Israel and American and World Jewry

لم تنفك أقلام الباحثين والمعنيين بالشأن الإسرائيلي عن تحليل الانعكاسات والتداعيات لإقرار «قانون القومية»، منذ سنّه الكنيست الإسرائيلي في تموز/يوليو 2018. وهو القانون الذي يعطي اليهود (بصفتهم شعباً) حقاً قومياً حصرياً في فلسطين،1 الأمر الذي يشكّل الترجمة القانونية – الدستورية لوعد بلفور منذ أكثر من قرن. وإذا كانت أغلبية التحليلات تركّز على الجانب السياسي المتعلق بانعكاسات القانون على مصير حق العودة، أو على تداعياته على الفلسطينيين، مواطني دولة إسرائيل، فإن ثمة جانباً يستدرج التفكير فيما يعكسه هذا القانون من تثبيت لفكرة وحدة المصير بين اليهود في العالم من جهة، وفي إسرائيل من جهة أُخرى. فالقانون يؤكد، في بنده الخامس، والمعنون «كيبوتس جاليوت»،2 أو «تجميع الشتات»، أن إسرائيل «بيت قومي» مفتوح ليجتمع فيه اليهود الموزعون حول العالم.

يأتي هذا التأكيد في ظل ازدياد التقديرات التي ترجّح أفول مركزية يهود العالم في الكينونة الإسرائيلية، وحياتها سياسياً واقتصادياً، وخصوصاً إزاء اختلاف التوازن الديموغرافي بين الطرفين، بحيث إن اليهود في إسرائيل يشكّلون اليوم 45 في المئة من كل اليهود في العالم، في مقابل تشكيلهم 6 في المئة عشية إقامة الدولة العبرية.3 بيد أن قانون القومية، وقبله قانون المواطنة وقانون العودة الإسرائيليان؛ هذه القوانين الثلاثة تؤكد وتثبّت حقيقة عابرة، أي معطى ديموغرافي، وفحواها أن الدولة العبرية تعبّر، في جوهرها وكينونتها، عن «حلم اليهود القومي» في العالم كافة. وبالتالي، لا يمكن لقراءة إسرائيل أن تستقيم من دون فهم هذه العلاقة، والكشف عن المستويات التي تؤثّر فيها، سياسياً، أو اقتصادياً، أو روحياً، ونمط كل مستوى منها. سنحاول، في هذه المقالة، أن نميط اللثام عن هذه المستويات، من خلال تتبّع العلاقة بين إسرائيل ويهود الولايات المتحدة الأميركية تحديداً، وما يسمّيه البحث الحالي «مصادر القوة المشتركة» في المستويات السياسية والاجتماعية – الثقافية والاقتصادية، خلال العقد الأخير، وما تُنتجه من تحالفات وتصدعات في مناحٍ أُخرى. وستقسَّم هذه المقالة خمسة أقسام مركزية، في محاولة تتبّع ما يلف هذه العلاقة من ثابت ومتحوّل، في النمط والجوهر. وهذه الأقسام هي: الإطار المفاهيمي لمسألة يهود العالم وعلاقتهم بإسرائيل؛ مشهد العلاقات السياسية وبناء ما نسميه «رأس المال السياسي المشترك»؛ التركيز على ما يلف هذه العلاقة من تناقضات وتحديات ومعضلات إزاء التقارب الرسمي الإسرائيلي مع اليمين الشعبوي العالمي؛ ترسيخ مفهوم جديد لمعاداة السامية؛ التشديد على العلاقة بيهود الولايات المتحدة. ويحاول القسم الرابع تقفّي أثر مصادر القوة المشتركة، اجتماعياً وثقافياً، بين إسرائيل ويهود العالم. أمّا القسم الأخير فيركّز على تتبّع أنماط هذه العلاقة، اقتصادياً ومادياً، في العقد الأخير.

تتطرق هذه المقالة إلى مسألة العلاقة بيهود الولايات المتحدة الأميركية، إلاّ إنها تبحث أيضاً في العلاقة بمجتمعات يهودية في مناطق أُخرى خارج الولايات المتحدة، انطلاقاً من أن ثمة تقاطعات بين هذين المستويين. ويأتي التركيز على يهود الولايات المتحدة، بسبب ما لهذه الشريحة من مكانة وثقل، أكثر من غيرها، في الحياة الإسرائيلية سياسياً واقتصادياً، فضلاً عن أنها تشكّل أكثر من 70 في المئة من اليهود حول العالم (لا يشمل إسرائيل)، وما يقارب 39 في المئة من يهود العالم (يشمل إسرائيل).4

القسم الأول: يهود العالم أو «يهود الشتات» إسرائيلياً: تقديم وتأطير

على الرغم من أن الدولة الإسرائيلية تقدّم نفسها (تاريخياً وقانونياً وممارسة) على أنها «البيت القومي للشعب اليهودي»، فإن أغلبية اليهود (55 في المئة) (من حيث الديانة) لا تزال تعيش خارج الدولة الإسرائيلية. ووفقاً لأحدث المعطيات، فإن نحو 14,7 مليون يهودي، حتى نهاية سنة 2018 وبداية سنة 2019، يتوزعون بين إسرائيل وخارجها على النحو التالي:56

الدولة

عدد اليهود

نسبتهم إلى مجمل اليهود حول العالم

إسرائيل

6,7 ملايين

45,5 في المئة

الولايات المتحدة الأميركية

5,7 ملايين6

38,5 في المئة

فرنسا

453 ألفاً

3 في المئة

كندا

391 ألفاً

2,6 في المئة

بريطانيا

290 ألفاً

1,9 في المئة

الأرجنتين

180 ألفاً

1,2 في المئة

روسيا

172 ألفاً

1,1 في المئة

سائر الدول

862 ألفاً

6 في المئة

 

الشتات: إطار مفاهيمي للمصطلح ونشأته إسرائيلياً

شكلت العلاقة بين الدولة الإسرائيلية واليهود حول العالم، منذ بداية الاستيطان الصهيوني في فلسطين، محوراً أساسياً في المشهد الإسرائيلي، وجزءاً أساسياً من الجدل داخل الحركة الصهيونية والمجتمع الإسرائيلي لاحقاً. وربما كان استخدام مصطلح «يهود الشتات» («يهدوت هتفوتسوت»/Diaspora)، خير دليل على أهمية هذه العلاقة، إذ إن هذا المصطلح، كما يقول تشارلز ليبمان، لا يشكل علاقة بين مهاجرين ودولة، وإنما يجسّد كيانية شعب خارج وطنه.7 ويميّز وليم سافران بين «الشتات» والهجرة، من خلال ست ميزات: يشمل الشتات جماعة ترتبط بذاكرة جماعية تجاه أرض موطنها، وترى في هذا الموطن بيتها الأصلي الذي ستعود إليه من دون شك. وتتحمّل الجماعة مسؤولية تطوير هذا البيت ودعمه، وتتعامل معه كمركّب أساسي في هويتها.8

ليست المسألة اليهودية، أو إسرائيل، حقلاً حصرياً للبحث في مسألة «الشتات»، بل باتت موضوعاً مركزياً في كثير من الدول، وخصوصاً في الحقبة الأخيرة. كما أن تغيراً عالمياً بات يميز موقف الدول من مواطنيها أو أبنائها خارج حدود الدولة. فإن شاب، في الماضي، التشكيك في النظرة إليهم، حتى وصم «الخيانة» أحياناً، فقد نجد، في الآونة الأخيرة، توجهاً إيجابياً من جانب الدول الأُم نحو مجموعات الشتات، ويتم التعبير عنه من خلال توفير الدعم لهم وتوطيد العلاقة بهم.9

يحمل الجدل والنقاش بشأن مفهوم «الشتات»، إسرائيلياً، أبعاداً أكثر تركيباً. ويعود ذلك إلى عدة أسباب، أبرزها: أولاً، كان انتشار اليهود حول العالم سابقاً يشمل بقاعاً ودولاً متعددة، وعُرّف كشتات فقط بعد أن تكونت الكيانية الصهيونية، ثم الدولة عبر استعمار فلسطين، لا العكس؛10 ثانياً، إن مفهوم الدولة الأُم والرعايا في الشتات مركّب في حالة الصهيونية، ويشوبه تناقض بنيوي أساسي، ينشأ من فكرة مفادها بأن الصهيونية تعتبر اليهود «أمة عالمية»، من خلال سن «قانون العودة» أو الهجرة إلى إسرائيل، والذي يتيح لكل يهودي (بصفته يهودياً في الديانة) الحق في المواطنة المتساوية. في مقابل ذلك، تظهر حقيقة كون اليهود حول العالم يُعتبرون مواطني دُولهم الوطنية التي يَدينون لها بالولاء بالمواطنة. ويرى هذا البحث أن الجمع بين هاتين الحقيقتين يشكل أساساً لمعضلة ذاتية تعانيها الصهيونية، وتجد انعكاسها فيما يُعرف باسم علاقة إسرائيل بيهود الشتات، وهو ما سنتطرق إليه أدناه.

علاقات من المد والجَزر عبر التاريخ

تُثبّت مقولة دافيد بن – غوريون الشهيرة: «يمكن إقامة حياة يهودية كاملة فقط في إسرائيل»، فكرة فحواها أن الدولة العبرية، في الخطاب السياسي الإسرائيلي، ليست دولة مواطنيها اليهود فحسب، بل هي دولة اليهود أيضاً. وهو خطاب تأسيسي عبّر عن علاقة بنيوية بين إسرائيل واليهود، ووجد تعبيراته في قوانين تأسيس إسرائيل في مراحل متعددة من المشروع الصهيوني، إلاّ إن أبرزها كان في «وثيقة الاستقلال»، التي تطرقت إلى يهود العالم في نهاية الإعلان، متوجهة إليهم بدعوة من أجل التوحد والالتفاف حول «الييشوف (البلد) اليهودي»، والوقوف إلى جانب دولة إسرائيل. وهناك أيضاً «قانون العودة» سنة 1950، وقانون تفسير مكانة الوكالة اليهودية في القانون وقوننتها، وقانون «العقوبات» بشأن معاداة السامية سنة 1977، مروراً بـ «قانون المواطنة»، وأخيراً «قانون القومية» المصادَق عليه سنة 2018. أمّا في الجانب العملي، فلقد أُنشئت وزارة الشتات ولجنة برلمانية بشأن الشتات والهجرة اليهودية، أو ما يُسمى «القادمين الجدد» («عالياه»)،11 وفق التعريف الصهيوني.

كان لمؤسسات يهود العالم وهيئاتهم ونُخبهم في البلاد الغربية، منذ قيام المشروع الصهيوني الاستيطاني في فلسطين قبل تأسيس الدولة العبرية، دور أساسي ومساهمة مركزية في هذا المشروع، سواء من خلال الدعم المادي اللوجستي، أو الدعم السياسي للعلاقات الخارجية بدول العالم، لتسويغ شرعية المشروع الصهيوني في فلسطين ودعم هذه الشرعية. وتُظهر المعطيات أن الحركة النقدية ودخل الدولة من العملة الأجنبية كان مصدرهما الرئيسي والأساسي الدعم المادي الخارجي من يهود العالم، ومن جانب يهود الولايات المتحدة الأميركية بصورة خاصة.12 لكن، بالتوازي مع توفير هذا الدعم وتوطيد العلاقة الوثيقة بين إسرائيل واليهود في الولايات المتحدة، ظهرت منذ البداية أشكال من التوتر سادت العلاقة بين الطرفين. ففي سنة 1950، دعا السفير الإسرائيلي في الأمم المتحدة، أبا إيبن، يهود الولايات المتحدة إلى الهجرة إلى إسرائيل. لكن هذه الدعوة لقيت سخط المجتمعات اليهودية في أميركا، واعتُبرت تشكيكاً في ثنائية ولاء يهود الولايات المتحدة الأميركية. وجرى، كحل للأزمة، عقد اتفاق بين رئيس الحكومة الإسرائيلية دافيد بن – غوريون ورئيس اللجنة الأميركية – اليهودية يعقوب بلاوشتاين، سُمّي «تفاهمات بن – غوريون بلاوشتاين»، ونص على أن تعترف إسرائيل بأهمية وجود المجتمع اليهودي الأميركي، وبضرورة الاهتمام برفاهيته وأمنه، من دون التدخّل في شؤونه الداخلية، أو مطالبته بإبداء «ولاء مزدوج» لدولته ولإسرائيل معاً. ودعا هذا الاتفاق، في المقابل، المجتمع اليهودي في أميركا إلى أن يحترم استقلالية القرار الداخلي الإسرائيلي، وألاّ يتدخل فيه.13

لن تتطرق هذه المقالة إلى قراءة هذه المقاربات والتوجّهات في منظور تاريخي، بيد أن نظرة سريعة إلى المشهد التاريخي تكشف أنماطاً ثابتة ومتحولة في هذه العلاقة، سنطلق عليها وصف مصادر القوة والمصلحة المشتركة.14 وتنقسم إلى ثلاثة مستويات: «رأس المال السياسي»؛15 المستوى الاجتماعي – الثقافي؛ المستوى الاقتصادي. ومن الثوابت الراسخة في هذه العلاقة الثنائية، أهمية دولة إسرائيل لدى الجوالي اليهودية في العالم، وولاء معظم أبناء هذه الجوالي لأمن إسرائيل قومياً واستراتيجياً، في مقابل أهمية يهود العالم في المشهد الإسرائيلي، واعتبارهم عمقاً استراتيجياً عالمياً، وإبداء إسرائيل مسؤولية تجاه دعم التجمعات اليهودية حول العالم، وخصوصاً تلك التي تعتبر أنها تعيش «في ضائقة».16

طفت حالات من المد والجَزر، على الرغم من ذلك، إلى سطح العلاقات فيما بين طرفي هذه الثنائية، «إسرائيل – الشتات»، مع مرور السنين، وشابت العلاقة بينهما توجّهات متباينة وتبدلات في أنماطها. لقد أجمع الباحثون الإسرائيليون والعالميون، بشأن ثنائية العلاقة بين «إسرائيل ويهود العالم»، كما يرى المحللان شيفر وطولينادو وغيرهما، على أن حرب سنة 1967 شكلت منعطفاً تاريخياً في مسارها،17 وعلامة فارقة في تطورها، ليس بشأن الدعم اليهودي الأميركي
لإسرائيل فقط، بل فيما يخص الدعم الأميركي الرسمي لها أيضاً، فتثبّتت مركزية إسرائيل ومكانتها الاستراتيجية لدى يهود العالم، بعد سنة 1967. لقد اتسمت الحقبة الأولى من العلاقات، في العقدين الأولين من إنشاء الدولة، بما اعتبره محللون «المركزية الإسرائيلية»، وهو توجّه نحته بن – غوريون، وعبّرت عنه مقولته الشهيرة بأن الحياة اليهودية الحقيقية لا يمكن لها أن تتجلّى إلاّ في دولة إسرائيل.18 ورافق هذا التوجه في البدايات تنكر لمسألة اليهود حول العالم، أو اهتمام شحيح بها. لكن اهتمام إسرائيل بيهود العالم، أخذ يزداد منذ سبعينيات القرن الماضي، كما أن العلاقات بين الطرفين بدأت تأخذ طوراً آخر، بحيث زاد الدعم الخارجي لإسرائيل، ووُطّدت العلاقات بينها وبين قيادات التجمعات اليهودية. إلاّ إن هذا الأمر ترافق مع نمو توقعات متبادلة بين الطرفين، ولم تكن الممارسات الفعلية متوائمة دوماً معها؛ إذ كانت التوقعات تؤدي، في كثير من الأحيان، إلى خيبات أمل مشتركة ومتبادلة، أساسها توقع إسرائيل دعماً غير مشروط وغير محدود من جانب يهود العالم، من دون تدخّلهم في الشأن الإسرائيلي الداخلي. ويقابل هذا التوقع لدى الطرف الإسرائيلي، توقعٌ آخر لدى يهود العالم، يدعو إلى أن تلائم السياسات الرسمية الإسرائيلية توجهاتهم فيما يتعلق بمسألة السلام في الشرق الأوسط، وحضور الدين في السياسة الإسرائيلية. ربما كانت العلاقة الديناميكية بين هاتين الفكرتين (أي بين التوقعات المتبادلة بين الطرفين)، هي المعضلة الأشد في هذه العلاقة الثنائية، والتي سنوضحها في القسم الثاني.

قبل الخوض في التفصيلات، سيفيد استخلاص أهم العوامل التي أثرت في العلاقة بين إسرائيل ويهود العالم، و/أو تؤثّر فيها:

(1) قوة إسرائيل ومكانتها: ازدادت الدولة العبرية، مع مرور السنوات، مكانةً وقوةً في حياة اليهود حول العالم، في أكثر من صعيد، ويميل التوازن الديموغرافي لمصلحتها. ففي الوقت الذي شكّل اليهود 6 في المئة فقط، سنة 1948، من مجمل اليهود حول العالم، بات اليهود في إسرائيل اليوم يشكّلون أكثر من 45 في المئة من اليهود حول العالم (للمعطيات الكاملة، انظر الجدول رقم 1)، فضلاً عن تعزيز المكانة العالمية للدولة العبرية، وخصوصاً بعد حرب الأيام الستة (1967)، ومنذ أواسط السبعينيات أيضاً، الأمر الذي استدعى إسقاطات معينة على علاقة إسرائيل بيهود العالم.

(2) تبدلات في بنية المجتمع الإسرائيلي: طرأت، في العقدين الأخيرين تحديداً، تغيرات سوسيولوجية – سياسية في بنية المجتمع الإسرائيلي، وفي بنية نخبه الحاكمة، في أكثر من صعيد، إلاّ إن ما يرتبط بموضوع مشهد العلاقة بين إسرائيل ويهود العالم هو تثبيت حكم اليمين الجديد في إسرائيل بعد الانتفاضة الفلسطينية الثانية، وصعود قوة اليمين الاستيطاني الديني، واقتراب الصهيونية من لغة الشرعية الدينية من جهة، واقتراب الأحزاب المتدينة من الجناح الصهيوني الأكثر يمينية من الجهة الأُخرى.

(3) تبدلات في بنية المجتمعات اليهودية حول العالم: تعيش الجوالي والتجمعات اليهودية حول العالم تغيرات بنيوية، أسوة بالتغيرات التي تمر بها إسرائيل، وكل العالم، كالفوارق في التوجهات بين الأجيال المتعددة، وارتفاع نِسَب الزواج المختلط بغير اليهود، وغيرها. وهذه التغيرات السياسية والاجتماعية تُلقي بظلالها على العلاقة الثنائية بين يهود العالم وإسرائيل، وتنعكس على نظرة أوساط يهودية متعددة إلى إسرائيل. ولا تتوافق هذه المتغيرات، في كثير من الأحيان، مع الرؤى الإسرائيلية الرسمية، وخصوصاً فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، أو علاقة الدين بالدولة الإسرائيلية، أو بشأن التعددية داخل المنظومة الإسرائيلية.

(4) سؤال القيادة اليهودية خارج إسرائيل: يُعتبر سؤال القيادة لدى يهود العالم من الأمور المتغيرة، والتي تتفاعل مع أنماط العلاقة الثنائية (الإسرائيلية – يهود العالم)، بحيث شهد هذا المستوى تبدلاً مع مرور الوقت، وصعود أوساط وقيادات جديدة لدى يهود الولايات المتحدة. فعلى سبيل المثال، نافست اللجنة اليهودية الأميركية منظمة الفدراليات اليهودية الأميركية (United Jewish – CJF Communities)، ونازعتها قوة القيادة والسطوة، وتآكلت منظمة (United Jewish Appeal – UJA)، وهو ما يعكس تغيرات داخلية في المجتمعات اليهودية في العالم، فضلاً عن أنه يؤثّر أيضاً في توجه إسرائيل نحوها.19

(5) تغيرات عالمية: تشكل التغيرات، على مستوى العالم، عاملاً مؤثراً في العلاقة الثنائية بين إسرائيل ويهود العالم أيضاً، بحيث إن العقدين الأخيرين شهدا مظاهر جديدة لمعاداة السامية، في الخطاب والممارسة في الغرب الأوروبي تحديداً، على الرغم من أن العقود التي تلت النكبة شهدت تراجعاً في منسوب معاداة السامية في أوروبا والعالم. يُضاف إلى ذلك صعود اليمين العالمي الشعبوي في عدة بلاد أوروبية، وحدوث تغيرات جيو – سياسية في خريطة القوى العالمية، وصعود قوى منافسة لأحادية القطب الأميركي بعد انتهاء الحرب الباردة.20

ألقت هذه المتغيّرات وغيرها بثقلها على العلاقة الثنائية بين إسرائيل ويهود العالم، وهو ما ستحاول هذه المقالة تفصيله في الأقسام التالية، لكن ثمة ما اقتضى الإشارة إليه قبل البحث في حيثيات هذه المتغيرات، وهو التالي:

– الإقرار بوجود تحولات في العلاقة لا يتنافى مع وجود ثوابت فيها.

– إن الحديث عن تحولات في العلاقة لا يعني الجزم بتأثيرها في قوة هذه العلاقة أو ضعفها. فالمنهجية التي تتبعها هذه المقالة ليست كمية، بحيث إن الأمر أشد تعقيداً. إن ما نحاول استقراءه هو التحولات في نمط العلاقة، وليس في قوتها أو ضعفها كمياً، بالضرورة.

 

الجدول (1) خريطة اليهود حول العالم
1945 – 2015 (بالآلاف)21

 

– ثمة استقرار في التحليل ساد في العقد الأخير، فحواه أن هناك تغيراً واضحاً في نمط هذه العلاقة. والبعض ذهب بعيداً في الجزم بوجود شروخ في العلاقة بين إسرائيل ويهود العالم (الولايات المتحدة تحديداً)،22 ويدللون على هذا الادعاء بالتوتر الذي نجم بعد تجميد الحكومة الإسرائيلية ما يعرف باسم «تفاهمات الهيكل»، المتعلقة بالصلاة المختلَطة عند حائط البراق، فضلاً عن توتر العلاقة أيضاً بين إسرائيل والرئيس الأميركي باراك أوباما بشأن الاتفاق النووي الإيراني، والتوجهات الإسرائيلية تجاه المنطقة بصورة عامة، والتي يختلف بشأنها كثير من اليهود حول العالم.23

يمكن تحليل تقاطعات العلاقة الثنائية (الإسرائيلية – يهود العالم)، والقول إنها شبكة من العلاقات السياسية والاجتماعية والاقتصادية المشتركة، تخلق معها تصوراً بمصلحة مشتركة. ويفترض هذا الأمر وجود رابطة رمزية مشتركة، سنسميها «المواطنة الرمزية» ليهود العالم، تربط بين إسرائيل وأماكن وجود اليهود الصهيونيين المنتمين إليها. وستحدد هذه الدراسة ثلاثة رؤوس ومستويات لما نسميه «المصلحة المشتركة»، هي التالية:

(1) رأس مال يهودي سياسي: يتمظهر من خلال بناء مصالح سياسية مشتركة، تنبثق أساساً وأولاً من مصالح إسرائيل الأمنية في المنطقة. وتقوم إسرائيل، في هذا الجانب، ببلورة العلاقة بـ «يهود الشتات» وتوطيدها، من أجل نسج هذا المستوى من رأس المال الذي يضمن انحياز دول غربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية، إلى المصالح الإسرائيلية.

(2) الدعم الثقافي – الاجتماعي: تتمحور القوة الاجتماعية – الثقافية التي تحظى بإمكاناتها، أغلبية المجتمعات اليهودية خارج إسرائيل، حول نسج شبكة علاقات متشعبة وعنكبوتية بصُناع القرار والسياسات، فضلاً عن أشخاص أصحاب نفوذ يعملون في مؤسسات أُخرى في الدولة: الإعلام والمؤسسات الأكاديمية وغيرها. وعادةً ما تُطوَّع هذه الشبكات في رفد رأس المال السياسي أعلاه.

