I
الأيدي القذرة
قبل انتشار الوباء كانت "الأيدي القذرة" عمل مسرحي عن الطهارة الثورية (جان بول سارتر، 1948)، ثم أصبحت واقع كل واحد منا. فكل يد مشبوهةٌ، كل الوقت، والفرك المتواصل بالصابون والمطهرات لا يزيل الشبهات عنها، بل جُل ما يفعله هو تخفيض احتمال انتقال الفيروس لفترة قصيرة. فمع كل لمسة، وكل إمساك بمقبض، وكل مصافحة، وكل فرك للعيون، وكل قضم لأظافر اليد، يتجدد احتمال الإصابة.
لم يكتفِ الوباء العالمي بإعادة تشكيل تفصيلات الحياة اليومية من خلال تحريم طقوس الملامسة الأساسية (كالمصافحة والعناق والتقبيل) التي بوصلها جسداً بآخر تنقل الحرارة والثقة والمودة، فتؤسس العلاقات وتعيد إنتاجها مع كل لقاء، ومن خلال تحويل بديهيات، كالذهاب إلى السوبرماركت، إلى عمليات لوجستية معقدة، بل سعت الإجراءات المتبعة لمواجهته لإعادة تشكيل علاقات البشر الأساسية والتلقائية بأجسادهم من خلال حثّهم على عدم لمس وجوهم. هذا التفصيل الوقائي قد يبدو بسيطاً، إلّا إن التقيد به بالغ الصعوبة، إذ إننا نلمس وجوهنا ما يقارب 23 مرة في الساعة الواحدة من دون إدراك ذلك. وتلك العادة الأولية - التي يعتقد البعض أنها تساهم في تنظيم مشاعرنا، والمرتبطة باللذة الناجمة عن حك البشرة التي تجر تكراراً لاإرادياً يستحوذ كلياً على المستمتع بالحك - ترافقنا منذ فترة ما قبل الولادة، إذ إن الجنين يلمس وجهه في الرحم.[1]
لقد أدى الفيروس دوراً مهماً في تعرية وهم إمكان السيطرة الكاملة على النفس وعلى الطبيعة على الرغم من التغير المناخي والكوارث البيئية التي تلوح في الأفق، وهو وهم ما زال يغذي المخيلة المتغطرسة التي لازمت الأزمنة الحديثة.
ولم تكتفِ الجائحة العالمية بإعادة تعريف العلاقة ما بين الأيدي (القذرة) والوجه (مرفأ دخول الفيروس)، فإعادة تشكيل علاقة الفرد بنفسه ليست إلّا البداية على النطاق الأضيق لسلسلة من الأسئلة الأوسع بشأن الحياة، وهي سلسلة تعيد النظر في الحدود ما بين الفرد والآخر؛ الإنسان والحيوان؛ المجتمع والبيئة.
وتلك الأسئلة التي ترتكز على إعادة التفكير في إشكالية الحياة بعدما باتت في مواجهة الانتشار الكوني لفيروس جديد (الذي بالمناسبة يختلف العلماء بشأن شمله ضمن الكائنات الحية)، ترتبط ارتباطاً وثيقاً بأنماط الإنتاج الاقتصادي وسياسات الدول. فالأزمة التي تواجهها الإنسانية اليوم شاملة ومتعددة الأضلع المترابطة: صحية، وعلمية، وبيئية، واقتصادية، وسياسية، وروحية أيضاً، مثلما لمّح الفيلسوف الفرنسي إتيان باليبار مؤخراً، ما دامت تطرح مسائل أخلاقية حادة عن تصورات الأنظمة القيمية المتنوعة للحياة الإنسانية.[2] وعدم اليقين العلمي الذي يرافق الأزمة الشاملة يجعل أفقها مفتوحاً على عدة احتمالات، الأمر الذي يضاعف الذعر الذي ينتاب الناس والعاملين والعاملات في القطاعات الصحية والعلماء. فالمواجهة تخاض مع وباء جديد لا تاريخ له خارج الذي يُكتب الآن، ولا بروتوكولات علاجية مضمونة له، ولا لقاحات معتمدة.
