ووهان، برغامو، ميلانو، مدريد، لندن، نيويورك... هذه بعض أسماء المدن الموبوءة التي تصدرت عناوين الصحف، وانتشرت صور شوارعها المهجورة على وسائل التواصل الاجتماعي، وأظهرت كيف غطت ظلال وباء الكورونا المستجد عواصم العالم وحولتها إلى مدن أشباح شُلت فيها الحركة الاقتصادية وأُغلقت المحلات التجارية والمؤسسات التعليمية، كما أُقفلت المقاهي والمسارح وصالات السينما ودور العبادة وأماكن التجمع كافة.
فيروس صغير نقلته الخفافيش والثعابين إلى سوق من أسواق مدينة داخلية في مقاطعة من مقاطعات وسط الصين أحدث جائحة كونية قلبت العالم رأساً على عقب.
لقد شكل الانتشار السريع لجائحة الكورونا مثالاً صارخاً لقدرة العولمة على تخطي الحواجز الجغرافية كلها، وعلى تجاهل الحدود بين الدول والمناطق وتحويلها كوكبنا إلى قرية صغيرة تتنقل فيها الجراثيم والفيروسات، كما الرساميل والخدمات والسلع، من دون أي قيود. ومن المفارقات أن هذا الانتشار السريع أخذ يشكل تحدياً حقيقياً لنظام العولمة، إذ إن محاربة الوباء فرضت على جميع دول العالم اتخاذ تدابير حازمة تقضي بوضع قيود على حركات التنقل وإغلاق الحدود وإقفال المطارات والموانىء وعزل المناطق بعضها عن بعض وإقرار الحجر الصحي ومطالبة المواطنين بالبقاء في منازلهم، فطال الجمود وظائف التبادل الاجتماعي كلها، وأصاب الشلل اقتصادات العالم، وانهارت أكبر البورصات العالمية.
وكأن العولمة باتت تحفر قبرها بيدها تحقيقاً للنبوءة التي أطلقها كارل ماركس منذ قرن ونصف قرن من الزمن، فبدت مدن العالم لوهلة كأنها عادت إلى عصر مضى؛ عصر لم يكن المجال الحضري قد تحول فيه إلى مجرد ساحة لحركة الأسواق بفعل سيطرة رأس المال المعولم وهيمنة شبكات التبادل الاقتصادية. وكأن عالمنا الحديث، على الرغم من التقدم التكنولوجي والعلمي الهائل الذي شهدته البشرية خلال العقود الماضية، لم يتمكن من مجابهة الجائحة التي أصابته، إلّا بالعودة إلى الأساليب القديمة التي كانت تُستعمل لمحاربة انتشار الوباء منذ أقدم العصور.
يقال إنه في سنة 17ه/638م أراد عمر ابن الخطاب أن يزور الشام فخرج إليها بصحبة المهاجرين والأنصار، وعندما وصل إلى حدود الحجاز والشام لقيه أمراء الأجناد فأخبروه أن الطاعون أصاب المدينة فاستقر رأيه على الرجوع، وأمر بعدم دخول المدينة وعدم خروج المصابين منها.
وبعد انصراف عمر وقع الطاعون الجارف المعروف بطاعون عمواس فهلك به خمسة وعشرون ألفاً من أهل الشام، بينهم العديد من صحابة النبي، بينما رأى آخرون أن عدد الضحايا بلغ ثلاثين ألفاً. وعندما اشتد الوباء خاطب والي الشام عمرو بن العاص أهل الشام وقال لهم: "أيها الناس! إن هذا الوجع إذا وقع إنما يشتعل اشتعال النار، فتجنبوا منه في الجبال"، ثم خرج وخرج معه مَن كان غير مصاب، وتفرقوا حتى ارتفع الوباء وانتهى. وبلغ عمر ما فعله عمرو فما كرهه.
