ترسيم الاستيلاء الإسرائيلي على ما تبقى من أراضٍ فلسطينية، هو عنوان الجدل الدائر داخل المؤسسة الإسرائيلية الأمنية والسياسية، وعنوان البحث في تداعيات الترسيم مع بعض الدول الأوروبية والعربية والإقليمية. ويُعتبر حسم السيطرة على الضفة الغربية التي تجسّد الأطماع الكولونيالية منذ عقود وعقود هو جوهر الجدل القائم. أمّا داخل المؤسسة الإسرائيلية فليس هناك موقف مناهض لترسيم السيطرة الاستعمارية، إنما الخلاف فقط هو على التوقيت، إذا كان ملائماً أو لا، والخسارة التي قد تلحق بإسرائيل جرّاء ترسيم السيادة، وأثر ترسيم السيطرة في الاستقرار الإقليمي، في مقابل اقتناص فرصة تاريخية وفرتها إدارة ترامب، وما عدا ذلك فإن السيطرة قائمة على الأرض عبر وقائع متراكمة وترجمة عملية لخطط ومشاريع الجنرالات والسياسيين والمؤسسات الإسرائيلية. وتترافق الأفعال الإسرائيلية على الأرض دائماً مع السياسات المعلنة، وأحياناً تسبق الأفعال الأقوال والمخططات وتساهم في توسيعها، وهذا ما يميز الفعل الاستعماري الإسرائيلي على الأرض الفلسطينية منذ بداية المشروع الصهيوني وحتى يومنا هذا.
يكتسب ترسيم ضم الأغوار وشمال البحر الميت أهمية سياسية استراتيجية قبل أي عناصر أُخرى في المشروع الاستعماري الإسرائيلي الراهن، كونه يحسم استبعاد سيادة أُخرى غير السيادة الإسرائيلية غربي نهر الأردن، حتى لو كانت سيادة فلسطينية رمزية كما جرى التعامل في السنوات الأولى من اتفاق أوسلو عندما رُفع العلم الفلسطيني وصورة عرفات مع وجود شرطة فلسطينية تستقبل المواطنين العائدين على مدخل الجسر وتضع معاملاتهم في أدراج الشرطة الإسرائيلية الذين كانوا يختفون وراء ألواح زجاجية مصقولة ويصدرون قرار الموافقة أو عدمها. ولا شك في أن فرض سيادة إسرائيلية مطلقة مدعمة بوقائع ميدانية عملية، يعني منع إقامة دولة فلسطينية لها حدود جغرافية مع محيطها الأردني والعربي. كما أن منع التواصل الفلسطيني مع الأردن خارج السيطرة والتحكم الإسرائيليين، يقوّض أهم مقومات الكيانية الفلسطينية، ويفقدها الاستقلال السياسي ويحول دون ممارسة حق تقرير المصير.
معروف أن لإسرائيل خبرة طويلة في مجال تدمير التشكيلة الاقتصادية الاجتماعية الفلسطينية وكبح كل محاولات إعادة بنائها على امتداد 72 عاماً، إذ لم تسمح ببناء مدينة أو قرية فلسطينية واحدة على امتداد تلك الفترة بل "هدمت قرية العراقيب مسلوبة الاعتراف والمهددة بالتهجير في منطقة النقب، للمرة 176 على التوالي"[1]، وباستثناء مدينة روابي ذات النشأة الاستثنائية والغامضة، تحظر سلطات الاحتلال كل عمل من شأنه إنماء الكيانية الفلسطينية واستقلالها. وهذا يأخذنا إلى طبيعة الحل الذي تتبناه دولة المستعمرين وتعمل على تكريسه في الواقع، وهو الحل الذي انتقل من حالة غموض تنطوي على تفسيرات حالمة عند البعض، إلى حالة وضوح سافر ترافقت مع انتقال مركز الثقل في القرار السياسي الإسرائيلي من الصهيونية العلمانية إلى الصهيونية الدينية القومية، والكتلة الأكبر جنرالات المؤسسة الأمنية بقطع النظر عن انتمائهم إلى الصهيونية العلمانية. والحل السياسي المعتمد إسرائيلياً هو ليس حل الدولتين بمعنى إقامة دولة فلسطينية تحظى باعتراف أكثرية دول العالم، ولا حل الدولة الواحدة القائمة على مبدأ المساواة، ولا أي حل "وَسَط" يقر بكيان فلسطيني قابل للحياة والتطور، بل إن الحل الاستعماري المعتَمد من المؤسستين الأمنية والسياسية هو هزيمة السكان الأصلانيين هزيمة كاملة بالنقاط وبالتدريج، وذلك على خلفية نماذج أميركا وأستراليا ونيوزيلندا مع فارق وجود إبادة صريحة في تلك النماذج في مقابل تطهير عرقي صارخ في بداياته قبل أن يتحول إلى تطهير صامت. وينطلق النموذج الذي تقتدي به إسرائيل في التعامل مع السكان الأصلانيين وحل الصراع معهم، من قناعة المستعمرين بهزيمة الشعب الفلسطيني هزيمة كاملة، فشروط نتنياهو العشرة للاعتراف بدولة فلسطينية هي بمثابة هزيمة فلسطينية كاملة في حال الموافقة عليها، وفي الجهة الأُخرى فإن المطروح هو تحقيق انتصار حاسم ومتواصل للمستعمرين الإسرائيليين الذين جاؤوا ليبقوا، واحتلالهم للأرض لا رجعة عنه، وهو قائم على عملية الإقصاء الاقتصادي والسياسي والثقافي والمعنوي والهوياتي (السطو على هوية الشعب الفلسطيني وتراثه كالفلكلور والأطعمة والطقوس الشعبية). ويتكثف هذا الفعل في ثنائية نكبة متواصلة للشعب الفلسطيني، وانتصارات متتالية لإسرائيل على قاعدة بقاء طرف وزوال آخر. وبهذا المعنى فإن “النموذج الجزائري والجنوب أفريقي والروديسي مستحيلا”، في مقابل سعي حثيث ومحموم للتماهي مع "النموذج الأميركي والأسترالي والنيوزيلندي" مع وجود تباين في مستوى وشكل إبادة السكان الأصليين. [2] بالإضافة إلى أن قضايا مثل: قانون القومية، وتعريف الفلسطيني في الكتب المدرسية الإسرائيلية، وربط الولاء لدولة إسرائيل بالعامل الأمني، ... وغيرها، تؤكد الرؤية الإسرائيلية وحيدة الجانب لحل الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي.