(3) الدعم الاقتصادي المشترك: يتناول مستوى القوة الاقتصادية التي تشكلها أوساط كبيرة من يهود العالم، وتحديداً في الولايات المتحدة، والتي تؤسس بدورها مكانة سياسية قوية للوبي الصهيوني في الولايات المتحدة والدول الأُخرى، وتساهم في التأثير في الساسة وصُناع القرار وصُناع الرأي العام فيها.

إن تحليل آليات المصالح المشتركة في هذه المستويات وتحديدها، يمكّناننا أيضاً من الإمساك بالخيط الذي تنبثق منه التوترات في العلاقة. ولا نعني، طبعاً، بالتوترات وجود أزمة بالضرورة، بل قد يحدث اختلاف في تصورات المصالح المشتركة، والخاصة بكل فئة، ضمن تصور وجود عام مشترك، أو متكامل.

القسم الثاني: رأس المال السياسي المشترك والتوق إلى نسج مواطنة رمزية

كما ذكرنا أعلاه، يشكل الدعم السياسي المتبادل، وتوأمة المصالح الإسرائيلية، وعمل المجتمعات اليهودية حول العالم، صلب تحليل العلاقة الثنائية وركيزة أساسية فيها. سنتقفى، في هذه السطور، أثر هذه العلاقة، في العقد الأخير تحديداً، ونسأل عما إن كانت حدثت تغيرات في أنماطها؟ وبمَ تتأثر هذه التغيرات؟ وما هي أوجهها؟ وهل تُعتبر متغيرات جوهرية، قد تفرض واقعاً جديداً على العلاقات؟ سيتطرق القسم الحالي إلى الإحاطة بهذه الأسئلة من خلال مستويات سياسية وثقافية.

(أ) العلاقة السياسية بيهود الولايات المتحدة الأميركية

(1) بطاقة تعريف باليهود الأميركيين

يشكل تجمع يهود الولايات المتحدة الأميركية التجمع الأكبر على مستوى يهود العالم، بحيث تشير المعطيات إلى وجود بين 5,7 ملايين و7 ملايين أميركي من أصول يهودية (الفوارق في المعطى ناتجة من تعريفات وتوجهات متباينة فيما يتعلق بسؤال «مَنْ هو اليهودي؟» فمَن يولد من أُم يهودية فقط هو اليهودي، بحسب الديانة اليهودية، وليس مَن يولد من أب يهودي من دون أُم يهودية. لكن التعريفين، الثقافي والذاتي، قد لا يتوافقان مع التعريف الديني). وهم لا يشكّلون المجموعة الأكبر فحسب، بل أيضاً المجموعة الأهم والأكثر تأثيراً في سياسات الدولة التي يسكنون فيها، مقارنة بالجوالي الأُخرى. واستقر في الدراسات والأبحاث والخطاب السياسي كذلك أن اليهود الأميركيين يشكلون بُعداً سياسياً استراتيجياً فائق الأهمية بالنسبة إلى إسرائيل، وأدوا هذا الدور خلال حقب تاريخية متعددة، ولا سيما بعد حرب سنة 1967.

شغل 38 يهودياً أميركياً، في سنة 2017، مقاعد في الكونغرس الأميركي، الخامس عشر بعد المئة: 30 مندوباً في مجلس النواب (6,9 في المئة من مجمل أعضاء المجلس) – 28 ديمقراطيون واثنان من الحزب الجمهوري – و8 سيناتورات (8 في المئة). وبالإضافة إلى أعضاء المجالس النيابية المتعاقبة، يحتل اليهود الأميركيون، منذ سنوات طويلة، مراكز مهمة تمكّنهم من التأثير. فثلث قضاة المحكمة العليا، مثلاً، هم من اليهود.24 وبالتالي، تُظهر المعطيات أن لليهود قوة تأثير سياسية تفوق بأضعاف نسبتهم إلى عدد السكان، كما سنفصلها أدناه.

(2) المبنى السياسي – المؤسساتي ليهود الولايات المتحدة (سؤال القيادة)

يشكل سؤال القيادة إحدى النقاط المركزية التي تؤثر في صورة العلاقة الثنائية بإسرائيل وشكلها. هل ثمة قيادة سياسية تمثّل يهود العالم؟ وقبل تناول هذه المسألة بتفصيل أكثر في القسم التالي، تحت عنوان «تمظهرات التوتر»، سأعرض خريطة المؤسسات التمثيلية الأساسية لما يمكن تسميته «قيادات الشتات في أميركا»، والتي تعمل عادة في ثلاثة مجالات: دعم إسرائيل واليهود فيها؛ دعم المجتمع اليهودي في أميركا وتمكينه؛ دعم دولي لمجتمعات يهودية حول العالم.

يجب الإشارة هنا إلى أن قوة هذه المؤسسات وأفول بعضها وصعود غيرها، كانت أمراً متحولاً دائماً، لكن، في المجمل، يمكن تقسيم القيادة إلى أربعة أنماط أساسية:25

iتنظيمات محلية تقوم على خدمة مجتمعات محلية: فدراليات يهودية؛ كُنس؛ مراكز جماهيرية؛ مدارس وغيرها.

ii– ما يسمى «تنظيمات صديقة» هي تنظيمات تُعنى أساساً بدعم الموارد وتجنيدها لمصلحة إسرائيل، أو لخدمة أهداف داخلها.

iiiتنظيمات عليا قُطرية تُستخدم مظلة لتنظيمات محلية، مثل: منظمة أيباك (AIPAC/The American Israel Public Affairs Committee)، أو ما يعرف باسم اللوبي من أجل إسرائيل، وهو منظمة تعمل منذ سنة 1951، وتتكوّن من يهود أميركيين، وتشكل واحدة من أهم منظمات الضغط والتأثير اليهودية داخل الولايات المتحدة الأميركية، وفي الكونغرس تحديداً؛ (AJC/American Jewish Committee، منظمة المؤتمر اليهودي الأميركي)؛ (ADL/The AntiDefamation League، منتدى مكافحة التشهير). كما نشأت لاحقاً أيضاً منظمات ولوبيات أُخرى، معارضة لأيباك، كمنظمة جي
ستريت (JStreet).

ivمنظمات فردية غير ربحية لخدمة المجتمع الأميركي اليهودي، كمنظمة Interfaith Family والمتحف اليهودي وغيرهما.

vمنظمات قاعدية: هي منظمات قد تتقاطع مع التنظيمات «العليا»، التي ذُكرت سابقاً، لكنها تعتمد على تداخل في القاعدة المحلية بشأن قضايا عينية سياسية أو اجتماعية. وشكّل عدد من هذه المنظمات أجساماً قُطرية، وبعضها عارض التنظيمات اليهودية المسيطرة، وطرح خطاباً يهودياً بديلاً مناهضاً لإسرائيل والصهيونية، كتنظيم الصوت اليهودي من أجل السلام (Jewish voice for peace).

تُعتبر تنظيمات الفدراليات اليهودية من أقوى التنظيمات اليهودية في الولايات المتحدة، وهي إن كانت تقوم على تمكين مجتمعي محلي في قضايا الرفاه والخدمات الاجتماعية والتعليم اليهودي وغيرها، بالتعاون مع منظمة جوينت26 العالمية
(Joint/The American Jewish Joint Distribution Committee)، فهي تفعّل لجنة خارجية تحت اسم «مجلس علاقات المجتمع»، تنبثق منها لجنة تنفيذية تعنى بدعم إسرائيل. وهي تقوم بتنظيم اجتماعات ومجالس دورية ولقاءات تبادل لسياسيين أميركيين في إسرائيل.27 تمثّل «منظمة فدراليات شمال أميركا» دفيئة عليا للفدراليات المحلية، وتقدم إليها الدعم اللوجستي المطلوب من دون أن تتدخل في أعمالها أو تُقحم نفسها في مسألة الجدل السياسي الداخلي بشأن سياسات إسرائيل.

تعمل منظمات أُخرى على تطويع الإعلام خدمة لأجندات متوافقة مع المصالح الإسرائيلية، كمنظمة (Committee for Accuracy in Middle East Reporting in America/CAMERA)، وهي منظمة تعمل من أجل ما تسميه «تغطية منصفة ومتوازنة» لمصلحة السياسات الإسرائيلية. وهناك أيضاً مراكز أبحاث ودراسات تعمل في الاتجاه ذاته، كالمعهد اليهودي لشؤون الأمن القومي (Jewish Institute for National Security Affairs)، وهو مركز أشبه بخلية تفكير («ثينك تانك»)، ويعمل مع صُناع سياسات وقرارات أميركيين، ويحاورهم، من أجل تقريب وجهات نظرهم إلى إسرائيل، وجعلهم يعملون لمصلحة الأجندات السياسية الإسرائيلية.28 ولم يقتصر عمل المنظمات اليهودية الكبرى على دعم إسرائيل فحسب، بل سعى لمواجهة الأصوات المناهضة للصهيونية أيضاً. ونذكر هنا أن بلاوشتاين، على سبيل المثال، حارب منظمة المجلس الأميركي لليهودية، التي كانت تعارض الصهيونية.

(3) مصادر قوة رأس المال السياسي اليهودي في الولايات المتحدة الأميركية

تفوق قوة اليهود في الولايات المتحدة الأميركية حجمهم الديموغرافي ضمن المجتمع الأميركي، وتنبع من اندماجهم في الحياة السياسية، وشغلهم مناصب أساسية في المشهد السياسي، فضلاً عن قوتهم وقدراتهم التنظيمية. ويجب الإشارة، طبعاً، إلى أن القوة السياسية متعلقة بالنفوذ، في الحقول الاقتصادية والاجتماعية والثقافية أيضاً.

● الاندماج في الحياة السياسية والوصول إلى مواقع القرار

يُعَدُّ الاندماج في الحياة السياسية الأميركية مكمن قوة لمراكمة رأس مال سياسي أساسي، بحيث تشير المعطيات إلى أن اليهود الأميركيين بدأوا شغل مواقع أساسية مهمة ومؤثرة في المشهد السياسي الأميركي، منذ النصف الثاني من القرن العشرين، الأمر الذي فتح أمامهم المجال لترجمة ذلك قوة تأثير سياسية، بحلولهم أعضاء في الكونغرس ومجلس النواب، أو توليهم مواقع بارزة في المؤسسات التنفيذية الأميركية أو المحكمة العليا.29 إن وجود يهود في هذه المناصب كان، في كثير من الأحيان، عاملاً مؤثراً في اتخاذ قرارات لمصلحة إسرائيل فيما يتعلق بالشرق الأوسط.

يساهم النظام السياسي الأميركي في زيادة نفوذ ما بات يعرف بـ «الصوت اليهودي» في مجال السياسة، بحيث إن النظام السياسي يتيح المجال للعلاقة المباشرة والمفتوحة بين الناخبين والساسة، ويسمح بفتح باب تلقّي التبرعات على مصراعيه، وهو ما يعزز مفهوم «اللوبي» ويجعله ذا تأثير كبير في المشهد السياسي الأميركي. ومن أبرز هذه اللوبيات الفاعلة اللوبي الصهيوني أيباك. وثمة تصورات متعددة تتعلق بدوره وتأثيره في المشهد السياسي الأميركي، تتوزع على ثلاثة توجهات أساسية: توجه يرى أن مصدر قوة اللوبي الصهيوني تنبع من أنها تتواءم وتتوافق مع الأمن القومي الأميركي والمصالح الأميركية في الشرق الأوسط؛ توجه ثانٍ يعتقد أن اللوبي الصهيوني هو مَن يسيّر السياسة الأميركية في المنطقة، وأن ما تقوم به أميركا هو عملياً تنفيذ لمصالحه؛ أمّا التوجه الثالث، فيرى أن لا تأثير جوهرياً وحقيقياً للوبي الصهيوني، وأن ممارسات أميركا في الشرق الأوسط، وضمنها الانحياز التام والكامل إلى مصالح إسرائيل، نابعة من قناعة أميركية ذاتية بالمصالح المشتركة مع الدولة الإسرائيلية.30 ويتفق هذا القسم من الدراسة مع التوجه الأول على مواءمة المصالح الأميركية مع مصالح اللوبي الصهيوني والتزاوج بينها، وعلى أن قوته نابعة، لا فقط من أسباب ذاتية، بل من أسباب موضوعية أيضاً، تتعلق برؤية الأمن القومي الأميركي لمصالحه على أساس أنها متوائمة مع المصالح الإسرائيلية، ومن دون التقليل من قوة اللوبي الصهيوني وتأثيره في القرار الأميركي. وتحدث السيناتور الديمقراطي إرنست هولينجس عن هذه القوة بعد إنهائه شغل منصبه، بالقول إنه «ما من سياسة أميركية يمكن اتخاذها حيال إسرائيل لا تتوافق مع السياسة التي تقودها أيباك.»31

نتجت قوة الصوت اليهودي السياسي أيضاً من وجود تمركز ديموغرافي له فيما يسمى «الدول المتأرجحة» في أميركا؛ أي تلك الولايات التي تتردد وتتأرجح في التصويت بين الحزبين، فضلاً عن تداخل اليهود ونشاطهم الانتخابي، بحيث تسجّل المجتمعات اليهودية نِسَباً مرتفعة في التصويت، هي من أعلى نِسَب التصويت بين المجموعات الإثنية – الدينية، إذ تصل نسبة تصويت اليهود إلى 85 في المئة (انتخابات سنتي 2012 و2016)، بينما وصلت نسبة التصويت العامة إلى 50 في المئة.32

● قوة رأس المال الاقتصادي

يُعدّ رأس المال الاقتصادي، كما سنبيّن لاحقاً، من أهم مكامن القوة السياسية للوبي الصهيوني بصفة خاصة، والمجتمع اليهودي بصفة عامة، إذ بلغ حجم التبرعات اليهودية للحزب الديمقراطي 50 في المئة من مجمل التبرعات، في انتخابات سنة 2016.

● معاداة السامية

تشكل مظاهر معاداة السامية في المجتمع الأميركي، وفي العالم، سواء في المشهد السياسي أو المشهد الثقافي، رافعة للوبي الصهيوني والمؤسسات اليهودية الأميركية، بحيث تُستثمر في إشاعة الجو العام الداعم لإسرائيل «وصدقية» ادعاءاتها. ويساهم ذلك في مثالية وصول مؤسسات عليا، مثل أيباك والمؤتمر اليهودي الأميركي ومنتدى مكافحة التشهير، إلى وسائل الإعلام، ومنحها منصة إعلامية مؤثرة.33

إن قنوات التأثير لدى اللوبي الصهيوني بصفة خاصة، والمجتمعات اليهودية بصفة عامة، كما سبق أن ذكرنا، لا تنحصر في رأس المال السياسي وقوة اللوبيات، سياسياً وانتخابياً، فحسب، بل تنبع أيضاً من قوة اقتصادية واجتماعية، فضلاً عن تنظيم عمل المرافَعة «والمناصَرة» والعمل الدبلوماسي.

(4) الدعم السياسي وأشكاله: تطور العلاقة بين إسرائيل ويهود أميركا في مجهر التاريخ

يمكن اعتبار الدعم الذي قدمته المجتمعات اليهودية إلى إسرائيل في بداية الطريق مرتبطاً أساساً بدعم مادي، لكنه متواضع سياسياً، وتحول مع مرور الوقت إلى مركّب أساسي لإسرائيل من أجل بلورة تحالف سياسي – أمني وثيق مع الولايات المتحدة الأميركية، وتدعيم مكانة الدولة العبرية عالمياً.34 ولم يكن يهود أميركا، حتى أواخر ستينيات القرن الماضي، مُجمعين على دعم الصهيونية. وتطورت العلاقة بصورة متسارعة، وأخذت شكلاً مغايراً تماماً بعد حرب سنة 1967، بحيث باتت العلاقة الثنائية السياسية وبناء رأس مال سياسي يهودي عالمي جزءاً أساسياً من مشهد العلاقات، الذي ساهم في تعزيز مكانة إسرائيل، وتكوين شبكة من التعاون الإسرائيلي – اليهودي العالمي منذ السبعينيات، اقتصادياً وسياسياً وأمنياً، الأمر الذي بدا جلياً في التعاون الأمني الإسرائيلي – الأميركي في الحرب الباردة، على سبيل المثال لا الحصر.35

المرحلة الأولى: حقبة ما قبل تأسيس الدولة

لم يكن المجتمع اليهودي الأميركي، بخلاف ما يُشاع ربما، مُجمعاً مؤسساتياً على دعم المشروع الصهيوني في فلسطين، وإن لقي هذا المشروع دعماً فردياً وجماعياً أحياناً. إلاّ إن الموقف المؤسساتي الجماعي تجاه استعمار فلسطين ظل مترنحاً. وكان «طرح فيستبورغ»، من جانب الحركة الإصلاحية الشابة في نهاية القرن التاسع عشر، دليلاً على هذه العلاقة البينية، بحيث تضمن الطرح رفضاً لطروحات الاستيطان في فلسطين، مؤكداً أن اليهود هم جماعة دينية وليسوا جماعة قومية.36 لكن المجتمعات اليهودية باتت مع مرور السنوات أكثر تحمساً لذلك الأمر واقتناعاً به، وخصوصاً بعد أن شكلت الولايات المتحدة ملجأً سياسياً لقيادات صهيونية هاجرت إليها من بلادها، كدافيد بن – غوريون ويتسحاق بن تسفي. وكان لوجود هذه القيادات دور مهم في عملية الدعاية للصهيونية، بالتعاون مع فرع منظمة «عمّال صهيون» في الولايات المتحدة الأميركية، وهي حزب صهيوني أُنشئ في أوروبا. وشكلت حوادث معاداة السامية في الولايات المتحدة عاملاً مساعداً على تقوية التيار المتصالح مع الصهيونية بين يهود الولايات المتحدة، كما أدت إلى نشوء منتدى محاربة التشهير. لقد ميزت القيادات اليهودية، في ذلك الوقت، الدعم التنموي والتبرعات لإسرائيل، من الدعم السياسي، على الرغم من أن الدعم والتبرعات التنموية ساهمت في تحقيق المشروع السياسي الأساسي، أي إنشاء دولة يهودية في فلسطين.

انضم المؤتمر اليهودي الأميركي، في سنة 1929، إلى الوكالة اليهودية تحت مسمى «شريك لا صهيوني».37 وفتح هذا الانضمام المجال لتوسّع الدعم اليهودي الأميركي للصهيونية في فلسطين، فتم إنشاء منظمة جوينت (American Jewish Joint Distribution Committee)، فضلاً عن منظمات داعمة أُخرى، مثل هداسا والفرع الأميركي لصندوق إسرائيل القومي ومنظمة صهيونيي أميركا. وتجدر الإشارة إلى أن الدعم الأساسي تركز لدى الجمهور اليهودي المحافظ (Conservative)، بحيث لا يمكن الحديث عن إجماع في ذلك الحين على المشروع الصهيوني، وخصوصاً لدى التيار الإصلاحي، الذي كان لا يزال يشمل قطاعات مترددة في موقفها من المشروع الصهيوني، الأمر الذي تأثر بعض الشيء بعد صعود النازية إلى الحكم الألماني، وعدم تمكن اليهود الأميركيين من إقناع الولايات المتحدة باستيعاب عدد كبير من المهاجرين اليهود.

المرحلة الثانية: 1947 – 1967

حدث تغيّر مهم في مستوى العلاقات الثنائية بين إسرائيل ويهود أميركا، منذ إنشاء الدولة العبرية، إذ بات اليهود الأميركيون أكثر تحمساً ودعماً للمشروع الصهيوني، وعملوا ضمن هذا الأساس أمام صُناع القرار وأصحاب السلطة في الولايات المتحدة، مثل دور إدوارد (إدي) جاكوبسون أمام ترومان،38 بحيث كان شريك الأخير في أعماله، وكان تأثيره فيه واضحاً، إذ اعترف ترومان بدولة إسرائيل بعد دقائق معدودة من إعلانها. ونذكر، في السياق ذاته أيضاً، الضغط الذي مارسه يهود أميركا لحث بريطانيا على إلغاء قرارها تحديد الهجرة اليهودية إلى فلسطين. كما أثّر نشاط يهود الولايات المتحدة في عمل لجنة التقصي الأنغلو – أميركية لشؤون أرض فلسطين، وفي توجهها، بحيث أوصت، سنة 1946، بالسماح لمئة ألف «لاجئ يهودي» بالهجرة إلى فلسطين وإلغاء البنود المتعلقة بهذا الشأن في الكتاب الأبيض، الذي وضعه وزير المستعمرات البريطاني مالكوم ماكدونالد سنة 1939، وتعهّد فيه بعدم تجاوز عدد اليهود المسموح لهم بالهجرة إلى فلسطين 75 ألفاً، في الفترة 1940 – 1944. واشترط أيضاً أن تحظى هجرة اليهود إلى فلسطين، بعد سنة 1944، بموافقة مسبقة من الأغلبية العربية فيها.39 وكان التأثير الأكبر لإدي جاكوبسون في إقناع ترومان بضرورة مقابلة حاييم وايزمن، الأمر الذي يعتقد كثيرون أنه ساهم، بصورة إيجابية، في قرار ترومان الاعتراف بدولة إسرائيل حال إعلانها.40 يُضاف إلى ذلك المساعدات الحربية لإسرائيل، إذ إن آلاف اليهود تبرعوا لشراء أسلحة لعصابة الهاغاناه وغيرها. كما كان للمتطوعين اليهود الأميركيين المحاربين (كالجنرال دافيد ماركوس) الدور الأبرز في إنشاء سلاح طيران جيش الاحتلال الإسرائيلي لاحقاً. وساهم آل شفايمر، بعد أن ترك كاليفورنيا، في تأسيس الصناعة الحربية الجوية الإسرائيلية.

لم يقتصر الدعم على الجانب السياسي فقط، إذ إن الدعم المادي، اليهودي – الأميركي، كان أساسياً، فلقد جندت غولدا مئير وحدها 50 مليون دولار للدولة العبرية (ما يعادل 500 مليون دولار اليوم). وساهم يهود الولايات المتحدة الأميركية، مساهمة سياسية بصورة أساسية، في الضغط من أجل تحصيل تعويضات مالية من ألمانيا الغربية، وفي استيعاب الهجرة اليهودية من دول العالم إلى إسرائيل.

ازدادت توقعات يهود أميركا بالتدخل في الشأن الإسرائيلي، مع ازدياد تأثيرهم في دعم إسرائيل، الأمر الذي أدى إلى توتر في العلاقة بين الطرفين. وجاءت اتفاقية بن غوريون – بلاوشتاين، المذكورة سابقاً، لتجد لهذا التوتر حلاً. ونشأت، في إثرها، مأسسة لهذه العلاقة، أو محاولة مأسسة لها، ضمن هذا التفاهم. لقد رأى يهود أميركا (المنحازون إلى إسرائيل) ضرورة مأسسة هذه العلاقة، فتم إطلاق ما سُمّي «تفاهمات بن غوريون – بلاوشتاين»، في آب/أغسطس 1950، بين رئيس المؤتمر اليهودي الأميركي يعقوب بلاوشتاين ورئيس الحكومة الإسرائيلية في ذلك الحين دافيد بن – غوريون. وكانت هذه التفاهمات تقوم على أساس معادلة توازن، فحواها دعم المصالح المشتركة للمجتمعَين مع احترام المصالح المشتركة للجماعتين. ويشمل البند الأخير احترام الخصوصية والاستقلالية الداخلية لكل من الجماعتين؛ أي احترام يهود العالم استقلالية القرار الإسرائيلي الداخلي، كونهم ليسوا مواطنين في إسرائيل، في مقابل احترام إسرائيل استقلالية الجماعات اليهودية حول العالم، خوفاً من أن يتم اتهامهم بـ «الولاء المزدوج» (بين دولهم الأصلية وإسرائيل)، الأمر الذي يشعل جبهات معاداة سامية ضدهم. وشكلت هذه المعادلة نقطة الارتكاز، أي «نقطة أرخميدس»، لبلورة رأس مال يهودي مشترك، أو تصور مصلحة سياسية مشتركة، لكنها كانت، في المقابل، منطلقاً لحالات توتر، وإن لم تصل إلى درجة تسميتها أزمة. فهذه المعادلة تخلق نوعاً من التوقعات المتبادلة (توقع لدى يهود العالم بالحصول على ما يشبه «مواطنة رمزية» في إسرائيل، يقابله توقع من جانب إسرائيل بدعم غير مشروط من يهود العالم)، وهو ما جعل خيبات متبادلة تتزامن مع انتكاس هذه التوقعات أحياناً.

