لطالما ساهمت التحولات السوسيولوجية والانقطاعات التاريخية التي عاشها المجتمع الفلسطيني في بروز أنماط جديدة وسلوكيات مجتمعية واستهلاكية متعددة، كما أدت دوراً مهماً في تغيير ملامح ومحددات التكوين والوعي الطبقي. وبالنظر إلى سلسلة المحطات التي أثرت في نهج الحداثة الحضرية لرام الله وسماتها الفريدة، فقد شكل قيام السلطة الفلسطينية سنة 1994 حدثاً دراماتيكياً لا يقل في أهميته عن أحداث 1948 و1967. فقد تم إبراز اسم المدينة في عهد السلطة، وأصبح الحديث يدور عنها كعاصمة بديلة تشهد تكريس ظهور عدد من الفضاءات والممارسات النخبوية التي تعزز مركزيتها، والتي كان لها مردود واضح على مختلف عناصر مجتمع رام الله الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والعمرانية، وساهمت في تطور طبقة وسطى قادرة على الاستثمار وتنمية مؤسسات الاقتصاد الخدمي، والترويج لأنماط استهلاكية ترمز إلى حياة المدينة المعاصرة، وفي حدوث تبلور سريع لأخلاقيات وطرق حياة حضرية معولمة، والترويج لأنماط معينة من العيش ولهابيتوس يتمحور حول قدرة هذه الطبقة على الاستهلاك والتنافس.
ويبدو أن هذه التوجهات دفعت البعض إلى اعتبار الاستهلاك محركاً للمجتمعات ما بعد الحداثية، وإلى القول بتبلور متخيل اجتماعي جديد في رام الله بصورة خاصة، وفلسطين بصورة عامة بعد أوسلو، وذلك على غرار النموذج العالمي للبنى والهياكل الطبقية العابرة للحدود الوطنية، وبالتزامن مع ظهور كتلة من الفاعلين الاجتماعيين الجدد الذين تبنوا القيم النيوليبرالية الفردانية والمعولمة، وتشكلت لديهم رغبة في الانزياح والتشظي والسعي لتمييز أنفسهم من الشرائح الطبقية الأدنى، إضافة إلى النزعة إلى الاستهلاك الرمزي، الأمر الذي تجسده ممارساتهم اليومية في فضاءات المدينة المتعددة، كالمقاهي والمطاعم النخبوية، أو السفر لقضاء إجازة خارج البلد، وتوجهاتهم نحو التعليم العالي واستهلاك السلع والخدمات الفاخرة، والهيمنة على ثقافة الحياة اليومية وممارسة نوع من العنف والسلطة الرمزيين، بمفهوم بورديو، من خلال أشكال محددة من الخطاب والممارسات التنافسية والاستهلاكية التي يتشاركونها مع النخب في العديد من المدن العربية والعالمية.
وعلى الرغم من أن الاستهلاك يُعتبر بمثابة عملية أو ظاهرة ذات طابع اقتصادي في الأساس، فإن هناك أبعاداً اجتماعية تتمحور حول هذه الظاهرة وحول تطلعات الأفراد وطموحاتهم، وكذلك اختياراتهم وأذواقهم وأفعالهم اليومية وعاداتهم الاستهلاكية التي تدل على أوضاعهم الاجتماعية-الاقتصادية، والتي بدأت تجلياتها ترتسم وتأخذ منحى جديداً في ظل الأزمة الأخيرة المتعلقة بفيروس كورونا. لقد أخذ السلوك الاستهلاكي يتقاطع بشكل واضح مع مصفوفة علاقات القوة، ويفتح الباب على مصراعيه لمناقشة العديد من القضايا المتعلقة بإنتاج وإعادة إنتاج عدم المساواة، والوضع الطبقي والتصنيف الاجتماعي، والتفاعلات الدقيقة لأنماط الحياة بما يشمل العواطف والقيم والتصورات والسلوكيات المتعلقة بالتهافت على شراء السلع والخدمات، والقدرة على الاستهلاك في ظل إغلاق العديد من فضاءات الاقتصاد الخدمية والأماكن النخبوية كالمطاعم والمقاهي -التي اعتاد منتمو الطبقة الوسطى ارتيادها في سياق محاولتهم للانزياح- واستدامة عمل عدد محدود من القطاعات الحيوية كالصيدليات والمخابز ومحلات بيع الخضروات والبقالة والسوبر ماركت.