وتُعزى عملية ضم الأغوار والبحر الميت وشماله والمستعمرات، في الخطاب السياسي والإعلامي الإسرائيلي، إلى أسباب أمنية، والادعاء بأن إسرائيل بحاجة إلى حدود قابلة للدفاع عن اليهود الإسرائيليين سكان دولة إسرائيل، وبحاجة إلى توسيع الخاصرة الرخوة للدولة من جهة قلقيلية وطولكرم، وإلى خط دفاع في مواجهة زحف إيران وحزب الله من الشرق، وهو ادعاء تفنده المؤسسة العسكرية الإسرائيلية، ويفنده واقع عدم وجود تهديد أمني. فالنظام العراقي انهار وتراجع تهديده، والنظام السوري أصبح في موقع دفاعي بعد الحرب الأهلية وحرب التدخلات، فضلاً عن تحكم روسيا في المجال الأمني، ولم يبق من التهديد إلاّ إيران التي تهدد بمسح إسرائيل أو أجزاء منها بصواريخها البالستية أو عبر حزب الله. والصواريخ البالستية لن تأتي عبر احتلال إيران للأردن واستخدامه كقاعدة لإطلاق الصواريخ، فالأردن يرتبط بمعاهدة مع إسرائيل وباتفاق مع أميركا التي لا تسمح بمجرد تهديد هذا البلد. والصواريخ والمسيرات والزوارق لا تصد من خلال الوجود الإسرائيلي في الأغوار، تلك كذبة لا يضاهيها إلاّ الادعاء بأن المستعمرات التي لم تستقطب غير 12 ألف مستعمر خلال الـ 53 عاماً الماضية لها دور في الدفاع عن إسرائيل. فقد تبدد دور المستعمرات الأمني في أثناء حرب 1973، وانتفاضة 1987، والانتفاضة المسلحة في سنة 2000، إذ كانت عبئاً على الأمن الإسرائيلي. ويمكن القول إن ألف باء الحرب الحديثة تكذب التذرع بالأمن لتبرير الضم، فحتى الدولة الفلسطينية الموعودة لا تطالب بالسلاح ولا يهدد وجودها الأمن الإسرائيلي. المشكلة أن شعوب المنطقة هي المهدد أمنها بفعل الطبيعة الكولونيالية والأدوار الوظيفية لها، ولا يلزم المرء أي جهد للتعرف على التهديدات الإسرائيلية. ومن جهة أُخرى فإن ميزان القوى بين إسرائيل والدول التي تهددها مجتمعة ومنفردة مختل تماماً وبمستوى فادح لمصلحة إسرائيل التي يضاف إليها القوة الأميركية في حالة أي تهديد. فإسرائيل دولة نووية تملك ما بين 90 – 400 رأس نووي، وتملك أحدث ترسانه أسلحة تضع جيشها كأقوى رابع جيش في العالم. وكل هذه المعطيات تؤكد أن مقولة "الأمن المهدد" ما هي إلاّ فزاعة لتبرير النهب والضم والهيمنة.
وإذا أسقطنا المبررات الأمنية الإسرائيلية من الحساب، لا يبقى غير أطماع التوسع الاستعماري، والأرباح التي يحققها المستثمرون المستعمرون. فعندما يتغلب الربح ورفاه الحياة على الأمن ينكشف المستور وتزول المساحيق عن وجه الاحتلال الاستيطاني القبيح. والربح أولاً، كالأرباح المتأتية من البحر الميت وصناعاته التجميلية، وأرباح الزراعة التي احتكر القائمون عليها أجود الأراضي الزراعية، وأكثر من 85% من المياه الطبيعية، والإيرادات التي تحققها دولة الاحتلال من السياحة في منطقة لا مثيل لها في العالم، لا تقدر بثمن أيضاً. أجل، النهب هو ديدن الكولونياليات القديمة والجديدة وهذا ينطبق على إسرائيل بالتمام والكمال. لماذا يقبل العالم بهذا النوع من القرصنة التي تستند إلى غطرسة القوة فقط لا غير؟
الصورة: السياج الحدودي بمحاذاة قرى مرج نعجة والزبيدات ومرج الغزل، تصوير أحمد حنيطي.
[1] هدم العراقيب للمرة 176 ، عرب 48 / 5/3/2020 https://www.arab48.com/%D8%A7%
[2]https://www.arab48.com/%D9%85%D8% إقرار بهزيمة الفلسطيني وأبدية إسرائيل / ميساء شقير / عرب 48/ 16/5/2020