يجسّد ما سمّيناه «المصالح السياسية المشتركة» و«رأس المال السياسي»، حقيقة فحواها أن دعم الصهيونية والمصالح الإسرائيلية، سياسياً ومالياً، لم يأتِ بالنفع على دولة إسرائيل فحسب، بل كان أيضاً جزءاً من نشوء المكانة السياسية الخاصة والمميزة لليهود (المنحازين إلى إسرائيل) داخل الولايات المتحدة. لقد ساهم هذا الدعم في تعزيز حضور اليهود الأميركيين داخل الولايات المتحدة، وفي شدّ أواصر التعاضد والمأسسة الداخليين لدورهم، وكان جزءاً أساسياً من حجر البناء السياسي لهم. ومكّنهم، فضلاً عن ذلك، من نسج علاقات كثيرة وواسعة بأشخاص أصحاب نفوذ وقرار في الحكم، بحيث كان دعم إسرائيل سياسياً جزءاً من المشهد الأميركي، ونتيجة أسباب داخلية لم تكن دائماً لها علاقة سببية بتأثير اللوبي الصهيوني؛ أي أن دعم مصالح إسرائيل بات، مع الوقت، مركّباً في المؤسسة السياسية اليهودية الأميركية (المنحازة إلى إسرائيل)، كما أمسى مركّباً في بلورة الهوية الاجتماعية لأغلبية اليهود الأميركيين.

العلاقة بإسرائيل كرافعة لمأسسة التنظيم اليهودي الأميركي

بدأت منظمات يهودية أميركية، منذ إطلاق «تفاهمات بن غوريون – بلاوشتاين»، السابقة الذكر، تبلور حضورها في صورة منظمات عليا تمثيلية على المستوى القطري، بحيث اجتمع، في سنة 1956، لتنظيم هذه المسألة، ما سُمّي «لجنة الرؤساء»، وهي لجنة تضم رؤساء مختلف المنظمات. وكانت أيباك أُسست في بداية الخمسينيات. وتحولت، بمساهمة رئيسها الأول أشعيا كينين، إلى منظمة عليا رسمية في أوائل الستينيات. كما أن منظمات أُخرى بدأت تعمل بصورة أشمل وأكثر تنظيماً أمام الإدارة الأميركية، كالمؤتمر اليهودي الأميركي والكونغرس اليهودي الأميركي، وغيرهما. وكان لهذه المنظمات دور مهم في تخفيف حدّة التوتر والانتقاد اللذين أبداهما الرئيس أيزنهاور ضد العدوان الثلاثي على مصر.41

الحقبة الثالثة: عدوان 1967 – 1991 (نهاية الحرب الباردة)

كان للانتصار العسكري الإسرائيلي في الحرب العدوانية سنة 1967 تأثير حاسم في علاقة يهود العالم، ويهود الولايات المتحدة تحديداً، بإسرائيل. وشكلت الحرب ونتائجها منعطفاً نوعياً في هذه العلاقة. تحولت إسرائيل إلى مُركّب حاسم ومركزي، سياسياً واجتماعياً وثقافياً، في عمل يهود العالم، ويهود الولايات المتحدة الأميركية المنحازين إلى إسرائيل بصفة خاصة.42

ترافق مع هذه الحقبة تعاضد وتقارب أمنيان بين أميركا وإسرائيل، على الرغم من أن ثمة مساعدات كانت قد حصلت عليها إسرائيل بصورة ما من الولايات المتحدة. إلاّ إنه ما من مقارنة بين الحلف الأميركي – الإسرائيلي ونمطه، بين ما قبل حرب سنة 1967 وما بعدها. لقد دعمت أميركا إسرائيل، على نحو كبير، في كل المحافل الدولية، بصورة لا تقارَن مع ما كان قبل الحرب.

لم تنبع قوة اليهود من الجانب المؤسساتي التنظيمي فحسب، بل أيضاً بسبب وجود شخصيات يهودية منحازة إلى إسرائيل، كانت قريبة من سلطة الحكم. والمثال الأبرز لذلك، في هذه الحقبة، كان وجود هنري كيسنجر إلى جانب الرئيس نيكسون (1969 – 1974)، وهو مَن أدى إلى توقيع تسوية موقتة بين مصر وإسرائيل.43

يرى محللون، ومنهم سكوت ليسنسكي، أن هذه الحقبة شكلت بداية ما يعرف بـ «استمالة الصوت اليهودي»، بحيث بات اهتمام المجتمع السياسي الأميركي يزداد بتوجهات اليهود الأميركيين السياسية، ويحاول استمالتهم إليه، بسبب ما حصلوا عليه من قوة ونفوذ وتأثير، الأمر الذي ساهم في مراكمة رأس مالهم السياسي، وهو مثال حيّ لمفهوم «رأس المال السياسي المشترك»، وتصوّر «مصلحة سياسية مشتركة». سجلت أغلبية المجتمعات اليهودية الأميركية، في إبان حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973 وبعدها، دعماً غير مسبوق لإسرائيل. وقدّم البونديس، خلال هذه الحرب وبعدها، ما يقارب ثلاثة أرباع مليار دولار، أي ثلاثة أضعاف الدعم الذي تم تقديمه خلال حرب سنة 1967.44

كانت أيباك هي المنظمة الأبرز التي قادت لوبياً قوياً يحاور صُناع القرار والممسكين بالسلطة في الولايات المتحدة في هذه الفترة. وتشير المعطيات إلى أمثلة متعددة في هذا الصدد، منها:

– تمرير قانون «جاكسون – فانيك» سنة 1974، والذي يسمح بمنح الاتحاد السوفياتي مكانة شريك تجاري ذي أولوية، شرط تحسّن أحوال حقوق الإنسان لديه، والسماح بهجرة يهودية عبر حدوده.

– إلغاء عقوبات الرئيس جيرالد فورد سنة 1975، والتي عمل الرئيس فورد على فرضها على إسرائيل، بعد تعنّتها ورفضها الدخول في تسوية موقتة مع مصر. وتشمل تجميد صفقات الأسلحة وعدم إبرام اتفاقيات جديدة معها. بادر قادة المجتمعات اليهودية، المنحازون إلى إسرائيل، إلى حملة مضادة، ونجحوا في استمالة 76 عضواً في الكونغرس، وقّعوا عريضة تعترض على توجه البيت الأبيض إلى ما سمّاه «تقويماً جديداً للعلاقة بإسرائيل»، على الرغم من أن فورد وكيسنجر نجحا، وفقاً لكثيرين، في مهمتهما (أي في الضغط على الحكومة الإسرائيلية).

– المحافظة على التفوق العسكري الإسرائيلي: كانت المحافظة على ما يسمّى «تفوقاً إسرائيلياً عسكرياً في الشرق الأوسط» في أعلى سلّم أولويات منظمة أيباك، وفي أولوية أجندتها. وبدا تأثير ذلك واضحاً في مستوى ممارسة السياسة الأميركية منذ نهاية سبعينيات القرن الماضي، حتى تكلّل ذلك في تقنين هذه الممارسة عبر تشريع في الكونغرس سنة 2008، يضمن المحافظة على «التفوق النوعي العسكري الإسرائيلي في منطقة الشرق الأوسط»، وأن تراعي صفقات بيع الأسلحة الأميركية لدول الشرق الأوسط هذا التفوق، وألاّ تخل به.

زاد الدعم الأميركي لإسرائيل بعد توقيعها «اتفاقية السلام» مع مصر، ووصل إلى ثلاثة مليارات دولار سنوياً. كما نجحت منظمة أيباك، بالتعاون مع الحكومة الإسرائيلية، في فرض قرار في الكونغرس الأميركي يُلزم البيت الأبيض بمعارضة منظمة التحرير الفلسطينية، وحماية إسرائيل من الضغط الدولي.45

على الرغم من أن دعم إسرائيل والمحافظة على علاقتها القوية بالمجتمعات اليهودية في الولايات المتحدة كانا من سمات هذه الحقبة، فإن ملامح خدش هذا الإجماع بدأت تظهر داخل المجتمعات اليهودية، منذ أوائل ثمانينيات القرن الماضي، منها بلورة حركة «خيار»، التي طرحت موقفاً مغايراً للتعامل مع المسألة الفلسطينية ودعمت المفاوضات مع الفلسطينيين، إلاّ إنها بقيت حركة هامشية، وغير مؤثرة. ومن محطات التوتر في هذه الحقبة:

(1) أزمة ضرب المفاعل النووي العراقي سنة 1981: تُرجم هذا التوتر في عدم نجاح اللوبي الصهيوني في منع بيع أميركا السعودية صفقة طائرات «الأواكس»، لأغراض التجسس.

(2) أزمة الجاسوس جوناثان بولارد سنة 1985: على الرغم من أن هذه الحقبة كانت حقبة تأسيسية لما يشبه إجماعاً لدى المجتمعات اليهودية في الولايات المتحدة على دعم إسرائيل، باستثناء أصوات قليلة معارضة، فإن أزمة اكتشاف الجاسوس بولارد خلقت خدشاً في العلاقة بين الطرفين، وأظهرت إلى العلن تهمة «الولاء المزدوج» من جديد، الأمر الذي أثار حفيظة أوساط متعددة لدى يهود أميركا.

(3) مجزرة صبرا وشاتيلا في لبنان، والتي تورطت فيها إسرائيل ووزير دفاعها آنذاك أريئيل شارون، ونُفّذت بحمايتهما، بحيث أحرجت الليبراليين اليهود في أميركا، وزادت في شعور النفور تجاه السياسة الإسرائيلية من جانب عدد من الأوساط في المجتمعات اليهودية الأميركية.46

(4) دعم إسرائيل نظام الأبارتهايد في جنوب أفريقيا، زاد هو الآخر في حدة نفور أوساط يهودية أميركية من السياسة الإسرائيلية الخارجية.47

(5) تزايد النقاش الداخلي بشأن «مَنْ هو اليهودي؟» وقانون العودة، وضغط الحريديم، الذين كانوا في ائتلاف حكومي مع رئيس الحكومة آنذاك يتسحاق شمير، من أجل إلغاء مواطنة من لم يتم ختانه على أيدي رجال دين أرثوذكسيين. فمن المعروف مثلاً أن الواقع اليهودي الأميركي يشهد نشاطاً لقوى ومفاهيم غير أرثوذكسية بشأن التعامل مع الديانة اليهودية وتعريف اليهودي.

على الرغم من أن هذه المحطات أثارت حفيظة الأجنحة الأكثر ليبرالية في المجتمعات اليهودية الأميركية، فإن من الصعب الإشارة إليها، أو التعامل معها، كأزمة في العلاقة، بحيث إن الدعم لإسرائيل بقي من الثوابت فيها، وقوة منظمة «أيباك»، كلوبي مناصر لإسرائيل في أروقة صُناع القرار الأميركي، تعاظمت. وتتحدث دراسات عن تحوّلها إلى اللوبي الأقوى، والذي غيّر كثيراً في المشهد السياسي لمصلحة إسرائيل، وجعل يهود الولايات المتحدة قوة صاعدة على مستوى العالم. وهو ما يؤكد، لا مساهمة يهود أميركا المنحازين إلى إسرائيل في بلورة رأس مال سياسي لإسرائيل فحسب، بل العكس أيضاً، أي مساهمة إسرائيل في بلورة رأس مالهم السياسي المحلي.

الحقبة الرابعة: 1991 – 2001

دعمت أغلبية التجمعات اليهودية، بصورة واضحة، بعد نهاية الحرب الباردة في تسعينيات القرن الماضي، الهجرة اليهودية من الاتحاد السوفياتي إلى إسرائيل، ضمن ما عُرف باسم «حملة إكسودكس»، وجُنّدت ملايين الدولارات لها. وازداد التضامن اليهودي الأميركي مع إسرائيل، بعد حرب الخليج الثانية سنة 1991. ويبدو أن «شعار الإجماع» (أي اعتبار دعم إسرائيل محط إجماع)، الذي نحته جوناثان رينهولد، استمر في التجلّي في هذه الحقبة.48

واجهت أيباك، في هذه الفترة، إحدى «أشرس» معاركها خلال حقبة التوتر الذي شهدته العلاقات الإسرائيلية – الأميركية في أعقاب حرب الخليج الثانية، والضغط الأميركي على الإسرائيليين من أجل تجميد الاستيطان في مقابل حصولهم على اعتمادات قروض بقيمة 10 مليارات دولار، تساعدهم على استيعاب الهجرة اليهودية السوفياتية. ورفض يتسحاق شمير (رئيس الحكومة الإسرائيلية حينذاك) هذا العرض، وتوجه إلى الاستعانة بأيباك، التي حاولت تفعيل ضغوطها من أجل إلغاء الشروط الأميركية على إسرائيل، لكن من دون نجاح.49

فترة أوسلو وبداية الانتقال من شعار الإجماع إلى شعار الإجماع التعددي

شهدت الفترة التي تلت اتفاق أوسلو وانتخاب يتسحاق رابين رئيساً لحكومة إسرائيل، تجنّد التجمعات اليهودية للعمل لمصلحة الحكومة الإسرائيلية، على الرغم من تحفظ بعضها من أوسلو وقوة ياسر عرفات. إلاّ إن يتسحاق رابين (رئيس الحكومة الإسرائيلية حينذاك) استطاع الحصول على دعم مخصَّص للسلطة الفلسطينية من جهات يهودية أميركية، وساهمت تبرعات أُخرى قدّمها المجتمع اليهودي في خفض ديون الأردن، بعد توقيعه اتفاقية وادي عربة للسلام مع إسرائيل. ومن المنظمات اليهودية الأميركية البارزة الداعمة لاتفاق أوسلو والمفاوضات مع منظمة التحرير الفلسطينية (IPF/Israel Policy Forum).50

دعمت جهات أُخرى، تنتمي إلى التجمعات اليهودية الأميركية، في المقابل، مشاريع استيطانية في الضفة الغربية، على الرغم من أن دعم منظومة الاستيطان مباشرة لم يكن جزءاً من إجماع التجمعات اليهودية، وعلى الرغم من ازدياد الأصوات المعارضة لاتفاق أوسلو بين صفوفها مع تولّي بنيامين نتنياهو رئاسة الحكومة وازدياد العمليات الفدائية العسكرية الفلسطينية ضد أهداف إسرائيلية.

يرى محللون أن الدعم اليهودي الأميركي لإسرائيل بدأ يأخذ شكلاً تعددياً، أي أن ثمة توجهات متناقضة تنشأ داخل المجتمع اليهودي، تنبثق منها أنماط متعددة من الدعم. وتأثر هذا التحول بعدة عوامل، بينها:

– التغيّرات التي طرأت على المشهد الإسرائيلي الانتخابي، والانتقال من مشهد أحادي أو ثنائي الأقطاب إلى مشهد أكثر استقطاباً ومتعدد الأقطاب.

– تغيرات في بنية المجتمع اليهودي – الأميركي ذاته، وتقلص مشاركة/تداخل الأجيال اليهودية الشابة في مؤسساته، وفي الارتباط الوثيق بإسرائيل.

– اختلاف في التوجهات السياسية ووجهات النظر بين الحكومة الإسرائيلية وأوساط في المجتمعات اليهودية – الأميركية.

أثّرت هذه المتغيرات في الدعم العام اليهودي الأميركي، وبات متفرقاً أكثر وأقل مركزية، من دون أن يعني ذلك خفضاً في نسبة الدعم العامة. وقلّ الدعم العام المقدم من الفدراليات، على سبيل المثال، إلاّ إن الدعم المتفرق ازداد. وفضلت عدة مؤسسات أن تدعم مباشرة مؤسسات إسرائيلية بدلاً من انتظارها أن تدعمها الفدراليات أو الوكالة اليهودية. وبدأت أوساط، تُعتبر ليبرالية، التبرع لـ «الصندوق الجديد لإسرائيل»، ذي الصبغة الصهيونية الليبرالية الواضحة، بينما حافظت أوساط أُخرى على دعم مشاريع استيطانية.

الحقبة الخامسة: 2001 – 2020

امتازت بداية هذه الحقبة بازدياد تعاطف يهود الولايات المتحدة مع إسرائيل، وخصوصاً بعد اندلاع الانتفاضة الثانية، وبعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001، إلاّ إن محطات وأنماطاً من التوتر ظهرت في نهاية هذه الحقبة مع تولّي نتنياهو رئاسة الحكومة منذ عقد من الزمن.

حاولت مؤسسات في المجتمعات اليهودية – الأميركية ربط أحداث 11 أيلول/سبتمبر بموجات العمل الاستشهادي الفلسطيني خلال الانتفاضة الفلسطينية الثانية. ويُذكر من أنشطتها البارزة الدعوة إلى تظاهرة في واشنطن، في نيسان/أبريل 2002، شارك فيها عشرات الآلاف.51 ولقيت خطوة أريئيل شارون، القائمة على الانسحاب/فك الارتباط الأحادي الجانب، من غزة، تأييداً في أوساط متنوعة داخل المجتمعات اليهودية – الأميركية، في مقابل معارضة أوساط محافظة.

تجلّى هذا الاستقطاب (غير الحاد) داخل المجتمعات اليهودية في تأسيس منظمة جي ستريت، كلوبي سياسي في مقابل أيباك، يتبنّى شعار حل الدولتين وضرورة التفاوض مع الفلسطينيين من أجل الوصول إلى سلام في الشرق الأوسط. وواجهت «جي ستريت» انتقادات قاسية. يُضاف إلى ذلك منظمات يهودية يسارية (بدأت كتنظيمات قاعدية نشطت في الجامعات وخارجها)، مثل منظمة صوت يهودي للسلام (Jewish Voice for Peace)، أو منظمات يسارية نشط من خلالها يهود، عملت ضد الاحتلال الإسرائيلي والحكومات الإسرائيلية، ورفضت تجريم مقاطعة إسرائيل، كمنظمة طلاب من أجل العدالة في فلسطين (Students for Justice in Palestine/SJP).

يجب الإشارة إلى أن الحديث عن وجود استقطاب لا يصل إلى درجة يُخدش فيها شبه الإجماع اليهودي الأميركي على الانحياز إلى مصالح إسرائيل، وخصوصاً في أوقات أزماتها. فعلى الرغم من الحديث عن وصول العلاقة بين إسرائيل والولايات المتحدة إلى أسوأ مراحلها خلال دورتَي حكم باراك أوباما، فإنه تم تنفيذ صفقة عسكرية وأمنية بين أميركا وإسرائيل في عهده بلغت قيمتها 38 مليار دولار، وأُبرمت خلال المفاوضات الأميركية – الإيرانية توقيع الاتفاق النووي (قبل أشهر قليلة من إنهاء أوباما دورته الثانية)، وهي الصفقة الأكبر في تاريخ المساعدات التي قدمتها أميركا إلى دولة أجنبية.52

لا يناقض هذا الأمر القول إن فترة أوباما تخلّلها توتر في العلاقات الأميركية – الإسرائيلية، ألقى بظلاله على علاقة إسرائيل بيهود أميركا. وكان الاتفاق النووي مع إيران سنة 2015 أبرز محطاته، ومن تجلياته خطاب نتنياهو أمام الكونغرس سنة 2015. وكانت المجتمعات اليهودية منقسمة إزاء الاتفاق، فدعمته مؤسسات وعارضته أُخرى.

حقبة ترامب: 2016 – 2020

ليس من السهل جزم مدى تأثير حقبة دونالد ترامب (2016 – 2020) في العلاقة الثنائية بين إسرائيل ويهود الولايات المتحدة الأميركية، وإسقاطاتها عليها، ذلك بأن أنماط التصويت اليهودي لم تتغير في هذه الحقبة، على الرغم من كل ما جرى خلالها، وخصوصاً بعد إجراء الانتخابات الرئاسية في الثالث من تشرين الثاني/نوفمبر 2020، والتي تنافس فيها الرئيس الجمهوري دونالد ترامب مع المرشح الديمقراطي جو بايدن (تم حسم مصيرها انتخابياً بخسارة ترامب السباق الرئاسي إلى دورة ثانية، وفوز المرشح الديمقراطي جو بايدن، على الرغم من تشكيك ترامب في النتائج، واتهامه الديمقراطيين بتزويرها وسرقة الفوز منه). إلاّ إن الدعم اليهودي للمرشح الديمقراطي جو بايدن ازداد، إذ إن ترامب لا يحظى بشعبية واسعة لدى المجتمعات اليهودية، ويثير مخاوف أوساط كثيرة فيها، وخصوصاً إزاء مسألة توجّهاته وسياساته تجاه الأقليات والمجموعات الإثنية في أميركا. وعلى الرغم من ذلك فإن عدة إجراءات وقرارات أقدم عليها ترامب حصلت على تأييد أوساط في المجتمعات اليهودية، وخصوصاً تلك المنحازة إلى إسرائيل، كالاعتراف بالقدس عاصمة لها، وإعلانه نيّته نقل السفارة الأميركية إليها، في كانون الأول/ديسمبر 2017.53 وشكلت مجموعات خاصة داخل اليهودية الأرثوذكسية، بالإضافة إلى رجال أعمال، كإدلسون وغيره، قوة داعمة لترامب وموازية للمنظمات اليهودية التقليدية الداعمة للديمقراطيين. بيد أن التناقض، الذي سبق أن ذكرناه في القسم الحالي، ظهر جلياً في حقبة ولاية ترامب، من خلال ازدياد الممارسات والاعتداءات المعادية للسامية، وذلك كجزء غير منفصل عن عملية الحشد والتعبئة اللذين لطالما قام بهما ترامب في صفوف مؤيديه ضد كل من هو غير أميركي – مسيحي – أبيض، وضد كل مَنْ ينتمي إلى المهاجرين والطوائف والمجتمعات الأُخرى في المجتمع الأميركي.

يرى كثيرون أن الإعلان الأميركي الذي يُعرف بـ «صفقة القرن» كان التجلي الأبرز، لا لانحياز الإدارة الأميركية (في عهد ترامب) إلى المصالح الإسرائيلية فحسب، بل أيضاً نتيجة تماهيها الأيديولوجي التام برؤية اليمين الاستيطاني تجاه القضية الفلسطينية. واعتُبر هذا الأمر قَطعاً مع المبادرات الأميركية السابقة، وانتقالاً من الانحياز إلى إسرائيل والتحالف معها إلى التماهي مع مواقف اليمين الإسرائيلي.54 وأشارت، في هذا الصدد، عدة مصادر إلى التأثير البارز الذي مارسه ثلاثة أشخاص، من اليهود الصهيونيين في عهد ترامب، للوصول إلى «صفقة القرن». هم: أولاً، جاريد كوشنير، وهو ابن لمستثمر عقاري داعم لنتنياهو ومتبرع للمستعمرات الإسرائيلية، فضلاً عن كونه صهر ترامب؛ ثانياً، السفير الأميركي في إسرائيل ديفيد فريدمان؛ أخيراً، آفي بيركوفيتش، وهو صديق كوشنير ومساعد له، وسبق أن عمل في حملة ترامب الدعائية.

امتازت هذه الحقبة بازدياد الحديث عن تأثير قوة المسيحية الإنجيليّة55 (المنحازة إلى الصهيونية والاستيطان) في الدعم الأميركي لإسرائيل، إذ يشكل الإنجيليون (الأفنجلكان) ما نسبته 26 في المئة من إجمالي المصوتين الأميركيين، ويحظى ترامب بتأييد ما يقارب 80 في المئة منهم، وفقاً لمعهد بيو.

