نُشرت في الآونة الأخيرة، منذ استفحال وباء كورونا المستجد، عدة مقالات في الصحف والمواقع الإلكترونية عن الطاعون الكبير الذي فشا في منتصف القرن الرابع عشر في أرجاء العالم القديم، وأدى إلى تحولات عميقة في البنى الديموغرافية والاجتماعية والاقتصادية، وامتد بعض آثاره حتى بداية القرن السادس عشر. وقد ترك لنا المؤرخون والفقهاء والأطباء والأدباء في العالم العربي الإسلامي، مثل معاصريهم في أوروبا، شهادات حيّة عن تلك الجائحة المريعة، وعن تعدد الآراء في أسبابها ووسائل الوقاية منها وعلاج المصابين بالأدوية المتاحة في عصرهم والأدعية والسحر. ولم تكن هذه الجائحة أول الأوبئة الفتاكة، إذ سبقها في بلاد الشام طاعون عمواس في خلافة عمر بن الخطاب، وستة طواعين جارفة في العصر الأموي، وغيرها فيما بعد في أيام العباسيين، في الشام والعراق ومصر وسائر الأقطار الإسلامية، كما تبعتها جوائح هزت أركان الدولتين المملوكية والعثمانية.
ولعل أكثر ما يجدر الحديث عنه في أيامنا هو الأوبئة التي اجتاحت الدولة العثمانية في الفرنين الثامن عشر والتاسع عشر وفي أوائل القرن العشرين لما كان لها من أثر في إضعاف مؤسساتها وتقليص نفوذها وتطور ما كان يسمى المسألة الشرقية، أي الصراع بين الدول الغربية الصاعدة على تقاسم تركة "الرجل المريض". فالطاعون كان قد انحسر في أوروبا في أواخر القرن السابع عشر، إذا استثنينا استشراءه في مرسيليا في سنة 1720، لكنه ما زال يفتك بالشعوب العثمانية التي نُكبت بعده بالكوليرا التي انتشرت في سنة 1822، آتية من الهند فإيران حتى الشرق الأوسط وأفريقيا الشرقية، والتي حصدت عشرات الألوف من البشر، وتجاوزت في بطشها جميع الكوارث الطبيعية التي حلت بهذه الشعوب في هذين القرنين وكانوا قد ألفوها من قبل، كالزلازل والفيضانات والحرائق والجفاف والصقيع وغزوات الجراد.
ويرجع الفضل الأكبر في معرفة تاريخ الطاعون في الدولة العثمانية معرفة دقيقة إلى المؤرخ الفرنسي دانييل بنزاك الذي خصّه بدراسة متأنية تقع في أكثر من 600 صفحة، حشد لها جميع الوثائق المتوفرة باللغات الأوروبية (وأهمها محفوظات الإدارات الصحية في المرافىء والمراسلات القنصلية والتجارية)، وباللغتين التركية والعربية وإن كانت أقل عدداً من الوثائق باللغات الأوروبية.[1] وأول ما يتبيّن من هذه الدراسة هو انتشار الطاعون خلال أعوام طويلة في الفترة الممتدة من سنة 1700 إلى سنة 1850، وذلك في أغلب الولايات العثمانية، فقد عانت جرّاءه بلاد الشام، على فترات متقطعة، 76 عاماً، وإن لم يبلغ عدد ضحاياه فيها ما بلغه في إستانبول وحدها – ما يقرب من 200,000 بين سنتَي 1778 و1787. وكانت جبال كردستان هي بؤرة الوباء الدائمة، إلى جانب بؤر تظهر وتختفي في البلقان والأناضول ومصر وإستانبول، كان المسافرون براً وبحراً ينقلون الطاعون منها.