ومن أشد الأوبئة فتكاً في التاريخ طاعون "الموت الأسود" الذي ظهر في القرن الرابع عشر في الصين وانتقل عبر طريق الحرير إلى آسيا الوسطى ثم القسطنطينية ومنها إلى الإسكندرية والمدن الإيطالية والفرنسية، ومن بعدها إلى لندن حيث حصد مئات الآلاف من الضحايا. وقد سبّب هذا الوباء تحولات كبيرة على المستوى الاقتصادي والاجتماعي في أوروبا خلال عصر النهضة حتى ذهب بعض المؤرخين إلى القول إن من نتائج هذه التحولات حدوث الانشقاق الكبير الذي أصاب الكنيسة الكاثوليكية، وبروز حركة الإصلاح البروتستانتية.
ولمواجهة انتشار المرض تم قطع الاتصال بين المناطق، وعُلّقت عمليات التبادل التجاري، وقامت المدن الإيطالية بعزل المصابين في محاجر صحية سُميت اللازاريتو، وحجز السفن القادمة إلى موانئها أربعين يوماً قبل السماح لها بإفراغ حمولتها، الأمر الذي عُرف منذ ذلك الحين بنظام الكرنتينا.
ويروي الكاتب الإيطالي جيوفاني بوكاشيو (Giovanni Boccaccio)* في كتابi "ديكاميرون" (Decamerone) قصة سبع سيدات وثلاثة شبان من المجتمع الراقي في مدينة فلورنسا قرروا الخروج من المدينة التي أصابها طاعون الموت الأسود، والانتقال من بيت ريفي إلى آخر للاستمتاع بالمرح واللهو في طبيعة منطقة توسكانا الخلابة. واتفقت الجماعة على أن يقصّ كل فرد من أفرادها قصة في كل يوم من أيام النزهة، وذلك بحسب موضوع يحدده ملك أو ملكة اليوم، شرط ألّا تتضمن أي قصة خبراً حزيناً. وتتمثل القوة الدرامية لرواية بوكاشيو في التناقض الصارخ بين وصفه الخراب الذي أحدثه الطاعون في مدينة فلورنسا الموبوءة، وجمال الطبيعة الخلابة التي أمضى الشبان فيها أياماً ملأى بالسعادة والانشراح.
وفي الشام كما في فلورنسا، وفي عهد الخلافة الإسلامية كما في عهد النهضة الإيطالية، أثار انتشار الوباء ردات فعل مماثلة، فتم عزل المناطق بعضها عن بعض، وتطويق المدن الموبوءة التي هجرها مَن تسنّى له الفرار من سكانها ليلتجأ إلى الريف تماماً مثلما فعلنا نحن لمواجهة الكورونا في عصر الذكاء الاصطناعي والثورة الصناعية الرابعة.
فالمدينة الموبوءة مدينة في حالة حرب، وليس المقصود بهذه الاستعارة الانصياع للشعارات التعبوية التي يطلقها السياسيون من أجل حثّ المواطنين على التجاوب مع ما يفرضوه من تدابير على الرغم من الصعوبات التي تخلقها هذه التدابير على صعيد الحياة اليومية والحصول على لقمة العيش. بل المقصود هو أن متخيل المدن الموبوءة ترتسم فيه حقاً صور زمن الحرب: مدن محاصرة وحجر للسكان ومنع للتجول وخوف رهيب يسيطر على الجميع ويعطل مظاهر الحياة الاجتماعية كافة.
وإذ يتغذى هذا المتخيل من تفكيك نظم المدلولات التي تؤمّن استمرارية الحياة اليومية، فهو يتخذ أيضاً أبعاداً ميتافيزيقية. فالصراع بين الإنسان والقدر في تراجيديا أوديبوس الملك عند سوفوكليس، أو بين جدلية المعرفة والسلطة مثلما فسرها محمود درويش في قصيدته "أوديب"، يتجلى على خلفية الوباء الذي ضرب مدينة طيبة، والذي أرسلته الآلهة بسبب إيواء المدينة لقاتل الملك لايوس. ولم ينتهِ الوباء إلّا بانتحار الملكة جوكاست، وبعد أن فقأ أوديبوس عينيه وغادر المدينة وعاش طريداً من الأرض والسماء. هكذا يتخذ الوباء الذي أصاب مدينة طيبة بُعداً رمزياً من خلال إشارته إلى العقاب الذي أرسلته الآلهة للنهي عن محظورين: قتل الأب وفعل الزنى مع الأم، فأرسى هذا النهي الأسس التي بُني عليها المفهوم الإغريقي للمدينة وجميع النظم الحضارية خلال التاريخ.
