The Israeli Control over the 1967-Occupied Palestinian and Syrian Lands

مقدمة

يتناول هذا الفصل الاحتلال الإسرائيلي، كنظام هجين ومنظومة سيطرة متعددة الأوجه، تدمج (أ) الاحتلال العسكري، أي كون الاحتلال سيطرة عسكرية لدولة على إقليم دولة أُخرى، في (ب) الاستيطان – الإحلالي، كعملية استبدال شعب بشعب آخر، و(ج) الحكم الاستعماري، أي كدولة استعمارية تحكم مجتمعاً آخر، فتسلبه السيادة وتستغل موارده الطبيعية والبشرية اقتصادياً. والوجه الغالب في منظومة التحكم هذه، في الحقيقة، وكما سنبيّن، على الأقل منذ صعود اليمين الإسرائيلي في العقود الأخيرة وفي الوقت المنظور، هو الوجه الاستيطاني – الإحلالي والفصل العنصري.1 فمنظومة السيطرة الاحتلالية تسخّر ما يُفيدها من القانون الدولي لهذه الغاية، فتتعامل معه بناءً على تفسيراتها الخاصة التي تنقض ما يُجمع عليه معظم فقهاء القانون الدولي. كما تستلّ أدوات الحكم الاستعماري التقليدية وتطورها، بغية حماية عملية الإحلال تلك وتطبيعها. لكن هذه العملية الإحلالية ليست تامة بطبيعة الحال، وليس تطبيعها محسوماً، ما دام هناك مقاومة فلسطينية، وبالتالي لم تنتفِ عن الاحتلال الأوجه الأُخرى. كما أن أيّاً من هذه الأوجه أو الجوانب الظاهرة، ليس بالأمر البسيط أو الثابت، بل تنطوي جميعها على عوامل ومتغيرات متعددة. فالنظر إلى الاحتلال من منظور القانون الدولي يُفضي إلى أسئلة وإشكاليات متجددة، فقهية وسياسية، وخصوصاً في ظل غياب أدوات تنفيذية، ونتيجة ارتباط المحاكم الدولية بموازين القوى الدولية. كذلك، فإن ظاهرة الاستيطان الإحلالي لا تتخذ أبعاداً أحادية جامدة، فهي عملية عمرانية وإدارية واقتصادية واجتماعية معقدة، ومتعلقة بعوامل ودوافع ومتغيرات داخل الدولة المحتلة – المستعمِرة، ومجتمعها المدني، وأيديولوجيتها ونظامها السياسي والاقتصادي والثقافي، بالإضافة إلى تأثرها بالبعد الجيو – سياسي والبعد الدولي. أمّا من جهة الحكم الاستعماري، فلقد بدأ الاحتلال مع خطاب حكم أبوي وعرقي، انطلق من فرضية «الحكم الاستعماري المستنير»، والقادر على توفير السيطرة والهدوء، عبر ادعاء رعاية مصالح المستعمَرين وتطويع أدوات «أنثروبولوجية» (كحكم المستعمَرين بموجب ثقافتهم الخاصة وبناهم التقليدية، إلخ). لكنه أعاد ترتيب أدواته حين واجه مقاومة المستعمَرين، في مختلف أشكالها العسكرية والمدنية، وتحول من خطاب حكم المستعمِر المستنير إلى خطاب المعاهدات والحكم الذاتي، فعمل على تطويق الفلسطينيين في كانتونات محشورة ومفككة، هي أكثر من حكم بلديات منفصلة وأقل من دولة ذات سيادة. وانسحب إدارياً، عبر هذه العملية، من مناطق معينة (غزة)، واعتبرها كياناً أجنبياً معادياً، وضم أجزاء أُخرى (القدس والجولان) واعتبر سكانها جزءاً من سكان إسرائيل، ضمن تصنيفات ديموغرافية وجغرافية قائمة على تمييز قومي مقونن وخفي. والهدف من ذلك كله واضح، وهو حماية عملية الاستعمار الإحلالي وكسب أكبر مساحة ممكنة من فائض الأرض من دون سكان.

يعرض هذا الفصل هذه الظاهرة المركّبة عبر مسارد وصفية وتحليلية، اعتماداً على الأدبيات والمصادر المتوفرة، وعلى المشاهدة اليومية للواقع أيضاً. ويقدم لمحة تاريخية عامة عن الاحتلال، في أبعاده الجيو – سياسية والجغرافية والديموغرافية والقانونية والإدارية والاقتصادية. ويحلل ظاهرة الاستيطان الإحلالي ومكانتها الخاصة في مجمل المشهد الإسرائيلي، من الناحيتين الأيديولوجية والسياسية، ويسلط الضوء على النقاش المركزي بشأن مستقبل هذه المكانة الخاصة والنزعة اليمينية لحسمها عبر الضم، وارتباط ذلك بسؤال مركزي آخر بشأن السيناريوهات المطروحة للتعامل مع الوجود والفعل الفلسطينيين في السياسة الإسرائيلية. ويتناول هذا الفصل، لتوضيح هذا الموضوع الأخير، منظومة الحكم الاستعماري والسيطرة على الحيز الفلسطيني والجسد الفلسطيني والوعي الفلسطيني، والأدوات المتبعة في ذلك، من الأساليب شبه الناعمة، إلى الجلفة، والخشنة، والدامية، والقاتلة. ويسلط الضوء على السؤال الفلسطيني المركزي، والمتعلق بعوامل ديمومة الاحتلال في مقابل عوامل إزالته.

أولاً: الاحتلال جيو – سياسياً: الحروب والمعاهدات

أ – حرب سنة 1967: جذورها وتبعاتها2

أعلنت مجموعة من المنظمات الصهيونية التي شاركت في حرب النكبة، قيام دولة إسرائيل بتاريخ 14/5/1948، على مساحة 78 في المئة من مساحة فلسطين الانتدابية. وهجّرت تلك المنظمات، آنذاك، ما يقارب 800,000 فلسطيني، وهدمت نحو 531 قرية أُزيلت وطُهرت عرقياً.3 ثم خضع مَن تبقّى من الفلسطينيين، ممن ظلوا تحت سيطرة الدولة الوليدة، لحكم عسكري جائر، استمر حتى سنة 1966.4

ضُمَّت الضفة الغربية بعد النكبة إلى المملكة الأردنية الهاشمية، وضُم قطاع غزة إلى جمهورية مصر العربية، وبقي الأردن ومصر يحكمان الضفة والقطاع من سنة 1948 حتى عشية الرابع من حزيران/يونيو 1967، بحيث أكمل العدوان الإسرائيلي احتلال ما تبقّى من فلسطين (الضفة الغربية بما فيها شرقي القدس وقطاع غزة)، ومساحة كبيرة من محافظة القنيطرة السورية (أو مرتفعات الجولان)، وشبه جزيرة سيناء المصرية.

عُقد مؤتمر قمة عربية في الخرطوم سنة 1967، في أعقاب الحرب، وصدر عنه «اللاءات» الثلاث (لا سلام مع إسرائيل؛ لا اعتراف بإسرائيل؛ لا مفاوضات مع إسرائيل)، وبرز خطاب عربي يدعو إلى إزالة آثار العدوان؛ أي إلى العودة إلى حالة ما قبل النكسة (1967).5 وشنّت مصر وسورية حرباً على إسرائيل سنة 1973، وحققت الدولتان في بدايات المعارك تفوقاً، عسكرياً وميدانياً، فاسترجعت القوات السورية الجولان، وقطعت القوات المصرية الجبهة الشرقية لقناة السويس. لكن التدخل الأميركي لمصلحة إسرائيل قلب ميزان المعركة، فأعادت إسرائيل احتلال الجولان من جديد، ثم جرى الاتفاق على وقف إطلاق النار في سنة 1974 بوساطة وزير الخارجية الأميركي آنذاك هنري كسينجر. وأبقى الاتفاق أغلبية الجولان المحتل (قرابة 1000 كم2) تحت السيطرة العسكرية الإسرائيلية الكاملة، وأُنشئ حزام أمني منزوع السلاح داخل الأراضي السورية شرقي الجزء المحتل. وما زالت هذه الاتفاقية قائمة عملياً حتى يومنا هذا. أمّا على الجبهة المصرية، فأفضت الحرب والمباحثات السياسية بالوساطة الأميركية إلى زيارة الرئيس المصري آنذاك أنور السادات للقدس المحتلة سنة 1977، وتبعها توقيع اتفاق سلام بين إسرائيل ومصر في سنة 1978، عُرف باسم اتفاق كامب ديفيد.

نجحت إسرائيل في استثمار اتفاقية السلام مع مصر، فجرى تحييد الجبهة الغربية عند الحدود المصرية، وتم إخراجها من معادلة الحرب الميدانية المباشرة. وأتاح ذلك لإسرائيل تعزيز قدراتها العسكرية وسيطرتها، عسكرياً واستيطانياً، على المناطق الفلسطينية المحتلة، وخصوصاً القدس المحتلة، بحيث صادق الكنيست الإسرائيلي سنة 1980 على «قانون أساس: أورشليم القدس عاصمة إسرائيل»، في خطوة للتوسع والضم والسيطرة الحصرية على القدس بصورة قانونية. وانتقل الاحتلال، في الضفة الغربية وقطاع غزة، من منظومة الإدارة العسكرية (في الفترة 1967 – 1981)، إلى الإدارة المدنية (في الفترة 1981 – 1993). وتحاول إسرائيل تعزيز سيطرتها على السلطة الفلسطينية، وإدامة سيطرة عليا لها على كل المناطق الفلسطينية، منذ توقيع اتفاقيتي أوسلو وإعادة انتشار السلطة الفلسطينية وأجهزتها التنفيذية في المرحلة الأولى في غزة وأريحا، ولاحقاً في الضفة الغربية وقطاع غزة مع صلاحيات محدودة في المناطق (ج)، وذلك من أجل منع قيام دولة فلسطينية، أو كيانية كاملة السيادة على الأرض والحدود والسكان.

استُغل الاتفاق مع مصر أيضاً لتعزيز قوة الاحتلال في الجبهة الشمالية عند الحدود السورية – اللبنانية. وصادق الكنيست، في سنة 1981، على تطبيق القانون الإسرائيلي على الجولان السوري المحتل (أو ما يُعرف بقانون الضم). وما زال المشهد الاستيطاني يتوسع ويتعمق هناك. أمّا الجبهة اللبنانية، فشهدت حرباً خاطفة، سُميت عملية الليطاني سنة 1978، وكانت حرباً استكشافية لخوض الحرب الكبرى على لبنان وضد منظمة التحرير الفلسطينية وقواعدها العسكرية والتنظيمية فيه سنة 1982، والتي انتهت بخروج المنظمة وقواتها العسكرية والتنظيمية من لبنان وتشتتها في دول عربية متعددة، مثل تونس والجزائر واليمن وغيرها.6

ب – الانتفاضة الفلسطينية سنة 1987: فك الارتباط؛ مدريد؛ مفاوضات واشنطن

تراجع حضور القضية الفلسطينية في الساحتين الإقليمية والدولية،7 بعد خروج منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان سنة 1982. لكن، في ظل انشغال المنظمة وفصائلها في الفترة 1968 – 1982، في الشتات، عسكرياً ودبلوماسياً وسياسياً وإعلامياً، كان هناك عودة لهـا إلى العمل في الأرض المحتلة عبـر عمليات فدائية، ومن
خلال تأسيس قواعد ارتكاز في الضفة الغربية، لتكون نقطة تحرك ونضال ضد العدو الصهيوني. وقد أَولى الحزب الشيوعي الفلسطيني العمل الجماهيري اهتماماً غير مسبوق. وشرعت حركة «فتح» والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، في مطلع الثمانينيات، في تأسيس لجان الشبيبة للعمل الاجتماعي («فتح»)، وجبهة العمل الطلابي (الجبهة الشعبية). كما أُسست كتل وحركات شبابية وجماهيرية أُخرى من جانب فصائل منظمة التحرير، كالجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين وغيرها. فكان الخروج من لبنان سنة 1982 نقطة تحول للعودة إلى العمل من داخل الأرض المحتلة. وباتت الهوية الفلسطينية، بفعل التراكم المؤسساتي والعمل الجماهيري الواسع، محركاً لقطاعات واسعة من الأهالي ضد الاحتلال الإسرائيلي ومشاريع الحكم الذاتي والإدارة المدنية و«روابط القرى» (التي سعى من خلالها الاحتلال لإبراز الهويات المحلية وتقويض الوعي الوطني الفلسطيني). ونشبت الانتفاضة سنة 1978 تتويجاً لهذا المسار الطويل من مراكمة العمل الوطني، جماهيرياً وشعبياً. وتبلورت معها حركتا «حماس» والجهاد الإسلامي فاعلين قويين في النضال الفلسطيني ضد الاحتلال، لكن خارج إطار المنظمة.8

وأعلنت المملكة الأردنية الهاشمية فك الارتباط القانوني بالضفة الغربية سنة 1988، في سياق الانتفاضة الفلسطينية المتصاعدة، ومطالبة الفلسطينيين بحق تقرير المصير والاستقلال وإقامة الدولة الفلسطينية. وكانت هذه الخطوة الأردنية نتاج مسار قمة الرباط سنة 1974، عندما اعترفت بالمنظمة ممثلاً شرعياً للفلسطينيين، وفي سياق تجسيد مطالب الانتفاضة بدولة فلسطينية أُعلن يوم استقلالها في الجزائر بتاريخ 15/11/1989. وهكذا، أعطت الانتفاضة المنظمة فرصة لفك عزلتها منذ الخروج من بيروت. وعُقد مؤتمر مدريد سنة 1991، كما هو معروف، إطاراً للمفاوضات، وشارك وفد فلسطيني من الأرض المحتلة ضمن وفد فلسطيني – أردني مشترك، وجرت المفاوضات في مدريد، ولاحقاً في واشنطن، في الفترة 1991 – 1993، من دون الخروج بنتائج واضحة. إلاّ إن قيادة المنظمة كانت قد فتحت بالتوازي قناة حوار سرية مع الحكومة الإسرائيلية في العاصمة النرويجية أوسلو، أفضت إلى ما يُعرف باتفاقيتي أوسلو وبروتوكول باريس ومسار مفاوضات عسيرة ومبتورة.9

ج – مسار المفاوضات منذ اتفاقيتي أوسلو

وُلدت اتفاقية إعلان المبادئ، المعروفة باسم اتفاقية أوسلو 1، سنة 1993، بين قيادة منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل، على قاعدة: الأرض في مقابل السلام. وقسّمت الأرض الفلسطينية إلى ثلاث مناطق (أ، ب، ج) (انظر: الملحق، الخريطة رقم 1: الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقية، سنة 2019). وكانت الاتفاقية مرحلية، ومن المفترض أن تُفضي خلال خمسة أعوام إلى حل نهائي لقضايا سيادية عالقة بين الطرفين (القدس، اللاجئون وحق العودة، الدولة، المستعمرات). وجرى توقيع، في سياق ترتيبات عملية السلام، بروتوكول باريس الاقتصادي سنة 1994، كاتفاق تعاقدي ينظّم العلاقات الاقتصادية بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل، ويُعتبر جزءاً من اتفاقية
إعلان المبادئ. استغلت إسرائيل بروتوكول باريس لتعميق التبعية الفلسطينية لها ولمؤسساتها، اقتصادياً وسياسياً ومالياً، ومن أجل «شرعنة» الهيمنة الاقتصادية الإسرائيلية.10

وُقّعت اتفاقية أوسلو 2 (القاهرة) سنة 1994، بعد توقيع بروتوكول باريس، لترتيب انسحاب الجيش الإسرائيلي من قطاع غزة وأريحا، وتسلُّم قوات الشرطة الفلسطينية مسؤولية الأمن فيهما، ثم تلاها توقيع اتفاقية طابا سنة 1995 لترتيب الانتخابات والعلاقات الفلسطينية – الإسرائيلية، أمنياً ومدنياً. ووُقّع بروتوكول الخليل سنة 1997 لإعادة الانتشار الإسرائيلي خارج مدينة الخليل وتولّي السلطة الفلسطينية صلاحيات محدودة للحكم فيها، ثم وُقع اتفاق واي ريفر 1 سنة 1998 لترتيب بعض العلاقات الأمنية والقانونية والاقتصادية بين السلطة الفلسطينية والحكومة الإسرائيلية. كما وُقّعت اتفاقية شرم الشيخ، أو واي ريفر 2 سنة 1999، لتفسير القضايا الخلافية في واي ريفر 1. انقضت الفترة الانتقالية المنصوص عليها في اتفاقيتي أوسلو في معالجة إشكاليات نقل الحكم والصلاحيات والمفاوضات الجديدة مع إسرائيل من دون القدرة على تحقيق سيادة فعلية على أرض الواقع فلسطينياً، إلى أن انهارت المفاوضات في أعقاب محادثات كامب ديفيد سنة 2000، فاندلعت في أعقابها انتفاضة الأقصى في إثر زيارة استفزازية قام بها أريئيل شارون للمسجد الأقصى. وبرز، منذ ذلك الحين، النهج الأحادي الإسرائيلي، في ظل محاولات دولية متكررة للوساطة، لم تعدُ عن كونها غطاءً للتفرد الإسرائيلي، وخصوصاً اللجنة الرباعية (الأمم المتحدة، روسيا، الولايات المتحدة الأميركية، الاتحاد الأوروبي). وأُنشئت هذه اللجنة في مدريد سنة 2002 لمعالجة الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، وعملت على استئناف العملية السياسية بين السلطة الفلسطينية والحكومة الإسرائيلية بعد الحرب على العراق سنة 2003، وفق رؤية الرئيس الأميركي آنذاك جورج بوش الابن، والتي تدعو الى إقامة دولة فلسطينية ذات حدود موقتة، في نهاية سنة 2005. وافقت السلطة الفلسطينية على الخطة من دون تحفظات، ووافقت إسرائيل عليها مع تعديلات وتحفظات عن بنود كثيرة فيها. إلاّ إن هذه الخطة لم تنجح في إحداث أي تقدم في المسار السياسي.

د – الانسحاب الأحادي من غزة وتبعاته وتبدل الموقف الأميركي في عهد ترامب

كان مقرراً إجراء انتخابات تشريعية فلسطينية سنة 2006، بعد ركود الانتفاضة الثانية، وتولّي محمود عباس السلطة الفلسطينية سنة 2005. وقاد شارون خطة الانفصال/الانسحاب الأُحادي الجانب من قطاع غزة في آب/أغسطس 2005، في سياق إعلانه الحرب على «الإرهاب» ورفضه التعامل مع الفلسطينيين، بحجة أنه لا يوجد شريك فلسطيني للسلام. وجرى تفكيك مجموعة من المستعمرات التي كانت موجودة في قطاع غزة. وأظهر شارون للجنة الرباعية أنه يعمل من أجل السلام وينفّذ الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة، كأنه لم يعد محتلاً. وانسحب أيضاً من أربع مستعمرات صغيرة في شمال الضفة الغربية.

لم يبقَ مستوطنون ولا جنود داخل قطاع غزة بعد الانسحاب الإسرائيلي منه، لكن القطاع لا يمكن دخوله أو الخروج منه إلاّ عبر المعابر الإسرائيلية، وهناك مراقبة دائمة للحدود، أو عبر معبر رفح عند الحدود المصرية – الفلسطينية. كذلك احتفظت إسرائيل بانتشارها الأمني عند حدود غزة، وبسيطرتها على المجالين الجوي والمائي.

جرت الانتخابات التشريعية الفلسطينية سنة 2006، وفازت حركة «حماس» بما يقارب ثلثي مقاعد المجلس التشريعي الفلسطيني، وألفت لاحقاً، برئاسة إسماعيل هنية، حكومتها التي تعرّضت لمشكلات وأزمات داخلية وخارجية، في نواحٍ إدارية ومالية وسياسية وغيرها. وأُلفت بعدها حكومة وحدة وطنية برئاسة إسماعيل هنية بعد اتفاق مكة المكرمة في شباط/فبراير 2007، إلاّ إنها لم تعمّر طويلاً، وفشلت في إدارة
الشؤون الفلسطينية اليومية والحياتية، وعلى رأسها أزمة رواتب موظفي القطاع العام، نتيجة أسباب داخلية وإقليمية ودولية، ثم أقيلت بموجب مرسوم رئاسي.

قامت حركة «حماس» وأجهزتها الأمنية وقوتها التنفيذية، في إثر ذلك، بالسيطرة العسكرية على قطاع غزة صيف سنة 2007. فسيطرت عليه، سياسياً وأمنياً واجتماعياً وثقافياً، وجرى تكريس الانقسام بين الضفة وغزة، وبالتالي بين حركتي «فتح» و«حماس»، جغرافياً وسياسياً ونفسياً واجتماعياً. واستمرت حكومات حركة «حماس» في الحكم المباشر، في الفترة 2007 – 2014، وكانت برئاسة إسماعيل هنية. وعُيِّن سلام فياض، في الضفة الغربية، رئيساً لحكومة الطوارئ، لتسيير الأعمال، في الفترة ذاتها. جرت مشاورات فلسطينية، بعد حرب سنة 2014 على قطاع غزة، وشُكلت حكومة وحدة وطنية برئاسة رامي الحمد لله، واستمرت في الحكم في الفترة 2014 – 2019، ثم تولى محمد اشتيه رئاسة الحكومة خلفاً لرامي الحمد لله. وعلى الرغم من الجهود الكثيفة في تأليف حكومة وحدة وطنية، وخوض جولات مكوكية للمصالحة في القاهرة والدوحة وإستانبول ومكة، فإن جهود المصالحة لم تكلَّل بالنجاح. وما زالت حركة «حماس» تمارس السيطرة الفعلية على مفاصل الحكم في قطاع غزة.

في سياق الانقسام الفلسطيني والتعثر السياسي وضيق الأفق، وتوقف عملية السلام، وخصوصاً بعد تولّي بنيامين نتنياهو الحكم في إسرائيل وتبنيه «عقيدة اللاحل»، كما وصفها أنطوان شلحت،11 صعد المرشح الجمهوري دونالد ترامب إلى قيادة البيت الأبيض سنة 2016، عبر خطاب شعبوي وعنصري، وأعلن الانحياز الكامل والعلني إلى جانب رؤية اليمين الإسرائيلي، كاسراً بذلك القواعد التقليدية للدبلوماسية الأميركية منذ مؤتمر مدريد. وعمل ترامب على إغلاق مكتب منظمة التحرير في واشنطن، وأوقف التمويل الأميركي للأونروا، وأعلن نقل السفارة الأميركية إلى القدس، واعترف بضم الجولان إلى إسرائيل. وانتُخب في تشرين الثاني/نوفمبر 2020 المرشح الديمقراطي جوزيف بايدن ليخلف ترامب رئيساً للولايات المتحدة في الولاية المقبلة. ويُعرف بايدن بصداقته لإسرائيل، لذا علينا التريث لنرى إن كانت ولايته ستُحدث أي تغيير نوعي في النهج الذي تركه ترامب.

هـ – البعد العربي: من مبادرة جامعة الدول العربية إلى موجة التطبيع الراهنة

أعلنت جامعة الدول العربية مبادرة السلام العربية، في القمة العربية الرابعة عشرة في بيروت سنة 2002، وفي ظل وهج الانتفاضة الثانية (انتفاضة الأقصى). ويتمثّل جوهر هذه المبادرة في انسحاب إسرائيل الكامل من الأراضي المحتلة سنة 1967، تنفيذاً لقراري الجمعية العامة ومجلس الأمن ذوي الرقمين 242 و338، واللذين عزّزتهما قرارات مؤتمر مدريد سنة 1991، ومبدأ الأرض في مقابل السلام، وقيام دولة فلسطينية وعاصمتها القدس الشرقية، وذلك في مقابل إقامة الدول العربية علاقات طبيعية بإسرائيل في إطار سلام شامل معها. وطالب مجلس الجامعة إسرائيل بالانسحاب الكامل من الأراضي العربية المحتلة، بما فيها الجولان السوري والأراضي اللبنانية المحتلة، والعودة إلى حدود الرابع من حزيران/يونيو 1967، والتوصل إلى حل عادل لمشكلة اللاجئين الفلسطينيين وفق قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 194، وقبول قيام دولة فلسطينية مستقلة على حدود الرابع من حزيران/يونيو 1967، وتكون عاصمتها القدس الشرقية.12

بقيت مبادرة السلام العربية إطار أي تحرك سياسي رسمي عربي يتعلق بالقضية الفلسطينية أو العلاقة بإسرائيل، على الرغم من وجود علاقات أمنية وعسكرية واقتصادية إسرائيلية ببعض الدول العربية، إلاّ إن تلك العلاقات كانت في ظل الكتمان، وعلاقات خجولة، ولم تظهر بصورة واضحة في الإعلام. وفي ظل الانتفاضات والتغيرات الجيوسياسية، والحروب الأهلية التي تغذيها الدول الإقليمية والعالمية في المنطقة، استغل تحالف ترامب – نتنياهو هذا الوضع الخاص للذهاب نحو التطبيع المعلن مع الإمارات العربية المتحدة ومملكة البحرين والسودان والمغرب وغيرها. وجرى، في هذا السياق، إعلان بيان التحالف الأميركي – الإسرائيلي – الإماراتي، بتاريخ 13 آب/أغسطس 2020، ووقّعت إسرائيل، بتاريخ 15/9/2020، اتفاقي سلام مع مملكة البحرين والإمارات العربية المتحدة برعاية الرئيس الأميركي ترامب. وأُعلن بتاريخ 23 تشرين الأول/أكتوبر 2020 اتفاق لتطبيع العلاقات بين إسرائيل والسودان، بعد ضغط الرئيس ترامب على السودان للمضي قُدماً في مسار التطبيع، ووعده في المقابل بأن يتم رفع اسمه من قائمة الدول التي تدعم «الإرهاب»، وكي يحظى بالمساعدات الأميركية. ويدور الحديث عن خطوات مقبلة مع دول غيرها، وخصوصاً السعودية. وهذا كله يُلقي ظلالاً ثقيلة على القضية الفلسطينية في عمقها العربي، ويترك الفلسطينيين عرضة أكثر لتغوّل الاستيطان والهيمنة العنصرية الإسرائيليين.