ومن المؤكد أن السفن التجارية الأوروبية في البحر الأبيض المتوسط كانت أخطر نواقل الوباء، لأنها لم تكن تبحر فقط بين الموانىء العثمانية والموانىء الفرنسية والإيطالية، بل بين مختلف موانىء الدولة العثمانية أيضاً، وهذا على الرغم من التدابير الوقائية التي فرضتها الدول الغربية بعد الطاعون الكبير في مرسيليا، إذ بات على ربان كل سفينة قبل إبحارها أن يحصل على شهادة بسلامة المرفأ من الوباء، أو بأنه مشكوك في أمره، أو بأنه موبوء، وفي الحالتين الثانية والثالثة كان يُحجر في المعازل على السفينة مع بحارتها وركابها والبضائع التي تحملها. وقد أحصى دانييل بنزاك 240 سفينة حُجر عليها، وتبيّن له أن أكثر من 50% منها أصيبت بالطاعون في الإسكندرية وإستانبول، والباقي في إزمير (نحو 8%) ثم صيدا وتونس ودمياط واللاذقية ويافا، إلخ. أمّا العدوى في البر فبدأت من قرية صغيرة عن طريق راعٍ أصابه أحد القوارض الوحشية بالوباء، فمات وبيعت ثيابه في السوق، وانتقل الوباء إلى سوق قرية أُخرى، ومنها إلى سائر القرى والمدن. غير أن جوائح الطاعون انطلقت في أغلبيتها من الحواضر الكبرى، ثم انتشرت فيما حولها على طول الطرق الرئيسية، حتى بلغت البلدات والقرى النائية. ويُرجح أن البق الموبوء، لا القوارض، كان العامل الفاعل في انتشاره بسرعة 20 إلى 50 كيلومتراً في الشهر، وذلك بحسب كثافة السكان في تلك الحواضر. وكان الوباء يبلغ ذروته في مواسم تكاثر البق، أي في آذار / مارس في مصر، وحزيران / يونيو في الأناضول، وأيلول / سبتمبر في إستانبول.
أسفر الطاعون في غضون هذين القرنين عن خسائر بشرية فادحة، وإن كان يصعب تحديدها بدقة بسبب قلة المراجع الموثوق بها، والتضارب بين ما توفّر منها. إلّا إن بنزاك يستخلص من عرض الأرقام في ست من المدن الكبيرة (الإسكندرية والقاهرة وحلب وإزمير وسالونيك وإستانبول) أن الجوائح كانت تحصد في كل مرة 20% من السكان، وهي نسبة ربما تصل إلى 30% أو أكثر، الأمر الذي يفسر، مع عوامل أُخرى، حالة الهمود الديموغرافي طوال القرن الثامن عشر على الأقل. ويصعب أيضاً تحديد الخسائر المادية، إلّا إنه يمكن القول إن الطاعون، بسبب كثرة جوائحه، فاقم أيضاً الأزمات الاقتصادية والمالية التي عانت جرّاءها الدولة العثمانية، إذ كان بطبيعة الحال يشل الحركة التجارية ويعرقل الإنتاج الزراعي والحرفي. وكان أكثر السكان، على اختلاف مذاهبهم الدينية، ومثلما كاوا يفعلون من قبل، يستسلمون للوباء، ويكافحونه بالصلوات باعتباره لعنة ربانية وامتحاناً لإيمانهم، لكن بعض "الرعايا"، أي المسيحيين واليهود، كانوا يأخذون بنصائح قناصل الدول الغربية، فيفرون من الأماكن الموبوءة أو يعزلون أنفسهم. وكان بعض أغنياء التجار المسلمين يحذون حذوهم، مثلما هي الحال في حلب منذ سنة 1742. واقتصرت سياسة الدول الغربية، إزاء انتشار الوباء في شرق البحر الأبيض المتوسط وجنوبه، على حماية سكانها من العدوى، إلّا إن بونابرت، وفي أثناء الحملة الفرنسية على مصر (1798 - 1801)، فرض على المصريين بالقوة اتخاذ التدابير الوقائية المعمول بها في فرنسا، لكن جيشه نفسه لم يسلم من الطاعون، إذ من المعروف أنه فقد بسببه 1000 ضابط وجندي في فلسطين، تحت أسوار عكا، وهو ما اضطره إلى العودة خائباً إلى مصر. واستمر العمل بالوقاية بعد خروج الفرنسيين من مصر، على الرغم من رفض السكان أو تحفظهم، فقد طبّقها البريطانيون حتى سنة 1807، ثم محمد علي، وبعده بعض الولاة العثمانيين، حتى عمّت جميع أراضي الدولة بدءاً من سنة 1830، فأنشئت إدارات صحية مختصة، وحُصنت الحدود البحرية والبرية بالمعازل. ولا شك في أن هذه السياسة الصحية الجديدة هي التي أدت إلى الخلاص من الطاعون، إذ لم تسجل بعد تطبيقها أي إصابة منذ سنة 1844.