ولاتقاء غضب الآلهة واسترضائها كان على المجتمعات التي أصابها الوباء أن تبحث عمّن تُلقي اللوم عليهم وتحمّلهم مسؤولية هذا الغضب. فبعد أن اجتاح "الموت الأسود" مدن أوروبا، انتشرت شائعات بأن اليهود تسببوا بانتشار الوباء عبر تسميم إمدادات المياه، فقُتل الآلاف منهم، وعُزل مَن نجا في غيتويات مقفلة أنشأتها أولاً مدينة البندقية قبل أن تنتشر في معظم الدول الأوروبية. ولم يقتصر النبذ الاجتماعي على اليهود، بل طال أيضاً جميع الفئات المهمشة: الطبقات الفقيرة والغرباء والمعوزين الذين طُردوا من المدينة، أو تم حجزهم في محاجر معزولة، ومُنعوا من دخول الأحياء الراقية تداركاً لخطر نقل العدوى إلى سائر السكان.
وبلغت النزعات الانعزالية هذه ذروتها مع بداية الحملات الاستعمارية، فنُشرت الأوبئة عبر الجراثيم إلى شعوب البلاد المحتلة التي لم تكن تتمتع بالمناعة الضرورية لمحاربة الأمراض المستوردة، وهو ما أدى إلى إبادة جماعية للسكان الأصليين وفرض سياسات الفصل العنصري. فقد أدى الغزو الإسباني لأميركا الوسطى في بداية القرن السادس عشر إلى تدمير حضارتَي الأزتك والمايا التي كان يُقدّر تاريخها بثلاثة آلاف عام، تدميراً كاملاً بسبب انتشار الأمراض الوبائية التي حملها معهم الغزاة، واختلال التوازن البيئي جرّاء الإفراط في استغلالهم الثروات الطبيعية للمناطق المحتلة. كما أن الاحتلال الفرنسي للجزائر تبعته سلسلة موجات من وباء الكوليرا حصدت ثلث عدد السكان الأصليين خلال أقل من عشرين عاماً. وبهدف حماية المستوطنين الأوروبيين من الأمراض التي كانت تنتشر في الدول المستعمَرة، عمد الفرنسيون والإنجليز إلى فرض تخطيط حضري يؤمّن الفصل التام بين الأحياء التي يسكنها السكان الأصليون والأحياء المخصصة للأوروبيين، فاستُعملت متطلبات الوقاية الصحية كأداة في يد السياسة الاستعمارية لفرض سيطرتها على الشعوب المحتلة.
ومع حلول القرن التاسع عشر، ترافقت بداية الثورة الصناعية مع تفشي وباء الكوليرا الذي حصد ألوف الضحايا في المدن الأوروبية. وبتسارع وتيرة الهجرة الريفية بحثاً عن فرص العمل في الصناعات الناشئة، تجمّع الوافدون في أحياء مكتظة في وسط المدن أو على أطرافها، واحتشدوا في مساكن افتقرت إلى أبسط الشروط الصحية، الأمر الذي جعل منها بؤراً مواتيه لتفشّي الأمراض.
وبعد الاكتشافات الطبية التي سمحت بتطوير علم الجراثيم وتشخيص أسباب الأمراض وسبل الوقاية منها ودحض نظرية التولد الذاتي للجراثيم بسبب تسمم الهواء، بدأت تبرز فكرة الربط بين الأوضاع البيئية في المدن والظروف الصحية لسكانها. فقام والي باريس في عهد الإمبراطورية الثانية، البارون هوسمان، بإطلاق مشروع أدى إلى تغيير وجه العاصمة الفرنسية بشكل جذري بأقل من عقدين من الزمن. فقد هُدمت أحياء بكاملها، وشُقت الشوارع العريضة والميادين الفخمة على أنقاض النسيج القديم، وأُنشئت المنتزهات والحدائق العامة، كما تم تنفيذ شبكات عامة للصرف الصحي وتوزيع مياه الشفة. وبهذا أضحت باريس مثالاً لمدينة العصر الجديد، عصر الثورة الصناعية، ونموذجاً تم الاقتداء به لتخطيط العديد من العواصم العالمية. وبينما أتى هذا التحول في الأساس انطلاقاً من اعتبارات صحية تهدف إلى تحسين البيئة المدينية لمنع انتشار الأمراض والأوبئة، فإنه شكّل مصدر رزق لطبقة جديدة من البرجوازية، وسمح للسلطة السياسية بالاستفادة من الذريعة الصحية لتحقيق أهداف استراتيجية عبر طرد الطبقات الفقيرة من قلب العاصمة، وترتيب الحيّز العام للمدينة بشكل يسمح لها بالسيطرة على الاضطرابات والتحركات الشعبية.
