A Deconstructive Reading in the Map of Oppression: A Review of "Administrative Detention in Palestine as Part of the Imperialist System"
Date: 
August 27 2020
Author: 

كثيراً ما يحدث أن يشعر كتبة التقارير الحقوقية بالإحباط، وذلك نتيجة عدم تلمّس جدوى ما يكتبونه ومدى المردود منه. ثم يحصل فجأة أن يعيد أحدهم الاعتبار إلى هذه التقارير، ويبثّ فيها الحياة. ها هو عبد الرازق فراج المعتقل حالياً، والأسير سابقاً والمعتقل الإداري لمرات عديدة في مسيرته، يضع التقارير في قالب مكثَّف لا تقريري، ويملأ الأرقام بالأسماء وبقصص إنسانية في مواجهة قهر المستعمر. كما يسعى إلى توضيح السياق التاريخي والآني للاعتقال الإداري المعمول به ليعيد استخدام أنظمة الطوارئ والاعتقال الإداري إلى "اللحظة الأولى لبداية النكبة الفلسطينية كجزء من منظومة الاحتلال الاستعمارية ضد الشعب الفلسطيني" (ص23).

وهو يعرض كل ذلك بأسلوب يجمع السردي والتحليلي، ليشكل ما يقدمه كتاباً مرجعياً قائماً في الأساس على تجربته الفردية والجماعية التي اغتنت، بشكل متميّز، بفهم متاهات منظومة القهر متعددة الأذرع التي يمتلكها المستعمر، لكنه ليس فهماً من أجل الاجتهاد البحثي وإنما بهدف التحرر من هذه المنظومة، في معركة مفتوحة يشكّل الاعتقال الإداري أحد تجلياتها.

إن هذا السياق مهم في حد ذاته، لأنه يعتمد مدخلاً تحليلياً قائماً على مفهوم الاستعمار وتفكيك الاستعمار، كما يسعى إلى التأكيد على المنظومة الواحدة للاستعمار، حتى لو كانت انعكاساتها وتجلياتها متعددة ومختلفة، وتقوم بتنفيذها أذرع مختلفة للجهاز ذاته. وبهذا، يزودنا الكاتب بوحدة تحليل يقوم في محورها الوطن الفلسطيني، ولا تنحصر، في بعدها التاريخي، في حدود احتلال سنة 1967، بحيث لا يقع الكاتب، ولا يريد لأحد أن يقع، في "مصيدة الخط الأخضر"[1] .

إن الاعتقال الإداري، كما يوضح ذلك عبد الرازق فراج، مرتبط بجوهر المستعمر بغض النظر عن احتلاله الأول سنة 1948 أو الثاني سنة 1967. كما يقدم عبد الرازق فراج مسحاً متكاملاً، يمكن أن نطلق عليه "خارطة القهر"، وذلك من وجهة نظر المتلقّي، أي ضحية الاستعمار، مع التأكيد أن الكاتب لا يستخدم مفهوم الضحايا، بل المقاومة.

الكتاب هو نص مكثف، يقدم صورة متكاملة المعالم للاعتقال الإداري. وإذ قام د. ماهر الشريف بتكثيف المكثّف في استعراض شامل وشيّق للكتاب، فإنني ألفت النظر إلى رابط مقال الشريف[2] كي أسعى للتوقف عند نقاط محددة في الكتاب، تشكّل في اعتقادي القيمة الإضافية لهذا المنتوج المعرفي.

التجديد في مفهوم التعذيب

أشار الكاتب في مقدمة كتابه إلى أن ما قام به "ليست دراسة قانونية مختصة"، وإنما هو يستعرض تجربة من وجهة نظر إنسان خاضها وعانى منها، وبذل مجهوداً ذهنياً لافتاً في مراقبتها ودراستها وتحليلها أيضاً. وهو بلور، من خلال استعراض التجربة، مفاهيم يصعب على الدراسات القانونية النفاذ إلى مساحاتها.