ثانياً: الاحتلال جغرافياً وديموغرافياً: المستعمرات والمستوطنون وتفتيت الحيز الفلسطيني

إن الاحتلال الإسرائيلي ليس مجرد احتلال عسكري، بل هو واقع استعماري – إحلالي مركَّب. تهدف المستعمرات إلى السيطرة على أكبر مساحة من الأرض الفلسطينية آهلة بأقل عدد ممكن من السكان الفلسطينيين، وفق منطق: أرض أكثر وسكان أقل. كما أن مشهد المستعمرات مُعَدٌّ لتجزئة المكان الفلسطيني ضمن منطق الفصل العنصري، أو الأبارتهايد. وعلى الرغم من أن جزءاً من بنية الاحتلال قائم على الاستغلال الاقتصادي، فإن المنطق الاقتصادي، كما يرد في فصل فضل النقيب في هذا الكتاب، يوجَّه دائماً ليتكامل مع الهدف الاستيطاني وتفكيك الفلسطينيين، أرضاً وشعباً. وسنعرض في هذا الفصل أبرز ملامح المشهد الاستعماري – الاستيطاني، من ناحيتين جغرافية وديموغرافية، ونبيّن أثره البنيوي في المشهد الفلسطيني.13

أ – مراحل الاستعمار وميزات كل مرحلة

مر الاستيطان الإسرائيلي في الأراضي المستعمَرة سنة 1967 بأربع مراحل رئيسية:

  • المرحلة الأولى (1967 – 1976): أُنشئت المستعمرات بصورة انتقائية، وفق سياسة تعتمد على الكيف لا الكمّ. وتركزت المستعمرات في القدس والغور (غور الأردن) بوحي من خطة يغآل ألون (1918 – 1980).14
  • المرحلة الثانية (1977 – 1984): تزامنت مع صعود حزب الليكود إلى الحكم في إسرائيل، ومع ازدياد نفوذ حركة غوش إيمونيم، القومية – الدينية الأصولية، وبالتزامن مع توقيع اتفاق كامب ديفيد مع مصر وما تبعه من إخلاء مستعمرات شبه جزيرة سيناء. وشهدت هذه المرحلة طفرة في بناء المستعمرات والتوسع الأفقي في انتشارها، واستندت إلى خطة ألون، التي تتضمن إقامة تكتل استيطاني يقطع الضفة الغربية طولياً، من الشمال إلى الجنوب، وتمتد منه قطاعات عرضية واسعة، وخطة متتياهو دروبلس (سنة 1978) التي هدفت إلى إسكان 120,000 مستوطن من خلال بناء 50 مستعمرة تقام في الأماكن الاستراتيجية في فلسطين. أمّا خطة حركة غوش إيمونيم فتركز على الاستيطان في المناطق التي أهملتها الخطط السابقة، وخصوصاً قرب التجمعات السكانية الفلسطينية التي تعتبرها قائمة في مدن ومواقع تاريخية يهودية قديمة.
  • المرحلة الثالثة (1985 – 1990): انخفضت وتيرة تأسيس المستعمرات من حيث الكم، بسبب تضارب المصالح الاستعمارية في صفوف الائتلاف الحاكم (حزب العمل وحزب الليكود)، إلى جانب الأزمة الاقتصادية الخانقة التي عصفت بالاقتصاد الإسرائيلي.15
  • المرحلة الرابعة (1991 – 2018): يلاحَظ أن وتيرة الاستيطان زادت في الضفة الغربية بعد توقيع اتفاقية إعلان المبادئ، المعروفة باتفاقية أوسلو 1. وكشف تقرير لمركز أبحاث الأراضي التابع لجمعية الدراسات العربية، أن عدد المستوطنين تضاعف أربع مرات منذ ذلك الوقت. لقد ضاعف الاحتلال عدد المستعمرات الإسرائيلية في أراضي الضفة الغربية – بما فيها القدس الشرقية – وقطاع غزة، من 144 مستعمرة قبل اتفاقيتي أوسلو، إلى 515 مستعمرة وبؤرة استعمارية حتى سنة 2018، وارتفع عدد المستوطنين اليهود الإسرائيليين، الذين استوطنوا الأراضي الفلسطينية المحتلة سنة 1967، من 252,000 قبل اتفاقيتي أوسلو سنة 1993 إلى نحو 834,000 سنة 2018، أي على نحو يزيد على ثلاثة أضعاف العدد قبل توقيعهما. أمّا مساحة الأراضي، التي تم الاستيلاء عليها لمصلحة الاستيطان اليهودي، وبلغت قبل اتفاقيتي أوسلو نحو 136,000 دونم، فأصبحت نحو 500,000 دونم سنة 2018، بزيادة تفوق ثلاثة أضعاف ما كانت عليه. يُضاف إلى ذلك الإمعان في تقطيع أوصال الضفة الغربية، وإنشاء جدار الفصل العنصري، ونشر نحو 839 حاجزاً لعزل التجمعات الفلسطينية، بعضها عن بعض.16

ب – لمحة ديموغرافية – جغرافية عامة

أنشأت إسرائيل 151 مستعمرة منذ احتلالها فلسطين سنة 1967 حتى نهاية سنة 2019، توزعت على النحو التالي: 26 مستعمرة في القدس (16 مستعمرة في القدس J17، و10 مستعمرات في القدس J18)؛ 26 مستعمرة في رام الله والبيرة؛ 20 مستعمرة في الخليل؛ 17 مستعمرة في أريحا والأغوار؛ 13 مستعمرة في بيت لحم؛ 13 مستعمرة في سلفيت؛ 13 مستعمرة في نابلس؛ 8 مستعمرات في قلقيلية؛ 7 مستعمرات في طوباس والأغوار الشمالية؛ 5 مستعمرات في جنين؛ 3 مستعمرات في طول كرم.19

ضمت إسرائيل 25 مستعمرة من مجموع المستعمرات إلى إسرائيل (16 مستعمرة في القدس J1ا، 6 مستعمرات في رام الله والبيرة، مستعمرتين في الخليل، مستعمرة واحدة في قلقيلية). أمّا المستعمرات التي لم تُضَم إلى إسرائيل، وعددها 126 مستعمرة، فتتبع مجلس «يشع».20 وهناك، إلى جانب تلك المستعمرات، 128 بؤرة استيطانية (بُنيت بقرار غير حكومي، لكنها تلقّت دعماً من بعض الوزارات)، و26 بؤرة آهلة، وتم اعتبارها أحياء تابعة لمستعمرات قائمة.21

 

عدد المستعمرات في الضفة الغربية بحسب المحافظة22 سنة 2019

 

أُقيمت 16 مستعمرة في قطاع غزة، وأربع مستعمرات شمال الضفة الغربية، تم تفكيكها سنة 2005 ضمن «خطة الانفصال» التي نفذها رئيس الحكومة الإسرائيلية أريئيل شارون.

أمّا في الجولان فيبلغ عدد المستعمرات 33 مستعمرة، يسكن فيها، بحسب التقديرات الرسمية لدائرة الإحصاء المركزي الإسرائيلية سنة 2019، أكثر من 23,000 مستوطن.23

بلغ عدد المستوطنين 688,262 مستوطناً في الضفة الغربية والقدس، بحسب إحصاءات سنة 2019. ويتركز معظمهم في محافظة القدس، بواقع 316,176 مستوطناً، بينهم 232,093 مستوطناً في منطقة J1. ويسكن في المستعمرات المقامة في أراضي محافظة رام الله والبيرة 136,954 مستوطناً، وفي المستعمرات المقامة في أراضي محافظة بيت لحم، 89,244 مستوطناً. ويسكن 47,233 مستوطناً في المستعمرات المقامة في أراضي محافظة سلفيت. أمّا أقل أعداد المستوطنين فكان في المستعمرات المقامة في أراضي محافظة طوباس والأغوار الشمالية، بواقع 2465 مستوطناً.

ويسكن 250,564 مستوطناً في المستعمرات التي ضُمت إلى إسرائيل. أمّا المستوطنون الذين يسكنون في المستعمرات التي تتبع مجلس يشع، فعددهم 437,489 مستوطناً.

 

عدد المستوطنين (بالآلاف) في المستعمرات الإسرائيلية
في الضفة الغربية، بحسب المحافظة، سنة 2019­24

 

تبلغ نسبة المستوطنين إلى نسبة سكان الضفة الغربية 22,8 في المئة؛ أي يوجد 23 مستوطناً في مقابل كل 100 فلسطيني. إلاّ إن المستعمرات كلها (المستعمرات، البؤر، البؤر التي اعتُبرت أحياء ومناطق صناعية وسياحية وخدماتية، كمعسكرات الجيش وغيرها) تسيطر على مساحات تقدر بـ 541,5 كيلومتراً مربعاً من مساحة الضفة الغربية التي تقدَّر بـ 5844 كيلومتراً مربعاً، وتشكل 21,6 في المئة من مساحة فلسطين التاريخية.25

تتوزع المستعمرات في الضفة الغربية، بحسب نوع المستعمرة، على 61 حاضرة (مستعمرة يزيد عدد سكانها على 2000 مستوطن، أو تقع داخل حدود J1)؛ 43 مستعمرة جماعية (مستعمرة ريفية تتم إدارتها بصفة هيئة تعاونية، ولا يملك سكانها الحق في زراعة الأراضي، ويتم تحديد النشاط التعاوني من جانب السكان)؛ 17 موشاف (مستعمرة ريفية تتم إدارتها بصفة هيئة تعاونية، ويملك سكانها الحق في زراعة الأراضي المصنَّفة من جانب إدارة أرض إسرائيل، على أنها أراضٍ زراعية)؛ 8 موشاف جماعية (مستعمرة ريفية يكون فيها الإنتاج والتسويق مشتركين – تعاونيين، والاستهلاك خاصاً)؛ 9 كيبوتسات (مستعمرة ريفية يكون فيها الإنتاج والتسويق والاستهلاك على نحو مشترك – تعاوني)؛ 13 مستعمرة أُخرى (مستعمرات يقل عدد السكان فيها عن 2000 نسمة). وبلغ مجموع عدد المستوطنين الحَضَر من إجمالي المستوطنين في الضفة الغربية 90 في المئة، في مقابل 6,9 في المئة يسكنون في مستعمرات جماعية، و1,5 في المئة يسكنون في موشاف وموشاف جماعي، و1 في المئة يسكنون في مستعمرات أُخرى، و0,6 في المئة يسكنون في كيبوتسات.26

تقع هذه المستعمرات في 6 مجالس إقليمية، تتبع جميعها مجلساً أعلى، يُطلَق عليه «يشع»، وهي:27

  • مجلس شمرون: بلغ عدد المستعمرات التي تتبع هذا المجلس 35 مستعمرة، يسكن فيها 108,129 مستوطناً، وتقع في أراضي محافظات جنين، طول كرم، نابلس، قلقيلية، سلفيت ورام الله والبيرة.
  • مجلس آرفوت هيردين (وادي الأردن): بلغ عدد المستعمرات التي تتبع هذا المجلس 19 مستعمرة، يسكن فيها 6173 مستوطناً، وتقع في محافظات نابلس وطوباس والأغوار الشمالية وأريحا.
  • مجلس ماتي بنيامين: بلغ عدد المستعمرات التي تتبع هذا المجلس 32 مستعمرة، يسكن فيها 210,306 مستوطنين، وتقع في محافظات نابلس، رام الله والبيرة، القدس، وفي أراضي أريحا والأغوار.
  • مجلس ميغليوت: بلغ عدد المستعمرات التي تتبع هذا المجلس 5 مستعمرات، يسكن فيها 1590 مستوطناً، وتقع في محافظات أريحا والأغوار، القدس، وبيت لحم، والأراضي التابعة لهذه المحافظات.
  • مجلس غوش عتسيون: بلغ عدد المستعمرات التي تتبع هذا المجلس 16 مستعمرة، يسكن فيها 94,474 مستوطناً، وتقع في محافظات القدس، وبيت لحم، والخليل.
  • مجلس هار حفرون (جبل الخليل): بلغ عدد المستعمرات التي تتبع هذا المجلس 15 مستعمرة، يسكن فيها 16,561 مستوطناً. وتقع هذه المستعمرات جميعها في محافظة الخليل.
  • يجدر الإشارة إلى أن هناك 29 مستعمرة لا ينطبق عليها التصنيف ضمن المجالس الإقليمية، ويقطن في تلك المستعمرات ما يقارب 251,029 مستوطناً. وهي المستعمرات التي تقع ضمن المستعمرات التي ضمتها إسرائيل، وضمن حدود القدس J1، وأغلبيتها تقع في القدس.

تنتشر المستعمرات الإسرائيلية في الضفة الغربية وفق النحو التالي: 28 مستعمرة في القطاع الشرقي. «إن التأثيرات الأساسية في السكان الفلسطينيين في هذا القطاع تتمثّل في الحد من فرص التطوير، اقتصادياً (زراعياً بصورة خاصة) وحَضَرياً. وبلغ عدد المستوطنين في هذا القطاع 8538 مستوطناً، يمثّلون 1,2 في المئة من مجموع المستوطنين في الضفة الغربية.» وتنتشر 33 مستعمرة في القطاع الجبلي. وتهدف المستعمرات في هذا القطاع إلى «السيطرة على شريان المواصلات الرئيسي الذي يربط أهم المدن الفلسطينية في الضفة الغربية، بعضها بالبعض الآخر (الطريق رقم 60)، من خلال إقامة تكتلات استيطانية تمنع البناء الفلسطيني بالقرب من هذا الطريق، وتمنع التواصل العمراني الفلسطيني إلى جانبيه، بالإضافة إلى تطويق المدن الفلسطينية ومنع توسعها العمراني. وبلغ عدد المستوطنين في هذا القطاع 61,171 مستوطناً، يمثّلون 8,9 في المئة من مجموع المستوطنين في الضفة الغربية.» وتنتشر 53 مستعمرة في قطاع التلال الغربية، بحيث «إن الأهداف الرئيسية من إقامة المستعمرات في هذا القطاع تتمثّل في محو الخط الأخضر الذي يُعتبر حداً سياسياً يفصل بين فلسطين وإسرائيل، وخلق تواصل عمراني بين المستعمرات والمدن الرئيسية في إسرائيل، ومنع التواصل العمراني بين التجمعات الفلسطينية.» وتنتشر 37 مستعمرة في القدس الكبرى. ومن أهم نتائج سياسة الاستيطان في هذا القطاع هي فقدان أجزاء واسعة من فلسطين عبر المصادرة والإغلاق ووضع اليد وتقييد البناء. إن نسبة الأراضي المتاح البناء فيها في منطقة J1، لا تزيد على 8 في المئة من أراضي هذه المنطقة. كما أن من نتائج سياسة الاستيطان هذه: الحد من التواصل العمراني الجنوبي لمحافظة رام الله والبيرة، ومن التواصل العمراني الشمالي لمحافظة بيت لحم؛ منع التواصل الجغرافي بين الأحياء العربية داخل منطقة J1، ومنع تطورها العمراني؛ فصل مراكز المدن الفلسطينية الواقعة شمالي المدينة عن تلك الواقعة جنوبيها، وفصل تلك المراكز عن المدينة نفسها. وبلغ عدد المستوطنين في هذا القطاع 403,556 مستوطناً، يمثّلون 58,7 في المئة من مجموع المستوطنين في الضفة الغربية.28

أمّا توزيع المستعمرات، وفق الأيديولوجيات، فهو على النحو التالي: 29 مستعمرة ذات أيديولوجيا دينية؛ 36 مستعمرة ذات أيديولوجيا علمانية؛ 4 مستعمرات ذات أيديولوجيات مختلطة؛ 21 مستعمرة غير مبيَّنة هويتها الأيديولوجية. وهذه المستعمرات هي من أصل 90 مستعمرة ريفية في الضفة الغربية؛29 أي أن المستعمرات الدينية لا تشكل إلاّ نسبة تقارب ثلث المستعمرات الريفية في الضفة الغربية. أمّا المستعمرات العلمانية فهي أكثر بنسبة قليلة من المستعمرات الدينية. وهذا أمر يشير إلى أن هناك أبعاداً سياسية واقتصادية وعسكرية تكمن في الاستيطان في الضفة الغربية، بعيداً عن الحجج الدينية التي يتذرّع بها.

ج – المستعمرات في القدس المحتلة منذ سنة 1967

ضمت إسرائيل القدس الشرقية إلى حدودها في خطوة مخالفة للقانون الدولي. وتتعامل مع السكان الفلسطينيين في القدس، منذ ضم شطرها الشرقي، كمقيمين غير مرغوب فيهم، وتطبّق سياسة منهجية غايتها ترحيلهم (عبر ما يمكن وصفه بالترانسفير البيروقراطي الهادئ) عن مدينتهم، من خلال سلب هوياتهم، والامتناع من منح حق لمّ شمل العائلات، وتطويق المدينة وفصلها عن سائر الضفة الغربية عبر طوق شبه مغلَق من المستعمرات أو الأحياء الاستيطانية الممتدة حول المدينة من الجنوب والشرق والشمال. وضمت إسرائيل نحو 70,000 دونم من الأراضي المحيطة إلى مسطح نفوذ بلدية القدس، في حزيران/يونيو 1967، مباشرة بعد احتلال الضفة الغربية. وتجاوزت الأراضي التي ضمتها كثيراً مساحة القدس الشرقية (التي امتدت على نحو 6000 دونم فقط)، إذ اشتملت على ما يقارب 64,000 دونم إضافية، معظمها أراضٍ تتبع 28 قرية فلسطينية تقع في الضفة الغربية، وبعضها يتبع مسطّح نفوذ بلديتي بيت لحم وبيت جالا. وعلى الرغم من سياسات الترانسفير والتطويق الاستيطاني، فإن 370,000 فلسطيني على الأقل، وقرابة 209,000 مستوطن يهودي، يعيشون اليوم في المناطق المضمومة. أمّا في المجمل، فهم يقعون تحت سيطرة بلدية القدس المؤيدة للاحتلال على طرفي حدود سنة 1967. وجرى ترسيم الحدود الجديدة للمدينة وفق اعتبارات ديموغرافية – سياسية لكسب أكبر مساحة ممكنة من الأرض آهلة بأقل عدد ممكن من السكان الفلسطينيين، من أجل ضمان وجود أغلبية يهودية حاسمة في المدينة. لذلك، ضمت إسرائيل بصورة انتقائية أجزاء من أراضي القرى المجاورة للقدس، مُبقية مُلاّكها في الجهة الأُخرى من الحدود. وفعلت هذا الأمر، على سبيل المثال، في بيت إكسا والبيرة الواقعتين شمالاً، وفي المناطق الآهلة بنسبة سكان قليلة، والواقعة ضمن مسطّح نفوذ بلديتي بيت لحم وبيت ساحور جنوباً.30 ويستوطن القدس، وخصوصاً منطقة J1، وفق آخر إحصاء فلسطيني، 232,093 مستوطناً إسرائيلياً. ويوجد فيها 16 مستعمرة.31

د – المستعمرات في قطاع غزة (1967 – 2005)

كان يعيش في غزة نحو 8000 مستوطن إسرائيلي بين 1,3 مليون فلسطيني، أغلبيتهم لاجئون من خارج القطاع، ووفدوا إليه في إثر نكبة سنة 1948. وكان المستوطنون يتحكمون في 20 في المئة من الأرض، وهي نسبة عالية جداً، نظراً إلى عددهم القليل جداً من ناحية، وكون قطاع غزة، من ناحية ثانية، يأتي في الترتيب السادس ضمن المناطق الأكثر كثافة سكانية في العالم. وكان الفرد الواحد من المستوطنين يستهلك 700 في المئة من كمية المياه المخصصة للفرد الفلسطيني. وكانت الحواجز العسكرية الإسرائيلية والمستعمرات تقسّم القطاع إلى ثلاثة أقسام، منفصل بعضها عن بعضها الآخر، الأمر الذي جعل التنقل داخل القطاع صعباً، وجعل الخروج منه إلى الضفة في حاجة إلى تصريح.32 وعلى الرغم من انسحاب إسرائيل من قطاع غزة وتفكيك المستعمرات فيه سنة 2005، فإنها ما زالت تتحكم في حركة الأشخاص، وفي الحدود، وتسيطر على المجالين الجوي والبحري، وتمنع الفلسطينيين من إنشاء ميناء ومطار.

هـ – المستعمرات في الجولان السوري المحتل منذ سنة 1967

شرعت سلطات الاحتلال، كما فعلت في الضفة الغربية وشبه جزيرة سيناء، في تنفيذ مشاريع الاستيطان في الجولان بعد عدة أسابيع من احتلاله سنة 1967. ووضعت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة عدة خطط ومشاريع للاستيطان، أبرزها مشروع التخطيط الزراعي للجولان، والذي يعتبر الزراعة قاعدة أساسية لمراحل الاستيطان الأولى، ووسيلة سهلة للسيطرة على الأرض وعلى مصادر المياه. وتشير المصادر الإسرائيلية إلى أن الجنرال دافيد بن – إليعيزر (قائد المنطقة الشمالية آنذاك)، أجاز، في 14 حزيران/يونيو 1967، لمجموعة من أعضاء الكيبوتسات المنتشرة في الجليل، الصعود إلى الجولان والاستقرار في معسكر العليقة الواقع في وسطه. وانتقل أفراد المجموعة، الذين بلغ عددهم نحو خمسين شخصاً، في 31/8/1967، إلى الإقامة بمدينة القنيطرة التي أُرغم سكانها على مغادرتها، بحيث افتتحوا مطعماً، ومركز استعلامات، وعيادة طبية، وبدأوا باستقبال الوافدين من داخل إسرائيل وتنظيم جولات سياحية لهم في سائر أرجاء المنطقة للتعرف إلى معالمها، وتحديد الأماكن التي سيتم استيطانها مستقبلاً. وشرعت سلطات الاحتلال مبكّراً في مصادرة المياه ووضعها تحت سيطرة شركة المياه الحكومية. ومن المعلوم أن معظم مصادر المياه يتركز شمالي الجولان، حيث تقع القرى السورية التي ظل سكانها فيها. لذا، فإن المصادرة كانت تعني منع مُلاّك المياه الشرعيين من الاستفادة منها، وذلك بتحويلها إلى جنوبي الجولان، حيث السهول الواسعة التي مُنحت للمستوطنين بعد أن طُرد سكانها الأصليون منها. وخير مثال لذلك بركة رام الطبيعية، الواقعة بين قريتي مجدل شمس ومسعدة، والتي تتسع لنحو 13 مليون متر مكعب من المياه، والتي تمت مصادرتها، ووُضعت في تصرف المستوطنين، ليُحرم سكان القرى العربية المجاورة لها والمحيطة بها الاستفادة منها.33

يوجد حالياً، كما ورد أعلاه، 33 مستعمرة، وما يقرب من 23,000 مستوطن يهودي في الجولان السوري المحتل. ووافق مجلس الوزراء الإسرائيلي، في كانون الثاني/يناير 2014، على خطة لتطوير 30,000 دونم (7400 فدان) من الأراضي في الجولان السوري المحتل للاستخدام الزراعي. وتتضمن تلك الخطة استصلاح 750 عقاراً زراعياً، تستثمر فيها الحكومة الإسرائيلية 108 ملايين دولار، من أجل توفير التدريب الزراعي، وتحديث أنظمة المياه، وإزالة الألغام الأرضية، خلال الفترة 2014 – 2018. ولن يفيد هذا التوسع الزراعي المقترح سوى المستوطنين اليهود في الجولان المحتل، نظراً إلى السياقين التاريخي والسياسي لهذه المنطقة، وسيعمل على زيادة تهميش السوريين وإضعافهم في المنطقة. ويجري التنقيب عن النفط، إلى جانب الاستغلال الزراعي، ويتم أيضاً تطوير آليات لاستثمار الموارد الطبيعية عبر السياحة، وتوليد الطاقة الكهربائية، لتحقيق مكاسب اقتصادية لإسرائيل.34