ومع بداية القرن العشرين ظهر مفهوم التنظيم المُدني الحديث الذي نادى بالتخلي عن الأشكال المدينية التقليدية واستبدالها بنظام جديد يؤمن شروط الإنارة والتهوئة لجميع المباني، كما نادى بالحدّ من الكثافة السكانية وفصل المناطق الصناعية عن السكن وإيجاد أحزمة خضراء تحيط بالتجمعات السكانية وتحميها من التلوث. وإذ انطلق مفهوم التنظيم المدني الحديث في البداية من اعتبارات صحية، فإنه أنتج نموذجاً جديداً للتخطيط الحضري تم اعتماده لتصميم المدن في العالم أجمع طوال القرن العشرين.
وهكذا يمكن القول إن الجوائح التي أصابت البشرية عبر التاريخ، تحولت إلى محرك أساسي للتطور الحضري في العصر الحديث.
ومع تطور الطب في القرن العشرين واكتشاف الأدوية الجديدة وتعميم استعمال اللقاحات المضادة للأمراض الجرثومية، ساد الاعتقاد بأن الإنفلونزا الإسبانية التي اجتاحت العالم بعد الحرب الكونية الأولى، ستكون آخر جائحة من نوعها، وأن عصر الجوائح زال إلى الأبد. غير أن جائحة الكورونا المستجد أتت لتذكّرنا بأن التقدم العلمي والتكنولوجي والتطور الاقتصادي الذي شهدته البشرية في العصر الحديث ليست كافية لمنع فيروس صغير في سوق ووهان للمأكولات البحرية في الصين من قلب العالم رأساً على عقب.
لا يمكن لنا أن نتكهن اليوم بما ستكون عليه صورة العالم بعد أن يستفيق من كابوس الكورونا، إلّا إن الحجر الصحي الذي فرض على الناس البقاء في منازلهم لعدة أسابيع بل لعدة أشهر، والخوف من مخاطر التجمع والاختلاط، لا بد من أن يتركا آثاراً طويلة الأمد على العلاقات الاجتماعية وعلى تصرفات الناس في الحيّز الحضري. فهل تكون جائحة الكورونا المستجد إعلاناً مبكراً لدخولنا في عصر جديد يشهد اختفاء الحيّز العام للمدينة الذي شكّل عبر التاريخ الإطار الأساسي للحياة الاجتماعية واستبداله بحيز عام افتراضي تنتظم من خلاله العلاقات بين الناس عبر الإنترنت والواتس أب ووسائل التواصل الاجتماعي والاجتماعات الافتراضية عبر الشبكة؟
تتبادر إلى ذهني صورة هذا الرجل الجالس على كرسي في مواجهة شاطىء البحر يراقب بشغف فتى يلعب مع رفاقه، بينما صبغة شعر الرجل راحت تسيل على محياه وخدّيه من شدة الحرارة.
إنه أشنباخ بطل رواية توماس مان "موت في البندقية" الذي مثّل دوره ديرك بوغارد في فيلم لوتشانو فيسكونتي. ففي المدينة التي طالها الوباء يكتشف أشنباخ كيف تتحول رموز الجمال إلى رموز للموت. ويراقب توماس مان في كتابه زوال العالم القديم الذي كان يؤمن بالجمال كقيمة مطلقة، وولادة عالم آخر تحكمه قيم جديدة ستولّد المآسي والحروب التي اجتاحت القرن العشرين.
* كاتب وشاعر إيطالي من عصر النهضة، ولد وتوفي في فلورنسا (١٣١٣ – ١٣٧٥).