يرى كثيرون أن لطائفة الإنجيليين تأثيراً كبيراً في قرارات ترامب السياسية، والمنحازة تماماً إلى المصالح الإسرائيلية، كنقل السفارة الأميركية إلى القدس، وإعلان الأخيرة «عاصمة أبدية وموحدة لإسرائيل»، والاعتراف بضم الجولان.

(5) جوانب من الدعم سياسياً وأمنياً وعسكرياً في العقد الأخير

«لا يوجد أي احتمال لاستمرار العلاقة المتينة بين أميركا وإسرائيل من دون يهود الولايات المتحدة الأميركية.» هذه كانت كلمات الحاخام إريك يافا، رئيس الحركة اليهودية الإصلاحية في شمال أميركا،56 وهي إشارة إلى ما يشكّله يهود الولايات المتحدة (أو الأوساط الداعمة لإسرائيل بينهم)، من عامل أساسي في تعزيز الدعم المقدم من دولتهم (أميركا) إلى إسرائيل، أمنياً وعسكرياً، بحيث يتركّز هذا الدعم في جانبين: دعم أمني عسكري لإسرائيل، وحمايتها في الساحة الدولية. ونُقل عن أحد سفراء إسرائيل في الولايات المتحدة الأميركية قوله إنه ما كان من الممكن له أن ينشط ويعمل كما عمل من دون مساعدة «أيباك» والمجتمعات اليهودية – الأميركية، بصورة عامة. وهي مقولة تعزز الفكرة أعلاه.

يظهر ازدياد الدعم الأميركي لإسرائيل، بعد سنة 1967، في الجانب العسكري أيضاً، على الرغم من أن الرئيس الأميركي جون كيندي كان أول من باع إسرائيل أسلحة (صفقة صواريخ «توماهوك» في أوائل ستينيات القرن الماضي)، إلاّ إن الرئيس ريتشارد نيكسون ضاعف هذا الدعم منذ السبعينيات.57

تتجلى مظاهر الدعم اليهودي الأميركي سياسياً لإسرائيل في الزيارات المتعددة والدائمة لمندوبي اللوبي للبيت الأبيض. وصرح سكرتير الدفاع الأميركي، ليان فانطا، في مؤتمر أيباك سنة 2012، بشأن أهمية اللوبي الصهيوني، قائلاً إنه عزز توجه الولايات المتحدة إلى ضمان التفوق الجوي الإسرائيلي في منطقة الشرق الأوسط، من خلال الإمداد العسكري، وعلى رأسه طائرات F35.58

فرض المصالح الأمنية الإسرائيلية على الطاولة: من أبرز وسائل دعم المجتمعات اليهودية – الأميركية (أو الأوساط المنحازة إلى إسرائيل فيها)، للأمن القومي الإسرائيلي، مساهمتها الدؤوبة في فرض مسألة «التهديدات الأمنية» التي تتعرض لها إسرائيل، من وجهة نظرها، وطرحها على صُناع القرار في أميركا، وعلى المجتمع الفاعل والمؤثر في الأمن الاستراتيجي الأميركي، فضلاً عن فرض رؤية «الأمن المشترك والمصالح المشتركة»، الأمر الذي ساهم، في كثير من الأحيان، في المبادرة إلى إقامة تدريبات ومناورات عسكرية مشتركة.

كان للوبي الصهيوني وشخصيات قيادية في المجتمعات اليهودية – الأميركية دور مركزي في فرض مسألة «التهديد الإيراني» على الأجندة في الكونغرس الأميركي باستمرار، وفرضه أميركياً على الأجندة الدولية، والعمل على فرض عقوبات ضد إيران.59 وكان لأيباك دور أساسي في ذلك، وفي العمل دائماً على فرض مسائل وطرح نقاشات على جدول أعمال الكونغرس، لمصلحة إسرائيل. وبين هذه الأمثلة، قانون «التعاون الاستراتيجي بين الولايات المتحدة وإسرائيل» في كانون الأول/ديسمبر 2014، والذي أُقر بمبادرة من مجموعة من أعضاء مجلس النواب وسيناتورَين، ممن يتلقون دعماً وتبرعات سخية من أيباك.60 يُضاف إلى ذلك تنظيم الزيارات وتبادل اللقاءات والأعمال، بحيث يسعى اللوبي الصهيوني لتنظيم زيارات لإسرائيل لأعضاء من الكونغرس ولموظفين في مجلس الأمن القومي الأميركي، وترتيب لقاءات لهم مع مسؤولين إسرائيليين، لإطلاعهم أكثر على المصالح الإسرائيلية، والتعاون معهم من أجل تحقيقها.

الترويج للرواية الإسرائيلية: تقوم عدة منظمات يهودية باستثمار شبكة العلاقات التي تتمتع بها لترويج الرواية الإسرائيلية في وسائل الإعلام الأميركية، من أجل توجيه الرأي العام واستمالته نحو المصالح الإسرائيلية. وبين هذه المنظمات (TIP)، وCAMERA وMEMRI.

(أ) دعم التبادل العسكري مع الولايات المتحدة الأميركية

أدت منظمة أيباك، في كثير من الأحيان، دوراً مهماً في تعزيز التبادل العسكري بين الولايات المتحدة وإسرائيل وتطويره، وتنفيذ صفقات كبيرة في هذا الشأن. وكانت من أهم المساهمين في إقرار قانون «التعاون الاستراتيجي بين إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية»، في تموز/يوليو 2012.61 كما ساهمت في إعلان وزارة الدفاع الأميركية، سنة 2014، تحويل مساعدات فورية تصل قيمتها إلى 429 مليون دولار، من أجل شراء بطاريات المنظومة الدفاعية، «القبة الحديدية»، المضادة للصواريخ، فضلاً عن تحويل 600 مليون دولار، سنة 2016، لتطوير أسلحة مضادة للصواريخ.62

ساهمت أيباك، في جانب آخر، مساهمة كبيرة في حماية «الأمن الإسرائيلي»، من خلال العمل على تعزيز مكانة إسرائيل في الناتو، من «حليفة غير عضو فيه»، كما حُدد في نهاية ثمانينيات القرن الماضي، إلى «شريكة استراتيجية مركزية»، الأمر الذي تم من خلال قانون أميركي مدّ إسرائيل بمساعدات أمنية طائلة.63 من هنا، يمكن رؤية أيباك تنظيماً أخطبوطياً له دور في أهم صفقات التعاون بين الولايات المتحدة وإسرائيل أمنياً وعسكرياً، الأمر الذي دعا نتنياهو إلى توجيه الشكر مباشرة إلى الجالية اليهودية الأميركية في أثناء إعلان صفقة المساعدات الأميركية المخصَّصة للفترة 2019 – 2028.

لا تتلخص «مساهمات» اللوبي الصهيوني في تعزيز هذه المساعدات لإسرائيل فحسب، بل في منع عقد صفقات بيع أسلحة لدول مجاورة لها في الشرق الأوسط أيضاً، من أجل ضمان التفوق العسكري الإسرائيلي، وخصوصاً فيما يتعلق بسلاح الجو. ويجب الإشارة هنا إلى أن هذه المعطيات، التي وردت أعلاه، لا تدّعي أن أيباك تتحكم في الرؤية الأمنية الأميركية تجاه المنطقة، بل إن عدداً من هذه الصفقات تم من منطلق مصلحة أميركية أمنية صرفة أيضاً. كما أن أيباك فشلت في عدة محطات في هذا الشأن، كعجزها عن منع صفقة بيع الولايات المتحدة طائرات «أواكس» للسعودية في الثمانينيات، أو عجزها عن إلغاء الاتفاق النووي الإيراني في فترة عهد الرئيس أوباما (تم إلغاء هذا الاتفاق في عهد ترامب، واعتُبر هذا الأمر نجاحاً كبيراً لإسرائيل). وفي جانب متصل، أثار الحديث عن صفقة بيع الولايات المتحدة طائرات F35 (النوعية في القتال الجوي)، لدولة الإمارات (على هامش اتفاق التطبيع الذي أبرمته بينها وبين إسرائيل، وكأحد الشروط التي وضعتها الإمارات على الولايات المتحدة، بين أمور أُخرى، للموافقة على إبرام التطبيع مع إسرائيل)، إعادة تسليط الضوء على مسألة التزام الولايات المتحدة «التفوق العسكري النوعي الإسرائيلي في المنطقة.» وكانت الإدارة الأميركية أعلنت تأكيدها إتمام هذه الصفقة في تشرين الثاني/نوفمبر 2020،64 وهو ما شكل دليلاً عزز موقف أصحاب الرأي القائل إن ثمة جانباً في السياسة الأميركية الخارجية تجاه المنطقة ينطلق من رؤية ذاتية أميركية لمصالحها، بمعزل عن قوة اللوبي الصهيوني وتأثيره. بيد أن تقارير إسرائيلية وأميركية أكدت، بعد أن أثيرت هذه المسألة، أن إسرائيل حصلت على ضمانات بمراعاة ضمان تفوقها النوعي العسكري على الرغم من حدوث الصفقة، فضلاً عن تعهد أميركي بتبليغ الجانب الإسرائيلي أي صفقات مستقبلية تعقدها الولايات المتحدة في الشأن ذاته.65

(ب) دعم الاستيطان الإسرائيلي

نشرت صحيفة «هآرتس»، لأول مرة، قبل سنوات وجيزة، بعض الجوانب الخفية بشأن قنوات التمويل المتعددة والمتشعبة لجمعية «إلعاد» الاستيطانية. ويشير تقرير الصحيفة إلى أن الجمعية تلقت تمويلاً يُقدر بـ 450 مليون شيكل، طوال ثمانية أعوام. وتُعَدّ منظمة «أصدقاء مدينة داود» (Friends of Davids City
المسجلة في نيويورك، وفقاً للتقرير، من أهم الداعمين للجمعية، إذ أغدقت عليها 122 مليون شيكل خلال الفترة 2008 – 2016، بالإضافة إلى «صندوق الأساس» (2,5 مليون شيكل)، و«الوكالة اليهودية»، ومنظمة «أصدقاء الجيش الإسرائيلي» في ميامي (1,3 مليون شيكل). وتلقت جمعية «إلعاد» في الفترة 2006 – 2013، تمويلاً من جانب كل من: رجل الأعمال يوجين تننباوم (35 ألف شيكل)؛ عائلة فاليك في الولايات المتحدة الأميركية (935 ألف شيكل)؛ رجل الأعمال نوعم لنير (72 ألف شيكل).66

(ج) دعم موقف إسرائيل دولياً

تساهم أغلبية المؤسسات اليهودية واللوبي الصهيوني في دعم إسرائيل وحمايتها دولياً، ومساندتها في وجه ما تسميه إسرائيل «حرب نزع الشرعية» عنها وعن ممارساتها، وخصوصاً من جانب منظمات المقاطعة والـ BDS. وتعمل أيضاً على توطيد علاقات إسرائيل بدول متعددة، منها دول في منطقة الشرق الأوسط. وكانت المعركة السياسية التي خاضها اللوبي الصهيوني في وجه عدم استخدام أوباما حق النقض في مجلس الأمن ضد قرار يدين الاستيطان الإسرائيلي، مثالاً لذلك. وعلى الرغم من أن اللوبي خسر معركته هذه، فإنه نجح، في المقابل، في إعداد عريضة موقّعة من 88 سيناتوراً وعضو مجلس نواب، قُدّمت إلى أوباما، وتحثه على الالتزام بالموقف الأميركي التقليدي، واستخدام حق النقض لمنع استصدار قرار إدانة الاستيطان. وتبيّن أن مَنْ قاد هذه العريضة هما السيناتوران الديمقراطي كريستين جليبرند والجمهوري مايك رواندس، المعروف عنهما صلتهما بـ «أيباك»، وتلقّي التمويل منها.67 وتم أيضاً إعداد عريضة وقّعها 41 سيناتوراً وعضو مجلس نواب أميركي، وقُدِّمت إلى منظمة اليونسكو، للاعتراض على ما سمّوه «إعادة كتابة التاريخ»، وفق الرواية الفلسطينية.

هناك أيضاً منظمتان يهوديتان عالميتان، هما Stand with US وTIP، تعملان بصورة بارزة ضد نشاطات حملات المقاطعة الدولية، فضلاً عن أن الفدرالية اليهودية الأميركية تقود، بالتعاون مع منظمات يهودية أُخرى، مبادرات لسن قوانين لتجريم حملات المقاطعة في الولايات المتحدة، واعتبارها معاداة للسامية. ولا تنحصر هذه المساهمات في التنظيمات اليهودية العالمية فحسب، بل إن أفراداً يهوداً من حول العالم يساهمون فيها أيضاً، كالملياردير بول سينجر، الذي أنشأ سنة 2015 صندوقاً لمكافحة حملات المقاطعة، من خلال دعم التقنية العالية («الهايتيك») في إسرائيل. وبادر الملياردير شلدون إدلسون، في السنة ذاتها، إلى تأسيس Maccabees Task Force، كمنظمة عليا ودفيئة، تساهم في مهاجمة حملات المقاطعة.68

شبكة العلاقات العالمية لدعم إسرائيل: من التمظهرات البارزة لدور يهود العالم في تعزيز مكانة إسرائيل عالمياً، وفي منطقة الشرق الأوسط، استثمار الحكومة الإسرائيلية شبكة علاقات اللوبي الصهيوني والمنظمات اليهودية الأُخرى الواسعة داخل الولايات المتحدة، من أجل دعم مصالح إسرائيل بصورة غير مباشرة، وذلك عبر التعاون مع عدة دول في أفريقيا وآسيا، ومحاولة تدعيم موقفها داخل الولايات المتحدة، في مقابل تطوير هذه الدول علاقاتها بإسرائيل. وأطلقت إسرائيل على هذه العملية اسم «الباب الدائري»، وهي تعزز ما نقترحه من تحليل للعلاقات بموجب مفهوم رأس المال السياسي اليهودي المشترك، بحيث إن اللوبي الصهيوني يستغل إمكاناته وعلاقاته الواسعة داخل الولايات المتحدة من أجل تعزيز مكانته، بحيث تتوسط لديه عدة دول، وتتقرب إليه، من أجل تعزيز مكانتها لدى البيت الأبيض، بينما تقوم هي، في المقابل، بفتح قنوات تواصل وحوار بينها وبين إسرائيل. وساهم المؤتمر اليهودي الأميركي، على سبيل المثال لا الحصر، في تسعينيات القرن الماضي، في اعتراف الولايات المتحدة بكثير من الدول المنفصلة عن الاتحاد السوفياتي، في مقابل تعزيز هذه الدول شراكتها مع إسرائيل. كما أن «الكونغرس اليهودي العالمي» (أو المؤتمر اليهودي العالمي)، الداعم بقوة للمصالح الإسرائيلية، تدخّل في أيار/مايو 2013 مع برلمانيين روس، وتباحث معهم، لتقديم اقتراحات لدعم إسرائيل في البرلمان الروسي.69

تسعى المنظمات اليهودية أيضاً للمساهمة في تطوير علاقات التطبيع بين إسرائيل ودول الشرق الأوسط، وهو ما صرح به قادة بعثة المنظمات اليهودية التي التقت الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في شباط/فبراير 2016، بالإضافة إلى ترتيبها لقاءات تمت في الأردن ودول عربية أُخرى، كزيارة المؤتمر اليهودي الأميركي للسعودية، وحثها على الاعتراف بحق إسرائيل في الوجود. كما أن دولاً عربية وإسلامية أُخرى تسعى، في المقابل، لإقامة علاقات بالمنظمات اليهودية، من أجل دعم مصالحها في الولايات المتحدة.70

(6) الدعم السياسي على مستوى يهود أوروبا محاربة معاداة السامية مدخلاً للدعم السياسي المتبادل

شكلت محاربة معاداة السامية في أوروبا على غرار العلاقات الثنائية بين إسرائيل ويهود أميركا، باباً أساسياً لفتح باب الهجرة اليهودية الأوروبية إلى إسرائيل، فضلاً عن كونها باباً لنسج برامج مشتركة، سياسياً واجتماعياً، بين يهود أوروبا وإسرائيل. ويمكن النظر إلى حالة اليهود في فرنسا وعلاقتهم بإسرائيل كمثال للجانب الاجتماعي المتعلق بتشجيع برامج الهجرة الأوروبية إليها، كما سنبيّن ذلك في القسم التالي.

أمّا في الجانب السياسي المباشر، فليست أحداث الانتخابات البريطانية الأخيرة، والأجواء التي رافقتها، وموقف أغلبية المجتمع اليهودي منها، بعيدة عنا. لقد كانت الانتخابات التي جرت السنة الماضية، والتي انحصرت بين مرشح حزب العمال جيرمي كوربين ومرشح حزب المحافظين بوريس جونسون (الذي فاز وأصبح رئيس الحكومة البريطانية)، وما تبعها من نقاش بشأن كل من معاداة السامية والموقف من إسرائيل ودور المجتمعات اليهودية، تعبيراً عن تزاوج موقفَي الطرفين: أغلبية المجتمع/المجتمعات اليهودية من جهة، وإسرائيل من جهة أُخرى، وذلك تحت إطار محاربة معاداة السامية التي وُصم بها جيرمي كوربين من جانب أوساط كبيرة من يهود بريطانيا، الذين تجنّدوا لمحاربة وصوله إلى رئاسة الحكومة.71

بيد أن الحملة، التي شنّتها أوساط كبيرة داخل المجتمع/المجتمعات اليهودية في بريطانيا ضد كوربين، لم تتناول مخاوف فئات كبيرة من المجتمع/المجتمعات اليهودية في بريطانيا، بل تطرقت إلى مواقفه السياسية تجاه الدولة الإسرائيلية، وإزاء قضايا الشرق الأوسط. ونشرت الصحف اليهودية الثلاث في بريطانيا، في منتصف سنة 2018، في تدليل على هذا التجنّد، مقالة مشتركة في افتتاحيات أعدادها، تحت عنوان «نقف معاً»، تضمنت هجوماً عنيفاً على جيرمي كوربين. وجاء في المقالة المشتركة للصحف الثلاث: «نحن نفعل ذلك من منطلق التهديد الوجودي لحياة اليهود في هذه الدولة، في حال تشكّلت حكومة برئاسة كوربين. نفعل ذلك كون الحزب، الذي كان بيتاً طبيعياً لجاليتنا، يفقد قيمه واستقامته، بسبب الإهانة الكوربينية لليهود ولإسرائيل.»72 يبيّن هذا التصريح أن منطلق الحملة المضادة لكوربين لم يكن خشية داخلية فحسب، بل خوفاً من مواقفه السياسية النقدية تجاه إسرائيل أيضاً.

تمثّل ذلك الموقف أيضاً في مقابلة أجرتها جيليان مارون، المديرة العامة لمنظمة «بورد أوف ديبيوتس» اليهودية، وهي التي شغلت منصب وزيرة سابقة في حكومة توني بلير، فأبدت خشيتها من انتخاب كوربين، علماً بأنها تنتمي إلى حزب العمال ذاته الذي ينتمي إليه، وكانت جزءاً من التظاهرات اليهودية الرافضة انتخابه، والتي شارك فيها الآلاف. وكانت منظمة Community Security Trust جزءاً من المنظمات التي موّلت حملات مضادة لكوربين. وأبدت مارون خشيتها مما سمّته «اعترافاً أحادي الجانب بدولة فلسطينية من جانب كوربين.» وأوضحت: «انتخاب كوربين يثير قلقاً يهودياً في بريطانيا، مثلما يثير قلقاً إسرائيلياً أيضاً.»73

المثال الأبرز لتجند أغلبية المجتمع/المجتمعات اليهودية في بريطانيا ضد كوربين، ربما كان التصريحات الهجومية غير المسبوقة للحاخام اليهودي الأكبر ليهود بريطانيا أفرايم ميرفيس، وحذر فيها من وجود مخاوف من مغادرة يهود بريطانيين في حال انتُخب كوربين لرئاسة الحكومة. ولا يُخفي الحاخام ميرفيس دعمه إسرائيل وانحيازه إليها، ونسج علاقات بأفراد من العائلة الملكية البريطانية لتقريبهم إلى وجهة النظر الإسرائيلية، فضلاً عن محاربته حركات المقاطعة ضد إسرائيل في بريطانيا.74

تتقاطع هذه الممارسات والتصريحات مع ما نقترحه في هذه المقالة، من عملية «مراكمة رأس المال السياسي المشترك»، بحيث إن ثمة ربطاً بين مهاجمة أوساط متنوعة في المجتمع/المجتمعات اليهودية لكوربين ومواقفه تجاه إسرائيل. ويظهر ذلك في لقاء مشترك عُقد في بلجيكا، وكان بمثابة «قمة دينية» مشتركة لحاخامات أوروبا. ويقول ميرفيس، في هذا الصدد، إن المجتمع/المجتمعات اليهودية في بريطانيا تتلقى تعليماً يهودياً بنِسَب أعلى مما تتلقاه مثلاً المجتمع/المجتمعات اليهودية في أميركا، بحيث إن نسبة اليهود المنتسبين إلى مدارس يهودية تصل إلى 70 في المئة، في حين أنها تبلغ في الولايات المتحدة 23 في المئة.75 ويوضح ميرفيس أن كثراً من اليهود في بريطانيا تقرّبوا إلى اليهودية نتيجة الحملة المضادة لكوربين، وبسبب تأثيرها، واقتناعاً بها.

القسم الثالث: تمظهرات التوتر في العلاقات وحقل «المواطنة الرمزية»

شهدت العلاقة بين إسرائيل ويهود العالم، وخصوصاً يهود الولايات المتحدة، خلال العقدين الأخيرين، وتحديداً في العقد الأخير، تمظهرات من التوتر، وإن كانت، كما يبدو، لا تشكّل تغيرات جوهرية بنيوية في ثوابت العلاقة، أي تلك المتعلقة بشعور كل طرف بالمسؤولية تجاه مصير الطرف الآخر، والشعور بمسؤولية الدعم المتبادل، واعتبار قوة إسرائيل ووجودها من صلب انتماء أغلبية اليهود في العالم. فأغلبية المجتمع/المجتمعات اليهودية – الأميركية مثلاً، وفقاً لاستطلاعات الرأي، لا تزال تُعتبر متعاطفة مع إسرائيل، أو منحازة إليها. وأظهر استطلاع للرأي أُجري بمبادرة من صندوق عائلة ميرلمان، سنة 2019، أن مواقف 80 في المئة منحازة إلى إسرائيل، وأن 67 في المئة مرتبطون عاطفياً بها.76 وأفاد استطلاع آخر بأن 81 في المئة من المُستطلَعين من يهود العالم ويهود إسرائيل وافقوا على أن إسرائيل هي «مركز الشعب اليهودي»، كما أن 38 في المئة من اليهود حول العالم، ممن شاركوا في الاستطلاع، وافقوا على أن الجيل الشاب اليهودي غير مهتم بإسرائيل، بينما رفض 62 في المئة ذلك.77

طفت إلى السطح، على الرغم من ذلك، سلسلة من التحوّلات في العلاقة بين إسرائيل ويهود العالم، تأثرت، كما يبدو، بتغيرات في أكثر من مستوى، بحيث قال 57 في المئة من المُستطلَعين اليهود حول العالم إن ثمة تباعُداً يشوب العلاقة بين الطرفين، وهي نسبة قريبة من رأي الإسرائيليين أيضاً،78 في حين أن 8 في المئة فقط، من اليهود حول العالم المشاركين في الاستطلاع، أفادوا بأن السياسة الإسرائيلية هي عامل يقرّب وجهات النظر، بينما اعتبر 13 في المئة أنها تقرّبها كثيراً.79

يتفاعل نمط العلاقة الثنائية بفعل سلسلة متغيرات أصابت أكثر من مستوى، وعدّدناها في القسم السابق، وهي: مستوى بنية كل من المجتمع الإسرائيلي والسياسة الإسرائيلية؛ مستوى بنية المجتمع اليهودي حول العالم؛ مستوى التغيرات في قيادات الجوالي اليهودية حول العالم؛ مستوى التغيرات العالمية والمَحاور فيها.