إن إحدى القيم المضافة للكتاب تكمن في أن عبد الرازق فراج يعيد تعريف التعذيب، بحثياً وسياسياً، في سياق الاعتقال الإداري. فالمتعارف عليه هو التعامل مع التعذيب في سياق الاعتقالات الميدانية، وتحقيقات جهاز الأمن العام الإسرائيلي الشاباك. بيد أن فراج يمنح مفهوم التعذيب أبعاداً جديدة، سواء بالنسبة للمعتقل الذي يتعرض لتعذيب فردي، أو للأسرة التي تتعرض لتعذيب وعقاب جماعيين. وبحسب عبد الرازق، فإن التعذيب يتجسد في الاعتقال الإداري حتى من دون تعذيب جسدي، إذ هو تعذيب روحي نفسي للمعتقل وأسرته على السواء. أي إن للتعذيب ارتدادات تنعكس على البيئة الاجتماعية المحيطة بالمعتقل الإداري، كما أي معتقل فلسطيني. فالجميع يعيش جوانب مختلفة ومتشابكة من الحالة ذاتها. ويؤكد الكاتب أن قهر الفرح الكامن بالفرج المتوخى هو في حد ذاته تعذيب وتنكيل، وهذا يحدث حصرياً في الاعتقال الإداري المتكرر وفي طبيعة هذا الاعتقال. إنها مفاهيم قد تكون حصرية بالشعب الفلسطيني الواقع تحت نير المنظومة الاستعمارية الصهيونية، لكنها تمنح، في الوقت نفسه، دراسات التعذيب، كما حركة مناهضته، بعداً إضافياً يكشف كنهه.

فالمعتقل الإداري لا يعرف علام هو معتقل، ولا إلى متى سيطول اعتقاله، إذ إنه كثيراً ما يجري تجديد الاعتقال الإداري مرات ومرات. كما هو يخضع لاعتقال مبن في الجوهر على الظن وليس على ما قام به المعتقل، أو المعتقلة، من نضال شرعي ضد المحتلين، بل يُحاكم المرء ويسجن بناء على ما يقدّر الشاباك الإسرائيلي أنه من الممكن أن يقوم به. وهناك حالات تفضل فيها المنظومة الاستعمارية التستر على شبكة عملائها ومصادرها، التي أقامتها بين ضحاياها، كما هي حال كل استعمار في التاريخ.

من الممكن اللجوء إلى مفردات مثل "استنزاف الفرح" لتبيان مفهوم التعذيب، بحيث تتم مصادرة فرحة المعتقل الإداري والعائلة بالفرج المتوخى، وذلك بعد أن يجري تجديد الاعتقال مرة تلو المرة، الأمر الذي يجعل الأسير يعيش خيبات متتالية، وخصوصاً أن المعتقل الإداري يلازمه شعور مختلف عن الأسير "العادي" المحكوم بتهمة عينية، وهو يشعر بالقهر لأنه محكوم بالسجن الفعلي ولا يدري لماذا.

يشرح الكاتب الوضع من وجهة نظر المتلقي، ويمنح المشاعر والخيبات وتنغيص الفرح مفهوماً جديداً للتعذيب ومكانة مفاهيمية يجدر أن تنطلق منها المنظمات الحقوقية لتوسع تعريف التعذيب، وتسعى إلى تضمين ذلك في المواثيق الدولية ذات الصلة، وفي قرارات لجنة الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب وميثاقها المرجعي. وقد يكون من المفيد رفعها إلى محكمة الجنايات الدولية في حال قررت تدخلها في الشكاوى المقدمة ضد إسرائيل.

نظرية المتاهة: التفتيش عن مخرج من اللامخرج والسعي إلى مواجهة النظام القضائي الاستعماري

لو قُدّر لباحث، أو باحثة أجنبية، اختيار عنوان للكتاب، لربما كان خيارهما هو "المتاهة". لكن، ومن باب "أهل مكة أدرى بشعابها"، فإن عبد الرازق فراج أدرى بشعاب فلسطين، وأدرى بوطأة منظومة القهر الاستعماري، وعليه فقد قام بتفكيك متاهات القهر، بعد أن جمعت مسيرته الكفاحية كل شعابها، ليكون الكتاب أحد نتاجات هذه المسيرة.

 يعيدنا عبد الرازق فراج في كل حالة من حالات اللامخرج إلى الجوهر، وإلى قوة النضال الشعبي. فالجوهر هو كشف المتاهة، وهو الدليل لطريق الخروج منها. إذ إن المسألة مع المستعمر ليست قضاؤه فحسب، بل جوهره ومنظومته على تعدد أذرعها، بما فيها القضائي الذي لا يمكنه أن يكون عادلاً أو نزيهاً أو مستقلاً. وطالما لا مجال للأوهام، فإن عبد الرازق يوجّه الأنظار إلى الجوهر لا إلى تجلياته فحسب.

