لم تكن زيارة عادية للسجن، بل اختلفت عن سابقاتها. إنها أول زيارة أقوم بها كمحامية، ولم يكن موكّلي الأول إلاّ زوجي. كان الأمر غريباً، وراودني خليط من المشاعر. كأنني لم أزر هذا المكان على مدار تسع سنوات، وكأنني لا أحفظ كل بقعة فيه.
بلا عنوان، مصطفى الحلاج، ١٩٨٥
صحيح أن اللقاء سيجري هذه المرة أيضاً من خلف زجاج والحديث من خلال سماعة هاتف، إلّا إنني سأجلس في غرفة المحامين وحدي من هذا الجانب، لا عائلات تقاسمني الزيارة ولا "أجهزة تنصت ومراقبة" علنية على محادثتي، على الأقل ليس كما في غرفة زيارات الأهل حيث، بالإضافة إلى الأجهزة، يتجول السجانون بين الأسرى والعائلات.
الساحة هي نفسها، والسجن نفسه، والأسير نفسه .. وأنا. لكن كل شيء تغير، كل شيء اختلف فالسياق ليس ذاته. كانت زيارتي الأولى للسجن قبل تسع سنوات، بعد الاعتقال بأسبوعين عندما جرى إلغاء أمر منع النشر والتكتّم، ومعها أُلغي أمر منع اللقاء مع المحامين وسمح للأهل بالزيارات.
كانت تلك الزيارة مشحونة بالمشاعر المتضاربة والتوتر والقلق، وكانت أول مرة طوال حياتي أزور فيها السجن. لم أكن أعرف يومها أن أول زيارة ستصادف يوم وفاة أبي، وأنني سأضطر إلى زيارة السجن والذهاب مباشرة إلى جنازة والدي والجلوس هناك في مقابل المُعزّين والمعزّيات بينما ذهني ومشاعري موزعة بين السجن والجنازة وابنتيّ اللتين تركتهما في حيفا بعد زيارة السجن بانتظار عودتي من الجنازة.
لم أكن أعرف يومها ماذا ينتظرني. لأجد نفسي ألتقي زوجي من خلف زجاج فاصل لا ينقل المشاعر، بل ينقل برودة الزجاج. حين وضعت يدي عليه تساقطت ببطء بقايا أنفاس من سبقوني من زوار وربما قبلات طبعوها على ذاك الزجاج لتُشكل طبقة تمنع انعكاس الصورة كاملة من الطرف الآخر للحاجز. لم أكن أعرف أنني وبعد أن اطمأنيت على صحته ووضعه وسمعت أخباره، فـأنا لم ألتقِه منذ يوم الاعتقال المفاجئ بعد مداهمة بيتنا في ساعات الفجر، لم كن أعرف أنني سأقول له عبر سماعة الهاتف السوداء: "لا تقلق أنا والبنات بخير، والدي توفى هذه الليلة وأنا في طريقي إلى الجنازة." لاحقاً قال لي إنها كانت من أصعب لحظات السجن على مدار تسع سنوات، وذلك لعدم القدرة على تعزيّتي وحضني والوجود بقربي. لحظة شابهتها بصعوبتها يوم زرته مُعلنة له وفاة والده ومن ثم والدته.
زيارات تكررت وتنوعت فيها الأحداث والصعوبات والمشاعر، فرح وقلق وحزن وتوتر، وغضب وتعب على مدار تسع سنوات. لكن الزيارة هذه المرة لا تُشبه سابقاتها. لم أدخل من بوابة الأهل ولم أقف في صف الانتظار كثيراً، ولم يتم تفتيشي جسدياً ولم يطُلبوا مني خلع حذائي .. بل إنني ما إن قلت للحارس وأنا داخل سيارتي: "محامية" حتى رأيت الحاجز الحديدي يرتفع ليسمح لي بركن سيارتي في مصف السيارات الداخلي المُعد لطواقم السجن والمحامين. ولم أضطر إلى ركنها على رصيف من تراب والسير مسافة ليست بالقليلة، إذ كنا نضطر إلى الركض أحياناً في الشتاء كي لا نتبلل بالمطر وأيام الحر الشديد نتصبب عرقاً من حرارة الجو في منطقة الأغوار، قبل أن نصل أول بوابة تغلق من خلف الأهل ومن ثَمّ ينتظرون عبور البوابة الثانية.