يمكن نَسب هذه الخلافات إلى تغيرات في بنية فهم القيم اليهودية المتباينة بين الجاليتين، بحيث إن السياق الإسرائيلي الصهيوني يذهب نحو تسييس الهوية اليهودية حتى النهاية، إلى درجة محاولته أن يطابق بينها وبين الهوية الصهيونية، ويماهيها بها. وثمة محاولات جرت مؤخراً لجرّ هذا التسييس إلى فضاءات أكثر تطرفاً، لربطها بمفهوم اليمين الصهيوني.

في المقابل، فإن المجتمع/المجتمعات اليهودية في العالم، وفي أميركا تحديداً، تُنتج ممارسات وخطابات تعكس تعابير متعددة لدى عدة أوساط من أجل فهم هذه الهوية، باعتبارها هوية روحية تربط هذه المجتمعات روحياً بإسرائيل وأرضها وتاريخ «الشتات»، الأمر الذي يجعل كثيرين من يهود العالم يرون أن لها أبعاداً ذات قيم عالمية، وليست وطنية. لقد عبّرت تصريحات متعددة، من الساسة الإسرائيليين، عن وصفهم فئات من المجتمع/المجتمعات اليهودية، وخصوصاً الأميركية، بأنها غير متوافقة مع توقعات الجانب الإسرائيلي منها. وقالت نائبة وزير الخارجية الإسرائيلي، تسيبي حوتوفيلي، إن «يهود الولايات المتحدة منفصلون عن واقع الكينونة الإسرائيلية»، مؤكدة أن يهود العالم، في أغلبيتهم، لا يفهمون إسرائيل، كونهم لم يساهموا مع أولادهم في الحرب من أجلها.80

يصف عدد من الباحثين هذا التوتر في العلاقة بأنه أزمة حقيقية، كالباحث زخي شالوم، إلاّ إننا لا نوافق على أن الحديث يدور عن أزمة حقيقية جوهرية، بقدر ما هو توتر ناجم عن رؤى متعددة بشأن كل من العلاقة ومفهوم اليهودية والتوقعات المتبادلة بين الطرفين، بشأن بناء «رأس المال المشترك»، والتي تتعثر في عدة محطات ولا يتم التوافق عليها، وخصوصاً في مستويين: مستوى العلاقات الإسرائيلية الخارجية، وخصوصاً إزاء الشرق الأوسط، ومستوى داخلي بشأن رؤية مغايرة لدور الدين في المجال الرسمي والدولة، ولحالة «التعددية» في إسرائيل.

في استطلاع أجراه المعهد لسياسات الشعب اليهودي في أوساط الجوالي اليهودية حول العالم، أبدى 60 في المئة إيماناً بوجود تباعد في العلاقة الثنائية بين إسرائيل ويهود العالم، بينما قال 38 في المئة إن إسرائيل «هي المسؤولة عن تدهور العلاقات بين يهود العالم وبينها.» أمّا في أوساط الإسرائيليين، فوافق 28 في المئة فقط على تحميل إسرائيل تبعات هذا التدهور في العلاقات.81

على الرغم من ذلك، فإن المشاعر التي يكنّها تجاه إسرائيل المستطلَعون ذاتهم من يهود العالم، تغلب عليها مشاعر «الفخر»، ثم في الدرجة الثانية مشاعر «الغضب»، وأخيراً تحلّ مشاعر «الخجل». والغضب، في هذه الحالة، منبثق أساساً من توقع متبادل.

 

كيف يشعر يهود العالم تجاه إسرائيل

(أ) جذور التوتر وتحولات ازدياده

يقترح هذا الفصل رؤية تحليلية لما يعتبره توتراً بين إسرائيل والمجتمعات اليهودية حول العالم، بصفته توتراً تُنتجه دائرة «رأس المال اليهودي المشترك»، وليس منفصلاً عنها. وبالتالي، لا نتفق مع الادعاءات القائلة بوجود أزمة جوهرية في العلاقة بين الطرفين، بحيث إن كل الدلائل والإشارات تفيد بأن ثمة شبه إجماع لم يتم خرقه بعدُ في المجتمع/المجتمعات اليهودية، وخصوصاً الأميركية، فيما يتعلق بالانحياز إلى مصالح إسرائيل، من وجهة نظر هذه المجتمعات، على الرغم من التباينات التي قد تنشأ، سواء داخل المجتمع/المجتمعات نفسها، أو بين المجتمع/المجتمعات اليهودية حول العالم وإسرائيل.

لا يعني هذا الجزم أن المجتمع/المجتمعات اليهودية كلها تُجمع على دعم مصالح إسرائيل، بحيث إن ثمة أوساطاً تذهب إلى حد دعم حملات مقاطعتها، لكن هذه الحركات تُعتبر هامشية بالنسبة إلى المجتمع/المجتمعات اليهودية، وتواجه تنديداً كبيراً من الداخل، فضلاً عن أنها ليست حديثة النشأة.

إن ما نسميه توتراً في العلاقة، وخصوصاً في العقد الأخير، نابع من رؤى متعددة لأساس العلاقة، الذي بُني عليه رأس المال المشترك. ففي حين بُنيت العلاقة على إجماع واتفاق على المساعدة المشتركة والدعم المشترك لكل جانب، مع احترام استقلالية قرار كل طرف، أنتج التوتر في العلاقة سلسلة من التوقعات المتبادلة في هذا الصدد. لقد طورت إسرائيل، مع الوقت، توقعاً بتلقي الدعم ووقوف المجتمعات اليهودية حول العالم إلى جانبها، من دون التدخل في شؤونها الداخلية. وطور يهود العالم، في الجانب الآخر، وخصوصاً في أميركا، نتيجة الدعم الذي يقدّمونه، ما نسمّيه توقعاً بالحظي بـ «مواطَنة رمزية موازية» في الدولة الإسرائيلية، من دون أن يكونوا مواطنين حقيقيين فيها. وقال الصحافي توماس فريدمان في مقابلة مع صحيفة «مكور ريشون»: «إسرائيل تقدّم نفسها على أنها دولة الشعب اليهودي، وبالتالي أنا أيضاً يهودي وأريد أن يكون لي صوت.»82 وبيّن استطلاع لمجموعات من الجوالي اليهودية حول العالم أن 9 في المئة فقط يعتقدون أن إسرائيل يجب أن تأخذ قراراتها من دون الاهتمام بيهود العالم.83

يظهر الاختلاف في التوقعات بين شبان إسرائيليين وشبان آخرين من المجتمعات اليهودية حول العالم، في استطلاع لمجموعات من الجوالي اليهودية حول العالم، بحيث أفاد 37 في المئة من الشبان اليهود حول العالم بأن على إسرائيل أخذ توجهات اليهود حول العالم في الاعتبار، بينما لم يوافق 29 في المئة من الشبان اليهود الإسرائيليين المستطلَعين على ذلك.84

ثمة تحولات ومتغيرات، حدثت في مستويات متعددة، تتفاعل مع هذا التحليل وهذه الرؤية، وقد تعزز تحريك هذه النقطة التي نرى أنها نقطة ارتكاز لفهم مسألة التوتر. وبين هذه التحولات: تحولات على مستوى المجتمع اليهودي حول العالم وأولوياته، وفي أميركا تحديداً؛ تحولات على مستوى المجتمع الإسرائيلي وأولوياته، وفي الدولة الإسرائيلية؛ تحولات على مستوى العالم.

(ب) تحولات وسياسات تتفاعل مع التوتر في العلاقة بين إسرائيل ويهود العالم

(1) معضلة معاداة السامية والتحالف الإسرائيلي مع اليمين الشعبوي في أوروبا وأميركا

تحاول إسرائيل، في سياق سياستها الخارجية الجديدة، خلال العقد الأخير، «الالتفاف» على الوحدة الأوروبية، عبر إقامة تحالفات مع اليمين الشعبوي العالمي، ومع أحزاب يمينية متطرفة. إلاّ إن هذه الاستراتيجيا ربما تعكس معضلة يهودية داخلية بشأن الأولويات، إذ إن ذلك يجعلها في صدام مع المجتمعات اليهودية، بحيث إن قوة اليمين المتطرف في أوروبا تُقلق الجوالي اليهودية بسبب تقاطع أحزابه أحياناً مع مظاهر معاداة السامية، فضلاً عن مواقف كثير من كوادره. وقد يؤدي التحالف الوثيق معه إلى توتر في العلاقات الإسرائيلية بيهود الشتات في أوروبا، وهو شرخ بدا بازراً لدى بعض القوى في الولايات المتحدة الأميركية، كما سنوضح لاحقاً.85

(2) اختلاف الرؤى بشأن الأحزاب الحاكمة في الولايات المتحدة

يُعتبر التحالف بين الحكومة الإسرائيلية والبيت الأبيض في فترة حكم دونالد ترامب، وفق النسق ذاته، أقوى تحالف في تاريخ العلاقة بين البلدين، كما صرح رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو في أكثر من مناسبة، وكما بيّن عدد من الساسة الإسرائيليين، وهم يكيلون المديح لترامب، ويتمنون انتخابه دورة إضافية. إن هذا الدعم الوثيق لا يتقاطع مع رؤية الأغلبية الساحقة من المجتمعات اليهودية في أميركا، والتي تدعم عادة الحزب الديمقراطي نتيجة أسباب داخلية تتعلق بتوجهات سياسة الأحزاب تجاه قضايا الداخل، والأقليات تحديداً. وهو مثال لتوتر ينبع من أولويات متباينة أحياناً.

تشير المعطيات إلى شبه إجماع على دعم الحزب الديمقراطي مقارنة بمجموعات دينية أُخرى:

تدل هذه المعطيات، كما يبدو، على أن هذه التوجهات هي أنماط ثابتة، بحيث يُظهر الجدول التالي، المتعلق بأنماط تصويت اليهود الأميركيين في الانتخابات الرئاسية،86 أن أغلبية عمليات التصويت للمرشح الديمقراطي تأتي في سياق وتيرة تصويت ثابتة:

أكثر من 57 في المئة من اليهود الأميركيين غير راضين عن سياسات دونالد ترامب وتوجهاته.87 ثمة استطلاع آخر، أُجري بمبادرة من صندوق «عائلة رودرمان» نهاية سنة 2019، أظهر أن 40 في المئة من أبناء المجتمع اليهودي في أميركا يرون أن العلاقة بين ترامب ونتنياهو هي السبب الذي يجعلهم أقل ارتباطاً بإسرائيل.88

(3) تغيرات في مستوى المجتمع اليهودي في أميركا

ثمة تغيرات سوسيولوجية تضرب عميقاً في المجتمع اليهودي الأميركي، فضلاً عن أن الأغلبية العظمى فيه كانت، وما زالت، داعمة للرؤساء الديمقراطيين والحزب الديمقراطي. وتشير المعطيات إلى أن 70 في المئة من أفراد المجتمع اليهودي الأميركي لديهم ميول إلى دعم الحزب الديمقراطي الأميركي، وأن 49 في المئة منهم تُعتبر آراؤهم وتوجهاتهم ليبرالية. نعرض فيما يلي مقارنة بين المجتمع اليهودي وسائر المجتمعات الدينية:89

يُظهر الجدول أدناه أن التوجهات الليبرالية في أوساط المجتمع اليهودي أعلى من نسبتها لدى مجموعات دينية أُخرى في المجتمع الأميركي، كما أنها أعلى من النسبة العامة في المجتمع ككل.

(i) تغيرات في مستويي الهوية والثقافة لدى الجيل الشاب

على الرغم من أن الارتباط بإسرائيل لا يزال مركّباً مهماً في هوية اليهود الأميركيين، وخصوصاً بعد سنة 1967، وأن أكثر من ثلثي اليهود في أميركا يشعرون بارتباط قوي أو بارتباط ما بالدولة الإسرائيلية (69 في المئة)، فإن ثمة مؤشرات واضحة، في المقابل، إلى انقسام متنامٍ داخل فئة الشباب، على وجه التحديد، بشأن هذا السؤال، وأن النسبة تقل وفقاً للجيل العمري، الأمر الذي يُنبئ بوجود مستويات تغيير تضرب المجتمع الأميركي الشاب والفتي، وتجعله يتعامل بأفكار انتقادية أكثر مع إسرائيل وسياساتها،90 بحيث إن شباناً يهوداً يرون أن إسرائيل، نتيجة التحولات الجارية فيها خلال العقدين الأخيرين، باتت أمراً مختلَفاً عليه بين أوساط فئة الشباب، بصورة أكبر من السابق. وعلى سبيل المثال لا الحصر، يشعر 60 في المئة من الشبان اليهود بارتباط قوي، أو بارتباط من نوع ما بإسرائيل، في مقابل 79 في المئة ممن ينتمون إلى عمر 65 عاماً وما فوق.91

الشعور بالارتباط بإسرائيل في أوساط اليهود92

يُظهر الجدول أعلاه أن ثمة عوامل تتداخل في مدى الارتباط بإسرائيل، وتتفاعل معه، محدثة تغيرات ما في مستويات هذا الارتباط، بحيث إن اليهود الذين يعرّفون أنفسهم يهوداً في الديانة يسجلون نِسَب ارتباط بإسرائيل أعلى من تلك التي يسجلها اليهود الذين لا يعرّفون أنفسهم يهوداً في الديانة. كما أن الفئة العمرية الأكبر لدى اليهود هي أكثر ارتباطاً بإسرائيل.

نجد في هذه الحالة أيضاً، أنه على الرغم من استمرار «حضور إسرائيل والاهتمام بمصالحها» كمركّب بين مركّبات الهوية اليهودية لدى اليهود في الولايات المتحدة الأميركية، فإن ثمة تقاطعات أُخرى تتداخل في هذه المسألة. فمثلاً، تسجل مجموعة اليهود فوق جيل 65 عاماً توجهاً أعلى في هذا الشأن، مقارنة بفئة الشباب. ونجد أيضاً أن اليهود الذين يعرّفون أنفسهم يهوداً، وفق الديانة، تشكل إسرائيل مركّباً أساسياً وضرورياً في هويتهم، بصورة أعلى من مجموعة اليهود ممن يعرّفون أنفسهم يهوداً ليس وفقاً للديانة. ولا يبدو من المعطيات أعلاه مجتمعة، على الرغم من ذلك، أن ثمة تغييراً جذرياً يحدث في مستوى ارتباط اليهود، بصورة عامة (الكبار والشباب)، بدولة إسرائيل، بحيث لا تزال تشكل مركّباً (مهماً على الأقل) في هويتهم اليهودية.

إلى أي مدىً يُعتبر الارتباط بإسرائيل والاهتمام بها مركّبين
في الهوية اليهودية لدى يهود أميركا93

 

كما أن استطلاعاً للرأي، في أوساط مجموعات يهودية حول العالم، أظهر اختلافاً في بعض التوجهات بين الجيل الشاب والجيل الأكثر تقدماً في السن، بحيث إن 37 في المئة من اليهود حول العالم، ضمن الجيل الشاب، يؤيدون فكرة مفادها بأن إسرائيل هي «ملجأ آمن لليهود في العالم»، في مقابل 66 في المئة من الأجيال الأكثر تقدماً في السن.94

إن أحد مظاهر انعكاس هذه المتغيرات على العلاقة الثنائية بين إسرائيل ويهود العالم (الولايات المتحدة تحديداً)، كما ذكرنا سابقاً، هو في فهم اليهودية ذاتها. فـ 73 في المئة من يهود أميركا مثلاً، وفقاً لاستطلاع لمركز بيو، يرون أن اليهودية تعني أولاً أن تبقى المحرقة والكارثة حيتين في الذاكرة، واعتبر أقل من 50 في المئة أنها تعني «الاهتمام بإسرائيل».95

وأظهر استطلاع للرأي أن المجتمع/المجتمعات اليهودية في بريطانيا مرتبطة جداً بإسرائيل،96 لكن الأغلبية العظمى من يهود العالم (79 في المئة)، في المقابل، يرون أن إسرائيل «ملزمة برفاهية كل يهود العالم.»

(ii) ظهور منظمات قاعدية معادية للصهيونية في أوساط يهود أميركا

لا يمكن اعتبار الصهيونية محط إجماع لدى جميع أفراد المجتمع/المجتمعات اليهودية ومؤسساتها في الولايات المتحدة الأميركية، كما ذكرنا سابقاً في القسم التعريفي بخريطة المؤسسات اليهودية في الولايات المتحدة، على الرغم من أن الانحياز إلى المصالح الإسرائيلية هو في صلب إجماع الأغلبية العظمى من المؤسسات اليهودية في أميركا. وعلى الرغم من ذلك، فإن ثمة أوساطاً يهودية (وإن لم تحظَ بالدعم اليهودي، شعبياً ومادياً) تُظهر توجهات معارضة للصهيونية وللمصالح الإسرائيلية ومناهضة لها، وعلى رأسها منظمة صوت يهودي للسلام (Jewish Voice for Peace)، التي أُسست سنة 1996، وعُرفت بانتقادها سياسات الاحتلال الإسرائيلي وممارساته، ومحاربتها محاولات نزع الشرعية عن حملات المقاطعة له. واتهمها منتدى مكافحة التشهير، اليهودي والمنحاز إلى إسرائيل، سنة 2017، بأن تصريحاتها ودعواتها تقترب من حد معاداة السامية. وتتعرض المنظمة المناهضة للصهيونية لهجوم كبير من وسائل إعلام إسرائيلية.97

تشير مصادر إسرائيلية إلى أن ارتفاع قوة صوت يهودي للسلام، في صفوف المجتمع/المجتمعات اليهودية في أميركا هو إشارة ودلالة على التغيرات التي تطرأ على مستوى الجيل الشاب اليهودي في أميركا، وصعود قوى في أوساطه تناهض السياسات الإسرائيلية والاحتلال بقوة.98 وأشار محللون إسرائيليون آخرون إلى أن نتيجة الانتخابات الطلابية، التي جرت في كلية فرانكلين برنارد في نيويورك، تدعم هذا الادعاء، بحيث إن أغلبية الطلاب أيدت المقاطعة الأكاديمية ضد إسرائيل. ومن المعروف أن ثلث طالبات الكلية النسائية (34 في المئة) هن من اليهوديات، الأمر الذي أثار حملة يهودية – إسرائيلية مضادة لممارسة الضغط وإلغاء نتائج الانتخابات.99

(iii) تغيرات ديموغرافية ومذهبية ذات انعكاسات هوياتية وثقافية على مستوى يهود الولايات المتحدة

إن متغير «الانتماء الفِرَقي» لأحد التيارات الدينية اليهودية في أميركا، على ما يبدو من عدة معطيات، يشكل متغيراً مفسراً – ومتفاعلاً مع – تغيرات في المواقف الهوياتية تجاه فهم الهوية اليهودية من جهة، والارتباط بإسرائيل من جهة أُخرى. لكن، قبل تبيان ذلك، نعرض فيما يلي التيارات الدينية الأساسية والفاعلة في أوساط المجتمع/المجتمعات اليهودية الأميركية:

ينقسم المجتمع اليهودي الأميركي إلى ثلاثة تيارات دينية مركزية: الإصلاحي (35 في المئة)؛ المحافظ (18 في المئة)؛ الأرثوذكسي (10 في المئة). أمّا سائر هذا المجتمع فهو منقسم، على النحو التالي: 6 في المئة يتبعون تيارات دينية صغيرة الحجم ومتعددة، بينما لا ينتمي 30 في المئة من المجتمع اليهودي إلى أي من هذه التيارات؛ أي أن أكثر من ثلثي المجتمع اليهودي الأميركي (65 في المئة)، إمّا ينتمي إلى التيار اليهودي الإصلاحي، وإمّا لا ينتمي إلى أي من التيارات.

التيار الإصلاحي: هو التيار الديني الأكبر لدى المجتمع/المجتمعات اليهودية في الولايات المتحدة الأميركية، ويمتاز بمحاولات مقاربة القيم اليهودية ومواءمتها مع القيم الحديثة، كما جاء على لسان قيادته. وبالتالي، فهو يمثّل توجهاً للقيم اليهودية وفهماً لها، على نحو أكثر عالمية.

التيار المحافظ: يحاول التيار المحافظ، وفقاً لقيادته، دمج تحقيق الشعائر الدينية وتطبيقها في سياق الثقافة الحديثة. ويرى كثيرون أن التيار المحافظ هو نقطة الالتقاء الوسطية بين التيار الإصلاحي والتيار الأرثوذكسي.

التيار الأرثوذكسي: هو التيار الأضعف ديموغرافياً بين مختلف التيارات (10 في المئة)، وينقسم إلى تيارات أُخرى هي: أرثوذكسية حديثة (3 في المئة)؛ حريديم (6 في المئة)؛ آخرون (1 في المئة). ويلتزم التيار الأرثوذكسي ومريدوه بتطبيق اليهودية وشريعتها، كما جاءتا في فهم رجال الدين، وكما تم حفظهما عبر التراث.

يرى كثيرون أن انتماء أفراد أكثر من ثلثي المجتمع اليهودي إلى اليهودية الإصلاحية، أو أن يكونوا عديمي الانتماء الديني، يشكل عاملاً فارقاً، بصورة عامة، في المواقف الدينية والسياسية، بشأن فهم اليهودية، ومعنى أن تكون يهودياً، بحيث إن 46 في المئة من الأرثوذكسيين يرون أن اليهودية هي فهم ديني في الدرجة الأولى، في حين أن 11 في المئة فقط، ممن ينتمون إلى تيارات غير أرثوذكسية، يرون ذلك. كما أن عامل الجيل يتقاطع، هو الآخر، مع عامل الانتماء الديني، بحيث تشير استطلاعات الرأي إلى أن الأجيال الشابة، بصورة أكبر من أجيال متقدّمة،100 إمّا تنتمي إلى تيارات إصلاحية، وإمّا لا تنتمي إلى أي من التيارات.

(iv) توسع انتشار الزواج المختلَط

من الأمور التي تشير المعطيات إلى أنها آخذة في الازدياد لدى المجتمع/المجتمعات اليهودية في الولايات المتحدة الأميركية، مسألة الزواج المختلَط، بحيث وصلت النسبة إلى ما يقارب 58 في المئة سنة 2013. وهي ظاهرة منتشرة أساساً لدى المجموعتين: الإصلاحية وعدم المنتمية مذهبياً، وتُعتبر من العوامل المؤثرة، والمؤدية إلى تغيرات في أوساط المجتمعات اليهودية في أميركا، اجتماعياً وثقافياً، وجزءاً من أسباب انتقاد المجتمع الإسرائيلي لها. إلاّ إن هذه الظاهرة تُعتبر، لدى أوساط يهودية إسرائيلية دينية ومحافظة، وحتى علمانية، من الظواهر المنبوذة مجتمعياً. واعتمدنا هنا هذا الأمر للمقارنة فقط، وبسبب عدم توفر نِسَب دقيقة عن الزواج المختلَط في إسرائيل. وتشكلت، في هذا الصدد، مجموعات ومبادرات وحركات يهودية صهيونية إسرائيلية، هدفها «منع الزواج المختلَط، وإعادة الشابات اليهوديات إلى المجتمع الإسرائيلي»، وانتشرت شعارات، مثل «بنات إسرائيل لشعب إسرائيل»، وغيره من الشعارات العنصرية، والتي تحولت، في حالات كثيرة، إلى اعتداءات على من يرغب في الزواج المختلَط، ووصلت الأمور، في بعض الأحيان، إلى منعه بالقوة.