بَيد أن الكوليرا كانت قد ظهرت في المشرق في سنة 1822، في غضون جائحتها العالمية الأولى (1817 - 1824)، وفشت فيه في غضون الجائحة الثانية (1829 - 1837) بدءاً من سنة 1831، خلال موسم الحج. ففي تلك السنة (1831) فشا الوباء في أوروبا الشرقية، قادماً من روسيا، واجتاح برلين فلندن فباريس، ثم عبر المحيط الأطلسي من إنجلترا وإيرلندا إلى كندا والولايات المتحدة وبعض دول أميركا الجنوبية، الأمر الذي جعل الدول الأوروبية تفكر في عولمة الوقاية من الأوبئة الجارفة. وكان السلطان محمود الثاني ومحمد علي، في إطار مساعيهما التحديثية، مقتنعين بضرورة التعاون مع الدول الغربية واعتماد علومها لدرء خطر الأوبئة وعلاج المرضى، وكانا قد أسسا في سنة 1827، بمساعدة فرنسية، مدرستين للطب، الأولى في إستانبول والثانية في القاهرة، وبادر محمد علي إلى تشكيل إدارة صحية، وفرض نظام المعازل، وتبعه محمود الثاني في سنة 1838 بتشكيل مجلس صحي أعلى يتألف من ممثلين عنه وعن الدول الأوروبية المعنية، ويستند إلى شبكة من الإدارات في كل منها طبيب متخرج من جامعة أوروبية، ومهمتها الرئيسية منع تسرب الأوبئة من الحدود البرية والبحرية بتعميم الرقابة الصحية على المسافرين وبضائعهم وأمتعتهم. واتضح في المؤتمرين الدوليين اللذين عُقدا في سنتَي 1851 و1859، ولم يؤديا إلى الاتفاق على شرعة صحية دولية، أن بريطانيا وفرنسا تريدان تحميل الدولة العثمانية ومصر وحدهما مسؤولية حماية أوروبا من الكوليرا وغيرها، بفرض قواعد ملزمة عليهما تشرفان على تطبيقها، إلّا إنهما رفضتا الالتزام بها بحجة حرصهما على حرية الملاحة والتجارة.[2] وفي سنة 1865، ثبت أن الأوضاع الإدارية والصحية المتردية في الحجاز في موسم الحج (عدم خضوع الحجاج لأي مراقبة صحية عند وصولهم وعند مغادرتهم، والازدحام والحر الشديد، وشحّ المياه الصالحة للشرب، وتفسخ الذبائح، إلخ)، وازدياد عدد الحجاج بفضل السفن البخارية والسكك الحديدية، كانا السبب في انتشار الكوليرا في أوروبا والعالم. لقد مات في تلك السنة في مكة والمدينة ثلث الحجاج الذين بلغ عددهم 90,000، وتسبب الناجون العائدون غرباً وشمالاً بنقل الكوليرا إلى مصر التي قُدر عدد ضحاياها بأكثر من 60,000، ثم انتقلت من الإسكندرية إلى مرسيليا ونابولي، وإلى بيروت وإستانبول، ومنها إلى البلقان والقفقاس وإيران؛ ولذا عُقد في إستانبول في السنة التالية مؤتمر دولي ثالث تقرر فيه اتخاذ تدابير مشددة لمراقبة حركة الحجاج ذهاباً وإياباً. وكانت الخطوة الأولى منع الملاحة بين الحجاز والسواحل المصرية، وحشد الحجاج العائدين إلى ديارهم في مخيمات صحية في سيناء مدة 15 يوماً، وإقامة سلسلة من العوازل على الشاطىء الشرقي للبحر الأحمر من ينبع إلى مخا.