تقول مؤرخة العلوم البارزة لورين داستون إنه "في لحظات الجِدة الراديكالية وحالات اللايقين الراديكالية التي تنبثق منها [....] نجد أنفسنا كالحبّار الذي يحجب نفسه بحبره في عودة إلى النقطة صفر من التجريبية."[3] فالحظ والملاحظات والارتباطات الظاهرية التي لا تعيرها المجلات العلمية أي أهمية في الأيام العادية، مثلما تنبهنا داستون، تزدهر الآن على الإنترنت بعدما أصبحت محط اهتمام الأطباء وعلماء الحياة والناس المهتمين ومصدراً لتكهناتهم. واللايقين العلمي الذي يرافق انتشار الوباء ينسحب أيضاً على تبعاته الاقتصادية والسياسية، فتتكاثر التكهنات المتضاربة بشأن العالم ما بعد كورونا بين الذين يتنبؤون بولادة عالم جديد، وأولئك الذين يتوقعون العودة إلى ما كانت حياتنا عليه قبل الجائحة. هذا كله يجعل من الكتابة الساعية لفهم حاضرنا الغامض كتابة عابرة، ابنة لحظتها، تاريخ صلاحيتها غير مضمون ومرهون بتبدل المعطيات المتسارع. ومع ذلك نستطيع التقاط بعض الخيوط عن ترابط أضلع الأزمة الشاملة وتبعاتها من خلال تقصي علاقاتها بنمط الإنتاج الرأسمالي السائد.
II
الحياة: إنسان / حيوان / بيئة
يقدر المركز الأميركي لمكافحة الأمراض والوقاية منها (center for disease control and prevention) أن ثلاثة من كل أربعة أمراض معدية كالإيبولا تنتقل إلى الإنسان من خلال الحيوانات.[4] وتلك العلاقة مرتبطة بأحد جوانبها الأساسية بنمط الإنتاج الرأسمالي من خلال التسليع المتزايد للحيوانات وصناعة اللحوم، ومن خلال تبعاته على التغيير المناخي الذي يجرد الحيوانات من بيئاتها الطبيعية. فالحظائر الصناعية الضخمة التي تكدس فيها الدواجن والمواشي، وربما يكون البعض منها معدلاً جينياً، شكّلت حواضن مثالية، مثلما أظهر عالم الأحياء الاشتراكي روب والاس، لظهور أوبئة جديدة، ولانتقالها من الحيوانات إلى الإنسان.[5] وتقوم تلك المزارع الصناعية الآن في الولايات المتحدة بقتل ملايين الدواجن والخنازير ورميها في مقابر جماعية بعد إغلاق عدد من شركات تعليب اللحوم الصناعية أبوابها في إثر تفشي فيروس كورونا بين العاملين فيها. فنظام الإنتاج الآني الذي يسيّر صناعات الدواجن والخنازير يعتمد على إرسال الحيوانات إلى الذبح عند اكتمال نموها،[6] إذ لا قدرة لتلك الحظائر على تحمّل أي تعطيل موقت في أي حلقة من سلسلة إنتاج الحيوان - السلعة ، وهو تعطيل يؤدي إلى اكتظاظها أكثر ممّا هي عليه عادة (تحصل كل دجاجة على مساحة أكبر بشيء بسيط من مساحة ورقات الآلة الطابعة)، وإلى زيادة مصاريف الأكل والعناية.[7]
أمّا الاستغلال المتزايد للموارد الطبيعية، وخصوصاً اجتثاث الأحراج (deforestation) الذي غالباً ما يتم لأغراض زراعية، فيُعتبر السبب الرئيسي لتقلص البيئات الطبيعية للحيوانات[8] التي بعد خسارة مواطنها الأصلية تُجبر على النزوح، مضيفة ارتحالاً ثانياً إلى موسم هجرتها الحالي نحو الأقطاب هرباً من ارتفاع درجات حرارة الأرض المتزايدة. بالتالي تقوم أنواع من الحيوانات بالاحتكاك بعضها ببعض وبالإنسان نظراً إلى هجراتها القسرية، الأمر الذي يشكل بيئة خصبة لانتقال الجراثيم من مضيف إلى آخر. فالوطاويط المعروفة بقوة أنظمة مناعتها وقدرتها على التعايش مع الفيروسات، ومنها أنواع متنوعة من فيروسات كورونا التي تشكل خزانات لها، تقترب أكثر فأكثر من الحواضر البشرية بسبب إزالة الغابات.[9] وتشير الفرضية الأكثر رجحاناً إلى أن الفيروس انتقل من الوطواط إلى مضيف وسيط ربما يكون [آكل النمل الحرشفي] الأم قرفة (pangolin)، والذي نقله بدوره إلى الإنسان.