و – أثر اتفاقيتي أوسلو: الاستيطان في مناطق C وH1 وH2

كان في الضفة الغربية، باستثناء القدس، في أواخر سنة 1990، نحو 150 مستعمرة يقطن فيها 90,000 مستوطن يهودي تقريباً. وتبنّت الحكومة الإسرائيلية خطة استيطانية شاملة، قدّمها وزير البناء والإسكان أريئيل شارون، خلال تفرّد الليكود بالحكم في إسرائيل بالتزامن مع الهجرة من الاتحاد السوفياتي إليها. وأدت تلك الخطة إلى قفزة نوعية في الاستيطان. وعلى الرغم من عقد مؤتمر السلام في مدريد سنة 1991، والمفاوضات التي تلته، فإن ذلك لم يحُل دون استمرار النشاط الاستيطاني. وأدت المفاوضات الفلسطينية – الإسرائيلية إلى توقيع اتفاقية أوسلو 1 في أيلول/سبتمبر 1993، والتي نصت على مرحلة انتقالية لمدة خمسة أعوام، لكنها لم تعالج موضوع مستقبل المستعمرات. وصُنفت المستعمرات مسألة تناقَش في المرحلة النهائية من المفاوضات، إلى جانب موضوعات القدس واللاجئين والأمن والمياه والحدود، وبقيت ضمن الولاية الجغرافية الإسرائيلية. كما أن الاتفاقية لم تنص صراحة على وقف أعمال الاستيطان خلال المرحلة الانتقالية، وإنما اكتفت بالنص على التزام كل طرف الامتناع من القيام بأي خطوة من شأنها أن تُجحف بالحل النهائي. ولم تلتزم إسرائيل ذلك. ومهدت هذه الاتفاقية لقيام السلطة الفلسطينية التي تسلمت زمام الإدارة والأمن في مناطق ذات كثافة سكانية فلسطينية، صُنفت مناطق (أ)، ووصلت مساحتها سنة 2000 إلى 18 في المئة من الأراضي الفلسطينية المحتلة، إلى جانب مناطق (ب) التي تبلغ مساحتها نحو 22 في المئة من الأراضي الفلسطينية المحتلة، وتتمتع فيها السلطة الفلسطينية ببعض الصلاحيات الأمنية، ويستطيع الفلسطينيون، في الحالتين، أن يبنوا في المناطق (أ) و(ب) من دون الحصول على إذن من إسرائيل. أمّا المساحات المتبقية من الأراضي المحتلة، والتي تبلغ ما يقارب 60 في المئة من الأراضي الفلسطينية المحتلة، فصُنفت مناطق (ج)، واحتفظت إسرائيل بزمام الحكم فيها إدارياً وأمنياً، فلا يستطيع الفلسطينيون البناء فيها من دون إذن من السلطات العسكرية الإسرائيلية (لا يحصلون في أغلبية الأوقات على إذن البناء).35

في المحصلة، وعلى أرض الواقع، تحولت اتفاقيتا أوسلو، وتقسيم الأرض المحتلة إلى مناطق (أ) و(ب) و(ج)، وتقسيم منطقة الخليل إلى H1 وH2، إلى مصفوفة (matrix) جديدة للتحكم عبر التفتيت أو الشرذمة، وعملت فعلاً على تقطيع أوصال الأراضي الفلسطينية، وأنجزت تفتيت الحيز المكاني، والحد من حرية التنقل داخل ذلك الحيز، من أجل السيطرة والهيمنة على الحياة داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة؛ أي أن اتفاقيتي أوسلو جلبتا نظام عنف جديداً، يقوم على إعادة تنظيم الحيز المكاني، وفرض القيود على ساكنيه وحرية تنقلهم.36

يتمظهر أحد أشد جوانب تلك السيطرة وطأة في منع البناء في المناطق الموسومة بـ (ج). وتشكل تلك المناطق ما يزيد على 60 في المئة من مساحة الضفة الغربية، وتمتد في غور الأردن، وتشمل كل المستعمرات والمناطق العسكرية والمحميات والطرق الالتفافية. وتفصل، نتيجة ذلك، بين المدن والقرى المصنفة في المناطق (أ) و(ب)؛ أي أنها تشكل عملياً المحيط الذي تعوم فيه المناطق الفلسطينية على شكل جزر مفرقة، ويتصل هذا المحيط بالمناطق الإسرائيلية داخل الخط الأخضر، على نحو سلس وميسر للإسرائيليين، عبر شبكة طرق حديثة.

تحتفظ إسرائيل بالسيطرة الحصرية على مناطق (ج)، بما في ذلك الحركة والوصول والتخطيط والبناء وإنفاذ القانون. ويقطن ما يقارب 300,000 فلسطيني في 532 منطقة سكنية تقع كلها، أو جزء منها، في مناطق (ج)، في مقابل ما يقارب 400,000 مستوطن. وسجلت نسبة الموافقة على طلبات البناء أقل من 3 في المئة في الفترة 2009 – 2016، وهدمت إسرائيل في الفترة نفسها ما يقارب 4000 منزل فلسطيني هناك، بحجة عدم البناء. وثمة ما يقارب 12,500 أمر هدم معلَّقة في تلك المناطق. فنظام التخطيط التقييدي الذي تطبقه إسرائيل في مناطق (ج) يجعل من المستحيل عملياً حصول الفلسطينيين على رخص للبناء، الأمر الذي يعوّق تطور السكان وشبكات البنية التحتية وسبل العيش، على نحو لائق. ويتم، في المقابل، التدمير، أو المصادرة، للمنازل الفلسطينية وحظائر المواشي وأحواض المياه وشبكات البنية التحتية اللازمة لتقديم الخدمات، والتي جرى بناؤها من دون الحصول على ترخيص، الأمر الذي يسبب تهجير الأُسر الضعيفة وتعطيل سبل عيشها. إن المجتمعات الفلسطينية في مناطق (ج) غير موصولة، في معظمها، بشبكة مياه، وتواجه عراقيل تمنع إعادة تأهيل شبكة المياه القائمة، أو بناء آبار مياه وإصلاحها. كذلك يفتقر أكثر من ثلث التجمعات الفلسطينية في مناطق (ج) إلى مدارس ابتدائية، الأمر الذي يجبر الطلاب على السفر مسافات طويلة للوصول إلى أقرب مدرسة؛37 أي أن إسرائيل تعطّل الحياة في 60 في المئة من مساحة الضفة الغربية، وهي المناطق المعروفة، وفق تقسيم اتفاقيتي أوسلو، بمناطق (ج). وتعتمد عملية تعطيل الحياة في المنطقتين الأُخريين (أ) و(ب) بوسائل استعمارية متعددة.38

أمّا مدينة الخليل (انظر: الملحق، الخريطة رقم 2: المنطقة المتضررة من الاستيطان في الخليل)، فتم تقسيمها إلى منطقتين، في أعقاب اتفاق الخليل بتاريخ كانون الثاني/يناير 1997، هما: منطقة H1، التي تشكل 80 في المئة من المساحة الكلية لمدينة الخليل، ويسكن فيها نحو 115,000 فلسطيني، ووُضع هذا القسم تحت السيطرة الفلسطينية الكاملة؛ منطقة H2، ويسكن فيها نحو 35,000 فلسطيني ونحو 500 مستوطن إسرائيلي. وبقيت هذه المنطقة تحت السيطرة الأمنية الإسرائيلية، بينما نُقلت الصلاحيات المدنية فيها إلى السلطة الفلسطينية. وعاد الجيش الإسرائيلي، وسيطر مجدداً على منطقة H1، خلال انتفاضة الأقصى، في الفترة 2000 – 2005. وأخذت الأوضاع الحياتية للمواطنين الفلسطينيين في منطقة H2 بالتدهور بصورة واضحة، منذ بداية الانتفاضة، وخصوصاً في منطقة القصبة، بسبب المستعمرات التي أقيمت في جوارها. وتركت العائلات المقتدرة اقتصادياً بيوتها، نتيجة ذلك، وانتقلت إلى العيش في أماكن أُخرى. ويتعرض أهالي الخليل في منطقة H2 لاعتداءات متكررة من جانب المستوطنين وحرس الحدود والجيش الإسرائيلي.39

ز – الشوارع الالتفافية، الحواجز الأمنية على أنواعها، ونظام المعابر

يشير المراقبون إلى أن الطرق الالتفافية أدت دوراً مهماً في تثبيت الاستيطان في الضفة الغربية. وكان وُضع أول مخطط هيكلي شامل للشوارع الالتفافية في الضفة الغربية سنة 1970. ولم تكتفِ إسرائيل بشق الشوارع، وإنما منحتها حرماً يبلغ متوسط عرضه 150 متراً، إلى جانبي الطريق، ويُمنع على الفلسطينيين في حرم الشارع إقامة بناء، أو تمديد شبكات مياه أو كهرباء أو غيرها، إلاّ بموافقة لجنة التنظيم الهيكلي الأعلى. وبحسب بعض المعطيات، وُضع لخدمة كل مئة كيلومتر من الشارع، حرم شارع يبلغ عشرة آلاف دونم؛ أي أن إسرائيل صادرت 140,000 دونم إضافية من الأملاك الخاصة وغيرها من أراضي الفلسطينيين. وتشير خريطة الطرق الالتفافية والطرق العرضية (شرق – غرب) في الضفة الغربية إلى تقسيمها إلى أربعة أقسام؛ اثنين في الوسط، واثنين في الشمال والجنوب، إضافة إلى ربط المستعمرات الإسرائيلية بـ «إسرائيل»، على نحو يمزّق كل المدن والتجمعات العربية في الوقت نفسه، ويفصلها بعضها عن بعض.40

بيّن تقرير سنوي، صدر سنة 2014 عن مركز أبحاث الأراضي – القدس، أن الاحتلال أنشأ طرقاً التفافية استيطانية، نهبت أكثر من 196,000 دونم. وحرم الفلسطينيين استخدام أراضيهم القريبة من تلك الطرق، والتي تزيد على 98,000 دونم، ناهيك بالاستيلاء على كل الموارد الطبيعية القريبة من الطرق الالتفافية، مثل آبار المياه والينابيع،41 والتي تبلغ مساحتها الإجمالية نحو 100,000 دونم (حرم الشارع).42 كما أشار التقرير إلى التالي: «يبلغ مجموع مساحة الأراضي الضائعة من الفلسطينيين بسبب الاستيطان وحماية المستعمرات وطرقها والجدار العازل نحو 1864 كلم2، وهذه تشمل ما مساحته 33 في المئة من مجموع مساحة الضفة الغربية، بما فيها القدس الشرقية.»43

وبالإضافة إلى أن الطرق الالتفافية تربط المستعمرات وتسرق الأرض الفلسطينية، فهي أيضاً تسلب الوقت الفلسطيني، إذ تزيد في التباعد، وتصعّب التواصل بين الفلسطينيين في مختلف المناطق التي يسكنون فيها. يضاف إلى ذلك كمّ كبير من الحواجز العسكرية الدائمة والطارئة، والتي تقيّد حركة الفلسطينيين وتعرقلها، إذ يقسّم الاحتلال الضفة الغربية، من خلال الحواجز، إلى أربعة معازل رئيسية، عبر أربعة حواجز مركزية، هي: حاجز الكونتينر (يقع بين محافظتي بيت لحم والقدس، ويفصل جنوب الضفة الغربية عن وسطها وشمالها)؛ حاجزا زعترة وحوارة (يقعان في محافظة نابلس، ويفصلان وسط الضفة عن شمالها)؛ حاجز القدس، حيث يعمل جدار الفصل والعزل العنصريين على إحكام الإغلاق على شرقي القدس، ويمنع أهالي الضفة الغربية وغزة من الوصول إليها إلاّ من خلال نظام تصاريح خاص. وعزل الاحتلال أيضاً قرى شمالي غربي القدس (بيت إكسا، بدو، قطنة، خراب اللحم، بيت إجزا، بيت سوريك) عن القدس. أمّا قرى شرقي القدس وبلداتها والتجمعات البدوية الموجودة خارج الجدار، فإن الاحتلال يسعى لمصادرة مساحات واسعة منها لمصلحة المخطط الاستعماري E1. وهناك حواجز الأغوار الفلسطينية، كون الاحتلال صنّف الأغوار مناطق تدريبات عسكرية، الأمر الذي يعرقل حركة المواطنين وتنقّلهم في المنطقة.44 كما قسّم الاحتلال المعازل (المناطق المغلقة) الأربعة الرئيسية إلى معازل أُخرى أصغر، بحيث أصبح داخل كل معزل/منطقة جزيرة أو معزلاً أصغر، نتيجة الحواجز المتنوعة والطرق الالتفافية وغيرها من أدوات العزل والفصل. ويتفق هذا التحليل مع مقال نُشر مؤخراً في صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية، وبيّن كيفية عمل الطرق الالتفافية كمحرك لعملية الاستيطان وبناء الشقق الاستيطانية الجديدة وتوسيع المستعمرات، والعمل على تطويق الضفة الغربية من خلال الطرق الالتفافية، وتحقيق الضم الزاحف عبر الشوارع الالتفافية التي ستحول الضفة الغربية إلى جزء من إسرائيل من خلال مضاعفة عدد المستوطنين في الضفة الغربية، والسيطرة على سكانها، ووصول المستوطنين إلى مليون مستوطن خلال السنوات المقبلة، الأمر الذي يعزز التنمية الإسرائيلية والاستيطان، ويحد من تنمية المجتمع الفلسطيني.45

رصد مركز أبحاث الأراضي، مع نهاية سنة 2019، أن عدد الحواجز المقامة في أراضي الضفة الغربية والقدس المحتلتين أصبح يزيد على 890 حاجزاً وبرجاً عسكرياً وبوابة ومعبراً (انظر: الملحق، الخريطة رقم 3: قيود الوصول إلى الضفة الغربية). وأغلق الاحتلال 36 طريقاً رئيسية وزراعية وبوابة، وأقام، في مقابل ذلك، عدداً من الطرق الاستيطانية، تربط بؤرة استيطانية بالمستعمرات الإسرائيلية المنتشرة في أراضٍ فلسطينية مغتصبة. وتتنوع أشكال الحواجز، ومنها: مكعبات أسمنتية، حاجز دائم، حواجز موقتة، سواتر ترابية وصخور، بوابات حديدية، أبراج مراقبة، بوابات الجدار، معابر الجدار. وتتوزع تلك الحواجز في المحافظات الفلسطينية، على النحو التالي: القدس (97 حاجزاً)؛ الخليل (324 حاجزاً)؛ بيت لحم (60 حاجزاً)؛ رام الله (116 حاجزاً)؛ أريحا (26 حاجزاً)؛ نابلس (78 حاجزاً)؛ سلفيت (64 حاجزاً)؛ قلقيلية (40 حاجزاً)؛ طوباس (14 حاجزاً)؛ طول كرم (28 حاجزاً)؛ جنين (43 حاجزاً).46

يُضاف إلى ذلك ما يُعرف فلسطينياً بجدار الفصل العنصري، وهو الجدار الأسمنتي الممتد، والذي بنته إسرائيل كحاجز فيزيائي لمنع دخول الفلسطينيين إلى الداخل الفلسطيني، والذي أقيمت أغلبيته في الأراضي المحتلة سنة 1967، وشكل أداة لسلب مزيد من الأراضي. ويعوّق الجدار حركة الفلسطينيين وسكنهم، إذ تصبح المناطق الواقعة بينه وبين خط الرابع من حزيران/يونيو 1967، والذي كان يفصل إسرائيل عن الضفة الغربية، مناطق عسكرية مغلقة، وتبلغ 10 في المئة من مساحة الضفة الغربية. إن نسبة 20 في المئة فقط من الجدار تسير على الخط الأخضر، ويمر ما تبقى داخل أراضي الضفة الغربية.47

كانت السلطات العسكرية الإسرائيلية، منذ سنة 1967، قد حددت نوعين من المناطق المغلقة داخل الضفة الغربية، تُحظَر الزراعة فيهما، هما: المحميات الطبيعية، ومناطق إطلاق النار، أو «مناطق عسكرية يُحظر دخولها.» وتبلغ مساحة تلك المناطق 28 في المئة من مساحة الضفة الغربية.48

تتنوع أشكال المعابر التي أقامها الاحتلال للسيطرة على حركة الفلسطينيين في الضفة الغربية والقدس. فجدار الفصل العنصري يحوي 119 بوابة. وبلغ عدد معابر الجدار بين الضفة الغربية والقدس وداخل الخط الأخضر، 32 معبراً.49 وهناك ست مجموعات من المعابر التي تربط قطاع غزة بإسرائيل، وهي: معبر المنطار/كارني؛ معبر بيت حانون/إيرز؛ معبر العودة/صوفا؛ معبر الشجاعية/ناحل عوز؛ معبر كرم أبو سالم/كيرم شالوم؛ معبر القرارة/كيسوفيم. أمّا معبر رفح فيقع جنوب قطاع غزة، عند الحدود الفلسطينية – الإسرائيلية، وهو تحت إشراف السلطة الفلسطينية والسلطات المصرية، وبمراقبة الاتحاد الأوروبي (انظر: الملحق، الخريطة رقم 4: الدخول إلى قطاع غزة).

يتم التحكم، في الضفة الغربية، في حركة الفلسطينيين، عبر جسر الملك حسين/معبر أللنبي، المخصّص لعبور السكان الفلسطينيين، وسكان شرقي القدس والأجانب. أمّا المعبران الآخران بين الأردن وإسرائيل فيُمنع الفلسطينيون من استخدامهما، ومخصّصان للمواطنين الإسرائيليين والأجانب، وهما: معبر نهر الأردن (الشيخ حسين) ومعبر العربة/رابين. وهناك معبران مشابهان مع مصر، أحدهما معبر نيتسانا، المخصّص أساساً لعبور البضائع، ويُستخدم أيضاً معبراً للدبلوماسيين وأصحاب التصريحات الخاصة. والآخر هو معبر طابا، وهو مخصّص لعبور المواطنين الإسرائيليين والمواطنين الأجانب. ولا يستطيع الفلسطينيون الرازحون تحت الاحتلال استخدام هذين المعبرين. ويوجد في الجولان المحتل معبر القنيطرة، وهو قائم بين إسرائيل وسورية، ومخصّص لعبور عناصر الأمم المتحدة، والطلبة، ورجال الدين، ومجموعات سكانية أُخرى من أبناء الجولان المحتل (بشأن المعابر الدولية، انظر: الملحق، الخريطة رقم 1).50

ثالثاً: الاحتلال قانونياً: القانون الدولي وقانون الاحتلال

أ – القانون الدولي: ولايته وحدوده، ومثال محكمة الجدار

يوجد إجماع في الفقه القانوني الدولي على أن الأراضي التي احتلتها إسرائيل سنة 1967 هي أراضٍ محتلة، وأن الاستيطان فيها غير شرعي بموجب الأعراف والمواثيق الدولية المعنية بحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني. ويرجع الخبراء، بصورة خاصة، إلى اتفاقية لاهاي واتفاقية جنيف الرابعة، اللتين نصتا على عدم قانونية الاستيطان، أي نزعتا الشرعية عن نقل السكان إلى الإقليم المحتل والاستيلاء بالقوة على الأملاك الخاصة فيه، إلاّ فيما يتعلق بتبريرات أمنية بموجب القانون الدولي.51 وكما ظهر في قضية محكمة الجدار (إذ طلبت الجمعية العامة للأمم المتحدة بتاريخ 3 كانون الأول/ديسمبر 2003 من محكمة العدل الدولية إعطاء رأي استشاري بشأن قانونية الجدار الأمني الفاصل، والذي شرعت في بنائه دولة الاحتلال)، تحاول إسرائيل التملص من مطالب القانون الدولي العرفي بشأن عدم قانونية الاستيطان، عبر ادعائها أن الأردن لم يكن ذا سيادة على هذه المناطق قبل توقيعه اتفاقية جنيف الرابعة سنة 1951. إلاّ إن قرار المحكمة الاستشاري، والصادر بتاريخ 9 تموز/يوليو 2004، رفض، على نحو قاطع، هذا الادعاء.52

لا تكتفي إسرائيل، في الحقيقة، بمجرد محاولة التملص بلاغياً من القانون الدولي، وإنما شكلت، مع مرور الوقت، ما أطلق عليه رجا شحادة قانون المحتل (انظر أدناه). ويقول درور إتكس (خبير بشؤون الاستيطان)، في هذا الصدد، إن «إحدى مميزات الاحتلال الإسرائيلي في الضفة هي أنه بصورة رسمية يدور الحديث عن جهاز ديمقراطي لديه قوانين ومحاكم، وأنه توجد بيروقراطية متشعبة ومتطورة جداً، وتطورت على مدى عشرات السنين. ويبدو أن كل هذه الأمور من شأنها أن تقيّد نشاطات الدولة وتراقبها وتحدد مسارها. لكن إذا كانت المصلحة العليا، القيمة العليا، هي تهويد الأرض، كما يحدث فعلاً، فإن حكم القانون يتبخر، لأنه يوجد منطق يحرك كل هذه القصة. والحديث هنا لا يدور عن حادث. لا شيء عفوياً. والبؤر الاستيطانية العشوائية لا تقام بشكل عفوي. ويدور الحديث هنا عن جهاز يعمل بصورة منهجية ومنطقية، بالنسبة إلى إسرائيل.»53

ب – قانون المحتل: الأوامر العسكرية والقضاء

يقوم المبنى القانوني الإسرائيلي تجاه الأرض والسكان على منظومة الأوامر العسكرية. وأُسست صلاحيات الحكم العسكري الإسرائيلي على إعلان المنشور رقم 1 في حزيران/يونيو 1967 (بشأن تقلّد السلطة من جانب الجيش الإسرائيلي)، وهذا الأمر العسكري هو الذي أسس صلاحيات الحكم العسكري الإسرائيلي. وتبعه المنشور رقم 2 (بشأن أنظمة السلطة والقضاء)، والذي نص على أن القوانين التي كانت قائمة في الضفة الغربية تظل نافذة المفعول «بالقدر الذي لا تتعارض فيه مع هذا المنشور أو أي منشور أو أمر» يصدر عن قائد القوات الإسرائيلية في الضفة الغربية. كما نص المنشور على أن كل صلاحيات الحكم، والتشريع، والتعيين والإدارة، والتي تتعلق بالضفة الغربية أو بسكانها، تخوَّل لقائد القوات الإسرائيلية فقط. وأصدرت السلطات العسكرية الإسرائيلية، في غضون أشهر قليلة غداة الاحتلال، سلسلة من الأوامر غطت مختلف نواحي الحياة في الضفة الغربية وغيرها من المناطق المحتلة. وأضفى بعض الأوامر العسكرية الطابع القانوني على عمليات الاستيلاء على مساحات كبيرة جداً من الأراضي، بينها على سبيل المثال: الأمر (بشأن تعليمات الأمن) الصادر بموجب المنشور رقم 3 لسنة 1967، والذي يمنح القائد العسكري عدداً من الأمور والصلاحيات، مثل: منحه سلطة مصادرة أراضٍ لأغراض عسكرية، وإعلان مساحات معينة مساحات مغلقة؛ الأمر رقم 58 لسنة 1967 (بشأن الأموال المتروكة – الممتلكات الخاصة)، والذي يضع أملاك من غادروا المنطقة قبل حزيران/يونيو 1967، أو خلاله، تحت إشراف مسؤول يعيّنه الحاكم العسكري لإدارتها.54

ساهمت الأوامر العسكرية، والتفسيرات الأحادية الجانب للقانون الدولي، والتشريعات السارية في الضفة الغربية وقطاع غزة قبل احتلالهما، في توفير الآليات «القانونية» لاستيلاء الاحتلال على مساحات كبيرة من الضفة الغربية وإقامة المستعمرات فيها. وأدت تلك الأوامر والتشريعات والإجراءات الإسرائيلية إلى أوضاع معقدة على مستوى التطبيق. وعلى الرغم من عدم تطبيق إسرائيل القانون الإسرائيلي رسمياً في الضفة الغربية وقطاع غزة وخارج مناطق القدس الشرقية، فإنها تطبّق ضمناً ما تراه ملائماً من القوانين والممارسات الإدارية الإسرائيلية، عن طريق الإدارة المدنية والأوامر العسكرية والإجراءات الإدارية غير المعلنة. وتتبع المستعمرات إدارة مدنية خاصة بشؤون المجالس الإقليمية والمحلية للمستوطنين، منفصلة عن الإدارة المدنية المختصة بشؤون الفلسطينيين. وتمرر هذه الإدارة الخاصة أحكام القانون الإسرائيلي على المستوطنين بطريقة غير مباشرة.55 وأنكرت إسرائيل انتقاد المجتمع الدولي توسعها الاستيطاني من خلال ادعائها أنها لا تقوم ببناء مستعمرات جديدة، وإنما تعمل على إضافة أحياء جديدة إلى المستعمرات القائمة، لمراعاة ما تسميه «النمو الطبيعي» للسكان.56 كما أن هناك دائرتين منفصلتين لتنظيم الأراضي، إحداهما للقطاع الفلسطيني، والأُخرى للقطاع الإسرائيلي. لكن هاتين الدائرتين ترأسهما شخصيتان إسرائيليتان. وما زال التحكم في شؤون الأراضي في مناطق (ج) يتبع دائرة الأراضي في الإدارة المدنية. وما يحتاج إليه المواطن، من معاملات وأوراق تخصّ أرضه، يحتم عليه مراجعة دائرة الأراضي في الإدارة المدنية الإسرائيلية.