ولمّا كانت عملية تفاعل الإرادة والميول الفردية "الحرة" مع الهياكل الاجتماعية القائمة تشكل مؤشراً على فرادة الأسلوب الشخصي والرغبة في الحفاظ على المسافة الطبقية، ومنطلقاً لأنماط السلوك وعادات الاستهلاك في الحياة اليومية، فقد عملت النخب المحلية أو عدد من منتمي الطبقة الوسطى في رام الله –وربما في غيرها من المدن- في بدايات الأزمة على تلقف الاستهلاك كمجال حيوي للتميز، واستجابوا لمبادرات أصحاب المصالح التي تُركز على إيجاد رغبات استهلاكية وإقناع الناس بمزيد من الاستهلاك بهدف دوام الإفادة ومراكمة رأس المال للفئة المنتفعة. وبمجرد إعلان بدء العمل بحالة الطوارئ في الأراضي الفلسطينية، اختبرت رام الله كثافة في الترويج الإلكتروني من جانب المقاهي والمطاعم النخبوية، وأحياناً محلات بيع الملابس والبيجامات، لمنتجات ومأكولات وخدمات مع إبداء الاستعداد لتوصيلها إلى المنازل، الأمر الذي لقي استجابة واسعة لدى رواد هذه الأماكن، إذ وجدوا في هذه الطريقة مجالاً لاستمرار مساعي التفرد وإظهار الثروة والمكانة والهيبة الاجتماعية، فضلاً عن إثبات واقع انتماء حقيقي أو متخيل لمجموعة معينة.
في 22/3/2020، أعلنت الحكومة الفلسطينية سلسلة من الإجراءات المشددة وتقييد التنقل داخل المدن، ومن بينها رام الله، وتحول المشهد بشكل دراماتيكي إلى خليط غريب يحمل في ثناياه بعضاً من ملامح حظر التجول والإقامة الجبرية، وهرعت النخب –من جديد وفي أقل من شهر- إلى الاستهلاك كملاذ أخير للتفرد، لكن هذه المرة بطريقة أُخرى، والتي ربما جاءت ضمن ما يمكن الإشارة إليه بوصفه سلوكاً عالمياً، يتشاركه منتمو الطبقة الوسطى، والذي يتمحور حول الهلع والنزوع نحو استهلاك سلع وكماليات قد يعتبرها البعض رفاهية غير أساسية، في ظل الأوضاع الاستثنائية على الأقل، في حين يرى زبائن هذا القطاع أنها تساعدهم في تمضية الوقت والاستجابة لدعوات التباعد الاجتماعي التي أطلقتها الحكومات، الأمر الذي يبدو أنه كرّس إنتاج ميول واستعدادات لرسم الحدود بين منتمي هذه الطبقة وباقي الطبقات، عن طريق استهلاك سلع غذائية معينة، وساهم في تطوير سلوكيات تنتج وهماً وخداعاً يقول بعادية الظاهرة في وضع غير عادي، وتلبي حاجات النخبة ونزوعها المستمر إلى الاستعراض والاستهلاك المفرط.