لا يُعتبر هذا الاختلاف المذهبي بين المجتمع اليهودي في أميركا والمجتمع اليهودي في إسرائيل اختلافاً بسيطاً فحسب، على مستوى الانتماء المذهبي، بل هو أيضاً اختلاف يجد انعكاساته على مستوى الهوية الثقافية، والمواقف الاجتماعية، فيما يخص «التهويد» وغيره. ويشير استطلاع للرأي إلى أن 80 في المئة من يهود الولايات المتحدة يوافقون على التهويد الإصلاحي والزواج المدني، في حين أن 44 في المئة فقط من اليهود الإسرائيليين يوافقون على ذلك. كما أن ما يقارب 73 في المئة من يهود الولايات المتحدة يؤيدون الصلاة المشتركة (جندرياً) في ساحة البراق (حائط المبكى يهودياً)، في مقابل ما يقارب نصف الإسرائيليين الذين يرفضون ذلك بصورة قطعية.101

(4) تحولات في مستوى المجتمع والدولة الإسرائيليَّين

يرى كثيرون أن تصورات يهود العالم لدولة إسرائيل اختلفت مع مرور السنوات، بحيث إنها باتت دولة «ذات قوة، اقتصادياً وسياسياً»، من وجهة نظر معظم اليهود حول العالم، وتستطيع الاستمرار من دون المساعدات الجمة التي تتلقاها. وبصرف النظر عن التقويم الموضوعي لهذا الادعاء، إلاّ إنه ادعاء رائج في أوساط متعددة في المجتمع/المجتمعات اليهودية، ويخلق نوعاً من شعور لدى هذه الأوساط، فحواه «أن إسرائيل لم تعد في حاجة إلى دعم المجتمعات اليهودية، وفق النمط والأهمية ذاتيهما السائدين في العقود السابقة.102

بيّن استطلاع للرأي، أُجري سنة 2017، أن 74 في المئة من يهود العالم يعتبرون أن إسرائيل تتطور في الاتجاه الصحيح، في مقابل 65 في المئة من الإسرائيليين، بينما يظن 37 في المئة فقط من يهود العالم، على سبيل المقارنة، أن «يهودية الشتات» تتطور في الاتجاه الصحيح.103

خلصت الأبحاث المتخصصة إلى أن المجتمع والنظام في إسرائيل يمران بتحولات عميقة، على مستوى بنية النخب الحاكمة، وعلى مستوى الطبقات المجتمعية. وتوصلت هذه الأبحاث إلى الادعاء أن ثمة يميناً جديداً في حال صعود في إسرائيل منذ نهاية الانتفاضة الثانية، متجسداً في تكتل تاريخي (وفق مفهوم غرامشي) لأحزاب اليمين المتطرفة، وبقيادة الليكود: أحزاب المستوطنين والصهيونية الدينية، إضافة إلى أحزاب حريدية، باتت أقرب إلى الصهيونية من ذي قبل، وحزب القادمين الجدد الروس الذي يتبنّى دمج العلمانية في اليمين المتطرف. وأدت هذه التغيرات إلى اقتراب الصهيونية إلى الدين أكثر، واقتراب اليهودية الدينية إلى الصهيونية أكثر. وتترافق هذه المتغيرات مع متغيرات قاعدية في المجتمع، تتمثل في زيادة ديموغرافية لشريحة الحريديم، إضافة إلى زيادة قوة الصهيونية الدينية، وشغلها مناصب مهمة في الدولة.104

ألقت هذه المتغيرات بظلالها على العلاقة بيهود العالم، وبالتيار الإصلاحي في الولايات المتحدة تحديداً، والذي بات يخشى قضم مساحات العمل السياسي، فضلاً عن سيطرة الأحزاب الأرثوذكسية على زمام العلاقة بين الدين والمجال العمومي في إسرائيل، بالإضافة إلى انسداد أي أفق أمام تسوية سياسية عادلة للمسألة الفلسطينية، بل يتم تكثيف الاستيطان، الذي وإن لقي مَن يؤيده في المجتمع/المجتمعات اليهودية حول العالم ويدعمه، فثمة مَن يتحفظ بشأنه أيضاً، وخصوصاً بين أوساط جيل الشباب.105

خلص استطلاع للرأي، بادر إليه صندوق عائلة «رودرمان» قبل سنة، إلى أن ثلث المُستطلَعين يعتقدون أن ازدياد قوة الأحزاب اليمينة أو الحريدية هو سبب أساسي في التباعد بينهم وبين إسرائيل.106 وتبيّن، في استطلاع لمعهد سياسات الشعب اليهودي، الذي ذكرته سابقاً، أن 8 في المئة فقط، من مجموعات الجوالي اليهودية حول العالم، تعتقد أن السياسة الإسرائيلية هي «عامل يقرّب يهود العالم إلى إسرائيل.» ويعتبر 13 في المئة أنها تقرّبهم إليها جداً، في مقابل أن 16 في المئة يرون أن السياسات الإسرائيلية «تُبعد يهود العالم عن إسرائيل»، ويعتقد 28 في المئة أنها «تُبعدهم عنها بصورة كبيرة.»107

(5) تغيرات في الولايات المتحدة نفسها

يبدو أن ثمة عوامل جديدة تدخل في مسألة دعم إسرائيل لدى الجمهور الأميركي العام، بحيث إن أنماط التصويت تؤثّر في سؤال «الانحياز إلى إسرائيل»، وتتفاعل معه، الأمر الذي يتعارض، بدرجة ما، مع ما كان يُعرف بـ «إجماع الثنائي الحزبي». أظهر استطلاع للرأي أجراه مركز بيو في كانون الثاني/يناير 2018، أن 79 في المئة من الحزب الجمهوري أبدوا انحيازاً إلى الإسرائيليين على حساب الفلسطينيين، بيد أن 27 في المئة من الديمقراطيين أقرّوا بأنهم ينحازون إلى إسرائيل أكثر من انحيازهم إلى الفلسطينيين.108 لا يعني هذا الأمر، على الرغم من ذلك، أن ثمة تحدياً لوجود «إجماع على الثنائي الحزبي» مع إسرائيل، بين قادة الحزبين الحاكمين ونُخبهما. فالاستطلاع شمل شريحة من الأعضاء من عامة الشعب، وليس من قيادتي الحزبين.

(ج) من مظاهر التوتر بين إسرائيل ويهود العالم (الولايات المتحدة بصورة خاصة) في السنوات الأخيرة

تمحور التوتر بين الحكومة الإسرائيلية ويهود العالم حول محطات متعددة في العقد الأخير، نتيجة عدة متغيّرات، كما ذكرنا سابقاً، على رأسها إشاعة خبر عدم دعوة نتنياهو إلى إلقاء خطاب أمام مؤتمر فدراليات يهود شمال أميركا في تشرين الثاني/نوفمبر 2017، علماً بأن خطابه بُث في نهاية المطاف عبر وسائل التواصل، عن بعد. وقال أحد قياديي المجتمع اليهودي بشأن ذلك: «لو خطب نتنياهو لكان أول رئيس حكومة إسرائيلي سيُستقبل بصافرات التحقير.» تبع ذلك بعضُ الأصوات اليهودية الأكاديمية والاجتماعية، والتي طالبت بوقف جمع التبرعات السخية من المجتمعات اليهودية لإسرائيل، على الرغم من أن الأمر لم يلقَ استجابة في واقع الأمر.

الاتفاق النووي الإيراني وتوتر العلاقات بين نتنياهو وباراك أوباما: كان الاتفاق النووي محطة بارزة وأساسية في هذا التوتر، إذ عارضت الحكومة الإسرائيلية بشدة هذا الاتفاق الذي وقّعته الولايات المتحدة الأميركية مع إيران سنة 2015. وألقى هذا التوتر بظلاله على العلاقات الثنائية بين يهود أميركا وإسرائيل، بحيث إن أغلبيتهم العظمى دعمت ترشّح أوباما. وحاول سياسيون يهود أميركيون إقناع نتنياهو بالعدول عن إلقاء خطاب أمام الكونغرس سنة 2015، يتعلق بمسألة الاتفاق النووي، وألاّ يهاجمه من خلاله. وانقسمت المجتمعات اليهودية في هذا الشأن، بحيث إن قسماً كبيراً من الأوساط اليهودية دعم الاتفاق، في مقابل انضمام مؤسسات عليا تمثيلية قوية إلى المعارضة الإسرائيلية له، مثل أيباك والمؤتمر اليهودي الأميركي والمنتدى لمكافحة التشهير. وفشلت مساعي نتنياهو، في ذلك الحين، في نهاية المطاف، في إلغاء الاتفاق (لكنه نجح في دفع الرئيس دونالد ترامب إلى إلغائه في سنة 2017).

أسئلة داخلية بشأن الدين والدولة: ازدادت مظاهر التوتر بين إسرائيل ويهود أميركا، مع وصول دونالد ترامب إلى الحكم، وأخذت أشكالاً داخلية أيضاً، كمكانة التهويد الإصلاحي في إسرائيل، و«مقترح الصلاة عند المبكى»، الذي تُخصَّص بموجبه مساحة للصلاة المشتركة جندرياً. ووصل التوتر إلى ذروته حين هدد آيك فيشير، أحد القادة غير الرسميين في المجتمع اليهودي، وعضو مجلس المديرين القُطري في أيباك، بتجميد التبرعات لإسرائيل بسبب إعلانها، في سنة 2017، تجميد «مقترح الصلاة عند المبكى.» وترافق ذلك مع إلغاء خطاب نتنياهو أمام مجلس الأمناء للوكالة اليهودية.109 وهي دعوة رددها آخرون في المجتمع/المجتمعات اليهودية في الولايات المتحدة، مثل غور إليئوري الذي كتب: «حكومة إسرائيل خنعت وخضعت لضغوط الأحزاب الأرثوذكسية.»110

قانون القومية: يُظهر توجه أوساط في المجتمع/المجتمعات اليهودية الأميركية، مثل الفدراليات اليهودية في شمال أميركا، بشأن «قانون القومية»، رؤية متباينة مع الحكومة الإسرائيلية. واللافت أن الانتقاد الذي وجهته الفدراليات في شمال أميركا لا ينبع من انتقاد جوهري لقانون القومية الإسرائيلي، بل من انتقاد عدم شموله مساواة العرب الدروز داخل إسرائيل باليهود الإسرائيليين. وذكرت الفدراليات اليهودية ذلك صراحة في بيانها.111 ولم تقتصر الانتقادات على الفدراليات فحسب، بل انضم إليها أيضاً المؤتمر اليهودي الأميركي والمنتدى لمكافحة التشهير كذلك، فضلاً عن أوساط في قيادتي التيارين الإصلاحي والمحافظ.

التيار الإصلاحي يتحفّظ عن نقل السفارة: كان إعلان الرئيس دونالد ترامب نقل السفارة الأميركية إلى القدس، من عوامل التوتر بين إسرائيل وتجمع/تجمعات اليهود حول العالم، وظهوره، في الفترة الأخيرة. وعبّرت قيادة التيار الإصلاحي اليهودي عن ذلك، متمثلة في شخص رئيسها ريك جاكبس، قائلاً: «يجب نقل السفارة في الوقت السليم، ولا نستطيع دعم خطوة ترامب من دون خطة سلام.»112 وتجلّى الاختلاف في وجهات النظر في استطلاع أجراه المؤتمر اليهودي الأميركي، بيّن أن 16 في المئة فقط من الجمهور الأميركي اليهودي يدعم خطوة نقل السفارة، بينما أيدها 36 في المئة شرط أن يكون النقل في وقت لاحق حين يتحقق سلام مع الفلسطينيين، ورفض 44 في المئة نقل السفارة بصورة قاطعة.113

القسم الرابع: مصادر القوة المشتركة في العلاقات الاجتماعية – الثقافية

تنشط مبادرات اجتماعية يتولاها أفراد، أو مؤسسات، أو هيئات، أو حركات من المجتمع المدني، داعمة لإسرائيل. وهي مؤثرة جداً بسبب ما يتمتع به يهود الولايات المتحدة من نفوذ ورأس مال اجتماعي، بحيث يتم دعم الهجرة واستغلال مكافحة السامية لمناصرة إسرائيل وتبرير أفعالها.

يتمتع معظم اليهود حول العالم، وخصوصاً في الولايات المتحدة الأميركية، برأس مال اجتماعي – ثقافي كبير (مقارنة بالنسب العامة بين السكان، أو بين سكان من أصول أُخرى)، ولا يتمثل هذا الجانب في المستوى الفردي الثقافي – الاجتماعي لليهود كأفراد فحسب، بل أيضاً بالقدرة على نسج شبكة علاقات متشعبة مع أصحاب القرار، سواء في الجانب السياسي المنتخَب، كما أشرنا، أو في مختلف المؤسسات الإعلامية والأكاديمية ومراكز الأبحاث والمنتديات المتعددة، بحيث يتم، في الغالب، ترجمة هذا التراكم في رأس المال دعماً سياسياً للمصالح الإسرائيلية. إن 60 في المئة من اليهود الأميركيين، على سبيل المثال، ذوو تعليم أكاديمي، يتمتع 30 في المئة بينهم بتعليم أكاديمي عالٍ، في حين أن 30 في المئة فقط من مجمل الأميركيين هم ذوو تعليم أكاديمي، يتمتع بينهم 10 في المئة فقط بتعليم جامعي عالٍ.114 كما شغل اليهود مواقع نفوذ أساسية، من الناحية الاجتماعية – الثقافية أسوة بالمستوى السياسي، فلقد تبوأوا أيضاً مناصب إعلامية في أهم وسائل الإعلام، فضلاً عن عمل كثيرين منهم في مدينة الإنتاج السينمائي «هوليوود»،115 التي كان لها أيضاً أثر في إنتاج الرواية اليهودية بشأن الشرق الأوسط، ونشرها عالمياً.

(أ) شبكة العلاقات في الحكم كرأس مال اجتماعي يُترجم سلوكاً سياسياً

يقول بيار بورديو إن رأس المال الاجتماعي لا ينحصر في المكانة الاجتماعية التي يتسم بها الفرد، بل بقدرته على التداخل في شبكة من العلاقات، بحيث تصبح هذه الشبكة، في حد ذاتها، رأس مال يُستثمر في مستويات أُخرى.116 ويشكل وجود أوساط كبيرة من اليهود في مواقع أساسية وحساسة، منذ النصف الثاني من القرن العشرين، العمود الأساسي في رأس مالهم الاجتماعي، والذي يتفاعل مع رأس المال السياسي، السابق الذكر، ويساهم في تعزيزه، ويستغله من أجل استمالة أصحاب قرار وصُناع سياسات في الدول إلى الرواية الصهيونية والمصالح الإسرائيلية.

أدى إدوارد جاكوبسون (Edward Jacobson)، الذي كان شريكاً تجارياً للرئيس الأميركي هاري ترومان،117 على سبيل المثال لا الحصر، دوراً بارزاً، كما ذكرنا، في تعزيز موقف ترومان من إسرائيل، وهو الذي اعترف بها بعد دقائق من إعلانها، فضلاً عن هنري كيسنجر، في فترة السبعينيات. وينطبق الأمر ذاته على حقبة الرئيس بيل كلينتون، بحيث كان محاطاً بمستشارين في شؤون «السلام»، كلهم من اليهود. أمّا في عهد الرئيس جورج بوش الابن فشغل ثلاثون يهودياً مناصب متعددة في الحكم، وكذلك في فترة الرئيس باراك أوباما، الذي أحاط نفسه بعدد من المستشارين اليهود، منهم وزيرا المالية والتجارة.118

لا تتوقف هذه التجليات للقوة والمصالح المشتركة، والتي تتحقق من خلال العلاقات السياسية، في حقبة بعينها، بحيث إنها مستمرة إلى الآن بصورة جلية. وربما كان المثال الأبرز هو الدور السياسي الكبير الذي يضطلع به صهر ترامب، جاريد كوشنير وزوجته إيفانكا، ابنة الرئيس الأميركي، في استمالة ترامب، لا إلى جانب المصالح الإسرائيلية، بل إلى تبنّي قيم اليمين الإسرائيلي المتطرف، وهو ما تمثل، بصورة واضحة، في المضي في إعلان «صفقة القرن» التي تتبنّى رؤية نتنياهو بشأن حسم الصراع في المنطقة.

يُعتبر تعيين ديفيد فريدمان سفيراً للولايات المتحدة في إسرائيل أيضاً، دليلاً ومثالاً آخر لتجليات هذا النفوذ الاجتماعي – السياسي، فضلاً عن تعيين جيسون غرينبلات (Jason Greenblatt) مستشاراً لشؤون المفاوضات وموفداً للحكومة الأميركية إلى الشرق الأوسط.119

(1) العلاقة بعد سنة 1967

شكلت حرب سنة 1967، كما ذكرنا سابقاً، منعطفاً أساسياً في العلاقة الثنائية بين إسرائيل واليهود حول العالم، لا على المستوى السياسي فحسب، بل أيضاً على مستوى بناء قوة دعم يهودية مشتركة، اجتماعياً وثقافياً. لقد زادت الهجرة اليهودية الأميركية بعد حرب سنة 1967. وللتدليل على ذلك، نذكر أن عدد المهاجرين اليهود من الولايات المتحدة حتى وقوع تلك الحرب وصل إلى نحو 30 – 35 ألف مهاجر، متدينين في الغالب. أمّا في سنة 1971 وحدها، فوصل إلى إسرائيل 8000 مهاجر يهودي أميركي،120 فضلاً عن أن الحركة الإصلاحية اليهودية الأميركية باتت أشد ارتباطاً بإسرائيل، وواظبت على إرسال بعثات أكاديمية إلى الجامعات الإسرائيلية، وزادت في درجة تداخلها في إسرائيل، اجتماعياً وثقافياً.121

ساهم اللوبي الصهيوني في دعم الهجرة اليهودية من دول العالم إلى إسرائيل. وأبرز ما قام به، في هذا الصدد، مساهمته في دعم هجرة اليهود من الاتحاد السوفياتي، في سبعينيات القرن الماضي، بعد اتفاق جاكسون – فانيك، السابق الذكر. وكذلك في حملة دعم يهود الحبشة.122

بات الدعم الأميركي لإسرائيل بعد سنوات الألفية الثانية، كما سبق أن ذكرنا، أقل تركيزاً وأكثر تنوعاً، على الرغم من المحافظة على وتيرة ازدياد الدعم والتبرعات المقدمة من المجتمعات اليهودية بصفة عامة. ووصل الدعم في أوائل سنة 2000 إلى أكثر من ضعفين ونصف ضعف ما كان عليه في ثمانينيات القرن الماضي.

كان ظهور العائلات المانحة دليلاً على النمط الجديد في الدعم والتبرعات، بحيث تتبرع بمبالغ كبيرة لمشاريع متعددة، كل وفق أجندتها. وبين هذه العائلات: برونفمان وشوسترمان وفاكسنر وماركوس وكرافت وشتاينهردت وإدلسون وسافان وميلكين.123

(2) مشاريع البعثات والهجرة: مشروع «تجليت» نموذجاً

بدأ مشروع «تجليت» منذ نهاية تسعينيات القرن الماضي لتعزيز الهوية اليهودية لدى يهود أميركا، ونشأ بمبادرة مشتركة بين الوكالة اليهودية، ومانحين يهود من حول العالم، وصندوق «أساس»، ومجموعات من المجتمعات اليهودية – الأميركية، ودولة إسرائيل. ويهدف المشروع إلى تعزيز التواصل والارتباط بين إسرائيل ويهود العالم، من خلال تنظيم مشاريع مشتركة ولقاءات تعارف وبعثات وزيارات لإسرائيل. وتشير المعطيات إلى أن 600 ألف يهودي من حول العالم، اشتركوا في هذا المشروع، حتى سنة 2018، وزاروا إسرائيل بمرافقة أكثر من مئة ألف جندي إسرائيلي.124

يُبدي ارتباطاً قوياً بإسرائيل125 43 في المئة من المشتركين في مشروع «تجليت»، وفقاً لبحث متتابع أجراه مركز كوهين. وحافظوا على هذا الشعور القوي بالانتماء إليها، حتى بعد سنوات من زيارتها.

(3) محاربة معاداة السامية كباب لشراكات اجتماعية وثقافية بين إسرائيل ويهود أوروبا

شكلت محاربة معاداة السامية، كما ذكرنا في القسم السابق، باباً رافداً يُساهم في بناء رأس المال السياسي المشترك في أوروبا بصورة خاصة، فهو باب لتوطيد رأس المال الاجتماعي – الثقافي أيضاً بين إسرائيل وأوساط في يهود أوروبا. وربما كانت المجتمعات اليهودية الفرنسية المثال الأبرز لذلك.

تُعتبر التجمع/التجمعات اليهودية في فرنسا من أكبر التجمعات اليهودية حول العالم، بعد إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية. ويبلغ عدد اليهود في فرنسا نحو 600 ألف يهودي، معظمهم من أصول شرقية، أو سفارديم (كما تُسمّى)، إذ إن معظم أصول الهجرة اليهودية إلى فرنسا يعود إلى شمال أفريقيا والجزائر بصورة خاصة، بعد التحرر من الاستعمار الفرنسي. وتنحدر أصول أغلبية المجتمع اليهودي في فرنسا من الجزائر وتونس والمغرب، فضلاً عن دول البلقان. أمّا الأشكناز (اليهود الغربيون)، فيشكلون أقلية داخل المجتمعات اليهودية في فرنسا.126

كان لحرب سنة 1967 تأثير كبير في مجرى العلاقات الثنائية بين يهود فرنسا وإسرائيل، كما بين إسرائيل ويهود الولايات المتحدة الأميركية، بحيث نظمت أوساط كبيرة في المجتمع/المجتمعات اليهودية في فرنسا تظاهرات داعمة للاحتلال الإسرائيلي، فضلاً عن فتح باب التبرعات لإسرائيل على مصراعيه، وإقامة تنظيم المؤتمر القومي للتنسيق، وهو الذي جمع التنظيمات اليهودية ونظمها تحت لوائه.

شكل وجود إسرائيل وحضورها في فرنسا، على نحو شبيه بسيرورة المجتمع/المجتمعات اليهودية في أميركا، رافداً لرأس المال اليهودي في فرنسا، سياسياً واجتماعياً. وبدأت التنظيمات اليهودية تقوى وتكبر بعد سنة 1967، وخصوصاً في مطلع الثمانينيات: أُنشئت محطات إذاعية، وأقسام أكاديمية لدراسات يهودية، وتم دعم مجلات أكاديمية وتطويرها في هذا الشأن. ومن الجدير الإشارة إلى أن هذه الفئات لم تكن كلها منحازة إلى إسرائيل.127

لا يمكن اعتبار يهود فرنسا كتلة واحدة، وأفرادها ليسوا موحدين بالضرورة، إذ تفيد تقارير بأن ما يقارب 300 ألف يهودي فرنسي يُعرَّفون «منفصلين عن الجذور»، أي أنهم ليسوا جزءاً من المجتمع اليهودي الفرنسي، الأمر الذي دعا منظمات مجتمع مدني إسرائيلي، وخصوصاً مع استمرار انتشار حالات معاداة السامية، إلى الشروع في حملات تهدف إلى زيادة زيارات يهود فرنسا لإسرائيل، فضلاً عن تشجيع هجرتهم إليها.128 تعمل منظمة «المتعة الإسرائيلية»، على سبيل المثال، وهي منظمة منبثقة من الوكالة اليهودية، على تفعيل برامج في هذا الشأن، وتستعين بعشرات آلاف الفرنسيين اليهود الذين هاجروا إلى إسرائيل لإقناع يهود آخرين بزيارة إسرائيل أو الهجرة إليها، تحت شعار «تعزيز الجذور اليهودية».