والانتقال من علاقة الإنسان بالحيوان إلى حال البيئة بصورة عامة، يُظهر ارتباط التدهور الذي يصيب العناصر الطبيعية الأساسية لاستمرار الحياة، بأثر الجائحة في الناس. فازدياد نسب تلوث الهواء التي قد ينتج منها الإصابة بالربو والحساسيات، أو بالحد الأدنى تفاقم أعراض المصابين بها مسبقاً، يؤثر سلباً في مَن يصاب بالتهابات تنفسية كتلك التي يسببها فيروس كورونا. وما نود قوله هنا، هو أن أزمات الصحة العامة مرتبطة بالتغييرات المناخية والبيئية عامة، أمّا التغييرات المناخية فمرتبطة بالاستغلال المتواصل لموارد الطبيعة بهدف تحويلها إلى سلع تدر الحد الأقصى من الأرباح. ومن الصعب إيجاد توصيف أكثر كثافة ومباشرة لتلك العلاقة بالبيئة من جملة ريكس تيلرسون، وزير الخارجية الأميركي (2017 - 2018) والمدير التنفيذي السابق لعملاق النفط إكسون - موبيل: "فلسفتي هي كسب المال. إذا استطعت أن أحفر لكسب الأموال، فهذا ما سأفعله."[10]
III
قرية رأس المال الصغيرة
إن انتشار الوباء العالمي، والسرعة التي انتقل فيها من ووهان إلى ميلان فبيروت فنيويورك، جعلا من كورونا فيروس العولمة الرأسمالية بامتياز. والأرجح أن مَن تغنّى بالعولمة منذ بضعة عقود لأنها جعلت الكوكب قرية صغيرة من خلال الارتباط المتزايد للعالم، لم ينتبه إلى أن الطرق التي تنقل الرساميل والسلع والبشر تصلح أيضاً لانتقال الفيروسات السريع من قارة إلى أُخرى، بحيث باتت القرية الصغيرة متداعية، يلفّها الوباء سريعاً حاملاً معه الموت والمرض اللذين ضاعفت من وطأتهما هشاشة أساليب إنتاج الاقتصاد المعولم التي تعتمد على الإنتاج الآني وسلاسل التوريد (supply chain) العالمية، فظهر النقص في المستلزمات الطبية الوقائية الأساسية كالكمامات وأثواب الجراحين في إثر تعطل سلاسل التوريد بعد انتشار الفيروس وزيادة الطلب عليها. فالصين التي انضمت إلى منظمة التجارة العالمية في سنة 2001، تخطت الولايات المتحدة كقوة صناعية عظمى منذ عقد (2010).[11] ومن تبعات ذلك الصعود السريع، اعتماد شركات كثيرة على المواد الصينية والتصنيع فيها أو في دول شرق آسيوية أُخرى عمّالها من ذوي التكلفة المنخفضة نسبياً، الأمر الذي يجعلها عرضة لمخاطر متعددة نتيجة خضوع إنتاج سلعها لسلاسل توريد بعيدة لا تستطيع التحكم في مفاصلها.[12] وانكشفت حدود تلك الأساليب الإنتاجية المدفوعة بزيادة هامش الأرباح وتغليب منطق التسليع وخصخصة الإنتاج (وخصوصاً على الأساسيات كالأدوية والمعدات الطبية والمستلزمات الوقائية)، بُعيد انتشار الوباء الذي أعاد إلى الواجهة أسئلة بشأن شروط الجاهزية لمواجهة جائحة على هذا النطاق.