أياماً بعد هذه الإجراءات، طالعتنا الحكومة بخطابها الذي دعا المواطنين إلى شد الحزام، وطالبهم بترشيد الاستهلاك وسط تلميحات إلى إمكان تأخر صرف الرواتب، وذلك بعد أن لاحظنا انحسار العقلانية في سلوك معظم المواطنين، والهلع والمبالغة في شراء السلع الاستهلاكية بكميات كبيرة، وسط قلق كبير من نقص الأموال واختفاء السلع الضرورية من الأسواق أو من استمرار الأزمة لأشهر، الأمر الذي تزامن مع تراجع إقبال منتمي الطبقة الوسطى على السلع غير الأساسية. وهذه المرة جاءت التغيرات في السلوك الاستهلاكي والتوجهات الاجتماعية-الاقتصادية لهذه الفئة مرتبطة بغيبية موعد نهاية الأزمة وتسارع تحولاتها، وقد تكون مرتبطة بتراجع ثقة الأفراد بمؤسسات السلطة الفلسطينية، التي تعتمد على تدفق الدعم الخارجي، وقدرتها على احتواء الأزمة وإدارتها من الناحية المالية -في الوقت الذي أعلنت فيه دول عديدة اعتزامها تقديم مساعدات مالية للفئات الأكثر تضرراً وسط تطمينات بالعمل على استقرار الحياة- وذلك على الرغم من تميز أداء المؤسسة الحكومية في التعامل مع الجائحة. وقد اتسمت الفترة الأخيرة باتساع دائرة الهموم واختراقها للحدود الطبقية، إذ استشعرت معظم الفئات أن المجتمع يعاني تهديداً واحداً في الوقت نفسه، وظهرت بعض السلوكيات المشتركة بين منتمي مختلف الشرائح كالدعاء والابتهال من شرفات المنازل، وظهور بعض مبادرات المؤازرة المجتمعية، وبروز ثقافة التضامن الاجتماعي التقليدية، عبر منصات التفاعل الاجتماعي بالحد الأدنى، والتي قد تؤسس لطيف جديد من الوعي الجمعي الذي يساهم في تقليل الفجوة بين الفرد والمجتمع، ويعيد إلى الأذهان صورة اللجان الشعبية في فترة الانتفاضة الأولى.
هذه الممارسات لم تكن حكراً على رام الله، أو فلسطين عموماً، بل ظهرت في العديد من الدول على شكل غناء وتصفيق يوحي بتكريس نمط واحد للمعتقدات المجتمعية والمشاعر الجمعية السائدة. وأجد أن هذا يحتاج إلى تنظير بشأن سلوك منتمي مختلف الشرائح الطبقية، على مستوى العمليات العابرة للحدود، والتي تتخطى مستوى الوطن والطبقة، والبحث في طبيعة الوعي الذي ترتكز إليه هذه الممارسات من جهة هل هو حقيقي أو مزيف، وآني أو مستقبلي، الأمر الذي يفتح آفاقاً جديدة لمعالجة واقع التكوين الطبقي ومحدداته، وقياس التوجهات المتعلقة بمدى سعي النخب ومنتمي الطبقة الوسطى الفلسطينية لتمثيل أنفسهم بصفتهم مواطنين عالميين، إضافة إلى كونهم مواطنين محليين، وإلى أي مدى جاءت مشاركتهم في الفعاليات الأخيرة مرتبطة بواقع شعورهم بعالمية مواطنتهم، والميل إلى محاكاة أنماط سلوك قد تكون مرتبطة بوجهات نظر عالمية، وليست محلية، بشأن آليات التعامل مع كورونا، وتكريساً لموقعهم في السلم الطبقي.
وبالنظر إلى ضرورة التأكيد على البنية الزمنية للأفعال الاجتماعية، فهل تشكل الجائحة نقطة جديدة في سلسلة الانقطاعات والأحداث الحاسمة التي قد تعيد صوغ الطبقات الاجتماعية، وفقا للأوضاع والتحديات الاقتصادية المحتملة، وتعمل على إرساء طابع التكامل الاجتماعي، وتغير من نهج المدينة وديناميتها الحضرية؟ وماذا سيكون مصير الطبقة الوسطى الفلسطينية في حال استمرت الأزمة فترة أطول، وإلى أي مدى ستصبح مهددة بالانكماش والتراجع في ظل إغلاق العديد من مؤسسات الاقتصاد الخدمي التي توفر رواتب شريحة واسعة من منتمي هذه الطبقة، وما مصير أفرادها كمواطنين عالميين في حال انهيار العولمة وغياب مفهوم القرية العالمية، وهو ما يعتقد البعض أنه بدأ فعلاً بعد قيام الدول بإغلاق حدودها الوطنية، وكيف يمكن أن يؤسس الوضع الحالي لنوع من العالمية الإنسانية كنقيض للعولمة الرأسمالية؟