بلغ عدد الأوامر العسكرية، التي أصدرها الجيش الإسرائيلي منذ الاحتلال سنة 1967 حتى أيلول/سبتمبر 2019، ما مجموعه 1820 أمراً عسكرياً. لكن هذا الرقم خادع، فثمة أوامر لم تأخذ أرقاماً. ويقول، في هذا الشأن، رجا شحادة «إن كثرة التشريعات في الضفة الغربية – وتضم الأوامر العسكرية غير المرقَمة التي تُعتبر تشريعات مساعدة متفرعة من الأوامر المرقّمة – لا تُنشر أبداً، أو لا تُنشر إلاّ بعد وقت طويل. وهناك، أيضاً، أوامر وتوجيهات شفوية لا يعرف المرء شيئاً عنها إلاّ عند مواجهته للموظفين أو السلطات»؛57 أي أن الأوامر العسكرية لا يمكن حصر عددها، ويمكن تطويرها وتعديلها باستمرار على نحو يخدم منظومة الاحتلال والاستعمار.

تمارس إسرائيل، في المحصلة، نظاماً قانونياً معقّداً، يمزج كلاً من القوانين والأوامر العسكرية، بالقوانين المتوارثة من القانون العثماني والقانون الانتدابي البريطاني والقانون الأردني، والتي تفسَّر وفق ما يتماشى مع المصلحة الاستعمارية. وإذا لم تجد منظومة الاحتلال إطاراً قانونياً لممارسة أعمالها الاستعمارية، فإن منظومة الاحتلال تُصدر أمراً عسكرياً كناظم قانوني لتبرير الأعمال الاستعمارية وشرعنتها؛ أي أن النظام القانوني الفعلي، الذي تمارسه منظومة الاستعمار، هو شرعنة الأعمال الاستعمارية وقوننتها، الأمر الذي يُعتبر تجاوزاً لكل القوانين المحلية السارية على الأراضي المحتلة وللقوانين والأعراف الدولية.

وبيّن شحادة أنه يوجد في الضفة الغربية ثلاثة أنواع من المحاكم أدارها الاحتلال: المحاكم المدنية والدينية والعسكرية، وبقيت الأخيرة فعالة حتى بعد نشوء السلطة الفلسطينية. الأول هو جهاز المحاكم الفلسطينية. ولهذه المحاكم صلاحيات القضاء في بعض الأمور التي تهم الفلسطينيين، وصلاحيات محدودة جداً بالنسبة إلى الإسرائيليين المستوطنين في الضفة الغربية. الثاني هو جهاز المحاكم اليهودية المحلية، والذي ينظر في قضايا المستوطنين اليهود، ويتولى الشؤون الحاخامية والبلدية. أمّا الجهاز الثالث فهو المحاكم العسكرية التي تضم أيضاً لجان الاعتراضات. كما تنشغل المحاكم العسكرية وتنظر في طيف واسع من الشؤون التي تُعتبر «ذات علاقة بالأمن»، بينما تنظر لجان الاعتراضات العسكرية في شؤون الأراضي واستخدام المياه، وموظفي السلك المدني، والضرائب، وغيرها من الشؤون. وإن استثنينا المخالفات المدنية، فإن المستوطنين اليهود يخضعون لقضاء المحاكم الإسرائيلية، ويتمتعون بالحقوق المدنية الكاملة التي يتمتع بها المواطن في إسرائيل.58

يخول القانون الدولي السلطة المحتلة إنشاء محاكم عسكرية، للنظر في قضايا الأشخاص المتهَمين بالقيام بأعمال تمرد تهدد أمن سلطات الاحتلال. وتستغل إسرائيل هذا الأمر لتحارب حرية التعبير السياسية وإرادة الشعب الفلسطيني في التحرر وتقرير المصير. وهكذا، أنشأت إسرائيل، في 8 حزيران/يونيو 1967، محاكم عسكرية للنظر في المخالفات الأمنية في الضفة الغربية، بموجب الأمر العسكري رقم 3، واستُبدل به لاحقاً الأمر رقم 378. وأُنشئت، بمرور الأيام، هيئات قضائية أُخرى خاضعة للسلطة العسكرية. أُنشئت المحاكم العسكرية في خمس مدن في الضفة الغربية، وكانت تُعقد في مقر الحاكم العسكري في كل مدينة. وتولت المحاكم العسكرية النظر في سائر القضايا الجزائية، بموجب قانون العقوبات الأردني.59 وتبيّن أن هذه المحاكم، وفق تقرير لمنظمة بتسيلم، ما زالت تمارس صلاحياتها حتى اليوم في الضفة الغربية، باستثناء القدس الشرقية التي ضمتها إسرائيل، وباستثناء غزة التي توقفت المحاكم العسكرية عن العمل فيها بعد انسحاب إسرائيل منها سنة 2005.60

وفي خطوة قانونية باتت مَعلماً ونموذجاً لقضاء الاحتلال، أتاحت محكمة العدل العليا للفلسطينيين تقديم دعاوى مدنية خارج نظام القضاء العسكري، وخصوصاً في قضايا النزاع على الأراضي مع المستوطنين. وبغض النظر عن مدى جدوى توجه هذا المسار القضائي بالنسبة إلى الفلسطينيين عبر العقود الماضية، إلاّ إن هناك مساعي ملحة مؤخراً من سياسيي اليمين الإسرائيلي، وخصوصاً وزيرة العدل من حزب البيت اليهودي، في الحكومة الإسرائيلية، أييلت شاكيد، للحد من هذه القدرة، من خلال توزيع الصلاحيات الحصرية للمحكمة العليا، وتحويل أغلبية قضايا الأرض إلى المحكمة المركزية في القدس. ويهدف هذا التغيير إلى تحويل قضايا الأرض والسكان في الضفة الغربية، ضمن اختصاصات المحكمة المركزية التي تبتّ القضايا وفق الأدلة والشهود، من دون الحساسيات المفترض أن تمثّلها محكمة العدل العليا إزاء القانون الدولي والبعد السياسي للصراع. ويجب التأكيد، مرة أُخرى، أن دور محكمة العدل العليا، من وجهة نظر كثيرين من الفلسطينيين، لا يعدو كونه دور المشرعن والمقونن لممارسات الاحتلال والاستيطان، ولا يحتكم إلى الأعراف القانونية الدولية.

رابعاً: الاحتلال الاقتصادي

ثمة أوجه متعددة للربح الاقتصادي من الاحتلال، نعالجها عبر المداخل التالية، والتي تشمل: استغلال المستعمرات للموارد الطبيعية؛ قوة العمل الفلسطينية؛ السيطرة على السوق؛ التجارة والاستيراد الفلسطينيين. وسنشير أيضاً إلى ربح الشركات التكنولوجية الخاصة من الاستيطان وصناعة الأمن، واستفادة الطبقات الضعيفة في السلَم الاقتصادي – الاجتماعي الإسرائيلي من الانتقال إلى المستعمرات.

أ – استغلال الموارد الطبيعية

تعرضت فلسطين لاستغلال استعماري صهيوني قبل النكبة وإعلان دولة إسرائيل سنة 1948، فلقد منح الاستعمار البريطاني في فلسطين، في الفترة 1920 – 1948، حقوقاً وامتيازات لشركات يهودية صهيونية من أجل استغلال فلسطين ومواردها وعمالها. ومُنحت شركة اليهودي الروسي بنحاس روتنبرغ امتياز توليد الكهرباء من نهري اليرموك والأردن سنة 1921. ومُنحت شركة فلسطين للبوتاس (وهي شركة بريطانية – صهيونية) امتياز استثمار أملاح من البحر الميت سنة 1929. وساهمت تلك المشاريع في الاستغلال الاقتصادي الاستعماري، والتمهيد لعملية الاستيطان الاستعماري لفلسطين، وفي تصليب البنى الاستعمارية الاستيطانية الاقتصادية والعسكرية والبنى التحتية وغيرها، والتي ساهمت لاحقاً في التأسيس لبنى استعمار استيطاني، تمثّلت في دولة الاستعمار الاستيطاني إسرائيل. وعملت المنظمات الصهيونية على استغلال موارد فلسطين، وحاربت العمالة الفلسطينية ضمن الرؤية الصهيونية القائمة على «العمل العبري» و«احتلال العمل»،61 وانطلاقاً من رؤية أيديولوجية صهيونية ترى في العمل الصهيوني عملية إحياء لـ «أرض إسرائيل».

لا تعمل إسرائيل على استغلال الموارد الطبيعية الفلسطينية فحسب، بل أيضاً تسلب الفلسطينيين إمكان الوصول إلى الموارد، حتى تلك الواقعة في المناطق المحتلة سنة 1967، والتي من شأنها أن تشكل بنية الدولة الفلسطينية ومصادرها، كمعادن البحر الميت والمياه الجوفية الضخمة الموجودة في الضفة الغربية. وينطبق استغلال الموارد الطبيعية المكثف والاستعماري على مرتفعات الجولان السورية أيضاً.

ب – الزراعة والصناعة والسياحة

عملت المنظمات الصهيونية، خلال حقبة الانتداب البريطاني، على بناء اقتصاد استيطاني يهودي، في ظل دعم الانتداب البريطاني وحمايته وتشجيعه. فسعت، في مرحلة ما قبل الدولة، لبناء أسس الاقتصاد الإسرائيلي، من صناعة وزراعة وبنية تحتية اقتصادية. وكانت هذه النهضة الصناعية والزراعية على حساب تعويق الاقتصاد الفلسطيني وإضعافه وتشويه بناه.62

سيطرت المنظمات الصهيونية والمؤسسات الإسرائيلية بعد النكبة أيضاً على ملايين الدونمات من الأراضي والبيارات والمزارع الفلسطينية، التي هُجّر مُلاكها والمستفيدون منها خلال النكبة. واستولت إسرائيل، بعد احتلال سنة 1967، على أراضٍ واسعة في الضفة الغربية، وخصوصاً مصادر المياه فيها.

أحدث احتلال سنة 1967 تحولاً كبيراً في هيكلية الاقتصاد الفلسطيني، فجزء كبير من اقتصاد الأراضي المحتلة كان قائماً على الحوالات الخارجية من دول الخليج العربي والمهجر العالمي، والجزء الأهم من الدخل تمثَّل في تحول أجزاء كبيرة من شرائح المزارعين وصغار التجار والحِرَفيين إلى العمل كأيدٍ عاملة في السوق الإسرائيلية، لأن الأجرة التي كان يتلقاها العامل الفلسطيني أعلى من أجرة العامل والمُزارع في الأراضي الفلسطينية. وأدى هذا التحول إلى تشوه في هيكلية الاقتصاد الفلسطيني وزيادة الاعتماد على العمالة الفلسطينية في إسرائيل.

عملت إسرائيل على تهميش قطاع الصناعة الفلسطينية بعد النكبة في الأراضي الفلسطينية المحتلة سنة 1948. ولم يكن هناك صناعات قوية في الضفة الغربية، وكان الاقتصاد ذا طابع زراعي. وتركزت الصناعات، في الفترة 1948 – 1967، في مدينة عمّان ومحيطها، كجزء من السياسة الأردنية القائمة على تشجيع الاستثمار في الضفة الشرقية. ولم تنهض الصناعة الفلسطينية، بعد الاحتلال سنة 1967، نظراً إلى تحكم إسرائيل في الاقتصاد والمواد الأولية والاستيراد والتصدير. ونما بعض الصناعات الصغيرة، المتمثلة في المشاغل، مثل مشاغل خشب الزيتون والصَّدف والإسفنج والباطون والبلوك والألبان، وغيرها من الصناعات الصغيرة، لكنها ظلت تحت قيود إسرائيلية وسيطرتها. وكانت الصناعة الفلسطينية مستهدَفة من دوائر الضرائب الإسرائيلية والترخيص وغيرها.

يعتمد قطاع السياحة الفلسطينية على سياحة ذات طابع ديني، على نحو كبير، بسبب ارتباطه بالأماكن الدينية في القدس وبيت لحم. وتحكمت إسرائيل فيه، من حيث تراخيص المكاتب السياحية والتأشيرات السياحية، ومن خلال التحكم في الصناعات السياحية وتصديرها. ويشكل البحر الميت أحد أهم الموارد السياحية التي تحتكرها إسرائيل وتمنع الفلسطينيين من استغلالها.63

ج – قوة العمل الفلسطينية: الاستغلال والهيمنة

استغلت إسرائيل العمالة العربية، في الأراضي المحتلة سنة 1967، في العمل في القطاعات الاقتصادية الإسرائيلية، وخصوصاً قطاعات الإنشاءات والزراعة والصناعة. ويشمل ذلك داخل إسرائيل والمستعمرات في الأرض المحتلة سنة 1967، على حد سواء. ويقوم هذا الاستغلال على إهمال السكان، أو التعامل معهم بمنطق استشراقي استعماري – استغلالي، كأيدٍ عاملة قليلة التكلفة مقارنة بالعمالة الأجنبية الوافدة من أوروبا الشرقية والصين ودول أُخرى، إذ تساهم العمالة الفلسطينية في بناء المجتمع الاستعماري الإسرائيلي على الأرض الفلسطينية التي استُعمرت. ويؤدي هذا الاستغلال الاستعماري إلى استغلال الاقتصاد الفلسطيني، وإلحاقه بنيوياً بالاقتصاد الإسرائيلي المهيمن. وتؤدي تلك العملية الاستعمارية – الاستغلالية إلى ربط الأرض المستعمَرة بالمركز الاستعماري، إسرائيل، من خلال الأوامر العسكرية وجهاز الإدارة المدنية والعملة المتداولة ومنظومة التصاريح والعطل والأعياد اليهودية، وغيرها.64

يعتبر الباحثون أن لحظة استعمار سنة 1967 هي لحظة حاسمة في إعادة ترتيب المشروع الاستعماري الإسرائيلي وبنائه، ضمن علاقة جدلية كاستعمار استيطاني استغلالي، وخلق حالة تفاعل وتمفصل بين الطابعين: الاستعماري – الاستيطاني والاستعماري – الاستغلالي.65 وبلغ عدد العاملين في إسرائيل والمستعمرات في سنة 2019، وفق الإحصاء المركزي الفلسطيني، 133,000 عامل فلسطيني.66 وهذا الرقم يمكن اعتباره تقريبياً، لأن هناك فئة كبيرة من الفلسطينيين يعملون من دون تصاريح، سواء ممن هم من حملة الهوية المقدسية، أو مَن يعملون من دون تصاريح، أو مَن يعملون بتصاريح غير مخصصة للعمل، مثل تصاريح لمّ الشمل والتجارة، وتصاريح طبية، وغيرها.

 

تتوزع العمالة الفلسطينية (أعمار 15 عاماً وأكثر) سنة 2019
في إسرائيل على عدد من النشاطات الاقتصادية67

النشاط الاقتصادي

التوزيع النسبي

البناء والتشييد

64,2­­%

التعدين والمحاجر والصناعة التحويلية

12,8­%

التجار والمطاعم والفنادق

10,8­%

الزراعة والصيد والتحريج وصيد الأسماك

5,9­%

الخدمات والفروع الأُخرى

4,6­%

النقل والتخزين والاتصالات

1,7­%

المجموع

100­%

 

شهدت وتيرة العمالة الفلسطينية في إسرائيل جملة من التغيرات في الفترة 1967 – 2020. ومن أهم تلك التغيرات: التحول من العمالة غير الماهرة في بدايات الاحتلال، إلى العمالة الماهرة والعمالة الفلسطينية الحاصلة على تعليم عالٍ بسبب الأجرة المرتفعة مقارنة بالأجور في الضفة الغربية؛ تقييد دخول العمالة الفلسطينية من غزة منذ الانتفاضة الشعبية سنة 1987 عندما اشتُرط على العمالة الغزية امتلاك البطاقة الممغنطة، إلى أن وصلت الحال الى منع العمالة الغزية من العمل في إسرائيل؛ تحول في منظومة الدخول والخروج من أجل العمل، وربط العمل بالتصريح والموافقة الأمنية الإسرائيلية وغيرهما من الشروط المعقدة والمتغيرة من حين إلى آخر؛ قيود على العمل، وشروط مرتبطة بالأوضاع السياسية والوطنية والصحية، كتأثر العمل بالانتفاضة الأولى، وحرب الخليج الثانية سنة 1991، وانتفاضة الأقصى سنة 2000، وتشييد جدار الفصل العنصري، وجائحة كورونا، وغيرها من الأوضاع.68

تقع السياسات الإسرائيلية المتعلقة باستغلال العمل الفلسطيني ضمن منظومة السيطرة الأمنية، فلا يقتصر الأمر على استغلال العامل الفلسطيني وسرقة جهده، وجعله يعمل في أوضاع عمل شاقة، وبأجور متدنية مقارنة بالعمالة الأجنبية (مثل العمالة الآسيوية، والتركية، والرومانية) فحسب، بل تتعدى هذه السياسات أيضاً عملية الاستغلال المباشر إلى الاستغلال الخفي، أو الهيمنة والسيطرة السياسيتين، واللتين تقوم بهما المنظومة الاستعمارية تجاه المجتمع الفلسطيني ككل. فالعامل الفلسطيني مرتهَن لسياسات تصاريح وبطاقات ممغنطة وغيرها، تجبره هو وأسرته على الابتعاد عن السياسة والشأن العام الفلسطيني، خشية حرمانه من تصريح العمل.69 ويؤدي هذا إلى حالة من الاغتراب والسلب للعامل الفلسطيني، نفسياً وسياسياً، وجعله يعيش في حال دائمة من القلق والخوف على مصدر رزقه. وهذا الخوف يسمح له بقبول العمل الشاق والمُجهد، والتغاضي عن استغلاله وإهدار حقوقه، وتقبّل العمل والنوم في أوضاع غير لائقة. ولوحظت سطوة هذا الوضع مع انتشار جائحة كورونا،70 فلقد جرى استغلال العامل الفلسطيني من جانب الشركات الإسرائيلية خلال الجائحة على نحو صارخ. وعلى الرغم من الأوضاع الصحية والوبائية الخطرة، والمخاوف العامة من انتشارها، فإن المجال تُرك على غاربه للشركات الإسرائيلية للعمل من دون قيود أو شروط، ولم يُطلب من الموظّفين، إلاّ شكلياً، تقديم المرافق الملائمة لإيواء العمال. وظهرت المصلحة الاقتصادية للمشغّل الإسرائيلي على نحو فجّ، على حساب صحة العامل الفلسطيني وكرامته. ويدور الحديث هنا عن مجموعة كبيرة من الشقق السكنية التي يجب أن تُنجَز في موعدها المحدَّد كي لا تخسر الشركات الإسرائيلية غرامات التأخير. لكن المعطيات تبيّن، بصورة عامة، أن قطاع الإنشاءات، الذي تعمل فيه نسبة كبيرة من العمال الفلسطينيين، يساهم في نسبة 11 – 12 في المئة من إجمالي الناتج المحلي الإسرائيلي، وفق ما أظهرت وثيقة نُشرت في موقع الكنيست الإسرائيلي، سنة 2020.71

تعود الأجور والأموال التي تتلقاها العمالة الفلسطينية بالفائدة الاقتصادية على الاقتصاد الإسرائيلي، كون الاقتصاد الفلسطيني مرتبطاً بدورة الاقتصاد الإسرائيلي، وبالعملة الإسرائيلية أيضاً. لذلك، تفضل السلطات الاستعمارية الإسرائيلية العمالة الفلسطينية على العمالة الأجنبية، كون الأخيرة ترسل جزءاً كبيراً من أجورها إلى البلد الأم، ولا تتم الاستفادة من كل المبلغ الذي يتلقاه العامل الأجنبي، في حين أن أغلبية العمالة الفلسطينية تصرف أجورها في الضفة الغربية والقدس، وهما مرتبطتان بالبنية الاقتصادية الإسرائيلية؛ أي يجني الاقتصاد الإسرائيلي أرباحاً أعلى من العمالة الفلسطينية، بحيث يكون الاستغلال مزدوجاً، لجهة استغلال العامل وجهده أولاً، ثم استغلال أمواله لاحقاً.

تحظى منظومة العمل الإسرائيلية الاستغلالية، إلى جانب ذلك كله، بمساندة منظومة الحكم الاستعمارية في الإدارة المدنية، وتحديداً الدور الذي يؤديه مكتب منسق أعمال الحكومة في الأراضي الفلسطينية، من خلال الترويج المتصاعد لتطبيع الفلسطينيين، اقتصادياً وثقافياً ونفسياً وسياسياً، وخصوصاً في قطاع العمال، وذلك كون إصدار التصريح ومتابعة أخبار الحواجز والعطل الرسمية يتمان عبر صفحة «المنسق» على الفيسبوك. وبالتالي، تسجل الخوارزمية الفيسبوكية لتلك الصفحة مئات الآلاف من أيقونات «الإعجاب» (اللايكات) والتعليقات! ووصل المتابعون لها إلى 600,000 متابع (تفوق نسبة المتابعة والمشاهدة لصفحة «المنسق» والإعجاب بها صفحات بعض وكالات الأخبار الفلسطينية). وتطورت قضية التطبيع والتدجين وغسل الأدمغة والتلاعب بالعقول لابتكار تطبيق خاص بالأجهزة الذكية باسم «المنسق»، وهذا ما يعزز علاقات التبعية والاغتراب والاستغلال والمحو، نفسياً وثقافياً واجتماعياً وسياسياً. ومن المثير للقلق، بصورة خاصة، أن هذا التطبيق يعمل، عند تثبيته على الأجهزة الذكية، على اختراقها، أمنياً ومعلوماتياً.

د – هيمنة السوق وحركة البضائع: الاستيراد والتصدير

وقّعت السلطة الفلسطينية والحكومة الإسرائيلية «بروتوكول العلاقات الاقتصادية» سنة 1994، وصار يُعرف باسم «بروتوكول باريس الاقتصادي». والهدف المنصوص عليه في هذا البروتوكول هو نقل الاقتصاد الفلسطيني، بالتدريج، نحو الاستقلال، لكن الغاية الخفية من بنود الاتفاق كانت بعكس ذلك تماماً، إذ تهدف إلى تعميق تبعية الاقتصاد الفلسطيني للسيطرة الاقتصادية الإسرائيلية، وعدم قدرته على التعافي أو الانفكاك عن الاقتصاد الإسرائيلي، وبقائه في حال تبعية له، بحيث تكون فروع الاقتصاد الفلسطيني وبناه استهلاكية. وعندما يُسمح لها بأن تكون إنتاجية بسيطة، فمن المهم البحث في الأهداف، وخصوصاً تخفيف الأعباء عن الاقتصاد الإسرائيلي، من ناحية القوة العاملة وتلوث البيئة وغيرهما من الالتزامات الأخلاقية؛ أي أن جزءاً من إنتاجية الاقتصاد الفلسطيني في مجالات معينة، مثل: صناعات البلاستيك والنايلون، تقع ضمن منظومة الاستغلال الإسرائيلي.72

ترى هالة الشعيبي أن أبرز ما تضمنه الاتفاق بين الطرفين هو الإبقاء على نظام الاتحاد الجمركي بين الاقتصادين الفلسطيني والإسرائيلي، وغياب الحدود الاقتصادية بين الطرفين. ونقل الاتفاق العلاقات الاقتصادية التي كانت قائمة منذ ما قبل الاتفاقات السياسية (أوسلو – باريس)، وحوّلها من أمر واقع إلى علاقة تعاقدية متفَق عليها بين الجانبين. ويقوم الاتحاد الجمركي على أساس حرية حركة التجارة بين الأراضي الفلسطينية والإسرائيلية، والتزام الطرفين سياسة تجارية واحدة تجاه الأطراف الأُخرى، مع بعض الاستثناء. ونظّم البروتوكول آلية جباية الضرائب، وتقاصّ الضرائب والجمارك بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية، وتناول بعض البنود التي تنظم عمل العمال في إسرائيل.73

تكمن إشكالية البروتوكول، وفق رؤية الشعيبي، في أن بنوده عامة جداً وفضفاضة، ويعتمد تطبيقها، بصورة أساسية، على الالتزام الأخلاقي من جانب الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي. وتكمن إشكاليته أيضاً في تعثّر المسار السياسي وزيادة الوتيرة الاستيطانية، وتوقّف انعقاد اللجنة الفلسطينية – الإسرائيلية المشتركة، والمكلَّفة تنفيذ بروتوكول باريس ومعالجة المشكلات المتعلقة به، وعدم التزام إسرائيل تطبيق بنوده، والانتقائية في تطبيق بعضها. كما تشترط إسرائيل على السلطة الفلسطينية الكميات التي ترغب في استيرادها. وتتطلب عملية الاستيراد موافقة إسرائيلية، وخصوصاً استيراد المنتوجات من الدول العربية والإسلامية، التي لا تقيم علاقات بها.74 وتعرقل إسرائيل عملية الاستيراد المباشر، في أحيان كثيرة، من أجل أن يتم الاستيراد عبرها؛ أي أن يقوم المورّد الإسرائيلي بشراء السلع، ويشتريها التجار الفلسطينيون من المورّدين والتجار الإسرائيليين، بهدف زيادة الربح الإسرائيلي، واستمرار الهيمنة على الاقتصاد الفلسطيني.

