسرائيل والولايات المتحدة، فالدولتان لم تنويا قط إنهاءه. الضم سيُظهر أيضاً ما كان يجب أن يكون واضحاً منذ وقت طويل: المقصود هو نظام أبارتهايد، أولاً كواقع على الأرض، والآن أيضاً قانونياً. فإذا ضمت إسرائيل أراضي من دون أن تمنح جميع سكان هذه الأراضي حقوقاً مدنية قومية كاملة ومساواة، فإنه لا يمكن تعريفها سوى كدولة أبارتهايد. وإذا كان في هذه الأراضي جماعتان من السكان: الأولى تحظى بالحقوق كلها، والأُخرى محرومة منها، فعندئذ ما يبدو ظاهرياً كأبارتهايد ويتحرك ويتصرف كأبارتهايد، سيصبح علناً أبارتهايد. لا يستطيع الإسرائيليون أن ينكروا بعد الآن وجود هذا النظام في بلدهم، ولن يكون في استطاعة دول العالم الاختباء وراء أعذار واهية.
حينها سيُطرح على العالم السؤال: هل هو مستعد للقبول بوجود دولة أبارتهايد ثانية، وهل هو مستعد لخوض الصراع ضدها مثل الذي خاضه ضد دولة الأبارتهايد الأولى وبالجهد والإصرار ذاتهما؟ هذا تحديداً تطور يبعث على الأمل.
* المقالة بالعبرية وترجمتها رندة حيدر.