كان الصراع آنذاك على أشده بين فرنسا وبريطانيا، وذلك على جميع الصعد، بما فيها السياسة الصحية، وكان هو السبب في فشل المؤتمرين الصحيين الدوليين المذكورين آنفاً. فقد كانت كل منهما، في سعيها لانتزاع الحصة الأكبر من أراضي الدولة العثمانية، تطمح إلى الهيمنة على الملاحة في البحر الأحمر قبيل افتتاح قناة السويس في سنة 1869، لكنهما عملتا معاً على تدويل الحج، وفرض رقابتهما على تنظيمه، غير عابئتين بالسيادة العثمانية. وكان الحج في نظر الجمهور الأوروبي الواسع، بل الدين الإسلامي بحد ذاته، قد اقترن بالكوليرا، فطالبت الصحافة بأن يصبح الحجاز محمية أوروبية للحدّ من تفشي الوباء. وأضيف إلى رهاب الكوليرا خوف السلطات الاستعمارية من عدوى المشاعر المعادية للغرب والدعوات إلى وحدة الأمة الإسلامية خلال هذا اللقاء السنوي الحميم بين عشرات الألوف من المسلمين، فكثيرون منهم يأتون من بلاد يسيطر عليها الأوروبيون، كالهند وإندونيسيا والجزائر. واشتد خطر الحج، الحقيقي أو المزعوم، في الأوساط السياسية الغربية بعد أن اعتلى العرش عبد الحميد الثاني في سنة 1876، فقد كان يصر على أنه ليس سلطان الدولة العثمانية فحسب، بل "أمير المؤمنين" جميعاً أيضاً، ويدعو إلى وحدة الأمة الإسلامية لمجابهة المطامع الغربية من جهة أولى، والنزعات الاستقلالية من جهة ثانية. ولمّا كان الحج دليلاً على وحدة الأمة، وسبيلاً إلى تمتين الأواصر بين شعوبها، فإنه أولاه عناية خاصة، وردّ على محاولات تدويله بسلسلة من التدابير الإدارية والمالية والدعائية كان آخرها البدء في سنة 1900 بتنفيذ مشروع الخط الحديدي بين دمشق والمدينة المنورة، على أن يصل فيما بعد بين دمشق وإستانبول. ولذا عمدت الحكومات الأوروبية إلى فرض رقابة مزدوجة، صحية وسياسية، على سكان مستعمراتها الراغبين في الحج، لكن بوسائل مختلفة: فهولندا مثلاً، لم تعد تسمح في الهند الشرقية، بالحج إلّا للميسورين من رعاياها وبعد تدقيق وثائق سفرهم، كما سيطرت بريطانيا بصورة مباشرة على حج الهنود، إلّا إنها لم تسعَ للحدّ من حرياتهم الدينية خوفاً من أن يؤلِّبوا الناس عليها، أمّا فرنسا التي كانت تعتبر الحجاز "بؤرة التعصب الإسلامي والتحريض على الثورة"، فحذّرت رعاياها المغاربة من الحج، بذرائع صحية واهية، ومنعتهم من السفر 23 مرة بين سنتَي 1880 و1914. وفي الوقت نفسه، لم تكفّ الدولة العثمانية عن التنديد بالتدخل الغربي في سياستها الصحية، فرفضت بعد سنة 1894 أن توقّع الشرائع الدولية التي تم إقرارها بفضل التقارب في وجهات النظر بين فرنسا وبريطانيا، وتحفظت على وجود مؤسسة دولية لم تعترف بها قانونياً ولا سلطة لها عليها، هي مجلس إستانبول الصحي المكلف بالإشراف على مكافحة الأوبئة في شرق البحر الأحمر والبحر الأبيض المتوسط، إلى أن اتخذت قراراً حاسماً بحلّه في سنة 1914.[3]
لم ينجُ الحجاج من جائحتَي الكوليرا الخامسة (1881-1896) والسادسة (1899-1923)، على الرغم من تشديد الرقابة الصحية والسياسية عليهم، وهلك عشرات الألوف منهم بين سنتَي 1881 و1912، وخصوصاً في سنة 1893 التي تجاوز عدد الوفيات فيها 30,000. وكانت الكوليرا تنتقل إلى الحجاز مع الحجاج الآتين من الهند بصورة خاصة، وأحياناً من جاوة وسنغافورة واليمن، قبل أن تتجه شمالاً إلى بلاد الشام وتتسبب بخسائر جسيمة في الأرواح مثلما حدث خلال سنتَي 1902 و1903. إلّا إن الوباء اتبع مساراً آخر في الفترة 1911-1912، إذ انتقل على الأغلب من إيطاليا إلى إستانبول وبيروت وحيفا، ورافقه الذعر المعهود على الرغم من قناعة الأطباء بأن الكوليرا لم تعد أشرس الأوبئة في المنطقة، وأن السل وأمراض الأطفال كالحصبة، هما أشد فتكاً. وبما أن الصحافة العثمانية، بعد ثورة 1908، كانت تتمتع بشيء من الحرية، فإنه يمكن اعتمادها مرجعاً لمعرفة انتشار الوباء يوماً بعد يوم، وآثاره النفسية في السكان، وموقفهم من تصرّف الأجهزة الصحية الرسمية. وقد استخلص أحد الباحثين المتمرسين من عيّنة منها (جريدة "فلسطين" اليافوية) أن الكوليرا أثارت الرعب من جديد منذ الإصابات الأولى، مذكّرة بكثرة ضحاياها قبل عشرة أعوام. غير أن السلطات المعنية لم تتدخل في فرض ما يمكن نشره وحظر ما لا تريده مثلما كانت تفعل من قبل، كما أن السكان، على الرغم من التدهور الملحوظ في علاقتهم مع الدولة، واستنكارهم تقصير أجهزتها الصحية المحلية، لم يفقدوا الأمل بإصلاحها، وإنما عبّروا عن ثقتهم بقدرة السلطة المركزية على تلبية حاجاتهم الصحية، وخصوصاً حمايتهم من الأوبئة.[4] ويبدو أنها تمكنت فعلاً من السيطرة على الكوليرا بعد هذه الجائحة، ثم اندلعت الحرب العالمية الأولى التي دهمت الشعوب كلها بأهوال لم تكن في حسبانها.