تستخدم المنظمة مسألة محاربة معاداة السامية تسويغاً أساسياً في حملاتها، إذ إن ما يقارب 70 في المئة من اليهود الفرنسيين، وفقاً لمصادرها، تعرّضوا لحوادث معادية للسامية، أو شعروا بأنهم تعرّضوا لها. كما أن 43 في المئة من اليهود يمتنعون من زيارة أماكن محددة، خشية تعرّضهم لحوادث مماثلة.129 لكن، لا مؤشرات واضحة حتى الآن على نجاح هذه الحملات، أو عدم نجاحها، إذ أشارت وزارة الهجرة الإسرائيلية، التي ذُكرت في مؤتمر «الدرب الفرنسي نحو أورشليم»، إلى أن 4770 يهودياً فقط، من اليهود الفرنسيين، هاجروا إلى إسرائيل سنة 2016.130 وتجدر الإشارة، في الصدد ذاته، إلى أن منظمات مجتمع مدني إسرائيلي تفعّل نشاطات مشابهة لتطوير بعثات وزيارات ليهود أوروبا، تحت شعار توطيد ارتباطهم بالهوية اليهودية وبإسرائيل، وبصورة خاصة لدى يهود ألمانيا وروسيا.131

(4) الترويج وتسويق إسرائيل عالمياً

تعمل عدة مؤسسات يهودية في الولايات المتحدة، عطفاً على المسار السابق الذكر، بالتعاون مع مجموعات دينية – إثنية أُخرى في مسألة مكافحة الكراهية، من أجل المساهمة في فرض مواجهة معاداة السامية على أكثر القطاعات في المجتمع الأميركي، بحيث أقام المؤتمر اليهودي الأميركي عدة منظمات، مثل مجلس القيادة اللاتيني اليهودي ومجلس الاستشاريين المسلم – اليهودي، بهدف استحداث حوار وفتح مجال للتعاون بين الطرفين. ويأتي ضمن هذا التعاون، تنظيم زيارة وفود ولقاءات مشتركة في إسرائيل، لتعريف هذه الوفود بالدولة الإسرائيلية. وتشكّل منظمة HAIS من أجل اللاجئين في إسرائيل وفي العالم، مثالاً آخر لذلك، بحيث تركّز نشاطاتها على تسويق إسرائيل دولة تحترم التعددية وحقوق الإنسان، وتحافظ على طالبي اللجوء فيها.132 كما أن التعاون، الذي يساهم يهود الولايات المتحدة فيه في المجال الأكاديمي والبحث العلمي، يساهم في التسويق لإسرائيل أيضاً.

يفعّل المؤتمر اليهودي الأميركي منذ الثمانينيات مشروع Project Interchange، ووصل من خلاله إلى إسرائيل حتى اليوم أكثر من 6000 شخص ذوي تأثير في بلادهم، بهدف تغيير صورة إسرائيل لديهم.

(5) التبرعات لمشاريع تنموية

تصل مبالغ التبرعات من الشتات لإسرائيل إلى أكثر من ملياري دولار سنوياً، ويخصص معظمها لمشاريع وجمعيات تعتبرها أوساط في يهود العالم «مشاريع تنموية للمجتمع الإسرائيلي». وبعض هذه التبرعات يذهب مباشرة إلى المؤسسات العليا، الداعمة الأساسية لإسرائيل، وعلى رأسها «الوكالة اليهودية» و«جوينت العالمي» و«صندوق القدس» و«صندوق إسرائيل الجديد». وتُخصص مبالغ أُخرى لما يُعرف باسم «صناديق صديقة»، التي توزعها بدورها على مؤسسات متعددة، كالمستشفيات والمتاحف والجامعات. أمّا المستوى الثالث فهو تبرعات فردية، بحيث أُنشئت صناديق دعم في الخارج للتبرع لمشاريع اجتماعية – ثقافية داخل إسرائيل، مثل «صندوق مندل» و«صندوق فرويد» و«صندوق برونفمان».133

(ب) خريطة التبرعات المؤسساتية

(1) المؤسسات «القومية» الإسرائيلية: هي المؤسسات العليا التقليدية، والتي عملت على مدار سنوات على تنظيم التبرع والدعم لمشاريع متعددة داخل إسرائيل، وبينها الوكالة اليهودية، وهي مؤسسة عالمية يهودية تحظى بمكانة قانونية خاصة في إسرائيل، منذ سنة 1952. وهناك أيضاً الهستدروت الصهيونية العالمية، وهي المؤسسة المالية المركزية لدعم مشاريع الهستدروت الصهيونية في أرض إسرائيل، والصندوق القومي اليهودي الذي يجمع التبرعات العالمية من المجتمعات اليهودية، باستثناء المجتمع/المجتمعات اليهودية – الأميركية. وعملت، إلى جانب هذه المؤسسات، مؤسستان يهوديتان أميركيتان بصورة مشابهة: النداء اليهودي الموحّد (UJA)، الذي كان أبرز المؤسسات اليهودية الأميركية العليا منذ ثلاثينيات القرن الماضي حتى نهاية تسعينياته؛ جوينت العالمي الذي يعمل على تمكين اليهود في كل العالم ضمن عدة مشاريع مجتمعية.134 يُضاف إلى ذلك مؤسسات كانت تُعتبر من أكبر المؤسسات الفاعلة في مجال جمع التبرعات والدعم من «الشتات اليهودي» لإسرائيل، مثل منظمة بونديس وغيرها.135

تغيرت أنماط الدعم مع مرور السنوات. فإن كان الدعم «من أجل الجماعة» وبنائها هو ما ميز تجنيد الموارد في الحقب السابقة، بحيث لم تفصَّل وجهات التبرع للشخص المُتبرع، فإن الجيل البيني والجيل الشاب يفضلان دعماً موجهاً، أي تفصيلياً وموجهاً إلى جهة معلومة ومجال محدَّد، إذ إن التبرعات، عبر هذه المؤسسات (الأولى)، انخفضت إلى النصف بعد سنة 2000. وبلغت 300 مليون شيكل في سنة 2000، بينما انخفضت إلى 150 مليون شيكل التبرعات الآتية من خلال هذه المؤسسات.136

(2) تمويل من خلال الفدراليات اليهودية في الولايات المتحدة: تعمل هذه الفدراليات على تجنيد الموارد من المجتمعات المحلية، وتحويلها من أجل دعم مشاريع متنوعة في إسرائيل، ووفقاً لرغبة المموِّل في كثير من الأحيان.

(3) تمويل من خلال «مؤسسات صديقة» وصناديق خاصة لشؤون عينية في إسرائيل: تُعتبر هذه القناة من التغيرات البنيوية الأساسية والتي طرأت على التمويل والدعم اليهوديين الأميركيين لإسرائيل خلال العقدين الأخيرين، بحيث تعمل ضمن نطاق فردي، في معظمه، من خلال صناديق تابعة لعائلات وغيرها.

(ج) وجهات التمويل والدعم

يخصَّص ما يقارب 50 في المئة من هذه التبرعات والتمويل من جانب يهود العالم بصفة عامة لدعم مشاريع تعليم وبحث علمي. أمّا النصف المتبقي فيتوزع على: رفاهٍ اجتماعي (13 في المئة)؛ تطوع ومؤسسات إغاثة (11 في المئة)؛ صحة (7 في المئة)؛ مؤسسات مناصرة ومرافعة (6 في المئة)؛ ثقافة ورياضة (6 في المئة). ويُعتبر ما يسمّى «المناعة القومية» من أهم وجهات التبرع القادمة، وخصوصاً من يهود الولايات المتحدة الأميركية.137

«المناعة القومية» رافعة لعلاقات تبادل مشتركة (اجتماعية وثقافية)

تشير عدة معطيات إلى تداخل يهود العالم في مسار «التنمية المجتمعية» في المجتمع المدني الإسرائيلي، بحيث يعتبر كثير من الأوساط لدى يهود العالم، وخصوصاً في الولايات المتحدة، أن هذا الأمر لا يساهم فقط في «تمكين المجتمع»، من وجهة نظره، بل يعمل أيضاً على تطوير ما يراه «تعددية» في إسرائيل، وهو من المسائل الأساسية التي خلفت توتراً بين أوساط في المجتمعات اليهودية وحكومة إسرائيل، كالنقاش بشأن «قانون التهويد» سنة 2017، وبشأن تعامل إسرائيل مع طالبي اللجوء السودانيين أيضاً. وتدفع هذه الأمور وغيرها عدة أوساط في المجتمع/المجتمعات اليهودية الأميركية إلى تخصيص موارد لجمعيات ومؤسسات تنتمي إلى المجتمع المدني الإسرائيلي، ورصدها وتجنيدها لها. وجنّدت فدرالية سان فرانسيسكو، على سبيل المثال، موارد مخصَّصة لدمج «قادمين جدد وعرب وحريديم ونساء في المجتمع الإسرائيلي» في مشاريع ضمن مجالات تعليم وتشغيل وتطوع مجتمعي. ويسعى صندوق «عائلة رودرمان»، في سياق مماثل، لدمج ذوي حاجات خاصة في المجتمع الإسرائيلي.138

القسم الخامس: مصادر القوة في العلاقات الاقتصادية المشتركة

يُعَدّ رأس المال الاقتصادي اليهودي من أهم مكامن القوة لدى المجتمع/المجتمعات اليهودية بصورة عامة، وفي الولايات المتحدة بصورة خاصة، الأمر الذي يساهم في تعزيز رأس المال والتأثير السياسيَّين للجالية اليهودية في أميركا. وتشير دراسة أجراها معهد بيو (Pew) للدراسات إلى أن 44 في المئة من اليهود الأميركيين يفوق دخلهم السنوي 100 ألف دولار، في مقابل 19 في المئة لدى عموم المواطنين.139

كان الدعم الأميركي – اليهودي أساسياً في فترة إنشاء دولة إسرائيل، كما ذكرنا سابقاً، وتولت مؤسسات عليا هذا الأمر، كمؤسسة النداء اليهودي الموحد (UJA)، وصندوق التأسيس والبونديس. ونجحت المجتمع/المجتمعات اليهودية، من خلال تأثيرها في صُناع القرار الأميركي، في تجنيد قروض كبيرة ومنح حكومية أميركية في نهاية عهد الرئيس ترومان.140

زاد الدعم المؤسساتي اليهودي الأميركي لإسرائيل بصورة ملحوظة منذ السبعينيات، وخصوصاً خلال الأزمة الاقتصادية التي تعرضت لها في بداية الثمانينيات. وتمثّل التعاون الأبرز بنجاح أيباك ومساهمتها في إقناع البيت الأبيض بتوقيع اتفاقية التبادل التجاري بين الولايات المتحدة وإسرائيل سنة 1985.141 كما زادت مساعدات الولايات المتحدة الاقتصادية لإسرائيل، ووصلت إلى ثلاثة مليارات دولار في ذلك الحين. ويؤكد مركز الأبحاث التابع للكونغرس أن إسرائيل تتصدر قائمة الدول التي تحصل على مساعدات اقتصادية أميركية منذ الحرب العالمية الثانية.142

تُعدّ المجتمع/المجتمعات اليهودية، وفقاً لدراسة لمركز بيو، من أغنى المجموعات الدينية – الإثنية في الولايات المتحدة الأميركية، إذ إن 44 في المئة من العائلات اليهودية تحقق مدخولاً سنوياً يفوق مئة ألف دولار، في المقابل فقط 19­% من مجمل السكان الأميركيين يحصّلون هذا الدخل السنوي. ويستثمر اللوبي الصهيوني رأس المال الاقتصادي من أجل استمالة نواب الكونغرس إلى المصالح الإسرائيلية، من خلال جمعه التبرعات اليهودية الكبيرة المخصصة لحملاتهم الانتخابية، والتي وصل حجمها إلى 50 في المئة من تلك التي قُدمت إلى الحزب الديمقراطي، و25 في المئة من مجمل التبرعات المقدَّمة إلى الحزب الجمهوري.143

الدخل السنوي اليهودي مقارنة بعموم المواطنين الأميركيين (بالدولار)

 

(أ) دعم الاقتصاد الإسرائيلي

لا تنحصر قوة اليهود الأميركيين في كونهم يستثمرون رأس مالهم الاقتصادي في رفد رأس المال السياسي فحسب، والدفع في اتجاه التأثير في صنع القرار في الكونغرس أو البيت الأبيض فقط، بل هم يساهمون أيضاً في دعم الاقتصاد الإسرائيلي، وهو ما يعزز نموذج رأس المال المشترك.

كان دور التبرعات، التي تقدمها إلى إسرائيل أوساط يهودية أميركية، مؤثراً في جعل الإدارة الأميركية تعنى بشأن المساعدات الاقتصادية لإسرائيل، وخصوصاً في الآونة التي احتاجت الأخيرة إلى ذلك، وتحديداً خلال الأزمة الاقتصادية التي تعرضت لها بداية الثمانينيات. ويبدو أن هذا الأمر تغيّر قليلاً بفعل تطور إسرائيل في العقدين الأخيرين، تكنولوجياً وإنتاجياً واقتصادياً.144 وعلى الرغم من هذا، فإن تقريراً لوزارة الشتات الإسرائيلية، صادراً في سنة 2017، خلص إلى أن دعم «الشتات» اليهودي للاقتصاد الإسرائيلي ما زال مؤثراً فيه، بحيث تصل مبالغ تبرعات الجوالي اليهودية في العالم لإسرائيل إلى 25 مليار شيكل سنوياً، وهو ما يشكل 6,35 في المئة من النشاط الاقتصادي في المجالات ذات الصلة. وتقدَّر مساهمة يهود الولايات المتحدة بثمانين في المئة من إجمالي هذه التبرعات.145 كما يمكن تقسيم المساهمة الاقتصادية لليهود حول العالم في الاقتصاد الإسرائيلي إلى فرعين أساسيين: التبرعات والاستثمار.

التبرعات

كانت حرب سنة 1967، كما ذكرنا، منعطفاً مهماً في شكل التبرعات وحجمها، بعد أن تحولت إسرائيل إلى عامل مركزي في هوية المجتمع/المجتمعات اليهودية في الولايات المتحدة تحديداً. ووصل حجم التبرعات المخصصة لأهداف متعددة في إسرائيل، سنة 2017، إلى ثمانية مليارات شيكل. لذا، يُعتبر هذا الفرع أساسياً في التبادل الاقتصادي المشترك، ويشكّل ما نسبته 32 في المئة من النشاط الاقتصادي ليهود العالم في إسرائيل.146 لقد فصّلنا، في القسم السابق، حجم التبرعات التي تغدقها صناديق يهودية عالمية على الاقتصاد الإسرائيلي. واللافت أن إحدى الدراسات، التي أجرتها وزارة الشتات، أظهرت أن فقدان واحد في المئة من هذه التبرعات وهذا الدعم يكلّف الاقتصاد الإسرائيلي خسارة 1800 وظيفة.147 وفصّلنا هذه المسألة في القسم السابق.

(ب) النشاط والاستثمار الاقتصاديان

على الرغم من أن مستوى التبرعات يُعتبر مهماً جداً في العلاقات الثنائية بين إسرائيل ويهود العالم، فإن أهميته تنصب، من وجهة نظرنا، في تراكم الدعم الاجتماعي – الثقافي المشترك بين الجانبين، من دون الانتقاص من دوره الفاعل في دعم الاقتصاد الإسرائيلي وإيجاد فرص العمل، كما ذكرنا. إلاّ إن الدعم الأساسي للاقتصاد يتعلق بمستوى التبادل، اقتصادياً وتجارياً، بين الطرفين، وخصوصاً يهود الولايات المتحدة. كما أن أوساطاً يهودية أميركية تؤدي دوراً مهماً فيما يتعلق بتشريع الأبواب أمام المستثمرين الإسرائيليين، وتشبيكهم مع نظرائهم الأميركيين، بالاستعانة بشبكة العلاقات الكبيرة التي تملكها.

تستثمر المجتمع/المجتمعات اليهودية الأميركية، على سبيل المثال، في مبادرات ريادية (Startup) في إسرائيل، والتي تساهم في سوق الإنتاج والصادرات الإسرائيلية.

إن انخفاض شراء البيوت من جانب يهود العالم بنسبة واحد في المئة، وفقاً للمعطيات أعلاه، يكلف الدولة الإسرائيلية خسارة 6 ملايين شيكل. كما أن 8 في المئة من الصادرات الغذائية الإسرائيلية إلى أوروبا والولايات المتحدة يستهلكها يهود العالم، أي أن كل انخفاض، قيمته واحد في المئة من هذه الصادرات، يكلّف خسارة 300 فرصة عمل في إسرائيل. أمّا في مجال السياحة، فإن ثلث السياح القادمين إلى إسرائيل هم من المجتمعات اليهودية حول العالم.148

 

مركّبات دعم يهود العالم وتداخلهم في الاقتصاد الإسرائيلي (بحجم 25 مليار شيكل سنوياً)

 

استثمار في الصناعات الحديثة

يُعتبر استثمار رجال الأعمال، مثل حاييم سيفان وبول سينجر وعائلة برونفمان، من أبرز نشاطات التبادل الفردي، تجارياً واقتصادياً، بين إسرائيل واليهود حول العالم، بحيث يستثمرون وغيرهم مئات ملايين الدولارات في قطاع تقنية المعلومات وصناعة «الهايتك» الإسرائيلية. ويستثمر رجال أعمال ومانحون آخرون في صندوق العلوم المشترك بين أميركا وإسرائيل (BSF)، والذي يعمل على تطوير صناعات علمية مشتركة.

تسعى عدة فدراليات يهودية – أميركية، إلى جانب مبادرات رجال الأعمال الفردية، للاستثمار في مشاريع اقتصادية في إسرائيل، وتطوير اقتصادها، من خلال إقامة مشاريع متنوعة. ويقوم بعض الفدراليات، على سبيل المثال لا الحصر، بتفعيل مشروع «علاقات أعمال من أجل الأعمال» في كل من الولايات المتحدة وإسرائيل. وطورت فدرالية سان فرانسيسكو، هي الأُخرى، مشروعي MEET وتسوفين – مركز الهايتك، وهما من المشاريع والمبادرات الاقتصادية التي تدعم الصناعة الإسرائيلية. أمّا أيباك فتساهم في مشاريع صناعية، ضمن مجالات الطاقة والمياه والزراعة، وخصصت موارد لتطوير شراكات في قطاعات الطاقة المتجددة والغاز والزراعة، في سنة 2016 أيضاً.149

خلاصة

انصب هذا الفصل على إماطة اللثام عن العلاقة الثنائية بين إسرائيل واليهود في الولايات المتحدة والعالم، وتحديد المستويات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تشكل أبعادها وعمقها، والبحث فيما يكتنف هذه العلاقة من أحداث تاريخية وواقع وعلاقات جذب ونفي وتكامل وتوتر، في أحيان كثيرة. وتُعتبر هذه العلاقة جزءاً أساسياً في محاولة قراءة المشهد الإسرائيلي، والسؤال عن ماهية وظيفة الدولة اليهودية والحركة الصهيونية، منذ تأسيسهما حتى اليوم، فضلاً عن اعتبار ما يُعرف إسرائيلياً بـ «يهود الشتات»، مركّباً محورياً وعمقاً استراتيجياً للدولة اليهودية. وعلى الرغم من تطرق هذا الفصل إلى العلاقة بين إسرائيل واليهود حول العالم بصفة عامة، فإنه يركز، في معظم أقسامه، على العلاقة الثنائية بين إسرائيل ويهود الولايات المتحدة الأميركية بصفة خاصة، لأن الولايات المتحدة تشكل التجمع الأكبر لليهود حول العالم خارج إسرائيل (ما يقارب 70 في المئة). كما أن نحو 40 في المئة من مجمل اليهود في العالم هم أميركيون، في مقابل 45 في المئة في إسرائيل؛ أي أن تجمع اليهود في إسرائيل وفي الولايات المتحدة يبلغ ما نسبته 85 في المئة من إجمالي اليهود في العالم.

وصف هذا الفصل هذه العلاقة من خلال مفهوم «مصادر القوة المشتركة»؛ أي وجود شبكة علاقات دعم مشتركة بين إسرائيل واليهود حول العالم، تتركز في مستويات ثلاثة: سياسية، واجتماعية – ثقافية، واقتصادية. تقوم مصادر القوة المشتركة بين الطرفين على اعتبار المصلحة المشتركة بين التجمعين مصلحة متبادلة وعمقاً استراتيجياً مهماً لكل منهما في مكان وجوده، الأمر الذي نسج ثوابت محددة في هذه العلاقة تقوم على مبدأ «الدعم المشترك»، وتعتمد في الوقت ذاته «احترام الخصوصية المحلية». بيد أن قراءة (سواء تاريخية أو حالية)، لواقع هذه العلاقة الثنائية وحيثياتها، تُشير إلى مظاهر معينة من حالات التوتر التي شابتها. وعمدت هذه المقالة إلى قراءة هذا التوتر ارتباطاً بما بلوره اليهود حول العالم، وفي الولايات المتحدة بصورة خاصة، من توقع أن يحظوا بـ «مواطنة رمزية»، تتمثّل في أخذ توجهاتهم وهواجسهم في الاعتبار عند صُناع القرار الإسرائيلي، وخصوصاً فيما يتعلق بالسياسة الخارجية، أو فيما يتعلق بالسؤال عن علاقة الدين بالدولة، ونمط هذه العلاقة إزاء مسألة «التهويد» بصفة خاصة. وترى هذه المقالة أن هذا التوتر (القائم أحياناً) ينبثق من معضلة بنيوية أساسية في الصهيونية، وهي اعتبار إسرائيل نفسها دولة اليهود في أراضيها، ودولة اليهود حول العالم، والتعامل مع ذاتها كأمة عالمية. ونتج من هذه المعضلة وهذه الرؤية مشهد مركَّب من العلاقة الثنائية. وإن كانت عملية بناء المصالح المشتركة أساس هذه العلاقة وأحد ثوابتها، فمن الجدير النظر إلى ما تُنتجه هذه العملية من توقعات متبادلة بين الطرفين، وهي توقعات لا يتم الاستجابة لها دوماً.

في المستوى السياسي، شكلت أوساط يهودية أميركية عمقاً استراتيجياً مهماً لفرض الأجندات الإسرائيلية على السياسة الأميركية (على الرغم من أن جزءاً أساسياً من هذه الأجندات نابع من المصلحة الموضوعية الأميركية ذاتها أيضاً)، من خلال الوصول إلى مواقع أساسية ومؤثرة في أميركا، وبالاعتماد على رأس المال السياسي القوي ليهود الولايات المتحدة، بدءاً باستمالة الرئيس ترومان إلى الاعتراف بإسرائيل، مروراً بدور هنري كيسنجر في الدعم الأميركي لها، وصولاً إلى دور جاريد كوشنير في فرض صفقة القرن الحالية. وقد بيّن الفصل، في هذا الصدد، دور المنظمات العليا اليهودية الأميركية: المؤتمر اليهودي الأميركي؛ منتدى مكافحة التشهير؛ الفدراليات اليهودية؛ أيباك (اللوبي الصهيوني). وتطرق إلى مساهمة أيباك، سياسياً، في الترويج للسياسات الإسرائيلية، وضمان توافق أجندات مجلس النواب الأميركي مع المصالح الإسرائيلية، وذلك من خلال قناة التبرعات التي تتيحها السياسة الأميركية، بالإضافة إلى دوره في إحباط محاولات كسر التفوق العسكري الإسرائيلي في منطقة الشرق الأوسط، أو زعزعته.

تُعتبر حرب سنة 1967 حدثاً جوهرياً ومفصلاً تاريخياً في هذه العلاقة الثنائية، بحيث باتت إسرائيل، في أعين معظم اليهود حول العالم، «الملاذ الآمن والمستقر لليهود.» كما أن الدعم الأميركي لها تضاعف وأخذ شكلاً مغايراً بعد سنة 1967، وبات يجمعها مع الولايات المتحدة حلف وثيق غير منازَع فيه. وساهم هذا الأمر في تقوية المجتمع/المجتمعات اليهودية – الأميركية ودعمها أيضاً؛ أي أن قوة إسرائيل وحضورها ساهما في تعزيز رأس المال السياسي الأميركي – اليهودي كذلك وتدعيم مراكزه، وليس العكس فقط.

من المهم الإشارة، في هذا الصدد، إلى أن هذا البحث لا يعتبر أن التماهي الأميركي التام مع المصالح الإسرائيلية نابع فقط من القوة والتأثير للمؤسسات اليهودية في أميركا الداعمة لإسرائيل، بل أيضاً من مصالح أميركية صرفة، وهذا الأمر يدعم بدوره نفوذ المؤسسات اليهودية المنحازة إلى إسرائيل في السياسة الأميركية.