معوقات في الطريق إلى مناهضة الاعتقال الإداري

لم يأل الفلسطينيون جهداً في استحداث طرق نافذة لمواجهة الاعتقال الإداري. فهناك إجماع على أن المحكمة الإسرائيلية ليست أكثر من "ختم مطاطي" أوجدوها لتكون جزءاً من منظومة الاستعمار لتبرير كل مخالفاته للقانون الدولي وللمواثيق الدولية، التي يسردها الكاتب ويشيد بالمؤسسات الحقوقية المناهضة للاحتلال ذات الصلة، سواء أكانت فلسطينية أو دولية أو إسرائيلية.

ويستعرض الكاتب التعديلات التي جرت على أنظمة الطوارئ، ويحدد ثلاث محطات شهدت تحولات، كان التعديل في كل محطة منها أكثر دهاء بغية تهرب المستعمر من المثول أمام أي هيئة دولية، وإثبات أن اللجوء إلى هذه الأنظمة لا يتناقض مع القانون الدولي. ولم تكن محاججة المستعمر حول جوهر هذه الأنظمة، وإنما حول وضعية الفلسطينيين غير السيادية، وكون القانون الدولي لا يسري على وضعيتهم بحسب الرواية الاستعمارية.

ونظراً لعدم فاعلية اللجوء إلى أدوات المستعمر، وتحديداً إلى قوانينه وقضائه للحيلولة دون الاعتقال الإداري، فإن فراج ينشغل في تبيان مشاق التنقيب عن أدوات مواجهة غير الأدوات الفلسطينية والدولية. فالمسألة بالنسبة إليه، لا تكمن في محاججات قانونية وإنما في واقع استعماري، وفي رؤيته كذلك لإمكانيات بلورة أدوات مواجهة، منها رفض الاعتراف بشرعية المحكمة ورفض الوقوف للقاضي، ورفض التمثيل من قبل محام ودعوة المحامين إلى الإضراب عن حضور الجلسات وتمثيل المعتقلين الإداريين، ومنها إغراق جدول أعمال المحكمة العليا بالاستئنافات بهدف استنزافها، ورفض دفع الغرامات المالية، والتوجه إلى المحافل الدولية، وصولاً إلى الإضراب الجماعي للمعتقلين الإداريين، أو لمجموع الحركة الأسيرة، وإلى الإضرابات الفردية طويلة الأمد عن الطعام. وكلها نماذج جرى تجريبها بشكل أو بآخر، وقام الكاتب المقاوم بالسعي إلى الاستفادة من دروس كلٍّ منها والإفادة من هذه التجارب بواسطة الكتاب.

ويرى فراج أن إحدى نقاط الضعف المفصلية تكمن في غياب الإجماع الفلسطيني لدى الجهات المذكورة، وفي الأساس في غياب قرار فلسطيني قيادي واضح المعالم وملزم، بشأن اعتماد رؤية وعمل وحدويين وجماعيين، هذا مع الإشادة بالمعتقلين الذين أعلنوا الإضرابات الفردية عن الطعام، والإنجازات التي حققوها والأثر الذي تركته المعارك التي خاضوها. كما يشير إلى الصعوبات الحقيقية الناجمة عن كون الاعتقال الإداري فردياً، ويضع الفرد المعتقل في حالة ضبابية ذكرت سابقاً، أو يجعله يفتش عن حل فردي من خلال المرافعة القضائية وتوكيل محام خاص بذلك، مما يخلق تناقضات داخل المعركة التي يراها واحدة.

بيد أن عبد الرازق لا يقصر نظرته على زاوية الرؤية الضيقة، بل يعيد ضعف المواجهة إلى غياب الرؤية الفلسطينية تجاه الاعتقال الإداري، وكذلك إلى غياب الفعل الشعبي الجماعي. وهو سلّط الضوء على نموذج كفاحي تجلّى في شخصية ومسلك فيصل الحسيني، الذي رفض بشكل منهجي أي تعامل غير ندّي وغير مواجه مع المستعمر، كما رفض شرعية المحكمة، واعتمد الكفاح الشعبي والتضامني في آن، بحيث شكّل نموذجاً كفاحياً يحتذى به بعد أن خلق معادلة قوة مغايرة لأدوات اللعبة الاستعمارية.