حصدت الحرب مثلما هو معروف ما يقرب من 19 مليون شخص، نصفهم تقريباً من المدنيين، ثم تبعتها جائحة الحمّى الصفراء (الإسبانية) التي أودت بحياة 50 مليوناً على أقل تقدير. وكانت الدولة العثمانية تلفظ أنفاسها الأخيرة بعد هزيمتها العسكرية حين أُعلن في تموز / يوليو 1918 أولى الإصابات في إستانبول، إلّا إن الصحافة لم تعرها اهتماماً إلى أن وصلتها الأخبار عن وفاة عدد كبير من المصابين في سويسرا، وعن انتشار الوباء في صفوف الجيش شرق الأناضول وفي العراق والحجاز واليمن. وما إن جاء الخريف وتبدل المناخ حتى اشتدت حدته، واستشرى بصورة خاصة بين الجنود المنسحبين من مواقعهم بعد الهزيمة، وبين الأسرى واللاجئين العائدين إلى بيوتهم أو الهائمين على وجوههم. وفي آخر السنة، حين بدا أن الجائحة شرعت تنحسر، قُدر عدد الموتى في إستانبول وحدها بـ 13,000 شخص، لكنها ما لبثت أن عادت من جديد خلال الأشهر الخمسة الأولى من سنة 1919، مُودية بعدد أكبر من المصابين في العاصمة وفي غيرها من المدن، مثل أنقرة وبيروت. ومن الجدير ذكره في هذا الصدد، دليلاً على مكر الأقدار، أن مصطفى كمال، مؤسس الجمهورية التركية، أصيب بالحمّى الصفراء وهو في إستانبول في أواخر نيسان / أبريل، وكادت تقضي عليه، لكنه شفي منها بسرعة وغادر العاصمة إلى سامسون، على البحر الأسود، في مهمة كلّفه بها محمد السادس، آخر سلاطين آل عثمان. غير أن مصطفى كمال كان يتطلع إلى ما لم يكن في خاطر السلطان ولم يتوقعه أحد من المنتصرين، إذ ما إن وصل إلى سامسون، في 19 أيار / مايو، حتى أطلق حرب التحرير الوطنية.
المصادر:
[1]Daniel Panzac, La peste dans l'Empire Ottoman 1700-1850 (Louvain: Èditions Peeters, 1985).
[2]Sylvia Chiffoleau, Genèse de la santé publique international: De la peste d’Orient à l’OMS (Rennes: Presses Universitaires de Rennes/Ifpo, 2012).
[3]Sylvia Chiffoleau, Le Voyage à La Mecque: Un pèlerinage mondial en terre d'Islam (Paris, Belin, 2015); Luc Chantre, Le pèlerinage à La Mecque à l’époque coloniale (v. 1866-1940): France, Grande-Bretagne, Italie, Thèse Histoire moderne et contemporaine (Poitiers: Université de Poitiers, 2012), https://tinyurl.com/y6ujdteh
[4]Philippe Bourmaud, “Le conflit des sources: L’épidémie de choléra de 1911-1912 au Levant ottoman entre presse et administration ottoman”, Cahiers de la Méditerranee, no. 96 (2018), https://journals.openedition.org/cdlm/10983