تُبيّن بيانات الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني (سنة 2018) أن هناك تفاوتاً كبيراً بين قيمة الصادرات الفلسطينية إلى إسرائيل والواردات منها، بحيث يميل الميزان التجاري إلى مصلحة إسرائيل على نحو كبير وبصورة عميقة. وتجاوزت الواردات الفلسطينية من إسرائيل 3,61 مليارات دولار في سنة 2018، بينما قاربت الصادرات الفلسطينية إليها 967 مليون دولار. وتتركز الواردات الفلسطينية، بصورة أساسية، على البترول والمعادن (39 في المئة)، منتوجات الأغذية (15,3 في المئة)، منتوجات نباتية (9,5 في المئة)، معدّات وأجهزة آلية (7,3 في المئة)، حيوانات حية (7,2 في المئة). كما استوردت السوق الفلسطينية، في سنة 2018، بعض المخلّفات الإسرائيلية (النفايات)، كمخلفات حيوانية، بقيمة 260 مليون دولار، واستوردت خردة معدنية بقيمة 16 مليون دولار.75

تبيّن بيانات الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني الهيمنة الكبيرة للواردات الإسرائيلية التي تغزو السوق الفلسطينية؛ أي أن البنى الاستغلالية والبنى الاستعمارية الإسرائيلية تعتبر الضفة الغربية وقطاع غزة سوقاً استهلاكية ضخمة لمنتوجاتها السلعية والخدماتية. وتساهم تلك الواردات في استغلال أموال الفلسطينيين، وضرب النسق الإنتاجي الفلسطيني، زراعياً وصناعياً، كون الواردات تأتي في المرتبة الثانية
من حيث الاستهلاك اليومي بعد قطاع البترول، وخصوصاً المنتوجات الغذائية (المشروبات والألبان والخضروات والفواكه واللحوم وغيرها). ولا تقوى الصناعة والزراعة الفلسطينيتان على منافسة القوة الإنتاجية الإسرائيلية، ولا على مقاومتها. وجزء من الغزو الاستهلاكي مرتبط بضعف ثقافة المقاطعة للمنتوجات الإسرائيلية لدى المواطن الفلسطيني الذي يعتبر أن المقاطعة لا تؤثر في الاقتصاد الإسرائيلي. ويمكن أيضاً رصد مظهر مؤلم في الواردات الإسرائيلية، وهو توريد «النفايات» كمخلّفات حيوانية، وتوريد الحيوانات الميتة أيضاً لتصنيعها أعلافاً، واستيراد الخردة؛ أي أن المنظومة الاستغلالية الإسرائيلية تتخلص من مخلّفاتها ونفاياتها عبر تسويقها في السوق الفلسطينية، وبيعها لها.

هـ – ربح الشركات الإسرائيلية والاستثمارات الدولية

بيّن غادي ألغازي جانباً مهماً ومغفَلاً من ربح الشركات الإسرائيلية من العمل في المستعمرات، فقد لجأت شركات إسرائيلية منتِجة للبرمجيات إلى حل أطلقت عليه اسم «إنشاء شركة أجنبية داخل البلاد»، أي داخل الحديقة الخلفية في المستعمرات الإسرائيلية. ووفق المبدأ والسياسة ذاتيهما، أنشأت شركة ماتركس، وهي إحدى أكبر الشركات الإسرائيلية في مجال تقنية الشبكة العنكبوتية، مراكز تطوير لها في مستعمرة موديعين عيليت (غربي رام الله، وبالقرب من الخط الأخضر)، ووظفت فيها عاملات إسرائيليات متزمتات دينياً، بأجور أقل من معدل الدخل الإسرائيلي. وتُعتبر شركة ماتركس، عبر شركتها الفرعية سيبام، من أكبر مزودي الجيش الإسرائيلي وأجهزة الأمن الإسرائيلية والوزارات وقطاعات الطاقة والنقل والكنيست بتقنيات تكنولوجيا المعلومات، وتقدّم خدمات استشارية إلى معظم المصارف الإسرائيلية؛76 أي أن العمل والاستثمار في المستعمرات في الضفة الغربية لهما مردود اقتصادي على رأس المال الإسرائيلي، من خلال استغلال التسهيلات في المستعمرات، وتوظيف يد عاملة إسرائيلية رخيصة الأجر، مثل المتدينات الإسرائيليات، أو تشغيل عمال من الضفة الغربية في الأعمال الشاقة، والتي تتطلب مجهوداً كبيراً.77

تقيم شركات تكنولوجيا معلومات إسرائيلية، إلى جانب ذلك، تعاقدات من الباطن، لاستغلال اليد العاملة الفلسطينية الماهرة والمهنية في مجال التكنولوجيا، من خلال عملها وتوظيفها في شركات فلسطينية للتكنولوجيا تكون وجهة للعمل، لكن عمل هذه الشركات الفلسطينية هو تعهد وتضمين للعمل لمصلحة الشركات الإسرائيلية الكبرى، والتي تحصل على تكنولوجيا عالية الجودة بأسعار زهيدة عند مقارنة عمل هذه العمالة الفلسطينية بتشغيل مهندس تكنولوجيا إسرائيلي في الشركة الإسرائيلية الأُم.78

كما أن هناك علاقات بين الشركات الخاصة وبنية الأمن الإسرائيلي الاحتلالي. وأحد الأمثلة لهذا التعاون الأمني هو وحدة 8200 التي تتجسس على الفلسطينيين وتراقبهم من خلال أحدث أدوات التكنولوجيا، وعمل ضباطها، في أغلبيتهم، لاحقاً بعد إنهاء خدمتهم في شركات الاتصالات الإسرائيلية وشركات التكنولوجيا والمعلومات. وأصبح يعقوب بيري (رئيس الموساد سابقاً) مديراً لشركة سلكوم للاتصالات، وشغل إفرايم هليفي (رئيس الموساد سابقاً) عدة مناصب في شركات اتصالات؛ أي أن هناك علاقة مركّبة ومعقدة داخل إسرائيل بين رأس المال ومنظومة الأمن. كما أن هناك علاقات تعاقدية وعرفية ومصلحية بين السياسة والأمن والاقتصاد في إسرائيل، أدى الدور الأساسي والمهيمن فيها قطاع الاقتصاد، في السنوات القليلة الماضية.

ويخلص المراقبون إلى وجود تورط كبير لشركات إسرائيلية ودولية في انتهاكات الحقوق الفلسطينية، وفي انتهاكات حقوق الإنسان في الأراضي المحتلة، وتحقيق أرباح، بطرائق مباشرة وغير مباشرة، من خلال الاستثمار في الأراضي الفلسطينية المحتلة. وشمل هذا الأمر تورط الشركات في عدد من المظاهر، بينها: «المشاركة في الزراعة والصناعة في المستعمرات، والبناء في أراضٍ محتلة، وتقديم الخدمات للمستعمرات، واستغلال إنتاج وموارد الأرض المحتلة، والتحكم في السكان، وشركات أمن خاصة تعمل في أراضٍ محتلة، وبناء جدار الضم والفصل العنصري، فضلاً عن توفير معدات وخدمات متخصصة أُخرى. [وقسّمت جلسة محكمة راسل المعنية بفلسطين، والتي عُقدت في لندن، انتهاكات الشركات لحقوق الإنسان إلى ثلاث فئات، هي:] توريد معدات ومواد ومركبات عسكرية استخدمتها إسرائيل خلال العدوان على غزة، وتوفير معدات أمنية استُخدمت في نقاط التفتيش المقامة في الطرق المؤدية إلى بناء جدار الضم، وتوريد معدات أمنية إلى المستعمرات الإسرائيلية في الأراضي المحتلة؛ الأنواع المتعددة من المساعدات المقدمة إلى المستعمرات في الأراضي المحتلة؛ أشكال المساعدة في بناء جدار الضم في الأراضي المحتلة.»79

تتبع وزارةَ الاقتصاد الإسرائيلية هيئةٌ تحمل اسم هيئة التعاون الصناعي وتطوير الاستثمار الخارجي. وتضع سلطة الاستثمارات الأجنبية والتعاون الصناعي هدفاً لها، هو تطوير الاستثمارات الأجنبية المباشرة، تحت اسم «استثمر في إسرائيل» (Invest in Israel)، إذ تقوم السلطة بتطوير استثمارات أجنبية مباشرة، من أجل أن تعزز التشغيل ونمو السوق الاقتصادية في إسرائيل. ويُعتبر موضوع الاستثمارات الأجنبية المباشرة (FDI – Foreign Direct Investment)، اليوم في العالم، إحدى الرافعات الأساسية لنمو الاقتصادات بصورة عامة، واقتصادات الدول الصغيرة بصورة خاصة. وتؤدي عملية عولمة الإنتاج وتطوير المنتوجات في الأماكن ذات الأفضلية التكنولوجية، إلى تعزيز العلاقة بين الاستثمارات العالمية والتجارة العالمية. أمّا الوظائف المتأتية من خلال مشروع الاستثمار في إسرائيل، فتتمثل في: «تطوير استثمارات الشركات من قوميات متعددة؛ تطوير الاستثمارات التي تخلق أماكن تشغيل في المناطق البعيدة عن المركز، و/أو تطور تشغيل مجموعات خاصة؛ إنشاء جهاز وشبكة من الشركاء لمعالجة أوضاع المستثمرين الأجانب؛ مرافقة شخصية ومستمرة للمستثمرين الأجانب؛ تشييد بنية تحتية في مجالات المعرفة والإعلام؛ تطوير الاسم التجاري «إسرائيل» في العالم؛ تمثيل الدولة في المنظمات العالمية لتطوير الاستثمارات؛ المساعدة على تحديد سياسة الوزارة في مجال الاستثمارات؛ المساعدة على مواءمة أدوات الوزارة لتشجيع الاستثمارات الأجنبية؛ إنتاج أدوات ومواد إعلامية تشجع على الاستثمار في إسرائيل، مثل: موقع إنترنت مخصّص للمستثمرين؛ تسويق أفلام قصيرة تصف قدرة العمل الكامنة والمضمّنة في دولة إسرائيل؛ تحضير ملف مضامين مخصّص للمستثمرين؛ عرض قصص نجاح لمستثمرين أجانب في إسرائيل؛ تسويق عرض شرائح (SHINE)؛ إنتاج معلومات عن مختلف الصناعات، بالتعاون مع جهات خارجية؛ عرض قصص نجاح ومبادرات إسرائيلية، وغير ذلك.»80

كما يمكن رصد مجموعة من الشركات العالمية من: الصين، الولايات المتحدة الأميركية، اليابان، المملكة المتحدة، كوريا الجنوبية، ألمانيا، هولندا، إسبانيا، جنوب أفريقيا، فرنسا، كندا، المكسيك، سويسرا، السويد، وغيرها. وهذه الشركات تستثمر في الأراضي المحتلة، وتستفيد وتربح من الاحتلال الإسرائيلي، وبينها شركات تقوم بمشاريع مباشرة واستثمارات في مجالات متعددة، أو تستفيد من بيع معدات وتكنولوجيا ومركبات وصناعة تخدم الاحتلال. ومن تلك الخدمات والسلع: هندسة مشاريع الطاقة والنقل والصناعة والمياه والبيئة والطاقة؛ معدات البناء والحافلات؛ سيارة الهمر العسكرية ذات الدفع الرباعي؛ صناعة أدوات كهربائية والروبوت والإلكترونيات؛ آلات زراعية وهندسية؛ أنظمة فحص الأمتعة؛ تزويد خدمات أمنية وعسكرية؛ معدات بناء، وغيرها من الخدمات والسلع والمشاريع؛81 أي أن تلك الشركات تساهم، بطريقة مباشرة وغير مباشرة، في الاحتلال والأرباح الناتجة من استمراره ومن الاستثمار في المستعمرات المقامة في الأراضي الفلسطينية المحتلة.

و – المستعمرات كرافعة اقتصادية اجتماعية للإسرائيليين اليهود من الطبقتين الوسطى والضعيفة

يرى عميد صعابنة أن الأهداف السياسية والأيديولوجية للاستيطان كانت دائماً حاضرة في كل مرحلة من مراحل الاستيطان الإسرائيلي. لكن برزت عوامل بنيوية أُخرى، وساهمت في دفع عجلة الاستيطان، مثل القرب من المدن والمراكز الاقتصادية. وأدت هذه العوامل دوراً مهماً في التحكم في وتيرة الهجرة إلى المستعمرات والسكن فيها. ولم تعد الهجرة إلى المستعمرات، بعد عدة عقود من الاستيطان، هي العامل الرئيسي في الزيادة السكانية، بل أصبح دور الزيادة السكانية الطبيعية هو المؤثر الأكبر في زيادة أعداد المستوطنين، لأن قدرة المستعمرات على المحافظة على الشبان الذين وُلدوا وتربوا فيها مرهونة، أساساً، باستمرار جاذبيتها، أمنياً واقتصادياً، للمستوطنين وغيرهم من السكان. وهذا الأمر يتطلب قوة سياسية لجمهور المستوطنين لضمان دعم الدولة السخي والكبير للمستعمرات، في ظل تقلص سياسات الرفاه والخدمات الاجتماعية، والتي أضرت بالطبقة الفقيرة وشرائح من الطبقة الوسطى في إسرائيل.82

يعاني قطاع الإسكان أزمة خانقة في إسرائيل، نتيجة عدد من الأسباب، أهمها: ارتفاع أسعار الشقق في المدن الإسرائيلية الكبرى والمراكز الحضرية. لذلك، عملت الحكومة الإسرائيلية على توفير مساكن وشقق بأسعار معقولة للفقراء والطبقة الوسطى والفئات الاجتماعية؛ أي التي لا يمكنها السكن في المراكز والمدن الكبرى.

تقدّم الحكومة الإسرائيلية ومختلف أذرعها، كالأمن والسكن والمالية والمجالس الإقليمية، خدمة السكن في المستعمرات كحل سكني اقتصادي للأزواج الشبان، وللفئات من الطبقة الوسطى، وتشجعهم على الانتقال للسكن في المستعمرات، في سياق خطتها الهادفة إلى اللعب على البعد الأيديولوجي، والبعد الاقتصادي الذي يُعتبر الأهم، من حيث تشجيعهم وتقديم حوافز إليهم، مثل التسهيلات الضريبية، وقروض إسكان طويلة الأمد، وخصومات في التعليم والمواصلات، وغيرها.

خامساً: المستعمرات في السياسة الإسرائيلية وسيناريوهات المستقبل

أ – مكانة المستعمرات في الأيديولوجيا والسياسة الإسرائيليتين

يرى أمل جمال أن «تطبيع حياة المستوطنين هو انعكاس لمصدر قوتهم، وليس نتيجة التجاوزات القانونية والأخلاقية التي يقوم بها بعضهم. فالنظر إلى الانفلات القانوني والسلوكيات غير الإنسانية لبعض المستوطنين لا يمكن أن يغيّبا ديناميكية القوة القائمة في العلاقة بين المستوطنين والمؤسستين الأمنية والعسكرية الإسرائيليتين كرأس حربة للدولة الإسرائيلية.»83 ويحاجّ جمال في أنه لا يوجد هناك إمكان لفصل هوية الدولة الإسرائيلية، كما هي معرّفة قانونياً وسياسياً، عن حركة الاستيطان والتوسع، وتفريغ الأرض من سكانها الأصليين.

ويشير جمال إلى أن هناك مجموعة من مصادر قوة يحظى بها المستوطنون: مصادر القوة الأيديولوجية؛ مصادر قوة أمنية؛ المصادر السياسية والاقتصادية.84 ويكثف هذا الموضوع في قوله: «إن مصادر قوة المستوطنين متنوعة ويغذي بعضها بعضاً، وهي مبنية على العلاقة بين الأيديولوجيا القومية – الدينية – الإثنية المهيمنة في إسرائيل، وبين مفاهيم الأمن القومي الذي لا يقتصر على المفهوم العسكري، بل يقوم أساساً على تعزيز وحماية المشروع الإثني – القومي في بناء الأمة أيضاً، إذ يشكل الاستيلاء على الأرض والسيطرة عليها واستيطانها، المجال الحيوي لبقاء الأمة، نقطة مركزية. وفي هذا السياق، فإن للمستوطنين دوراً (طلائعياً)، حتى عندما يتم تصور هذا الدور كتحدّ للدولة وأجهزتها، فهو يلاقي الدعم من جانب هذه الأجهزة نفسها، وحتى من أغلبية الجمهور اليهودي الإسرائيلي، بمن في ذلك أقسام من هذا الجمهور التي يتم تصويرها على أنها الأكثر (تنوراً). إنها العلاقة المفاهيمية والأيديولوجية العميقة بين بناء الدولة وبناء الأمة والأمن الوطني، والتي تقدم أفضل تفسير للقوة الهائلة للمشروع الاستيطاني. وهذا يعني أن شرعية الاستيطان مستمدة من شرعية إسرائيل والعكس صحيح، وكذلك إن سحب الشرعية عن مشروع الاستيطان في الأراضي التي احتُلت في سنة 1967 يُعتبر في ذهن مجموعات كبيرة جداً من المجتمع الإسرائيلي سحب الشرعية عن المشروع الصهيوني برمته، وهو ما يضع الدولة الإسرائيلية في تناقض هائل بين هويتها وجوهر سياساتها من جهة، وإمكانية التعايش مع دولة فلسطينية في الأراضي التي احتُلت في سنة 1967 من جهة أُخرى.»85 يمكن القول إن الاستيطان والمستعمرات والمستوطنين هم جزء من بنية الدولة وفكرها وممارساتها وتخيلاتها وطموحاتها ورؤيتها ومستقبلها؛ أي أن الاستيطان ثابت، وليس متحولاً في المشروع الاستيطاني الإسرائيلي.

يفيد هنا عرض لمحة عامة عن التبريرات الأيديولوجية والسياسية، التي اتّبعتها التيارات الحاكمة في إسرائيل، منذ بداية الاحتلال والاستيطان. لقد بدأ الاستيطان في الأراضي المحتلة سنة 1967، من منطلقات وذرائع أمنية، وخصوصاً مشروع ألون الذي يهدف أساساً إلى بناء حاجز استعماري أمني لصد أي هجوم عربي من الجبهة الشرقية لإسرائيل. وهدفت تلك الرؤية الأمنية من الاستيطان في غور الأردن، وصولاً إلى الحمة وحول القدس وجبال الخليل، إلى إيجاد حاجز مادي يعوّق أي هجوم عسكري بري. كما ركزت رؤية أريئيل شارون، عندما كان وزيراً للزراعة، على الاستيطان في قمم الجبال في الضفة الغربية، من أجل تحقيق تفوق إسرائيلي، عسكرياً وأمنياً، في أي مواجهة، وبهدف تحقيق التفوق الاستعماري والهيمنة على المستعمَر الفلسطيني أيضاً، وإبقائه تحت مجهر المراقبة والمعاقَبة.86

بعد الانقلاب السياسي في إسرائيل سنة 1977، وسيطرة حزب الليكود على الحكم فيها، بدا الخطاب الرسمي أقرب إلى استخدام المبررات الأيديولوجية الدينية لعملية توسع الاستيطان في الأراضي المحتلة، كون الضفة الغربية، وفق رؤية الحزب، هي «أرض الآباء والأجداد وأرض التوراة»، ويرى قادته أن «أرض إسرائيل الكاملة» هي من حقهم، وواجب ديني استعمارها. أمّا بشأن العرب/الفلسطينيين، فإن خطاب حزب الليكود، تاريخياً، يدور حول الحديث عن حكم ذاتي لهم من دون أي سيادة على الأرض، باعتبار أن الأرض هي أرض إسرائيل (إيرتس يسرائيل). وهذا ما تم إقراره في قانون أساس الدولة القومية مؤخراً (سنة 2018).87 ولم يعترض حزب العمل، تاريخياً، على التوسع الاستيطاني بأي صورة جوهرية، بل جارت سياساته سياسات حزب الليكود في السباق استيطانياً، لتكثيف الاستيطان، وتعزيز مكانتيهما لدى الجمهور الإسرائيلي، وكسب أصوات الناخبين.

يُعتبر دور الحكومة الإسرائيلية الاقتصادي داخل الخط الأخضر («إسرائيل المركز») مغايراً لدورها في المستعمرات المقامة في الأراضي الفلسطينية المحتلة سنة 1967، كون الاستثمار الحكومي في الخدمات العامة والسلطات المحلية مرتفعاً بهدف تحفيز انتقال/هجرة السكان إلى المستعمرات، وضمان بقاء المستوطنين الذين انتقلوا لأسباب غير عقائدية، أي انتقلوا لأسباب اجتماعية واقتصادية، كتوفير مستوى حياة أفضل لأن السكن والخدمات العامة داخل المستعمرات أرخص مما هي عليه داخل «إسرائيل المركز»، بالإضافة إلى تقليص الدولة في المركز الخدمات العامة وسياسة الرفاه داخل إسرائيل. ورصدت الحكومات الإسرائيلية الميزانيات الضرورية من دون السؤال عن النجاعة والجدوى الاقتصاديتين لصرفها، أو النظر في مسألة العدالة الاجتماعية، أو التفكير في المساواة في تقسيم الموارد، لأن قضية الاستيطان إسرائيلياً – كما أشار جمال سابقاً – هي قضية استراتيجية ومصلحة قومية، تفوق أهميتهما الجوانب الاقتصادية وتتجاوزها. كما تقوم الحكومة الإسرائيلية بتقديم تمويل حكومي إلى المستعمرات في المجالات التالية: «ميزانيات السلطات المحلية، ميزانيات وزارة الإسكان، البناء الإسكاني وشق الشوارع، التسهيلات الضريبية للمستوطنين، المواصلات، تطوير المناطق الصناعية، تطوير البنية السياحية، فعاليات غير حكومية.» وترصد الحكومة الإسرائيلية، كل سنة، مليارات الدولارات لميزانية الاستيطان والمستعمرات والمستوطنين في الضفة الغربية والقدس المحتلة، بهدف تشجيع المستوطنين على السيطرة على ما نُهب من الأرض الفلسطينية، والتمسك به.88

برز توجه صهيوني جديد معقد ومركّب، سُمي الصهيونية الجديدة. ولهذا التوجه مقومات واضحة المعالم، ومترابطة، ويغذي بعضها البعض. ويعتبر هذا التيار أن فكرة الوعد الإلهي مصدر شرعي لأحقية اليهود في أرض إسرائيل. وبالتالي، تشكل الحاجة إلى تخليص الأرض ممن «اعتدوا» عليها، واستعادتها منهم، صلب التوجه الفكري للصهيونية الجديدة وجوهرها. إن قوام هذا التيار روافع علمانية ليبرالية، وروافع دينية مستحدثة. وهذه الفكرة المعقدة والمركّبة والمتنوعة هي التي أدت إلى بروز مكانة كل من الاستيطان والمستوطنين في الفكر السياسي الصهيوني. «إن توسيع الحيز الجغرافي للهيمنة اليهودية يرقّي عملية الاستيطان إلى درجة الفضيلة ويحول المستوطنين إلى مقاتلين أساسيين باسم الشعب اليهودي، الذين يُعتبرون ضمانة مركزية لأمنه ومستقبل أجياله المقبلة. تختم هذه الفكرة الفصل الحيزي والديموغرافي بين أبناء شعب الله المختار وسكان البلاد الفلسطينيين وتسخير زمانهم ومكانهم لتحقيق الإرادة الإلهية المتجسدة في عودة شعب إسرائيل إلى أرض أجداده. وبيّن التحليل السابق كيفية استعمال وتسخير عملية القوننة الدستورية بناءً على أحقية الأغلبية الديمقراطية في تفريغ مبدأ حكم الأكثرية من مضمونه ونقل السيادة على الدولة ومواردها من المواطنين إلى الشعب اليهودي برمته. وهذا يعني أن الصهيونية الجديدة هي توجه فكري متجدد يحمل في طياته أفكاراً قديمة، لكنه يعطيها زخماً جديداً وتفسيراً أكثر تطرفاً، معمولاً على قدرة إسرائيل الاقتصادية والعسكرية من أجل تحقيق الإرادة الإلهية والتفوق الأخلاقي للشعب اليهودي على محيطه لما في ذلك من رسالة للإنسانية جمعاء، متغاضياً عن الإسقاطات البشرية لهذا الفكر الاستعلائي.»89

نجحت إسرائيل أيضاً في تجنيد إعلامها لدعم الاستيطان والمستوطنين، والتغطية على جرائمهم وممارساتهم وأعمالهم المناقضة للقانون والأعراف الدولية والمخلة بها. وساهم التجنيد الإعلامي في «تحويل المشروع الاستيطاني من حالة احتلال إلى حالة اعتيادية، وكأن المستعمرات جزء من إسرائيل والتعامل معها يتم أُسوة بالتعامل مع مكونات المجتمع في إسرائيل.»90 وعلى الرغم من الأصوات المنتقدة والمسموعة في إسرائيل، فإنها لم تؤد، في أي حال من الأحوال، إلى تغليب الرأي العام ضد الاستيطان.

ب – تيارات المستوطنين ومشاركتهم السياسية

أضحى المستوطنون قوة سياسية واجتماعية فاعلة في المجتمع الإسرائيلي، مع تنامي المستعمرات في الضفة الغربية، وخصوصاً في مدينة القدس ومحيط بيت لحم ورام الله والبيرة، وبات لهم حضورهم في الأحزاب والجيش والقضاء والإعلام ومختلف مؤسسات الدولة. والمثال لذلك رئيس حزب إسرائيل بيتنا أفيغدور ليبرمان، وهو وزير للخارجية ووزير للدفاع سابقاً؛ عضو كنيست بتسلئيل سموتريتش، وهو وزير مواصلات سابق؛ موشيه فيغلين، وهو عضو كنيست سابق. وثمة أمثلة أُخرى لهذا التداخل في بنية الدولة ومؤسساتها السياسية.