كما يتوقف الكاتب المناضل من خلال قراءته الثورية عند رؤية أوسع، إذ هو يرى في الانتفاضة الأولى نموذجاً كفاحياً، ويكتب في هذا الصدد: "وأحاجج هنا بأن مواجهة الفلسطينيين لسياسة الاعتقال الإداري الواسعة النطاق خلال أعوام الانتفاضة الأولى، كانت على ما يبدو تتم كجزء من المواجهة الفلسطينينة الأشمل مع المستعمر، باعتبار أن هذه السياسة تشكل ركيزة رئيسية في منظومة الإخضاع والسيطرة الاستعمارية الصهيونية التي تجري مقاومتها ومحاولة تفكيكها في إطار أوسع من المقاومة الشعبية الجماعية الشاملة والمنظمة التي جسدتها الانتفاضة في مختلف مدن وقرى ومخيمات الضفة الغربية وقطاع غزة". وبهذا يعيد الموضوع أيضاً إلى "معادلة" القوة، وفيها القول الفصل. إنه يكتب بلغة العارف والمجرب الذي لا يوهم نفسه ولا يوهم القراء بغد أفضل إن لم يتحرك الشعب صاحب القوة. (ص64)

ثم يقدم عبد الرازق مثالاً نقيضاً للانتفاضة الأولى، متمثلاً في مرحلة ما بعد أوسلو، واستخدام الاعتقال الإداري كأداة هندسة سياسية هدفها تدفيع الثمن لمعارضي الاتفاقيات، والسعي لردع أية معارضة جاهزة، أو تبني جهوزيتها لمواجهة إسقاطات اتفاقيات أوسلو. ويذكر أن عدد الاعتقالات الإدارية بلغ في تلك الفترة الثمانمئة، وتواصل اعتقال عدد من المعتقلين الإداريين لمدة أربع سنوات متتالية.

أذكر هنا النقاش الذي دار داخل السجن حول التضامن أو بالأحرى تبني موضوع الاعتقال الإداري، وكيف كان هناك موقفان، أحدهما تمثّل في تبني مجموع الحركة الأسيرة لمسألة الاعتقال الإداري كمحور عمل أساسي، والثاني تمثّل في مساندة الإضرابات الفردية مع وجود أصوات متحفظة إزاء الإضرابات الفردية. وكان مدى الالتزام يختلف من فصيل إلى فصيل، إذ إن الاستهداف بالاعتقالات الإدارية عادة ما يشمل - كما يوضح الكاتب- ناشطي وناشطات الجبهة الشعبية وحماس والجهاد الإسلامي.

ثم هناك حقيقة أخرى، وهي أن المحكمة العسكرية، كما المدنية، لدولة الاحتلال تعتمد في قراراتها بصورة جوهرية على أنظمة الطوارئ والأنظمة الإدارية، وأحد تجليات ذلك هو البينات السرية التي تحظى بشهادة حماية من وزير الأمن، ويكون القول الفصل فيها، عملياً، لجهاز الأمن العام- الشاباك.

ملاحظة حول أسلوب السرد ومضمونه: رغم تجربته النضالية والثمن المتواصل الذي دفعه ويدفعه عبد الرازق فراج، ورغم مواجهته كل أنواع الملاحقات والمطاردات والاعتقالات والمحاكم، فإنه قدّم كمّاً كبيراً من الأمثلة عن الاعتقال الإداري، ورأى أن يوصل إلى القراء معاناة زملائه ونضالاته في مواجهة القهر، وذلك بغض النظر عن انتماءاتهم وأساليب مواجهتهم للاعتقال الإداري. وإن الانطباع الذي يولده أسلوبه يدل على ما يمكن أن نطلق عليه نموذج تواضع الثوريين. ومع أن هذا الأمر قد يبدو للبعض أمراً مفروغاً منه، إلا أنه يؤكد، في الواقع الفلسطيني الذي يعاني من العصبيات والكثير من مظاهر الإلغاء للآخر، أننا أمام أسلوب يحتذى به في مواجهة عالم النجومية الفردية والقيم والسلوكيات المترتبة عليه.

 

[1] يهودا شنهاب، في مصيدة الخط الاخضر (2010) بالعبرية

 [2] https://www.palestine-studies.org/ar/node/1650383 

Read more