ترى هذه المقالة أن المصالح المشتركة لا تقتصر على المستوى السياسي. فلا تزال إسرائيل ومؤسسات المجتمع المدني فيها، تحظى، اجتماعياً وثقافياً، بقناة من التبرعات الكبيرة، وخصوصاً من جانب الفدراليات المحلية والمناطقية، والتي تعتبر أن دعم ما تسميه «المناعة الاجتماعية» و«تمكين المجتمع الإسرائيلي» هو الحجر الأساسي في أجنداتها. كما أن الدعم الاقتصادي والمبادرة إلى إقامة شراكات اقتصادية هما أساس بناء القوة الاقتصادية المشتركة بين إسرائيل واليهود في الولايات المتحدة، وهو ما فصّله القسمان الرابع والخامس.

مظاهر التوتر

طورت إسرائيل توقعها الحصول على دعم من يهود العالم من دون التدخل في شؤونها الخاصة. وطور يهود العالم، أو الجزء المنحاز منهم إلى إسرائيل، في المقابل، توقعاً منهم يقوم على الحظي بـ «مواطنة رمزية» وعدم تدخّل إسرائيل في قضايا المجتمعات اليهودية في بلدانها الأُم، نظير هذا الدعم. إلاّ إن الواقع كان منافياً لهذين التوقعين، في أحيان كثيرة. وسجّل تاريخ العلاقة الثنائية بعض التوترات، كتلك التي ظهرت في حكم جورج بوش الأب بين يتسحاق شمير والمجتمع/المجتمعات اليهودية، أو التوترات التي ظهرت خلال العقد الأخير بشأن اختلاف وجهات النظر إزاء الاتفاق النووي مع إيران، وهو الاتفاق الذي حاربه نتنياهو بشراسة على الرغم من وجود أوساط يهودية – أميركية مؤيدة لتوقيعه. يُضاف إلى ذلك التوتر إزاء «اتفاق الصلاة المشتركة عند المبكى»، وهو الاتفاق الذي تراجعت عنه إسرائيل نتيجة ضغط الأحزاب الحريدية، الأمر الذي وتّر الأجواء بين المجتمع/المجتمعات اليهودية والحكومة الإسرائيلية. ومن التوترات، التي شابت العلاقة الثنائية أيضاً، الاختلاف في التوجهات إزاء أنماط التصويت في الانتخابات الرئاسية الأميركية. ففي حين يرى نتنياهو أن ترامب، الجمهوري، هو الصديق الأقرب تاريخياً إلى إسرائيل، لا تزال الأغلبية العظمى من المجتمع/المجتمعات اليهودية في الولايات المتحدة منحازة إلى الحزب الديمقراطي. أمّا على مستوى أوروبا فيتبيّن التوتر في انزياح الحكومة الإسرائيلية نحو التحالف مع قوى اليمين الشعبوي، في حين أن الجوالي اليهودية تخشى هذه التحالفات، وخصوصاً في شرق أوروبا، نتيجة علاقة هذه الأطراف، التي تنسج إسرائيل التحالفات معها، بمظاهر معاداة السامية.

هذا التوتر، الذي لا يوصف بالأزمة، ناتج من عدة أسباب، بينها تحولات عميقة تصيب المجتمعات اليهودية في العالم، وفي إسرائيل أيضاً. كما أن ثمة اختلافاً بين مفهوم الهوية اليهودية لدى أوساط الأغلبية في إسرائيل، والتي تربطها بالصهيونية، ومفهوم الهوية اليهودية لدى أوساط متعددة في العالم، وخصوصاً لدى الشباب، باعتبار أنهم ذوو قيم وأبعاد عالمية. كما أن ثمة تحولاً يحدث في أوساط النخب السياسية الإسرائيلية، وفي صلب الصهيونية التي تقترب أكثر إلى الدين، وإلى تقنين الفاشية، فضلاً عن الاختلاف فيما يتعلق بالتيار الإصلاحي. ففي حين أن هذا التيار هو المهيمن، وخصوصاً في الولايات المتحدة، لا الأرثوذكسي، فإن أغلبية الشرائح الدينية في إسرائيل لا تزال ترفضه. بالإضافة إلى ذلك، طرأ بعض التنظيمات اليهودية الحديثة النشأة، والتي تعترض على احتكار المؤسسات اليهودية العليا الكبيرة مصالح المجتمع/المجتمعات اليهودية. وهذه المؤسسات الحديثة النشأة تنتقد كلاً من السياسة الخارجية الإسرائيلية والاحتلال. كما أن مجموعات قاعدية عارضت ما يسمى «الإجماع على دعم إسرائيل والصهيونية»، وطرحت خطاباً بديلاً، كمؤسسة صوت يهودي من أجل السلام، التي تناهض الممارسات الإسرائيلية والصهيونية، وترفض تجريم الدعوة إلى مقاطعة إسرائيل.

إن الإقرار بوجود هذه المظاهر من التوتر لا يعني أنها هي الناظمة للعلاقة الثنائية بين إسرائيل ويهود العالم بصفة عامة، أو يهود الولايات المتحدة بصفة خاصة. بل إن العلاقة الثنائية لا تزال متينة وقوية لدى الأغلبية، ولا تزال قائمة على أساس المصالح المشتركة والإحساس بوحدة المصير بين الطرفين (أو لدى الأغلبية في الطرفين).

ذهب كثير من التحليلات بعيداً في هذا الصدد، إلى درجة اعتبار أن ما يجري هو بمثابة «شرخ» بين الطرفين، وهو ما تنظر إليه هذه المقالة بعين الحذر. ولا تشير المعطيات الواردة فيها إلى أن ما نراه من توترات يصل إلى درجة اعتباره أزمة جوهرية في العلاقة بين الطرفين، بينما تعتبره توتراً في إطار العلاقة الثنائية، والتي لا تزال راسخة بين إسرائيل والمؤسسات المهيمنة لدى يهود العالم وأميركا. وإن ضربت تغيرات عميقة المجتمعات اليهودية في العالم وفي أميركا، في مستويي المجتمع والنخبة، كما حدث في إسرائيل، إلاّ إن العلاقة الثنائية لا تزال تشكّل مركَّباً استراتيجياً في الرؤية الإسرائيلية، تماماً كما هي في الرؤية الاستراتيجية للمؤسسات اليهودية المهيمنة حول العالم، وفي الولايات المتحدة بصورة خاصة.

 

المصادر:

1 نص القانون في سجل القوانين الإسرائيلية.

2 مصطلح توراتي يتصل بالإيمان بالوعد التوراتي بشأن تجميع يهود العالم في أرض إسرائيل.

3 «عدد اليهود اليوم في العالم كما في سنة 1925»، «واينت»، 19 نيسان/أبريل 2020، (بالعبرية).

4 المصدر نفسه.

5 عوفر مدام – فريدمان، «المجتمع اليهودي في الولايات المتحدة: تعارف»، في: «يهود الولايات المتحدة والأمن القومي الإسرائيلي»، تحرير أساف أوريون وشاحار عيلم (تل أبيب: معهد دراسات الأمن القومي، 2018)، ص 45 – 65 (بالعبرية)؛ «عدد اليهود اليوم في العالم كما في سنة 1925»، «واينت»، 2020 / 4 / 19، (بالعبرية).

6 المعطى مختلَف عليه، بحيث يرتبط بسؤال «مَنْ هو اليهودي؟» كما سنبيّن لاحقاً، إلاّ إن أغلبية الدراسات تتفق على أن الرقم يتراوح بين 5,7 ملايين و7,2 ملايين.

7 Charles Liebman, Pressure Without Sanctions: The Influence of World Jewry on Israeli Policy (Rutherford: Fairleigh Dickinson University Press,1977), p. 21.

8 William Safran, «Diasporas in Modern Societies: Myths of Homeland and ReturnDiaspora: A Journal of Transnational Studies, vol. 1, no. 1 (1991), pp. 83-99.

9 إلعاد لوبيتس، «المكانة الرسمية ليهود الشتات في دولة إسرائيل»، أطروحة ماجستير، الجامعة العبرية، 2019 (بالعبرية).

10 يوسف كلوزنر، «دولة إسرائيل وشتات إسرائيل»، «مأزانيم»، المجلد 13، العدد 1 (1955) (بالعبرية). وللاستزادة يمكن مراجعة مقال الباحث رائف زريق في هذا الكتاب، المعنون: «إسرائيل خلفية أيديولوجية وتاريخية»، والذي يبيّن حضور فكرة «جمع الشتات» بصورة تأسيسية في الفكرة الصهيونية.

11 «عالياه» في العبرية تعني الارتقاء أو الصعود. وهو تعبير مجازي يُقصد به الهجرة اليهودية إلى إسرائيل، أو الحج إليها، باعتباره ارتقاءً للفرد (من وجهة النظر الصهيونية).

12 لوبيتس، مصدر سبق ذكره.

13 المصدر نفسه.

14 نعني بالمصلحة المشتركة: وجود إيمان ومنظومة تصورات وقرارات تنطلق من مبدأ الوحدة العليا في المصالح بين الطرفين.

15 سنقوم باستخدام مصطلح «رأس المال السياسي» للتعبير عن مكامن القوة السياسية التي تتجاوز البعد الانتخابي أو الكتل الانتخابية اليهودية في الولايات المتحدة والعالم. ونرى أن ثمة تقاطعاً لمكامن القوة الأُخرى، المتمثلة في شبكة علاقات وقوة اقتصادية وغيرهما، مع الدور السياسي لليهود في الولايات المتحدة وفي العالم.

أمّا مصطلح «رأس المال السياسي المشترك»، فنعني به وجود إيمان ومنظومة تصورات وقرارات تنطلق من مبدأ الوحدة العليا في المصالح السياسية بين الطرفين، بحيث تشكل قوة إسرائيل رافعة لتمكين المجتمعات اليهودية حول العالم سياسياً. كما تشكل قوة المجتمعات اليهودية، في المقابل، رافعة لحضور إسرائيل سياسياً في العالم، ولفرض أجنداتها الصهيونية، وتطوير مصالحها السياسية دولياً.

16 غابي شيفر وهداس روبرت – طولينادو، «مَنْ يقود؟ حول علاقة إسرائيل ويهود الشتات» (القدس: فان لير، 2006)، ص 38 – 58 (بالعبرية).

17 المصدر نفسه.

18 المصدر نفسه.

19 المصدر نفسه.

20 شموئيل روزنير وجون ريسكي، «70 عاماً لعلاقة إسرائيل – الشتات: الجيل المقبل (القدس: معهد سياسات الشعب اليهودي، 2018)، ص 17 (بالعبرية).

21 المصدر نفسه.

22 غابريئلا بارزين، «يهود الولايات المتحدة الأميركية والتباعد عن إسرائيل»، «يسرائيل هايوم»، 16 أيار/مايو 2016.

23 روزنير وريسكي، مصدر سبق ذكره.

24 مدام – فريدمان، «المجتمع اليهودي في الولايات المتحدة: تعارف»، مصدر سبق ذكره، ص 45 – 65 (بالعبرية).

25 المصدر نفسه، ص 56.

26 تُعتبر منظمة جوينت العالمية، والتي أُسست سنة 1914، واحدة من أهم منظمات الدعم الصهيوني العالمية، إن لم تكن أكبرها. وهي، وفقاً لتعريفها الرسمي، تساهم في دعم اليهود حول العالم، وخصوصاً الفئات المستضعفة منهم، وذلك عبر النشاطات المتعددة التي تنفذها، من خلال جمعيات ومؤسسات وهيئات متعددة. وتقدّم «جوينت» مساعدات كبيرة، تقدَّر بمئات ملايين الدولارات، إلى هيئات ومؤسسات إسرائيلية متعددة، لدعم المجتمع الإسرائيلي.

27 مدام – فريدمان، مصدر سبق ذكره.

28 المصدر نفسه.

29 المصدر نفسه، ص 192.

30 المصدر نفسه، ص 193.

31 المصدر نفسه.

32 Steven Windmueller, «The 2016 Election: Jews and Their PoliticsJerusalem Center for Public Affairs, vol. 16, no. 4 (February 1, 2016).

33 عوفر مدام – فريدمان، «مساهمة يهود الولايات المتحدة في الأمن القومي الإسرائيلي»، في: «يهود الولايات المتحدة...»، مصدر سبق ذكره، ص 191 – 227.

34 سكوت ليسنسكي، «مصير، مواجهات وتحالفات: ماضي وحاضر ومستقبل العلاقات بين يهود الولايات المتحدة وإسرائيل»، في: «يهود الولايات المتحدة...»، مصدر سبق ذكره، ص 65 – 103.

35 المصدر نفسه، ص 65.

36 المصدر نفسه.

37 المصدر نفسه، ص 68.

38 مدام – فريدمان، «مساهمة يهود الولايات المتحدة...»، مصدر سبق ذكره، ص 197.

39 المصدر نفسه، ص 70.

40 انظر: مجموعة إدي جاكوبسون لدى مكتبة «الرئيس ترومان».

41 ليسنسكي، مصدر سبق ذكره، ص 74.

42 المصدر نفسه.

43 مدام – فريدمان، «مساهمة يهود الولايات المتحدة...»، مصدر سبق ذكره، ص 197.

44 ليسنسكي، مصدر سبق ذكره، ص 75.

45 المصدر نفسه.

46 المصدر نفسه، ص 78.

47 المصدر نفسه.

48 المصدر نفسه، ص 80.

49 المصدر نفسه.

50 المصدر نفسه.

51 Diana Jean Schemo, «Thousands Hold Rally in Capital in Support of IsraelNew York Times, April 16, 2002.

52 ليسنسكي، مصدر سبق ذكره، ص 84.

53 المصدر نفسه، ص 85.

54 عزمي بشارة، «صفقة ترامب – نتنياهو، الطريق إلى النص، ومنه إلى الإجابة عن سؤال ما العمل؟» (الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2020)، ص 17.

55 طائفة الإنجيليين، أو الأفنجلكان (نسبة إلى Evangelicalism بالإنكليزية). وهي طائفة مسيحية ظهرت في نهاية القرن الثامن عشر، وتشكّل وزناً نوعياً في أميركا. يؤمن الإنجيليون بأن قدوم السيد المسيح وحكمه العالم سيتمّان من خلال العاصمة القدس، وذلك مرهون أولاً بسيطرة اليهود عليها، وأن يبنوا فيها الهيكل الذي سيدمره «المسيح الكاذب»، ثم يُمهَّد الطريق بعد ذلك لنزول المسيح الحقيقي من السماء إلى الأرض لحكم العالم.

56 مدام – فريدمان، «مساهمة يهود الولايات المتحدة...»، مصدر سبق ذكره، ص 203.

57 Scott Lasensky, «Dollarizing Peace: Nixon, Kissinger and the Creation of the US-Israeli AllianceIsrael Affairs, vol. 13, no. 1 (January 2007), pp. 164-186.

58 مدام – فريدمان، «مساهمة يهود الولايات المتحدة...»، مصدر سبق ذكره، ص 193.

59 المصدر نفسه، ص 204.

60 المصدر نفسه.

61 Bill Summary, «U.S.-Israel Enhanced, Security Cooperation Act of 2012 (S. 2165)July 2012. At: AIPAC Website.

62 مدام – فريدمان، «مساهمة يهود الولايات المتحدة...»، مصدر سبق ذكره، ص 207.

63 المصدر نفسه.

64 نيطاع بار، «الولايات المتحدة الأميركية أقرت صفقة أسلحة مع الإمارات»، «يسرائيل هايوم»، 10 تشرين الثاني/نوفمبر 2020، (بالعبرية).

65 أمير بوحبوط، «بعد المعركة مع نتنياهو، غانتس يعود مع ضمان لسلاح متطور من أميركا»، «والاه»، 25 تشرين الأول/أكتوبر 2020، (بالعبرية).

67 المصدر نفسه.

68 المصدر نفسه.

69 المصدر نفسه.

70 المصدر نفسه.

71 إيتمار إيخنر، «قيادة الجالية في بريطانيا: معاداة السامية وصلت إلى قلب السياسة البريطانية»، «واي نت»، 9 تموز/يوليو 2019، (بالعبرية).

72 إلداد باك، «يهود بريطانيا: حكومة يسارية برئاسة كوربين – تهديد وجودي»، «يسرائيل هايوم»، 26 تموز/يوليو 2018، (بالعبرية).

73 إيخنر، مصدر سبق ذكره.

74 تسبيكا كلاين، «حاخام بريطانيا: معاداة السامية في حزب العمال تحولت إلى شرعية»، «ماكور ريشون»، 10 حزيران/يونيو 2019، (بالعبرية).

75 المصدر نفسه.

76 دان لافي، «استطلاع: 80 في المئة من يهود أميركا داعمون لإسرائيل»، «يسرائيل هايوم»، 3 شباط/فبراير 2020، (بالعبرية).

77 روزنير وريسكي، مصدر سبق ذكره.

78 المصدر نفسه.

79 المصدر نفسه، ص 37.

80 زخي شالوم، «الأزمة في العلاقات بين إسرائيل والمجتمع اليهودي في الولايات المتحدة»، في: «يهود الولايات المتحدة والأمن القومي الإسرائيلي»، تحرير أساف أوريون وشاحار عيلم (تل أبيب: معهد دراسات الأمن القومي، 2018)، ص 103 – 134 (بالعبرية).

81 روزنير وريسكي، مصدر سبق ذكره، ص 36.

82 شالوم، مصدر سبق ذكره، ص 106.

83 روزنير وريسكي، مصدر سبق ذكره، ص 51.

84 المصدر نفسه، ص 52.

85 خالد عنبتاوي، «إسرائيل 2020 مشهد العلاقات الخارجية»، في: «تقرير مدار الاستراتيجي 2020: إسرائيل 2019» (رام الله: مركز مدار، 2020).

87 AJC, «AJC Survey of American Jewish OpinionAJC, June 10, 2018.

88 لافي، مصدر سبق ذكره.

89 Pew Research Center, op. cit.

90 ليسنسكي، مصدر سبق ذكره، ص 90.

91 Pew Research Center, Chapter 5: «Connection With and Attitudes toward Israel

92 Ibid.

93 Ibid.

94 روزنير وريسكي، مصدر سبق ذكره، ص 62.

96 Pew Research Center, «A Portrait of Jewish Americans...,» op. cit.

97 يهوشع برينر، «تنظيم يهودي في الولايات المتحدة يعرض: مخيم لمقاطع إسرائيل»، «والاه»، 28 تموز/يوليو 2013، (بالعبرية).

98 إيتمار إيخنر، «أخوة يتباعدون: 58 في المئة يختلطون و40 في المئة ينفصلون عن إسرائيل»، «واي نت»، 25 كانون الأول/ديسمبر 2017، (بالعبرية).

99 عيدان دومبين، «لماذا يختار يهود في أميركا معارضة إسرائيل»، «هآرتس»، 14 كانون الأول/ديسمبر 2019، (بالعبرية).

100 مدام – فريدمان، «المجتمع اليهودي في الولايات المتحدة: تعارف»، مصدر سبق ذكره، ص 49 – 50.

101 مريام هولتسمان، «أنتم القبيلة الخامسة»، «دافار»، 11 حزيران/يونيو 2018، (بالعبرية).

102 روزنير وريسكي، مصدر سبق ذكره، ص 23.

103 المصدر نفسه، ص 48.

104 للاستزادة بشأن هذه المتغيرات، يمكن مراجعة تقرير مدار، 2017.

105 روزنير وريسكي، مصدر سبق ذكره.

106 لافي، مصدر سبق ذكره.

107 روزنير وريسكي، مصدر سبق ذكره، ص 38.

109 ليسنسكي، مصدر سبق ذكره، ص 85.

110 شالوم، مصدر سبق ذكره، ص 106.

111 المصدر نفسه، ص 103.

112 المصدر نفسه، ص 104.

113 AJC, «Survey of American Jewish Opinion 2017AJC, Global Voice, September 13, 2017.

114 مدام – فريدمان، «المجتمع اليهودي في الولايات المتحدة: تعارف»، مصدر سبق ذكره؛

Pew Research Center, «Religious Landscape Study - Educational Distribution, 2014,».

115 مدام – فريدمان، «مساهمة يهود الولايات المتحدة في الأمن القومي الإسرائيلي»، مصدر سبق ذكره، ص 192.

116 Pier Bourdieu, «The Forms of Capitalin Handbook of Theory and Research for the Sociology of Education, edited by J. G. Richardson. (New York: Greenwood Press, 1985), p. 248.

117 ليسنسكي، مصدر سبق ذكره.

118 مدام – فريدمان، «مساهمة يهود الولايات المتحدة...»، مصدر سبق ذكره، ص 197.

119 المصدر نفسه، ص 198.

120 Chaim Waxman, American Aliya - Portrait of an Innovative Migration Movement (Michigan: Wayne State University Press, 2017).

121 ليسنسكي، مصدر سبق ذكره، ص 75.

122 المصدر نفسه، ص 78.

123 المصدر نفسه، ص 82.

124 مدام – فريدمان، «مساهمة يهود الولايات المتحدة...»، مصدر سبق ذكره، ص 220.

125 Cohen Center for Modern Jewish Studies, «Beyond 10 Days: Parents, Gender, Marriage, and the Long-Term Impact of Birthing IsraelBrandeis University, December 2017.

128 دان لافي، «حملة تدعو يهود فرنسا: تعالوا إلى إسرائيل»، «يسرائيل هايوم»، 9 شباط/فبراير 2020، (بالعبرية).

129 المصدر نفسه.

130 يانيف فوهلرس، «من باريس إلى نتنياهو: كم من القادمين الجدد من فرنسا إلى إسرائيل»، «واي نت»، 27 حزيران/يونيو 2018، (بالعبرية).

131 تسبيكا كلاين، «يهود روسيا: الشتات غير الناطق»، 13 تشرين الأول/نوفمبر 2019، (بالعبرية).

132 مدام – فريدمان، «مساهمة يهود الولايات المتحدة...»، مصدر سبق ذكره، ص 206.

133 المصدر نفسه، ص 200.

134 المصدر نفسه.

135 المصدر نفسه.

136 المصدر نفسه، ص 201.

137 المصدر نفسه.

138 المصدر نفسه، ص 219.

139 مدام – فريدمان، «مساهمة يهود الولايات المتحدة في الأمن القومي الإسرائيلي»، مصدر سبق ذكره، ص 219.

140 ليسنسكي، مصدر سبق ذكره.

Natan Aridan, Advocating for Israel: Diplomats and Lobbyists from Truman to Nixon, (Lexington Books, 2017), pp. 56-62.

141 ليسنسكي، مصدر سبق ذكره، ص 78.

142 Sharp, U.S. «Foreign Aid to IsraelCongressional Research Service, April 10, 2018

https://bit.ly/2koOIIk

143 انظر مثلاً: جيل تروي، «الصوت اليهودي: قوة سياسية وهوية في الانتخابات الرئاسية للولايات المتحدة» (حيفا: جامعة حيفا، 2016) (بالعبرية).

144 مدام – فريدمان، «مساهمة يهود الولايات المتحدة في الأمن القومي الإسرائيلي»، مصدر سبق ذكره، ص 198.

145 وزارة الشتات، «منطق – مشاريع اقتصادية، فحص تأثير العلاقة مع يهود الشتات في الاقتصاد الإسرائيلي» (القدس: وزارة الشتات، 2017).

146 مدام – فريدمان، «مساهمة يهود الولايات المتحدة في الأمن القومي الإسرائيلي»، مصدر سبق ذكره، ص 199.

147 وزارة الشتات، مصدر سبق ذكر.

148 مدام – فريدمان، «مساهمة يهود الولايات المتحدة في الأمن القومي الإسرائيلي»، مصدر سبق ذكره، ص 216.

149 المصدر نفسه.

ABOUT THE AUTHOR

Khaled Anabtawi is a research fellow and PhD candidate in Anthropology and Sociology at the Geneva Graduate Institute.