كنت أنا نفسي وكان هو ذاته، لكن الأجواء من حولنا تغيرت وتبدّلت .. حضرت كمحامية أحمل معي قلم حبر شفاف كما هي التعليمات وبعض أوراق وضعتها في كيس نايلون شفاف. وأوراق أُخرى بينها توكيل من موكّلي الأول مرّرتها له من خلال السجّان، وقّعها وعادت إليّ في الطرف الآخر من الغرفة.
قررت يومها أن أرتدي الزيّ الرسمي للمحامين، لأكون في كامل هيئتي كمحامية أمامه.
اعتذر لي السجان حين مررت من الحاجز الإلكتروني إذ انطلقت صافرة الكشف المعدني، وسارع السجان للتبرير قائلاً إن السبب هو المعدن في حذائي الشتوي. لم يطلب أن أخلع ساعة يدي كما يُطلب منا نحن الأهل، حتى صرت امتنع في زياراتي السابقة كزوجة أسير من وضع أي ساعة أو أكسسوارات تحاشياً لتوتر بيني وبين السجان تكون عواقبه أن لا أتنازل عن حقي، وإن حدثت مشادة كلامية يُحتمل أحياناً منع الزيارة أو تعويقها وهو ما يتحول إلى عقاب جماعي وينغّص على الأسرى والعائلات جميعاً. وفي ساعات الانتظار لبدء الزيارات تهتم العائلات بعدم إتاحة المجال لأي ذريعة للسجان بإلغاء الزيارة، وهذا يشكل هاجساً دائماً في كل زيارة ويزيد التوتّر الذي يعلو منسوبه خلال إجراءات الدخول.
كان الموقف في هذه الزيارة كأنه حلم، ولم أصدق حقاً أنني صرت محامية وأنني أزور زوجي الأسير. بدأ الأمر قبل أعوام بعد الحكم عليه بالسجن تسع سنوات، قلت إنني سأدرس المحاماة، شجعني وحثني على ذلك، وبدعم بناتي وأصدقائي وصديقاتي والكثير من الناس الطيبة وجدت نفسي أنهي اللقب الأول ومن ثم لقب ثان بموضوع القانون. كان الأمر بالنسبة إليّ تحديّاً، فنجحت، وحصلت على رخصة مزاولة المهنة. وعدته أنني سأزوره كمحامية وكانت سنوات السجن كافية لتحقيق هذا الوعد. وها أنا أحضر إلى السجن لزيارته كمحامية شهرين قبل التحرر. فأجدني أقف داخل السجن، خلف بوابة تفصلني عنه، وبعد قليل ستفتح أمامي.
كان المشهد غريباً حين فتحت البوابة ما بين غرفة انتظار المحامين والممر المُوصل إلى غرف زيارات المحامين، كان يجلس هناك في غرفة طاقم الاستقبال- استقبال الأهل في الغرفة المجاورة، الطاقم ذاته من السجانين المسؤولين عن زيارات الأهل وتفتشيهم ومراقبتهم. وكنت من الأهل على مدى تسعة أعوام.
فتح لي السجان باب الغرفة الحديدي الخارجي ومن ثم باباً إضافياً زجاجياً داخلياً يفصل بين غرفتي المحامين وكل منها تحوي مقعدين. شبابيكها مقفلة ومحاطة بالحديد من الداخل، دلّني على زر تشغيل المكيّف وعلى زر الطوارئ لضغطه إن احتجت أمراً ما وأقفل من الخارج بالقفل.