ولم تكشف الجائحة هشاشة الاقتصاد المعولم وسرعة انتكاسته عندما تتعطل إحدى حلقاته فحسب، بل أظهرت بوضوح أيضاً، كيف أن عقوداً من السياسات النيوليبرالية أضعفت جاهزية الدول للاعتناء بمواطنيها والمقيمين على أراضيها. فقد سعت تلك السياسات لتذليل جميع العقبات التي تقف في وجه سيطرة منطق رأس المال المبني على التسليع المتزايد وإعلاء منطق الربح فوق كل منطق آخر، وخصوصاً المصلحة العامة. وفي إثر ذلك تم تفكيك اليد اليسرى للدولة، وهو الاسم الذي أطلقه عالم الاجتماع الفرنسي بيار بورديو، على مؤسساتها التي ترعى الحقوق الاجتماعية للمواطنين، كالمدرسة الرسمية والسكن العمومي والمستشفيات الحكومية والإذاعة والتلفزيون الوطنيين، فأدت تلك السياسات إلى ارتكاس الديمقراطية من خلال تحويل المواطنين من أصحاب حقوق متساوية إلى مستهلكين يصنَّفون بحسب قدراتهم الشرائية المتفاوتة. وتضاعف أثر الارتكاس مع تعزيز اليد اليمنى للدولة، تلك التي تسيطر على المواطنين من خلال وضع السياسات المالية وجبي الضرائب وقمع الأجهزة الأمنية. وليس التذكير بالأثر المدمر للسياسات النيوليبرالية والاتساع الهائل للفجوة التي تفصل أغنياء القرية الصغيرة عن أكثريتها، إذ إن أغنى ٨ أثرياء في العالم يملكون ما يعادل جميع ثروات 3,6 مليار من فقرائه، إلّا من باب الإضاءة على بعض معالم القرية التي دخل عليها الفيروس شالّاً حركتها ومخلفاً آثاراً متفاوتة.[13]
IV
مراكب القرية المتعددة
رافق تفشي الوباء انتشار استعارات جديدة، مثل "كلنا في المركب نفسه"، تشير إلى المخاطر المحدقة بالإنسانية ككل ومسؤوليتها الجماعية لتلافيها. فانتقلنا من استعارات القرية الواحدة السعيدة أيام التهليل بقدوم عالم جديد، إلى المركب المهدد بالغرق بعد انتشار الجائحة عالمياً. وهذه الاستعارات التي تشدد على كونية الفيروس تلتقط شيئاً من البعد الوجودي - الروحي الذي يرافق انتشار الأوبئة، والذي يجعل من الحياة أو الموت لعبة قدر قد تصيب أي واحد منا. إلّا إن إشاحة النظر عن ذلك البعد لتقصي الجانب الاجتماعي تُظهر بوضوح أننا لسنا في المركب نفسه، فبُعيد تفشي الوباء هجر الأغنياء المدن الكبرى التي تحولت بين ليلة وضحاها من مراكز مالية وكوسموبوليتية إلى بؤر انتشار للفيروس، واستقروا في مصايفهم النائية. وهذا ليس سوى مثل بسيط يدل على الفرق الشاسع بين حجر وآخر، وبين مَن يستطيع تحمّل التوقف عن العمل أو مزاولة مهنته عن بُعد، وذلك الذي لا قدرة له على ذلك. كما أن إعادة صوغ عقود العمل في الزمن النيوليبرالي فاقمت من الآثار الطبقية المتفاوتة لانتشار الجائحة بعدما خلخلت ثبات الوظيفة وما رافقها من حقوق جماعية، كالاستشفاء وتعويض نهاية الخدمة، مستبدلة مصطلح العمال بالمتعاقدين لسلبهم تلك الحقوق وحرمانهم إمكان التنظيم النقابي.