كما ساهم قرب عدد من المستعمرات من مدينة القدس ومن المراكز الخدماتية والثقافية والجامعية فيها، في إقبال مجموعات من المستوطنين على التعلم في الجامعات، والتواصل الثقافي مع المركز الإسرائيلي. بالإضافة إلى ذلك، كان لتطور جامعة أريئيل، واستقلالها عن جامعة بار – إيلان، وبحكم وجودها في مستعمرة أريئيل، دور في جذب طلاب من المستعمرات إلى التعلم فيها.

إلاّ إن المستوطنين ليسوا ضمن نسق سياسي واحد، إذ تنقسم آراؤهم فيما يتعلق بمشروع الاستيطان، على النحو التالي:91

– التيار الديني الصهيوني: يُستوطن بهدف الاستيطان، ويشكل أنصاره بين 33 في المئة و35 في المئة من إجمالي مستوطني الضفة الغربية. ويحصل على دعم قسم من العلمانيين. وأتباع هذا التيار يستوطنون نتيجة أهداف سياسية وأيديولوجية من أجل السيطرة على الأرض، وضمان قيام «أرض إسرائيل الكاملة».

– التيار الديني المتزمت («الحريديم»): يشكل أنصاره أيضاً نسبة تتراوح بين 32 في المئة و34 في المئة. لكن وتيرة تزايدهم أكبر. ويتمثل هدفهم من الاستيطان بالحصول على تجمعات سكنية مغلَقة وخاصة بهم، وأن تكون قريبة جداً من القدس المحتلة. وقد يشكلون بعد عقد من الزمن، بحسب وتيرة تزايدهم السكانية، نصف عدد المستوطنين.

– المستوطنون العلمانيون (المنسلون من التيار الصهيوني العمالي): يقطنون في المستعمرات الصغيرة، مثل مستعمرات الغور. وستتراجع نسبة هذه الشريحة بوتيرة سريعة في السنوات المقبلة، في ضوء الارتفاع الحاد في أعداد أنصار تيارات الحريديم والتيار الديني الصهيوني.

ج – السيناريوهات الإسرائيلية لمصير الاحتلال

يرى رائف زريق أن هناك مجموعة من السيناريوهات المحتملة لمصير الاحتلال، هي: ضم فعلي من دون ضم قانوني (استمرار الوضع الحالي)؛ ضم جزئي لمناطق (ج)؛ ضم كامل لكل أراضي الضفة؛ الإمارات السبع؛ محاولة إحياء حل الدولتين، وعودة الحديث عن استئناف المفاوضات. إن سيناريو الضم الفعلي هو جزء من سياسة بنيامين نتنياهو في السنوات الأخيرة، ويقوم على إدارة الصراع، لا حلّه. أمّا سيناريو الضم الجزئي لمناطق (ج)، فيعني ضمّ ما يقارب 50,000 نسمة من مناطق (ج)، وإعطاء مناطق (أ) نوعاً من الإدارة الذاتية. ويمكن لسيناريو يقوم على ضم كامل لكل أراضي الضفة، أن يكون على عدة أشكال، منها: ضم كامل من دون ضم السكان الفلسطينيين؛ ضم كامل مع جزء من السكان؛ ضم كامل مع ضم جميع السكان. وينطلق سيناريو الإمارات السبع، من جعل كل مدينة فلسطينية دولة مدينية قائمة بذاتها، اقتصادياً وإدارياً، من خلال تعزيز الولاءات المحلية والإقليمية والعشائرية بهدف ضرب المشروع الوطني الفلسطيني. كما أن سيناريو محاولة إحياء حل الدولتين من جديد غير قائم تقريباً.92

أمّا سيناريوهات الفعل والمبادرة الفلسطينيَين، فيمكن أن تتراوح بين: سيناريو الوضع الراهن؛ سيناريو حل السلطة؛ سيناريو انتفاضة جديدة. إن المقصود بسيناريو الوضع الراهن هو استمرار اعتماد الاستراتيجيا الفلسطينية التي ترى أن هناك أفقاً للعملية السلمية بهدف الإبقاء على السلطة، والتمسك بالمفاوضات باعتبارها الطريقة الرئيسية للوصول إلى اتفاق مع إسرائيل على إقامة دولة فلسطينية. وهو سيناريو تأجيل الأزمة، كونه لا يؤدي إلى قيام دولة، ولا إلى إيقاف الاستيطان، وفي إمكان إسرائيل التعايش معه. كذلك لا يشكل سيناريو حل السلطة، في حدّ ذاته، استراتيجيا متكاملة، إذ إنه يقوم على النفي والغياب، ولا يقدم البديل على نحو صريح وواضح: هل العودة إلى الثورة المسلحة، أم التقدم إلى نضال مدني جماهيري، هو ما يقود إلى حل الدولة الواحدة. ويمكن أن يكون خيار إسرائيل، في حال حل السلطة، إعادة إحياء الإدارة المدنية، أو محاولة بناء قيادات محلية ذات مكونات عبارة عن مزيج من العشائرية والعسكرية، وتحظى بامتيازات اقتصادية معينة تقدمها إسرائيل. وتكون هذه القيادات بمثابة وكلاء الأمن الإسرائيلي (كنموذج روابط القرى، وقد تكون في الوقت الحالي روابط مدن، أو شخصيات اقتصادية – أمنية – سياسية، تعمل بصورة منفردة، وترتبط بقوى إقليمية). وهناك خيار العمل على منح السكان الفلسطينيين حقوقاً سياسية ومدنية متساوية. أمّا سيناريو انتفاضة جديدة، فهناك أكثر من احتمال لهذا الأمر: انتفاضة مع وجود للسلطة، وتساهم فيها، أو انتفاضة مع حل السلطة. وربما يمتد خيار الانتفاضة إلى كل الجغرافيا الفلسطينية، ويزول الخط الأخضر، ويشترك فيها الفلسطينيون في إسرائيل. وربما نعود إلى نقطة البداية، كصراع بين حركة تحرر وطني ومشروع استعمار استيطاني. وربما يكون الحل قيام دولة ثنائية القومية في مجمل فلسطين، أو كونفدرالية مع الأردن، أو من خلال حل الدولتين مع إعادة ترسيم الحدود مجدداً.93 في مجمل الأحوال، نعتقد أن من المهم استكمال الحديث عن آليات السيطرة الإسرائيلية، كي نرى الأرضية التي تقوم عليها هذه السيناريوهات وإمكانات مواجهة الاحتلال.

سادساً: أدوات السيطرة على الوعي والجسد والحياة السياسية للفلسطينيين

أ – المعرفة الاستعمارية: بنية وممارسة

بدأ الاستعمار الإسرائيلي استخدام أدوات القوة الناعمة والأنثروبولوجيا الاستعمارية بعد احتلال سنة 1967. وبرز، في العقد الأول من الاحتلال، جانب من أيديولوجيا «المستعمِر – المستنير» الذي يعمل بهدوء على إعادة ترتيب حياة السكان الفلسطينيين في مجالات التعليم والصحة والبنية التحتية وغيرها. وشكّل رئيس الحكومة الإسرائيلية ليفي إشكول، ضمن هذا التوجه، بعد حرب سنة 1967، لجنة سُميت «لجنة الأساتذة»، وضمت أكاديميين، مثل عالِم الاجتماع الإسرائيلي شموئيل نوح أيزنشتات (Shemuel Noah Eisenstadt)، والاقتصادي ميشيل برونو (Michael Bruno)، وعالِم الديموغرافيا روبيرتو باكي (Roberto Baki)، وعالِم الرياضيات أرييه دفوتسكي (Aryeh Dvoretzky)، وباحثين آخرين، وجميعهم مقربون من السلطة الإسرائيلية الرسمية. وتمثّلت مهمة هؤلاء في دراسة أحوال السكان الفلسطينيين في الأراضي المحتلة حديثاً، في المدن والقرى والمخيمات. وتمت، في إطار هذا المشروع البحثي الموجَّه سياسياً، مقابلة الناس والحديث معهم، والاستفسار عن حياتهم وحاجاتهم ورغباتهم. وكان الهدف من ذلك، لا الدراسة لغرض التخطيط أو التنمية، مثلما يُعهد، عادة، إلى الأكاديميين في هذه التخصصات، وإنما هندسة الضبط، وفهم طبيعة الفلسطينيين في الأرض المحتلة. وتمثّل الهدف الأساسي للحكومة الإسرائيلية آنذاك في العمل على خفض عدد السكان في الأراضي المحتلة، عبر ترويج هجرة العمل. وجرى، فعلاً، العمل على تفكيك بعض المخيمات في قطاع غزة، من أجل تشجيع الفلسطينيين على الهجرة إلى الخارج.94

وكان من أبرز افتراضات لجنة الأساتذة، أو منطلقاتها، القول إن تحديث المجتمع الفلسطيني يتعارض مع المصالح الإسرائيلية؛ أي أنه كلما زاد تحديث السكان الفلسطينيين ازداد احتمال خطر المقاومة. واكتشفت اللجنة أن معدل البطالة مرتفع نتيجة ندرة العمل، واعتبرت أن هذا الأمر يساعد على هجرة الفلسطينيين إلى الدول العربية المجاورة، مثل الأردن والكويت. وكانت إحدى توصياتها، من أجل تقليص عدد السكان في الأراضي المحتلة، السماح لأي شخص يرغب في مغادرتها بالسفر، مع إبقاء خيار العودة، وهذا يعني انفصاله عن عائلته. وطُبقت هذه التوصية وغيرها من خلال التواصل المباشر بين الحكومة ولجنة الأساتذة، وبالتشاور مع كل من الشاباك (جهاز الأمن العام) والجيش الإسرائيلي.95

لم تقف السيطرة الاستعمارية عند هذا الحد؛ أي محاولة التحكم في القوى الديموغرافية الفلسطينية فحسب، بل درجت على اختراق الوعي الفلسطيني أيضاً. إذ اعتقدت إسرائيل أن في إمكانها إدارة الفلسطينيين وضبطهم، من خلال سياسات معينة هدفها خلق شعور عام بأن مجرى حياتهم لم يتغير بعد الاحتلال، إلاّ إلى الأفضل. وحتى اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى سنة 1987، كانت ترى أنه يمكن تطبيع العلاقة الاحتلالية مع الفلسطينيين، بحيث يتحول الاحتلال، بالنسبة إليهم، إلى احتلال «متنور – مستنير»، ومرغوب فيه، كما لو أنه يعود عليهم بالمصلحة والخير والرفاه.96 ولا شك في أننا نلحظ أثراً ملموساً لظاهرة «ولع المغلوب بالغالب»، وفق منطق ابن خلدون، أو ازدواجية الوعي المستعمَر. فإلى جانب النظر إلى المستعمِر كحالة من الطغيان والسلب، نجد مقولات شعبية متعددة عن «المستعمِر المستنير»، كمرجعية، أو قدوة، أو الخبير الذي يعرف عنا أكثر مما نعرف نحن عن أنفسنا. ومن هذه المقولات مثلاً، أن ضابط الاستخبارات الإسرائيلي «يعرف بلدنا أفضل منا»، وأنه خبير بسلوكنا وتفكيرنا، ويجيد قراءة دواخلنا وتحليل شخصياتنا، ويعلم بمطالبنا وحاجاتنا وطرائق تفكيرنا. أمّا في حالة «المستعمِر المستنير»، «المعلّم اليهودي»، أي رب العمل الإسرائيلي، فهناك مقولات قديمة جديدة تفسَّر وتؤوَّل وتحلَّل من منظور «قال المعلّم اليهودي...»

نشهد مؤخراً عودة إلى هذا الخطاب في الأدوار التي يؤديها «المنسق»97 وغيره من أدوات الاحتلال والسيطرة الاستعماريين الإسرائيليين، من خلال وسائل التواصل الاجتماعي. لقد نجح المستعمِر في غزو المجال الافتراضي، وخصوصاً حيزي فيسبوك وتويتر، عبر بناء جبهة إلكترونية ضخمة، يفوق عدد منصاتها ونوافذها الإلكترونية 800 منصة وقناة وموقع، وتمارس الدبلوماسية الاستعمارية والتطبيعية والقهرية، بأسلوبي الصلافة والوقاحة. وتقوم، من خلال هذه الجبهة، بنية عنف رمزي وعنف إلكتروني، وتمارس الهيمنة والسيطرة الاستعماريين عبر القوة الناعمة، والمساندة للعنف المادي المباشر، والتي تهدف إلى كسر الهوية الفلسطينية وتطبيع الوعي الفلسطيني والوعي العربي، بحيث تظهر العلاقة الإلكترونية – الفيسبوكية كأنها علاقة شبه طبيعية، سواء في منصات «المنسق» المتعددة، أو عبر صفحات ضباط الشاباك الإسرائيلي. فلكل ضابط منطقة صفحة في فيسبوك، مثل صفحة «كابتن وسام أبو أيوب الاستخبارات الإسرائيلية مدينة بيت لحم»، وغيرها.

إلاّ إن خلف هذا الدور الذي تؤديه وحدة «المنسق» في السيطرة، توجد بنية مؤسساتية إبستمولوجية عميقة لإنتاج المعرفة والخبرة الاستعماريتين؛ بنية مؤسسة الاستشراق الإسرائيلي المستمرة منذ عقود. وتضم هيكلية وحدة «المنسق» مستشاراً للشؤون الفلسطينية، وتتبع هذه الوحدة مدرسةٌ تدرب الكوادر على مهمات التنسيق والارتباط، ومهمتها، وفق صفحة «المنسق»: «التنسيق والارتباط وتأهيل الجنود والضباط في وحدة تنسيق أعمال الحكومة في المناطق للقيام بجميع المهمات التي تدخل ضمن إطار التنسيق والارتباط هذين. ويتدرب الجنود والضباط، خلال فترة التعليم والتأهيل في المدرسة، على آليات يكتسبون من خلالها معلومات واسعة، لتلبية جميع مستلزمات السكان في قضايا متعددة. ويتضمن التدريب موضوعات متنوعة: الإسلام؛ المسيحية؛ الوعي الخدماتي؛ اللغتين العربية والإنكليزية؛ تنسيقاً مدنياً والتعارف مع المجتمع الدولي.»98

إن وجود مدرسة للتنسيق والارتباط، تابعة لوحدة «المنسق»، هو استمرار للمعرفة الأنثروبولوجية الاستعمارية، كون هذه المدرسة تؤهل ضباطها لتعلم ثقافة المجتمع الفلسطيني ولغته من أجل فهمه بهدف السيطرة المباشرة عليه. وتشترك مؤسسات أُخرى في هذه المهمة الاستعمارية، مثل المراكز الجماهيرية التابعة لشرطة الاحتلال، ومؤسسات بحثية وأكاديمية كبرامج دراسات الشرق الأوسط في بعض الجامعات الإسرائيلية، والتي تتعاون مع أجهزة الأمن الإسرائيلية وتنسق معها، من خلال تدريس ضباطها بهدف تعميق معارفهم الاستشراقية بالمجتمع الفلسطيني.

ب – أدوات العقاب الجماعي والثورة المضادة

لم تتوقف مقاومة الشعب الفلسطيني ضد الاستعمار الإسرائيلي، منذ الاحتلال سنة 1967، سواء من خلال العمليات الداخلية (كاغتيال العملاء)، أو الخارجية العسكرية، والتي كانت تقوم بها الفصائل الفلسطينية، وتضرب بها أهدافاً صهيونية. وقام أهالي الأراضي المحتلة، إلى جانب تلك المقاومة شبه النظامية والعسكرية، بعمليات فردية وجماعية وبمقاومة شعبية وحربية ضد الاحتلال الإسرائيلي. ومن الأمثلة لتلك المقاومات: مقاومة الشهيد باجس أبو عطوان في منطقة الخليل؛ مقاومة الشهيد شادي درويش في منطقة بيت لحم؛ الإضراب والعصيان ضد ضريبة القيمة المضافة سنة 1976؛ تشكيل خلايا مقاومة متعددة في قطاع غزة؛ هبّة الربيع سنة 1981، وغيرها من أعمال المقاومة التي ساهمت في إطلاق الانتفاضة الفلسطينية الشعبية سنة 1987. وكانت السلطات الإسرائيلية تقوم باستمرار بتطوير أدواتها القمعية والعقابية ضد الفلسطينيين، من خلال العقوبات الجماعية والسجن وهدم المنازل ومنع التجول، وعبر انتهاج سياسة القبضة الحديدية، وغيرها من أشكال السيطرة الإسرائيلية المباشرة، أو إيجاد جهاز سيطرة عميل، مثل روابط القرى، كي يتولى تنفيذ اعتداءات واسعة ضد الفلسطينيين. ونفّذت روابط القرى، في أكثر من حادث، سياسة اغتيالات ضد نشيطين فلسطينيين، ودمرت أملاكاً فلسطينية، بتعليمات وحماية إسرائيلية.

شكلت الانتفاضة الفلسطينية، التي اندلعت سنة 1987، نقطة تحول مركزي في النضال الفلسطيني الجماهيري الشعبي، كونها تصاعدت بعد مرور 20 عاماً على احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة في سنة 1967. وبرز جيل فلسطيني جديد آنذاك (15 – 20 عاماً تقريباً) وُلد بعد الاحتلال، ونما في ظلاله، وتمرد على منظومته، وكانت الانتفاضة وبرنامجها محاولة لتأسيس فكرة الاستقلال الفلسطيني وبلوغ حق تقرير المصير، من خلال انتهاجها عدداً من الأساليب، من المقاومة المتنوعة، مثل العصيان المدني (عدم دفع الضرائب؛ مقاطعة مؤسسات الاحتلال؛ استقالة موظفي الإدارة المدنية الفلسطينيين؛ مقاطعة البضائع الإسرائيلية؛ الإضرابات؛ القرى المحررة وغيرها)، ومقاومة عسكرية محدودة، متجسّدة في مجموعتي «الفهد الأسود» و«النسر الأحمر» في شمال الضفة الغربية، وإلقاء الحجارة والقنابل الحارقة (المولوتوف)، وغيرها من الأدوات التي كانت تهدف إلى إرباك الاحتلال الإسرائيلي، وتعطيل سيطرته على الضفة الغربية وقطاع غزة. وكانت القيادة الموحَّدة للانتفاضة هي الناظم المركزي لسلوكها والمرشد لها.99

انتهجت المنظومة الإسرائيلية سياسات عنيفة جداً في مرحلة ما قبل الانتفاضة وخلالها، من أجل السيطرة على الفلسطينيين، وكسر الانتفاضة وروح المقاومة لديهم. ومن تلك الأدوات والسياسات والأساليب: العصا والجزرة؛ القبضة الحديدية؛ الإبعاد والنفي؛ السجن والاعتقالات الكثيفة؛ هدم المنازل؛ منع دخول أموال الصمود الفلسطيني والتحويلات المالية من الخارج؛ حملة ضرائب وغرامات ومصادرات اقتصادية؛ رقابة مشددة على الطباعة والنشر؛ منع التجول؛ إغلاق المؤسسات التعليمية والمدارس والجامعات؛ وثيقة براءة الذمة، وغيرها من الأدوات التي هدفت إلى تركيع الفلسطينيين وكسر الانتفاضة وتعميق تبعيتهم لمنظومة الحكم الإسرائيلي. كما عمل الاحتلال على إيجاد أدوات ضبط أُخرى، كالشائعات والحرب النفسية، فاستخدم خلال الانتفاضة سلاح البيانات المزورة لإرباك الشعب الفلسطيني والقيادة الموحَّدة لانتفاضته.

استمرت الانتفاضة في التصاعد، والمد والجَزر، حتى عُقد مؤتمر للسلام في مدريد سنة 1991، بمشاركة قيادة منظمة التحرير الفلسطينية والقيادة الإسرائيلية في مسار المفاوضات السرية في العاصمة النرويجية أوسلو. ووُقّعت اتفاقية السلام الفلسطينية – الإسرائيلية برعاية أميركية في البيت الأبيض، وعُرفت باتفاقية أوسلو 1 سنة 1993. وكان جوهر هذه الاتفاقية إقامة حكم ذاتي فلسطيني في قطاع غزة والضفة الغربية، مع انسحاب إسرائيلي بالتدريج من المناطق الفلسطينية. وأُجلت القضايا الرئيسية (القدس؛ الحدود والدولة؛ المستعمرات؛ حق العودة؛ اللاجئون) إلى مفاوضات الحل النهائي. وصعّدت إسرائيل هجمتها الاستعمارية الاستيطانية في الضفة الغربية، خلال الفترة الانتقالية 1993 – 1999، من أجل السيطرة على الأراضي الفلسطينية، عبر تكثيف المستعمرات والشوارع الالتفافية والمرافق الاستعمارية، من أجل ضرب إمكان قيام دولة فلسطينية على أرض الواقع. ووقعت انتفاضات، محدودة الزمان والمكان، خلال هذه الفترة الانتقالية، منها هبّة النفق سنة 1996. وكانت إسرائيل تستغل الانتفاضات والأحداث في كل مرة، وتعلن توسيع المستعمرات كعقاب أو رد على ما تسميه «الاعتداء» الفلسطيني!

ج – السجن داخل السجن: نظام المحاكمات الأمنية والإدارية والأسر

على الرغم من تجذر الهيمنة الناعمة، فإنها لا تنجح تماماً بطبيعة الحال، بل تولّد المقاومة والاختراق والثورة. ويلجأ الاحتلال الإسرائيلي، في مواجهة ذلك، إلى اعتقال الفلسطيني عقابياً (جنائياً)، وردعياً (إدارياً)، بهدف تقويض النضال العادل من أجل الحرية وتجريمه، وتغريم المقاوم الفلسطيني ثمناً إنسانياً باهظاً.

اعتقلت السلطات الإسرائيلية مليون فلسطيني في الفترة 1967 – 2019، بينما استُشهد 221 أسيراً في السجون الإسرائيلية. وبين الأسرى الذين استُشهدوا: 73 استُشهدوا بسبب التعذيب، و63 نتيجة الإهمال الطبي، و7 معتقلين استُشهدوا بسبب القمع وإطلاق النار المباشر عليهم من جنود إسرائيليين، بينما استُشهد 78 أسيراً نتيجة القتل المتعمد والتصفية المباشرة والإعدام الميداني بعد الاعتقال مباشرة.100 ويعيش الأسرى الفلسطينيون في أوضاع صعبة في السجون والمعتقلات الإسرائيلية، وخاضت الحركة الأسيرة الفلسطينية نضالاً طويلاً من أجل تحسن أوضاع الأسرى الفلسطينيين وحياتهم، ونفّذت إضرابات كثيرة عن الطعام لتحقيق مطالبهم. وأدى وهن الحالة السياسية الفلسطينية بعد اتفاقيتي أوسلو، والانقسام الفلسطيني، إلى تحوّل شكل نضال الحركة الأسيرة من نضال جماعي إلى نضال فردي، وتحديداً نموذج الإضراب عن الطعام الفردي من جانب مجموعة من الأسرى المحكومين إدارياً. كذلك عقدت الحركة الوطنية الفلسطينية، قبل اتفاقيتي أوسلو، بعض الصفقات لتحرير الأسرى الفلسطينيين والعرب. وعقدت حركة «حماس»، بعد توقيع اتفاقيتي أوسلو وحدوث الانقسام الفلسطيني، صفقة تبادل أسرى عُرفت باسم «صفقة شاليط». وعلى الرغم من إنجاز صفقات تحرير الأسرى، أو انتهاء محكومية بعضهم، فإن الاحتلال يعود ويعتقل الأسير المحرَّر من جديد، فيبدأ هذا الأسير عملية اعتقال إدارية، تجدَّد كل 3 أشهر أو 6 أشهر.