لم أكن مضطرة إلى مراقبة الساعة الكهربائية ذات الأرقام الحمراء على الحائط قبالة العائلات في قاعة الزيارات، وذلك كي لا تُغافلنا وتُعلن انتهاء الوقت. لقد كان الأمر أحياناً مُتعباً ويضطرنا إلى أن ننشغل أحياناً خلال الزيارة على حساب محادثتنا بعدّ الدقائق المتبقيّة كي لا يغافلوننا ويقطعون التواصل، وأحياناً يسرقون من وقتنا دقيقة أو اثنتين يتحول فيها الموضوع لمبدئي تدار حوله معركة من الأهالي والأسرى في مواجهة السجان. هكذا أيضاً كنا نفعل أيام العيد عندما تتحول الربع ساعة المضافة إلى الزيارة إلى حدث له أهميته ولا يمكن التنازل عنه. إن وقت الزيارات المتراكم بحساب سنوي لا يتجاوز العشرين ساعة، وفي حال كانت الزيارات شهرية يتضاءل ويشارف على العشر ساعات.
كان منع وضع ساعات اليد مثيراً للتساؤلات بين العائلات. إنه إجراء، وعلى الرغم من أن اللقاء مع الأسير يتم من خلف حاجز زجاجي فاصل فإن الأهل يمرون بمرحلتي تفتيش، إلكتروني وجسدي. ولطالما تساءلت لماذا يتم إبقاء هذا الإجراء؟ وماذا يخدم غير كونه يهدف إلى تأكيد السيادة على المكان وإضافة في القمع والتنغيص إذ لا يمكن التواصل الجسدي مع الأسير، وما الهدف من عدم معرفتنا الوقت أو ارتباطنا بساعاتهم وهم يحددون لنا إطار الزمن من خلالها؟
مرّت في مخيلتي كل تلك الأفكار وأنا أنتظر قدوم أمير من الطرف الآخر. تذكرت ذاك الطفل ابن الرابعة أو الخامسة من العمر حين حضر برفقة والدته لزيارة والده في ثياب العيد، وكان يضع ساعة يد جديدة حجمها يعلن صغر سنّه وكان فرحاً بها يلعب في أزرارها ويلوح بها ليرينا إياها ونحن ننتظر معه ومع والدته دخولنا بوابة السجن ويتحدث عن أنه يريد أن يعرضها لأبيه، إلى أن أصرّت السجانة بعد أن مرّ بالبوابة الخارجية أن تأخذ منه الساعة وتبقيها عندها في المكتب، ليعلو صراخه ومن ثم بكاؤه ومن ثم شتائمه. ولم تنجح محاولات والدته في إقناعه بخلع الساعة ولم تنجح محاولتنا في إقناع السجانة بأنه طفل وأنها مجرد ساعة هدية العيد .. فأخذتها من يده عنوة ..
بقي صراخه في أذني لساعات وهو يشتم ويركل ويبكي على أرضية غرفة الانتظار ومن ثم غرفة الزيارة. شعرت يومها كيف تعمل آلة القهر والقمع، لكن في مكان ما في داخلي شعرت كم هي بائسة هذه السجانة وما تعتقد أنها تقوم به وتمثله إن كانت تظن أنها من خلال قهر طفل صغير ستقهر والده أو الزائرين الموجودين هناك. وللحقيقة فقد تلذذت أول مرة في حياتي من سماع شتائم الطفل تنطلق في الهواء.
طال الانتظار، شعرت ببعض القلق والخوف. ولأول مرة في حياتي أكون في غرفة سجن مغلقة مقفلة بالأقفال من الخارج .. أخذني هذا إلى التفكير في الأسرى، في مشاعرهم داخل الزنازين حيث لا خارج ولا زمن.
فتح باب ومن خلفه أطل أمير مبتسماً كعادته .. وقفت له مبتسمة. أغلق السجان باب الغرفة.