يحدث هذا كله بينما تقوم الجائحة بقلب معايير تقييم العمل، فقد تبيّن أن أكثر الأعمال أساسية الآن هي تلك التي يزاولها عمال وعاملات غير مرئيين، تقع رواتبهم بالقرب من أسفل الهرم. ومن هنا بدأت المجتمعات تلتفت فجأة إلى أهمية عمال التنظيفات والممرضين والمسعفات وسائقي الشاحنات التي تنقل البضائع والبحارة وعاملات السوبرماركت، علاوة على المعلمين والمعلمات والعاملين في حضانات الأطفال. فأدركنا أن مساعد طباخ في مستشفى حكومي أهم من خبير تسويق، وأن عمل مَن تعقّم أروقة دور المسنين أساسي أكثر من فيالق مستشاري الشركات. باختصار، ظهرت الأهمية الحيوية للعمل الذي يقع ضمن نطاق اقتصاد العناية (care economy) الذي تقوم على عاتقه مهمة إنتاج الحياة وصيانتها، والذي تقوم به النساء العاملات في أغلب الأحيان بأجر زهيد أو مجاناً، ضمن نطاق تقسيم العمل البطريركي الجائر داخل المنزل. وقد كشف ذلك كله خواء مفاهيم الأيديولوجيا النيوليبرالية المهيمنة، كالمرونة والقدرة على التكيف والربح السريع والترشيق التي سُوّقت كعملية تحرر من أعباء المؤسسات العامة وثقلها وقلة إنتاجيتها، في مواجهة الوباء الذي يتطلب العناية والصبر والتعاضد.
V
أفول النموذج الغربي
يقول الصحفي الأميركي جورج باكر في مقالة له عن تأثير كورونا في الولايات المتحدة، نُشرت في مجلة "أتلانتيك": "في كل صباح من آذار / مارس الأبدي، استيقظ الأميركيون ليجدوا أنفسهم مواطنين في دولة فاشلة."[14] وليس وصف أعتى إمبراطورية في تاريخنا المعاصر التي تمتلك ما يقارب 800 قاعدة عسكرية حول العالم بالدولة الفاشلة تفصيلاً، ففائض القوة العسكرية الأميركي لم يسعف الدولة التي لم تقدم لشعبها والمقيمين على أراضيها غير التخبط الملازم لعدم وجود أي رؤية لمواجهة الوباء، فضلاً عن نقص في معظم المستلزمات الوقائية والأدوات الطبية، الأمر الذي دفع الأمم المتحدة وروسيا وتايوان إلى إرسال المساعدات الإنسانية للمساهمة في إسعافها.[15] ورافق انتشار الوباء عالمياً استعادة للغة "النماذج"، للدلالة على الاستنساخ المباشر لسياسات ناجحة في احتوائه في بلد ما في أماكن أُخرى من العالم، من دون تعديل ولا أخد الخصوصيات المحلية بعين الاعتبار. وقد اتجه السعي نحو النماذج الناجحة إلى تحليل تجارب الدول الآسيوية، فغاب الغرب عن الصدارة، وخصوصاً القوى الاستعمارية العظمى السابقة (بريطانيا، وفرنسا)، بينما وُصفت التجربة الألمانية بالاستثناء.