يشكل الاعتقال الإداري سليلاً مباشراً من الموروث السلطوي الكولونيالي الانتدابي، وتوظّفه إسرائيل على نطاق واسع وممنهج. ويمتد الاعتقال من دون تهمة حتى 6 أشهر قابلة للتجديد، بحيث يُحرم المعتقل ومحاميه معرفة أسباب الاعتقال. ولا يكون هناك، نتيجة هذه الإجراءات، دفاع فعال ومؤثّر من ناحية قانونية أو قضائية. ويتم في الغالب تجديد أمر الحبس الإداري بحق المعتقل عدة مرات.101 ويصدر الأمر عن طريق السلطة التنفيذية، لا السلطة القضائية، وهذا يخلّ بمبدأ المحاكمة العادلة. وبلغ عدد المعتقلين الإداريين في سجون الاحتلال في سنة 2018 نحو 500 معتقل. كما تشبه المحاكمة الإدارية المحاكمة الصوَرية الشكلية، وتجري فيها المداولات بصورة بعيدة عن أصول المحاكمات العادلة. وعلى الرغم من حضور القاضي والمحامي ومدّعٍ عام ومعتقل، فإنه لا تقدَّم لائحة اتهام، ولا تُتاح مساحة كافية للدفاع ومناقشة الشهود، ويقدَّم في المحكمة ملف سري يُمنع المعتقل ومحاميه من الاطلاع عليه. ويبقى قرار تمديد الاعتقال أو إلغائه في المستقبل في يد الاستخبارات الإسرائيلية.102

صعّدت دولة الاحتلال حملات الاعتقالات التعسفية بحق المواطنين الفلسطينيين نهاية سنة 2018. وجرت الاعتقالات من خلال اقتحام قوات الاحتلال المنازل ومداهمتها الليلية لها، وعبر نصب الحواجز العسكرية، والتوغل في مختلف مدن الضفة الغربية وبلداتها، واعتقال الصيادين في عرض البحر، وتعرّض مواطني قطاع غزة للاعتقال خلال مرورهم بمعبر بيت حانون/إيرز. وقد بلغ عدد الأسرى داخل سجون الاحتلال الإسرائيلي 6000 أسير في نهاية سنة 2018، موزعين على 22 سجناً ومعتقلاً ومركز توقيف، وبينهم 250 طفلاً وفتاة قاصرة، و54 امرأة وفتاة، و8 نواب في المجلس التشريعي، و27 صحافياً، و450 معتقلاً إدارياً. شكّل أسرى الضفة الغربية قرابة 87 في المئة من مجموع الأسرى، 8 في المئة منهم من مدينة القدس، و5 في المئة من قطاع غزة. وهناك 48 أسيراً مضى على اعتقالهم أكثر من عشرين عاماً بصورة متواصلة، بينهم 27 أسيراً اعتُقلوا منذ قبل توقيع اتفاقيتي أوسلو.103

د – نظام التصنيفات البيومترية (الذكية): أنواع الهويات والتصاريح وسلب الحقوق104

أوجد نظام الاحتلال مجموعة تصنيفات من أجل التفرقة والتجزئة والتحكم، سياسياً وإدارياً، في السكان في المناطق المحتلة سنة 1967، فمنح سكان القدس الشرقية التي ضُمت إلى نفوذ بلدية القدس، صفة المقيم الدائم بإسرائيل، وسمح لهذه الفئة بالتنقل داخل إسرائيل. أمّا سكان قرى القدس الأُخرى، مثل أبو ديس والعيزرية، فكانوا يحملون الهوية ذات الغلاف البرتقالي، مثل سائر سكان الضفة الغربية، أي أنهم سكان «يهودا والسامرة». وكان بين السكان أشخاص يحملون بطاقة هوية لونها أخضر، وهي للدلالة على أن هؤلاء الأشخاص مقاومون ولديهم ملف أمني لدى الجهات الأمنية الإسرائيلية. أمّا سكان قطاع غزة فحملوا بطاقة الهوية التي لها غلاف أحمر، وكان مكتوباً على غلاف البطاقة الملون والبلاستيكي، والخاص بكل مجموعة سكانية، شعار الجيش الإسرائيلي. وهذا تأكيد مفاده بأن مرجعية الأراضي المحتلة كانت خاضعة للجيش الإسرائيلي، باستثناء المقدسيين حملة الهوية الزرقاء، فمرجعتيهم هي أجهزة وزارة الداخلية الإسرائيلية. أمّا في مرحلة ما بعد أوسلو، فحمل المواطنون، في الضفة الغربية وقطاع غزة وقرى القدس وبلداتها غير التابعة لبلدية القدس (J2)، بطاقات شخصية صادرة عن السلطة الفلسطينية، وذات لون أخضر، بينما كان المقدسيون، الذين لهم صفة المقيم الدائم، يحملون بطاقات شخصية تصدر عن وزارة الداخلية الإسرائيلية، وذات لون أزرق. وما بين اللونين الأزرق والأخضر خلق الاحتلال تراتبيات اجتماعية واقتصادية، وعزز روح الفصل والتفريق، وولّد صوراً نمطية ومتخيَّلة من جانب الفلسطينيين بشأن بعضهم البعض، نتيجة عمليات الفصل وإعادة التصنيف تلك، بحيث بات الفضاء الفلسطيني سجناً كبيراً مجزَّأً ومراقَباً.

عملت إسرائيل دائماً على إيجاد سياسات تمييزية وتصنيفية من خلال لون بطاقة الهوية أو محتوياتها التصنيفية. فأهالي القدس مثلاً، الذين يحملون صفة المقيم الدائم، ولهم بطاقات ذات لون أزرق، لم تُكتب كلمة «إسرائيلي» في بند القومية داخل الهوية، وإنما استُبدلت بها ثماني نجوم (********) في البطاقات الصادرة قبل سنة 2005، وتمت بعدها إزالة بند القومية من بطاقة الهوية للمقدسيين. كما يُمنح الفلسطيني، الذي يحصل على هوية القدس الزرقاء (لمّ الشمل)، رقم هوية يميزه بأنه حصل على الهوية عبر لمّ الشمل، من خلال بدء رقم الهوية برقم (08) كتمييز له من سائر المقدسيين، مكتسبي الهوية من دون لمّ الشمل. ويُكتب بند الجنسية (عربي/عربية)، ولا يُكتب فلسطيني أو أردني، في عقد الزواج الذي يسمّيه أهل القدس «عقد زواج إسرائيلياً»، كونه ينظَّم ويتبع المحاكم الشرعية التابعة لوزارة العدل الإسرائيلية.

أصبح لون البطاقة الشخصية لسكان الضفة الغربية وقطاع غزة ومناطق القدس (J2) أخضر، بعد نشوء السلطة الفلسطينية. ولا يستطيع سكان الضفة الغربية السكن في قطاع غزة، والعكس أيضاً. ويُعتبر أمراً مستحيلاً تغيير العنوان من الضفة إلى غزة، أو العكس، إلاّ في حالات نادرة قد ينجح التغيير فيها. كما أن عنوان السكن في بطاقة الهوية الفلسطينية يتم من خلاله التحكم في الإنسان، فلا يستطيع أحد دخول قرية بيت إكسا شمالي غربي القدس مثلاً، إلاّ الأشخاص الذين كُتب في بطاقات هوياتهم العنوان: بيت إكسا. ويُعتبر رقم بطاقة الهوية الشخصية للفلسطيني، حتى تلك الصادرة بختم السلطة الفلسطينية، هو ذاته رقم ملفه لدى الاستخبارات الإسرائيلية. فالهوية بطاقة تعريف شخصية، لا يمكن للفلسطيني الاستغناء عنها، وخصوصاً في تنقله بين مدن الأرض المحتلة. ولا تستطيع السلطة الفلسطينية، عملياً، أن تمنح أرقام هويات للفلسطينيين العائدين، أو المواليد الجدد، إلاّ بموافقة إسرائيلية، وهذا ما تستغله إسرائيل من أجل تحكمها الديموغرافي، ومنع لمّ الشمل أو رجوع أبناء الشتات إلى وطنهم.

يُعتبر نظام التصاريح أداة للتحكم في عبور سكان الضفة وغزة إلى الخط الأخضر. وتُمنح التصاريح وفقاً لمعايير كثيرة، مثل الجنس والسن والوضع العائلي ومكان الإقامة والمهنة والغرض من الطلب.105 وهناك عدد من الألوان106 والأنواع للتصاريح، تخلق تمايزات وتراتبية داخلية فلسطينية، وتقسّم الفلسطينيين إلى أصناف ليسهل السيطرة عليهم. ووفق المصادر الإسرائيلية، هناك 74 نوعاً من التصاريح،107 بينها: تصاريح الشخصيات المهمة (BMC)؛ تصاريح عمل؛ تصاريح بحث عن عمل؛ تصاريح حاجات خاصة (لقاء عمل، زيارة عائلة، الخروج إلى مستشفى)؛ تصاريح الأعياد والمناسبات الدينية؛ تصريح للمطار؛ تصريح زراعي؛ تصريح تجاري؛ تصريح مع مرور مركبة خاصة لبعض الأطباء والشخصيات، وهذا النوع من التصاريح يطلق عليه الفلسطينيون عادة «تصريح قدس»، لأنه يخوّل حامله دخول القدس من أغلبية الحواجز – المعابر. وهناك نوع آخر من التصاريح، يسمّيه الفلسطينيون «تصريح مستوطنة»، لونه برتقالي غامق، يخوّل حامله، فقط، دخول المستعمرة المسموح له دخولها، وفق ما هو مسجّل في التصريح. وهناك نوع من تصاريح المستعمرات، مثل تصريح مستعمرتي عطروت وبسغات زئيف، يسمح لحامله بالمرور عبر حاجز قلنديا.108

يحمل العامل الفلسطيني، الذي يعمل داخل فلسطين المحتلة سنة 1948، بطاقتين: «التصريح» و«البطاقة الممغنطة» التي هي بطاقة ذكية، مدوَّنة فيها المعلومات الأساسية للعامل الفلسطيني، مثل الاسم الرباعي، رقم الهوية، تاريخ الميلاد، صورة شخصية، العنوان، تاريخ الإصدار وتاريخ انتهاء الصلاحية؛ أي أن البطاقة تحوي بيانات بيومترية شاملة عن صاحبها. وتصبح البطاقة الممغنطة أداة تعريف المواطن أمام كاميرات البوابات الإلكترونية، والتي وُضعت عند الحواجز – المعابر الإسرائيلية، التي أُعيد تأهيلها وفق متطلبات الأمن الجديدة (وهي حواجز قلنديا، قلقيلية، 300 شمالي بيت لحم، وغيرها). تُفتح البوابة لمرور العامل بعد أخذ بصمة عينه. وتوجد مجسات عند أطرافها، تُغلِق تلك البوابات تلقائياً بعد مرور أول شخص، حتى لا يمر شخص آخر عبرها، إلاّ بعد الخضوع لعملية الفحص ذاتها. وهذا النمط من منظومة السيطرة والهيمنة، هو وسيلة تقنية أمنية عنصرية، تعتمد على تقنيات الضبط والعقاب في السجون بامتياز، بحيث لا يرى العامل أو المواطن الفلسطيني الجندي الإسرائيلي الموجود في غرف زجاجية، والذي يراقب حركات كل من هو في محيطه من خلال شاشة وكاميرات.109

أمّا البطاقة الثانية، فهي «تصريح العمل»، ولونه زهري، ليميزه من التصاريح الأُخرى. ويحصل العامل على هذا التصريح إذا كان ملفه الأمني، وفق التصنيف الإسرائيلي، «نظيفاً». و«نظافة» ملفه الأمني تعتمد أيضاً على «نظافة» ملفات أقربائه من الدرجة الأولى، وأقربائه من الدرجتين الثانية والثالثة أحياناً. ويحتاج العامل إلى رب عمل (مقاول، سمسار، شركة، مصنع، إلخ) من أجل إصدار التصريح له. وتبلغ تكلفته من جانب المشغّل مبلغاً لا يتجاوز 700 شيكل في الشهر للعامل الواحد، يدفعها رب العمل إلى مكتب العمل الإسرائيلي. لكن التصريح يُحتسب على العامل بمبلغ يتراوح بين 2000 و2700 شيكل (570 – 770 دولاراً، إذ إن قيمة الدولار تساوي 3,5 شيكلات).110

خلقت منظومة التصاريح والبطاقة الممغنطة والهويات حالة من الهيمنة والحصار الفيزيائيين والجغرافيين. وهذه المنظومة الاستعمارية قائمة على منطق أن الفلسطينيين في سجن كبير. ويمثل التصريح والهوية الزرقاء بطاقة الخروج من السجن ودخوله. أمّا مَن لا يملك تصريحاً أو بطاقة هوية زرقاء، فيبقى داخل السجن الكبير ولا يستطيع دخول القدس، أو أراضي فلسطين المحتلة سنة 1948. كما أن هناك تخوفاً يتملك أهالي القدس من بطاقات الهوية الجديدة الذكية، والتي تصدرها وزارة الداخلية الإسرائيلية للمقدسيين، لأن في إمكانها تحديد مكان عيش – ووجود – المقدسي الذي يعاني أزمة السكن ورقابة سلطة التأمين الوطني الإسرائيلي ووزارة الداخلية وغيرهما من مؤسسات الضبط والرقابة والهيمنة والتحكم.

هـ – السيطرة والملاحقة الأمنية في الحيز الافتراضي

تسيطر المؤسسة الإسرائيلية الرسمية وشركات الاتصالات الإسرائيلية على الحيز الافتراضي الفلسطيني (شبكتا الهاتف والإنترنت وغيرهما). وهناك علاقة قوية بين البنية الأمنية الإسرائيلية والاتصالات الإسرائيلية، وثمة تعاون أمني وتكنولوجي بين الطرفين. وتحتكر إسرائيل إمكانات تشغيل الجيلين الرابع والخامس من الإنترنت في الأراضي الفلسطينية. ونجحت الشركات الفلسطينية، قبل سنوات قليلة جداً، في تشغيل خدمة الجيل الثالث، لكنه يعاني مشكلات كثيرة، أهمها ارتفاع تكلفته بالنسبة إلى المستهلك الفلسطيني. كما تسيطر إسرائيل على هوائيات البث للهاتف المحمول، فحين يتجول الفلسطيني في مناطق (ج)، أو يمر بمنطقة قريبة من مستعمرة، فإنه يتلقى رسالة تخبره بأنه يتجول في منطقة تغطيها شبكة هاتف إسرائيلية. يُضاف إلى ذلك إغراق الشركات الإسرائيلية السوق الفلسطينية بشرائح وخدمات إلكترونية إسرائيلية، بتكلفة أقل من تكلفة الخدمات الهاتفية الفلسطينية، وخصوصاً في مناطق (ج) والمناطق المصنفة ضمن حدود بلدية القدس، مثل كفر عقب ومخيم شعفاط وغيرهما.111

تتابع الأجهزة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية، على نحو كثيف، الحيز الافتراضي الفلسطيني، وتعمل على التفاعل معه ومراقبته عبر منصات يقودها ضباط استخبارات إسرائيليون. وقامت الشرطة الإسرائيلية والجيش الإسرائيلي، في الفترة 2014 – 2017، بحملة اعتقالات كبيرة في صفوف الفلسطينيين، بسبب منشورات أو أغانٍ أو تعليقات على موقع فيسبوك، تتعلق بهبّة القدس/السكاكين آنذاك. وعملت إسرائيل، إلى جانب ذلك كله، عبر علاقاتها بشركة فيسبوك، أو نتيجة ضغوطها المتكررة عليها، على تقييد المحتوى الفلسطيني والرواية الفلسطينية، وحذفهما من المنشورات والتعليقات والصور في الفضاء الأزرق، إلى جانب استهداف حسابات وصفحات لإعلاميين وناشطين وسياسيين وباحثين ومتابعين فلسطينيين وإغلاقها، بسبب نشاطهم في النشر الداعم للقضية الفلسطينية.

و – وسائل التجسس والمراقبة، والإسقاط، والتنسيق الأمني

يتعامل العقل الأمني الإسرائيلي مع الفلسطينيين وفق منطق الخطر الأمني، ويشارك في عملية «الأمننة» (securitization) الإسرائيلية الجيش وأجهزة الأمن والشرطة، وشركات التكنولوجيا والاتصالات، وشركات اقتصادية ربحية، ومقاولون، ومراكز البحث والدراسات، والجامعات وأساتذتها ومخابرها البحثية، وغيرهم؛ أي أن عملية «الأمننة» جزء من بنية التفكير والممارسة الإسرائيليَين تجاه الفلسطينيين، للتعامل معهم كذوات أمنية وتهديدات دائمة.

عملت أجهزة الأمن الإسرائيلية، من أجل إنجاح الرقابة الأمنية على الفلسطينيين، على تجنيد العملاء بصورة كثيفة، وإسقاط عدد من الفلسطينيين، من أجل مراقبة مجتمعهم الفلسطيني وأفراده، ونقل المعلومات والأسماء والصور والخرائط، ورصد مختلف الأهداف التي يكلَّف القيام بها العميل/الجاسوس من جانب ضابط الاستخبارات الإسرائيلي. وأدت ظاهرة العمالة إلى ضرب جزء من النسيج الاجتماعي الفلسطيني، وإثارة الشكوك والخوف على نحو دائم داخل المجتمع الفلسطيني، وترتّب عنها اغتيالات واسعة وكبيرة لكوادر سياسية وحزبية وثقافية وعسكرية فلسطينية، ونشر الشائعات والبلبلة، وخلق طابور خامس من أجل خلخلة المعنويات الفلسطينية. ويُضاف إلى هذا كله، في العقد الأخير، انتشار واسع للكاميرات الذكية وأدوات التجسس الإلكتروني ومراقبة الحيز الافتراضي ووسائل التواصل الاجتماعي.

برز، مع توقيع اتفاقيتي أوسلو، مفهوم «التنسيق الأمني» ضمن بنودهما وبروتوكولاتهما. وهذا المفهوم قائم على التعاون الأمني بين المؤسسات الأمنية الإسرائيلية وأجهزة الأمن الفلسطينية، وعلى تبادل المعلومات بين الطرفين. وبرز التنسيق الأمني، بصورة كثيفة، على السطح وفي الخطاب الفلسطيني، إعلامياً وسياسياً، بعد الانقسام بين حركتي «فتح» و«حماس»، في سياق الصراع على السلطة. وأصبح هناك تبادل للاتهامات بشأنه، وهو يشكل إحدى أكثر القضايا حساسية وقلقاً بالنسبة إلى الفلسطينيين.

ز – العدوان الممنهج على غزة: مثال لسياسات القتل (necro politics)

شنت إسرائيل ثلاث حروب على قطاع غزة في السنوات 2008 و2012 و2014، خلّفت ضحايا ودماراً كبيراً، بشرياً وعمرانياً، وفي البنية التحتية والأراضي الزراعية والصحة النفسية، وغيرها. وهدفت تلك الحروب إلى تدمير أفق الحياة الإنسانية في القطاع، وتكريس تهميشه وحصاره. وتتّبع إسرائيل في ذلك وسائل متعددة و«سياسات قتل» مروّعة (necro politics). وسُجلت انتهاكات ترقى إلى جرائم حرب، في طريقة استهداف المدنيين وكيفيته، من خلال القصف الجوي، وعبر منهجيات أُخرى، مثل قنص المتظاهرين الشبان والفِتية في مناطق حساسة من أجسادهم لإحداث إعاقات دائمة فيها (مثل سياسة استهداف الركبة). وبلغ عدد ضحايا هذه السياسات آلافاً من الشبان الغزيين.112

مثّل العدوان المنهجي ضد غزة شكلاً مكثفاً ومركزاً لسياسة كسر العظام التي انتهجها الاحتلال بقيادة رابين في الانتفاضة الأولى، وكذلك لسياسات العقاب الجماعي وتدمير المنازل والاقتحامات الأمنية التي تأخذ أشكالاً متعددة في جميع المناطق المحتلة في الضفة والقدس، وتستهدف ضرب مقومات العيش والوجود الفلسطينيين، وشعور الفلسطيني بأنه يحيا في أمان في أرضه. كما تأتي هذه
السياسات لتوفر الغطاء لعنف المستوطنين المباشر والمستشري بوتائر مرتفعة ضد الفلسطينيين (انظر: الملحق، الخريطة رقم 5: العنف المتصل بالمستوطنين في الضفة الغربية، كانون الأول/ديسمبر 2018)، بحيث يتم التنكيل بالمزارعين في حقولهم واقتلاع أشجارهم وإحراق مراعيهم تحت عين جيش الاحتلال وبحماية منه. ويتعرّض الأفراد لانتهاكات واعتداءات شرسة في بيوتهم وشوارعهم من دون أن يحظوا إلاّ بأدنى درجات العدالة القضائية من جلاديهم.

وعدا غاية الإخضاع والقمع في سياسة تشويه الجسد الفلسطيني تلك، يهدف العدوان المتكرر على غزة إلى تعميق الانقسام، نفسياً واجتماعياً، بين مجتمع الضفة الغربية ومجتمع قطاع غزة، إذ أصبحت هناك صورة نمطية تعززت بعد الانقسام سنة 2007، وبسبب العدوان المتكرر على القطاع، وفحواها وجود شرخ «طبيعي»، اجتماعياً وسياسياً وطبقياً وجغرافياً، بين أبناء الشعب الواحد. وتعمل الحروب المتكررة والاقتحامات والعدوان اليومي على قطاع غزة، على إفشال أي إمكان فعلي للتوافق والمصالحة الفلسطينيين، والمصالحة المجتمعية، وتقوّض بالتالي فرص النضال الموحَّد من أجل تحقيق العدالة للشعب الفلسطيني.

سابعاً: أسئلة بشأن عوامل ديمومة الاحتلال وزواله

نطرح، في باب الخلاصة، بعض الأفكار المستنتجَة من النقاش الفلسطيني العام والراهن، بشأن عوامل الديمومة للاحتلال، أو عوامل إضعافه ومقاومته، والمرتبطة كلها بأوضاع الفلسطينيين أنفسهم وفاعليتهم.

أ – التبعية الاقتصادية

ما زال الاحتلال الإسرائيلي هو المتحكم في البنية الاقتصادية الفلسطينية بسبب هيمنته على الأرض بصورة أساسية، وتحكمه في الموارد الطبيعية والمياه، والصادرات والواردات، وإغراق السوق الفلسطينية بالسلع والمواد الإسرائيلية، وضعف المنافسة الفلسطينية للمنتَج الإسرائيلي في ظل بروتوكول باريس الاقتصادي. كما نشهد تصاعداً في الممارسات العنيفة للمستعمرين – المستوطنين ضد الفلسطينيين ومَزارعهم النباتية والحيوانية في الضفة الغربية بهدف ضرب بنية الوجود الفلسطيني على الأرض. وتمارس إسرائيل هيمنتها على مصدر الدخل الرئيسي لميزانية السلطة، وهو أموال المقاصّة، بحيث تتحكم في الاقتطاعات، وتأخذ عمولة على الجباية، وتبتز الفلسطينيين في الخصومات، كفاتورة علاج في المستشفيات الإسرائيلية، أو خصم ما يُدفع إلى عائلات الأسرى والشهداء والجرحى، أو خصومات كتعويضات للعملاء الهاربين إلى داخل إسرائيل.

نمت طبقات وشرائح عمالية وتجارية وصناعية وخدماتية فلسطينية مرتبطة بعلاقات تبعية اقتصادية للمشاريع والشركات والتجار الإسرائيليين؛ أي أن التبعية الاقتصادية غير مقتصرة على تبعية الجانب الرسمي الفلسطيني اقتصادياً، وإنما تجاوزت ذلك لتعزيز التبعية عبر شركات واستثمارات وعلاقات بتجار ومتمولين وشركات اقتصادية وتكنولوجية وإنتاجية وصناعية في الضفة الغربية، وأحياناً في قطاع غزة. وراجت في السنوات القليلة الماضية، أو بُعثت من جديد أفكار الانتعاش الاقتصادي، أو السلاح الاقتصادي، أو التنمية من أجل الازدهار، وهي جميعها مداخل أو استمرار لعقلية مشاريع التبعية الاقتصادية لإسرائيل والهيمنة الاقتصادية – السياسية. وعلى الرغم من محاولة الحكومة الفلسطينية الثامنة عشرة الانفكاك عن الاحتلال بالتدريج، والعمل على التنمية بالعناقيد، فإنها واجهت أزمات وعقبات داخلية وخارجية، ذاتية وموضوعية، وضغوطاً إسرائيلية ومن مراكز ضغط فلسطينية وعربية، حالت كلها دون تحقيق نتائج ملموسة أو واضحة حتى نهايات سنة 2020.

تفرض هذه المعطيات على الفلسطيني أسئلة صعبة بشأن آليات الانفكاك الاقتصادي، في ظل فشل البنية السياسية الفلسطينية الراهنة في توفير المخرج، إذ تذهب أصوات نقدية متعددة في المجتمع الفلسطيني، إلى الحديث عن طبيعة الاقتصاد السياسي الفلسطيني، وتبنّيه عقيدة السوق الحرة والانفتاح، وربط النضال من أجل إنهاء الاحتلال والاستعمار الإسرائيليين بإعادة النظر في الفكر والنهج السياسيين الفلسطينيين الرسميين السائدين حالياً.

ب – التفاوض والتنسيق والحالة البينية

إن تعثر خيار المفاوضات ومسار عملية التسوية، ودخول الفلسطينيين نفق الانقسام الداخلي، وعدم قدرتهم على الخروج منه بعد عقد ونصف العقد من الانقسام، أمور جعلت جزءاً كبيراً من الفواعل الفلسطينية المركزية تتكيف وفق الانقسام، وتعيد إنتاجه. وبرز خطاب التخوين سياسياً واجتماعياً وأمنياً، في ظل هذا الوضع الحرج. وعزز حالة من البينية في فلسطين خطاب التنسيق الأمني، واتهام طرفي الانقسام، أحدهما الآخر، بممارسته، سواء التنسيق الأمني المباشر للسلطة في رام الله، أو التنسيق الأمني غير المباشر لسلطة الأمر الواقع في قطاع غزة.

إن غياب التوافق الفلسطيني على أبجديات المشروع الوطني الفلسطيني، وأدوات عمله، أفقد الفلسطينيين أفق التحرك والنضال الرسميين والشعبيين، وفشلت الفواعل المركزية الفلسطينية في تحقيق أهداف فلسطينية حقيقية على أرض الواقع، في ظل أزمة يعيشها طرفا الانقسام الفلسطيني، وغياب وجود إجماع وطني فلسطيني، سواء على المفاوضات، أو على المقاومة الشعبية، أو بشأن الكفاح المسلح، أو المقاطعة الاقتصادية، أو فيما يتعلق بأي مشروع فلسطيني آخر. وتعمقت الحالة الضبابية البينية لفلسطين والفلسطينيين، وأضحت حالة تتأرجح بين اللاحرب واللاسلم.