VI
ما بعد التشريق والتغريب
احتلت المسألة الغربية حيزاً عظيماً في الفكر العربي الحديث، وشكّل الغرب النموذج المشتهى للحداثة والتحرر، أو النموذج المشتهى (العلم والتقنية) والمنبوذ (الثقافة والأخلاق) معاً، لكن لم تدخل المسألة البيئية وتقَصّي علاقة الإنسان بالحيوان في صلب اهتمامات هذا الفكر - يختلف الأمر بعض الشيء في الرواية (أعمال إبراهيم الكوني، على سبيل المثال). وهذه الأزمة الشاملة الناتجة من انتشار الوباء، إن دلت على شيء، فإنما تدل على ترابط المسائل البيئية والصحية وعلاقتها بالتناقضات الطبقية والبنى البطريركية. إن المسائل اليوم أكثر ارتباطاً بعضها ببعض، وهي كذلك على صعيد جذري أكثر كثيراً من أهازيج الترحيب بالقرية الصغيرة التي رافقت عالم ما بعد الحرب الباردة الذي يشهد اليوم آخر فصوله. وقد نشهد قريباً بعثاً متجدداً للبحث عن الأصالة، ومزيداً من التقوقع الهوياتي، إلّا إن ما بات بحكم المؤكد أن الذهاب والإياب على سكة "تشريق - تغريب" لن يرفعا الاستغلال الرأسمالي عنا، ولن يجعلا الكوارث البيئية المقبلة تتوقف عند حدود الآخر.
المصادر:
[1] Rachel Sugar، “Why is it so Hard to Stop Touching your Face?”, “Vox”, https://www.vox.com/the-goods/2020/3/23/21185927/face-touching-hard-to-stop-why-coronavirus
[2] Etienne Balibar, “La philosophie à l’épreuve de la pandémie avec”, “France Culture”, https://www.franceculture.fr/emissions/les-chemins-de-la-philosophie/les-chemins-de-la-philosophie-emission-du-vendredi-24-avril-2020
[3] Lorraine Daston, “Ground-Zero Empiricism”, “Critical Enquiry”, https://critinq.wordpress.com/2020/04/10/ground-zero-empiricism/
[4] Vijay Kolinjivadi, “The Coronavirus Outbreak is Part of the Climate Change Crisis”, “Aljazira”, https://www.aljazeera.com/indepth/opinion/coronavirus-outbreak-part-climate-change-emergency-200325135058077.html
[5] Ibid.
[6] Dylan Matthew, “The Closure of Meatpacking Plants will Lead to the Overcrowding of Animals. The implications are horrible, “Vox”, https://www.vox.com/2020/5/4/21243636/meat-packing-plant-supply-chain-animals-killed
[7] Ibid.
[8] Harvard T.H. Chan School of Public Health (Harvard C-CHANGE), “Coronavirus, Climate Change, and the Environment: A Conversation on COVID-19 with Dr. Aaron Bernstein, Director of Harvard C-CHANGE”, https://www.hsph.harvard.edu/c-change/news/coronavirus-climate-change-and-the-environment/
[9] AXA Insurance and Reinsurance, “Let’s Talk: Social Anthropologist Frédéric Keck on the Coronavirus”, https://axaxl.com/fast-fast-forward/articles/social-anthropologist-frederic-keck-on-the-coronavirus
[10] “We’re not in This Together”, “The Baffler”, https://thebaffler.com/salvos/were-not-in-this-together-chaudhary
[11] Lizzie O'Leary, “The Modern Supply Chain Is Snapping”, “The Atlantic”, https://www.theatlantic.com/ideas/archive/2020/03/supply-chains-and-coronavirus/608329/
[12] Ibid.
[13] “Oxfam: 8 Billionaires Have Amassed Half World’s Wealth”, “Politico”, https://tinyurl.com/yblhpvh6
[14] George Packer, “We are Living in a Failed State”, “The Atlantic”, https://www.theatlantic.com/magazine/archive/2020/06/underlying-conditions/610261/
[15] Ibid.