ج – البحث عن العمق الاستراتيجي المفقود، داخلياً وخارجياً

من الواضح أن هناك مجموعة من العوامل الضرورية لتحقيق نضال فلسطيني فاعل وحاسم، ومنها: جماعية النضال الفلسطيني لكل الفلسطينيين، وفي كل الجغرافيات في فلسطين والشتات؛ طوعية النضال الفلسطيني، بمعنى اقتناع الفلسطيني بالنضال ومشاركته الحرة فيه، ومشاركة طبقات وشرائح واسعة من الفلسطينيين في النضال الطوعي والجماهيري على نحو تراكمي ونوعي؛ علنية النضال الفلسطيني الشعبي، من خلال إعادة تجديد الحركة الوطنية الفلسطينية والحركة الجماهيرية الفلسطينية؛ الجمع بين مختلف أدوات النضال وشروطها وإمكاناتها وأوضاعها، فلكل موقع فلسطيني وجغرافيا فلسطينية أوضاعه الموضوعية والذاتية، والتي تحتم عليه أسلوبه النضالي، بناء على تقديرات الفواعل المركزية والأطر النضالية في كل جغرافيا.

يُعتبر من البديهي القول إن نقطة التحول في النضال الفلسطيني تبدأ من فلسطين ومن نضال الفلسطينيين على الأرض، سواء بالكفاح المسلح، أو بالمقاطعة والعصيان المدني، أو عبر المقاومة الشعبية، في جميع أشكالها. ومن غير الممكن التضامن، عربياً وإقليمياً وإسلامياً وعالمياً، مع القضية الفلسطينية، من دون التحرك الفلسطيني على أرض الواقع وتحقيق الوحدة الوطنية الفلسطينية الميدانية، وليس فقط المؤسساتية، وطبعاً ليس المصالحة الشكلية. ففي إمكان النضال الفلسطيني المستمر والتراكمي، والتقشف، والنضال الجماعي والجماهيري، بدعم ومساندة ومشاركة من الفواعل المركزية الفلسطينية، كالسلطة ومنظمة التحرير والفصائل الفلسطينية والمؤسسات الجماهيرية بعد إعادة إحيائها، أن تدفع النضال الفلسطيني حتى الذروة. إن الاحتلال الإسرائيلي الراهن للضفة الغربية وقطاع غزة غير مكلف، بل مربح. ومن الصعب تخيل الرضوخ الإسرائيلي والانسحاب من الأراضي الفلسطينية المحتلة سنة 1967، من دون كسر هذه المعادلة.

الملاحق

الخريطة رقم 1: الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقية سنة 2019

الخريطة رقم 2: المنطقة المتضررة من الاستيطان في الخليل

الخريطة رقم 3: قيود الوصول إلى الضفة الغربية

 

الخريطة رقم 4: قيود الوصول إلى قطاع غزة

الخريطة رقم 5: العنف المتصل بالمستوطنين في الضفة الغربية، كانون الأول/ديسمبر 2018

 

المصادر:

1 أشارت هنيدة غانم إلى أن منظومة الحكم الهجينة الإسرائيلية متعددة، ومتداخلة بين الاستعمار الاستيطاني والأبارتهايد والاحتلال العسكري. وهذا الأمر أوجد واقعاً متشابكاً في فلسطين، تتقاطع فيه أنساق إدارية تنظَّم وفق مبدأ الفوقية القومية اليهودية والسيادة الحصرية على المكان والسكان. انظر: هنيدة غانم، «التأطير المركّب لنظام هجين: جدلية الاستعمار الاستيطاني والاحتلال والأبارتهايد في فلسطين»، في: هنيدة غانم وعازر دكور (إعداد وتحرير)، «إسرائيل والأبارتهايد: دراسات مقارنة» (رام الله: مدار، المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية، 2018)، ص 31.

2 في الأدبيات الإسرائيلية، انظر بصورة خاصة:

Tom Segev1967: Israelthe Warand the Year that Transformed the Middle East (New YorkMetropolitan Books, 2007).

3 انظر: وليد الخالدي (محرر)، «كي لا ننسى: قرى فلسطين التي دمرتها إسرائيل سنة 1948 وأسماء شهدائها» (بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 1997)؛ إيلان بابه، «التطهير العرقي في فلسطين»، ترجمة أحمد خليفة (بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، ط5، 2012)؛ يائير أورون، «المحرقة، (الانبعاث)، النكبة»، ترجمة أسعد زعبي (رام الله: مدار، المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية، 2015).

4 عن الحكم العسكري في إسرائيل، انظر: عادل مناع، «نكبة وبقاء: حكايات فلسطينيين ظلوا في حيفا والجليل، 1948 – 1956» (بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2016).

5 «مؤتمرات القمة العربية: قراراتها وبياناتها، 1946 – 1985»، إعداد مكتب الأمين العام، مركز التوثيق والمعلومات (تونس: جامعة الدول العربية، الأمانة العامة، 1987)، ص 46 – 47.

6 انظر: يزيد صايغ، «الكفاح المسلح والبحث عن الدولة: الحركة الوطنية الفلسطينية، 1949 – 1993»، ترجمة باسل سرحان (بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2002).

7 داود تلحمي، «الفكرة والدولة: صراع الحضور الفلسطيني في زمن الانتكاسات» (بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2017)، الجزء الأول، ص 366.

8 انظر: ساجي خليل، «الحركة الجماهيرية في الأراضي المحتلة، 1967 – 1987»، «الفكر الديمقراطي»، العدد 2 (1988)؛ ليزا تراكي، «قبل الطوفان: تطور الوعي السياسي في المناطق المحتلة تمهيداً للانتفاضة، 1967 – 1987»، «آفاق فلسطينية: مجلة أبحاث جامعة بيرزيت»، العدد 5 (صيف 1990). لمطالعة وجهة النظر الإسرائيلية عن الانتفاضة، انظر: زئيف شيف، إيهود يعاري، «انتفاضة»، ترجمة ديفيد سيغف (القدس وتل أبيب: دار شوكن للنشر، 1990)؛

Zeev Schiff, Ehud Yaari, Intifada: The Palestinian Uprising – Israel’s Third Front (New York: Simon and Schuster, 1990)؛

آرييه شاليف، «الانتفاضة: أسباب.. خصائص.. انعكاسات»، ترجمة عليان الهندي (القدس: جمعية الدراسات العربية، 1993).

9 انظر: أحمد قريع (أبو علاء)، «الرواية الفلسطينية الكاملة للمفاوضات، من أوسلو إلى خريطة الطريق: (1) مفاوضات أوسلو 1993» (بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2005)؛ ليف غرينبرغ، «سلام متخيّل حول الخطاب والحدود، السياسة والعنف»، ترجمة جواد الجعبري (رام الله: مدار، المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية، 2007).

10 طارق دعنا، «مدخل لفهم الاقتصاد السياسي للأراضي الفلسطينية المحتلة»، «عمران للعلوم الاجتماعية»، العدد 30، المجلد 8 (2019)، ص 70.

11 انظر، أنطوان شلحت، «بنيامين نتنياهو: عقيدة اللاحل» (رام الله: مدار، المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية، 2015).

12 «مبادرة السلام العربية التي أقرها مؤتمر القمة العربية في بيروت»، «مجلة الدراسات الفلسطينية»، العدد 51 (صيف 2002)، ص 187.

13 لمزيد، انظر: أرون يفتاحئيل، «الإثنوقراطية: سياسات الأرض والهوية في إسرائيل/فلسطين»، ترجمة سلافة حجاوي (رام الله: مدار، المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية، 2012)؛ أرئيلا أزولاي وعدي أوفير، «نظام ليس واحداً: الاحتلال والديمقراطية بين البحر والنهر»، ترجمة نبيل الصالح (رام الله: مدار، المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية، 2012).

14 بشأن خطة ألون، انظر: «الموسوعة الفلسطينية»، القسم العام، المجلد الأول (أ – ث) (دمشق: هيئة الموسوعة الفلسطينية، 1984)، ص 29 – 30.

15 بشأن الأزمة الاقتصادية الإسرائيلية في عقد الثمانينيات، انظر: فضل النقيب، «الاقتصاد الإسرائيلي في إطار المشروع الصهيوني: دراسة تحليلية» (بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 1995).

16 مركز أبحاث الأراضي، «أوسلو: اتفاقية سلام أم خدعة صهيونية؟»، بيان صادر عن مركز أبحاث الأراضي في الذكرى الخامسة والعشرين لتوقيع اتفاقية أوسلو. استُرجع بتاريخ 11/10/2020.

17 وفق الإحصاء الفلسطيني، تشمل منطقة J1 «ذلك الجزء من محافظة القدس والذي ضمه الاحتلال الاسرائيلي إليه عنوة بعيد احتلاله الضفة الغربية سنة 1967. وتضم منطقة J1 تجمعات (كفر عقب، بيت حنينا، مخيم شعفاط، شعفاط، العيسوية، شيخ جراح، وادي الجوز، باب الساهرة، الصوانة، الطور (جبل الزيتون)، القدس (بيت المقدس)، الشياح، راس العمود، سلوان، الثوري، جبل المكبر، السواحرة الغربية، بيت صفافا، شرفات، صور باهر، أم طوبا)». انظر: الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، «المستعمرات الإسرائيلية في فلسطين؛ التقرير الإحصائي السنوي، 2019» (رام الله: الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني)، ص 19.

 

18 أمّا منطقة J2 «فتضم تجمعات (رافات، مخماس، مخيم قلنديا، قلنديا، بيت دقو، جبع، الجديرة، الرام وضاحية البريد، بيت عنان، الجيب، بير نبالا، بيت إجزا، القبيبة، خرائب أم اللحم، بدو، النبي صموئيل، حزما، بيت حنينا البلد، قطنة، بيت سوريك، بيت إكسا، عناتا، الكعابنة (تجمُّع بدوي)، الزعيم، العيزرية، أبو دِيس، عرب الجهالين (سلامات)، السواحرة الشرقية، الشيخ سعد)»، أي خارج حدود دولة إسرائيل، وخارج نفوذ بلدية القدس الكبرى. المصدر نفسه، ص 19.

19 المصدر نفسه، ص 21، 47.

20 مجلس «يشع» (اختصار ليهودا وشومرون وغزة) يمثل المستوطنين في الضفة الغربية، باستثناء ذلك الجزء من محافظة القدس، والذي ضمه الاحتلال الإسرائيلي إليه عنوة بعيد احتلاله الضفة الغربية سنة 1967. وتتبع هذا المجلس عدة سلطات محلية، تسمى مجالس إقليمية.

21 المصدر نفسه.

22 المصدر نفسه،ص 21.

23 https://www.cbs.gov.il/he/publications/doclib/2020/2.shnatonpopulation/st02_07x.pdf

24 الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، «المستعمرات الإسرائيلية في فلسطين...»، مصدر سبق ذكره، ص 22.

25 المصدر نفسه، ص 21، 47 – 50.

26 المصدر نفسه، ص 24، 55.

27 المصدر نفسه، ص 27، 61 – 62.

28 المصدر نفسه، ص 31 – 35.

29 المصدر نفسه، ص 67.

30 بتسيلم، «القدس الشرقية»، استُرجع بتاريخ 22/7/2019.

31 الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، «المستعمرات الإسرائيلية في فلسطين...»، مصدر سبق ذكره، ص 61 – 62.

32 غريغوري خليل، «السياسات الإسرائيلية في الأراضي المحتلة»، في: كميل منصور (رئيس التحرير)، «دليل إسرائيل العام، 2011» (بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2011)، ص 693.

33 المرصد، المركز العربي لحقوق الإنسان في الجولان، «الجولان تحت الاحتلال: خلفية عامة».

34 AL–marsad, «Israeli Agricultural Settlement Expansion in the Occupied Syrian Golan During the Syrian Conflict,».

35 خليل، مصدر سبق ذكره، ص 673.

 

36 أرئيلا أزولاي وعدي أوفير، «نظام العنف»، في: ساري حنفي وآخرون (محررون)، «سلطة الإقصاء الشامل: تشريح الحكم الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلة» (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2012)، ص 126 – 127.

37 أوتشا، «المنطقة (ج): المخاوف الإنسانية الرئيسية»، استرجع بتاريخ 22/7/2019.

38 لمزيد بشأن مشكلة التخطيط العمراني، انظر في هذا الكتاب فصل راسم خمايسي، «الأرض والتخطيط والعمران».

39 Shlomi Swisa, «Hebron, Area H–2 Settlements Cause Mass Departure of Palestinians,» B’Tselem, 2003, p. 5.

40 عليان الهندي، «مشاريع الاستيطان وتأثيرها في تشكيل مستقبل الضفة الغربية»، «شؤون فلسطينية»، العددان 249 – 250 (صيف/خريف 2012)، ص 164.

41 قسم مراقبة الانتهاكات الإسرائيلية في مركز أبحاث الأراضي، «الانتهاكات الإسرائيلية للحقوق الفلسطينية في الأرض والسكن: التقرير السنوي لعام 2014» (القدس: جمعية الدراسات العربية، 2015)، ص 105.

42 مركز رؤية للتنمية السياسية، «صورة توضيحية»، (استُرجع بتاريخ 9/7/2020).

43 قسم مراقبة الانتهاكات الإسرائيلية في مركز أبحاث الأراضي، مصدر سبق ذكره.

44 «الانتهاكات الإسرائيلية للحقوق الفلسطينية في الأرض والسكن: التقرير السنوي لعام 2019» (القدس: جمعية الدراسات العربية، 2020)، ص 66.

46 Ibid., pp. 66–68.

47 خليل، مصدر سبق ذكره، ص 685.

48 المصدر نفسه.

49 «الانتهاكات الإسرائيلية للحقوق الفلسطينية في الأرض والسكن: 2019...»، مصدر سبق ذكره، ص 68.

50 موقع وزارة الخارجية الإسرائيلية، «معابر ومعابر حدودية في إسرائيل»، استُرجع بتاريخ 12/10/2020.

51 المصدر نفسه.

52 الأمم المتحدة، «موجز الأحكام والفتاوى والأوامر الصادرة عن محكمة العدل الدولية 2003 – 2007» (نيويورك: الأمم المتحدة، 2011)، ص 59 – 60.

53 بلال ظاهر، مقابلة خاصة مع الباحث في شؤون الاستيطان درور إتكيس، «مشروع نهب الأراضي في الضفة الغربية يُنفّذ من خلال قناتين رسمية وغير رسمية»، «قضايا إسرائيلية»، العدد 58 (2015)، ص 110.

 

54 خليل، مصدر سبق ذكره، ص 661 – 662.

55 المصدر نفسه.

56 المصدر نفسه.

57 رجا شحادة، «قانون المحتل: إسرائيل والضفة الغربية»، ترجمة محمود زايد (بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 1990)، ص 207.

58 المصدر نفسه.

59 المصدر نفسه، ص 91 – 92.

60 بتسيلم، «المحاكم العسكرية»، 11 تشرين الثاني/نوفمبر 2017.

61 المصدر نفسه.

62 المصدر نفسه.

63 المصدر نفسه.

64 أحمد عز الدين أسعد، «صناعة التبعية: الهيمنة الاستعمارية الاسرائيلية (1967 – 1993) ومحاولات الانفكاك عنها»، «شؤون فلسطينية»، العددان 278 – 279 (شتاء 2019 وربيع 2020)، ص 49.

65 أحمد عز الدين أسعد، «العمال وكورونا.. مختبراً للاستعمار الاستيطاني الاستغلالي الإسرائيلي»، «شؤون فلسطينية»، العدد 290 (صيف 2020)، ص 123.

66 الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، «الواقع العمالي في فلسطين بمناسبة اليوم العالمي للعمال 01/05/2020»، 30/4/2020.

67 الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، «مسح القوى العاملة الفلسطينية: التقرير السنوي، 2019» (رام الله: الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، 2020)، ص 75.

 

68 لمزيد عن التحولات والتغيرات في العمالة الفلسطينية في إسرائيل والمستعمرات، انظر: ليلى فرسخ، «العمالة الفلسطينية في إسرائيل ومشروع الدولة الفلسطينية، 1967 – 2007»، ترجمة سام برنر (رام الله، بيروت: مواطن، المؤسسة الفلسطينية لدراسة الديمقراطية، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2010)؛

Andrew Ross, STONE MEN: The Palestinians Who Built Israel (New York: Verso, 2019).

69 لمزيد عن أرق العامل وعائلته والخوف على التصريح، انظر: بسام الجرباوي (إخراج)، «المعبر» checkpoint (فيلم 26 دقيقة) (رام الله: مشروع الثقافة والفنون والمشاركة المجتمعية، برنامج البحث والتطوير التربوي، مؤسسة عبد المحسن القطان، 2016).

70 انظر: أحمد عز الدين أسعد، «من وحي الحياة اليومية للعامل الفلسطيني: ملاحظات أولية عن الاغتراب»، «شؤون فلسطينية»، العددان 275 – 276 (ربيع وصيف 2019).

71 لمطالعة الوثيقة، انظر: مقر السلامة في فرع البناء، «ورقة موقف بشأن حماية عمال البناء من فايروس كورونا – مقر سلامة الفروع» (مقدمة للنائبة عايدة توما رئيسة اللجنة الخاصة لشؤون الرفاه والعمل)، 30 آذار/مارس 2020 (بالعبرية).

72 انظرتقرير منظمة بتسيلم.

73 هالة الشعيبي، «بروتوكول باريس الاقتصادي: مراجعة الواقع التطبيقي» (رام الله: ماس، معهد أبحاث السياسات الاقتصادية الفلسطيني، 2013)، ص 1.

74 المصدر نفسه، ص 1 – 6.

75 «إحصاءات التجارة الخارجية المرصودة: السلع والخدمات، 2018: نتائج أساسية» (رام الله: الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، 2019)، ص 39 – 47.

76 غادي ألغازي، «شركة ماتركس في بلعين: الرأسمالية الإسرائيلية في الأراضي المحتلة»، في: ساري حنفي وآخرون (محررون)، «سلطة الإقصاء الشامل: تشريح الحكم الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلة» (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2012)، ص 632 – 633.

77 انظر: تقريراً خاصاً لصحيفة «العربي» عن صناعة الملابس والأحذية لمصلحة جيش الاحتلال.

78 بشأن هذه الظاهرة، انظربياناً لحركة مقاطعة إسرائيل.

79 وسيم غنطوس وجيسيكا بنزوني، «تواطؤ الشركات في انتهاكات القانون الدولي في فلسطين» (بيت لحم: بديل، المركز الفلسطيني لمصادر حقوق المواطنة واللاجئين، 2015)، ص 15 – 16.

82 عميد صعابنة، «التحولات في العمق في المجتمع الإسرائيلي: تغييرات في خريطة التقسيمات الاجتماعية – السياسية»، في: جميل هلال وآخرون (محررون)، «مراجعة السياسات الإسرائيلية تجاه القضية الفلسطينية» (بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2017)، ص 140 – 141.

 

83 أمل جمال، «شرعية الاستيطان في العقلية الأيديولوجية والسياسية الإسرائيلية وانعكاساتها المعيارية والاستراتيجية»، في: جميل هلال وآخرون (محررون)، «مراجعة السياسات الإسرائيلية تجاه القضية الفلسطينية» (بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2017)، ص 152 – 153.

84 المصدر نفسه، ص 158 – 172.

85 المصدر نفسه، ص 179.

86 لمزيد عن المشاريع الاستعمارية وآلية عمل الاستيطان، انظر: إيال وايزمان، «أرض جوفاء: الهندسة المعمارية للاحتلال الإسرائيلي»، ترجمة باسل وطفة (بيروت، القاهرة: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، مدارات للأبحاث والنشر، 2017).

87 انظر فصل القانون، لأسامة حلبي وموسى أبو رمضان، في هذا الكتاب.

88 إمطانس شحادة وحسام جريس، «دولة رفاه المستوطنين: الاقتصاد السياسي للمستوطنات» (رام الله: مدار، المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية، 2013)، ص 31 – 32.

89 أمل جمال، «الفكر الصهيوني في متاهات التجديد والتحديث: جدلية التناقضات الداخلية وانعكاساتها العملية» (بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2016)، ص 50 – 51.

90 جوني منصور، «إسرائيل والاستيطان: الثابت والمتحول في مواقف الحكومات والأحزاب والرأي العام، 1967 – 2013» (رام الله: مدار، المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية، 2014)، ص 88 – 89.

91 برهوم جرايسي، «الخارطة السياسية في مستعمرات الضفة الغربية: انتخابات الكنيست 2013 و2015»، «سلسلة أوراق إسرائيلية 67» (رام الله: مدار، المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية، 2015)، ص 37.

92 رائف زريق، «سيناريوهات محتملة»، في: جميل هلال وآخرون (محررون)، «مراجعة السياسات الإسرائيلية تجاه القضية الفلسطينية» (بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2017)، ص 376 – 380.

93 المصدر نفسه، ص 380 – 382.

94 Edo Konrad, «The Israeli Academics Who Helped Design Palestinian Emigration,» June 18, 2019. 

استُرجع بتاريخ 15/7/2019.

95 Ibid.

96 Neve Gordon, Israel’s Occupation (Berkeley: University of California Press, 2008), p. 212.

97 كنية «المنسق» هذه تأتي من «المنسق: وحدة تنسيق أعمال الحكومة في المناطق»، وهي الجهة المخولة تطبيق سياسة الحكومة في الضفة الغربية «يهودا والسامرة» وقطاع غزة. وتتبع هذه الوحدة وزير الحرب الإسرائيلي، ويترأسها المنسق، وهو برتبة ميجر جنرال وعضو في هيئة الأركان التابعة للجيش الإسرائيلي.

98 صفحة إلكترونية: وحدة تنسيق أعمال الحكومة في المناطق.

99 لمزيد عن الانتفاضة، انظر: روجر هيكوك وعلاء جرادات (تقديم وتحرير)، «انتفاضة 1987: تحول شعب» (بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2020).

 

100 «الاحتلال يعتقل مليون فلسطيني منذ عام 1967»، 14/4/2019، عرب 48.

101 لمزيد عن الاعتقال الإداري، انظر: عبد الرازق فراج، «الاعتقال الإداري في فلسطين كجزء من المنظومة الاستعمارية: الجهاز القضائي في خدمة الأمن العام» (بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2020).

 

102 «تقرير انتهاكات حقوق الأسيرات والأسرى في سجون الاحتلال، 2018» (رام الله: مؤسسة الضمير لرعاية الأسير وحقوق الإنسان، 2019)، ص 34.

103 «وضع حقوق الإنسان في فلسطين: التقرير السنوي الرابع والعشرون، 2018» (رام الله: الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان – ديوان المظالم، 2018)، ص 18 – 19.

104 للتوسع في هذا الموضوع، انظر: أسامة حلبي، «الفلسطينيون تحت السيطرة الإسرائيلية: ترصد ومراقبة وتضييق حدود الحراك المتاح»، في: جميل هلال ومنير فخر الدين وخالد فراج (محررون)، «مراجعة السياسات الإٍسرائيلية تجاه القضية الفلسطينية» (بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2017)، ص 221 – 254؛ خليل هندي، تعقيب على ورقة «الفلسطينيون تحت السيطرة»، في: المصدر نفسه، ص 257 – 264.

105 خليل، مصدر سبق ذكره، ص 688.

106 بشأن ألوان التصاريح، لقد تغيرت أكثر من مرة، وبأكثر من لون، بحسب ما أفاد به مدير مديرية الارتباط المدني الفلسطيني في محافظة بيت لحم.

107 موقع وزارة الخارجية الإسرائيلية. استُرجع بتاريخ 13/12/2020.

 https://bit.ly/3nhGJcG

108 لمزيد بشأن هذا الموضوع، انظر:

Yael Berda, Living Emergency: Israel’s Permit Regime in the Occupied West Bank (Stanford: Stanford University Press, 2017).

109 أسعد، «من وحي الحياة اليومية...»، مصدر سبق ذكره، ص 157 – 158.

110 المصدر نفسه، ص 158.

112 عن استهداف ركب المتظاهرين، انظر: «52 رُكبة في يوم واحد.. قناصة الاحتلال يتباهون بإصابة المتظاهرين وإعاقتهم في غزة»، «وكالة وطن للأنباء»، 20/9/2020.

بشأن ظهور هذه السياسات في حالة وباء كورونا، انظر: غسان أبو ستة، «الڤيروس والمستوطِن والحصار: غزة في زمن كورونا»، «مجلة الدراسات الفلسطينية»، العدد 123 (صيف 2020)، ص 109 – 134. وقد صدر بالإنكليزية بعنوان:

«The virus, the Settler, and the Siege: Gaza in the Age of Corona,» Journal of Palestine Studies, vol. XLIX, no. 4 (Summer 2020).

ABOUT THE AUTHOR

Ahmad Ezzeddin As'ad is a scholar of Arab and Israel Studies.

Munir Fakher Eldin is Director of the MA Program in Israel Studies and Assistant Professor in the Department of Philosophy and Cultural Studies at Birzeit University. He is also a Research Fellow at the Institute for Palestine Studies.