ها نحن نرى العالم اليوم على حافة الهاوية والانهيار المحتم بسبب تأثير فيروس كورونا "كوفيد-19" وما تبعه من توقفات مفاجئة وشلل تام على جميع الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وما زالت بعض الدول وإداراتها لم تتعلم من خطأ الآخرين، أو بالأحرى لم تعتبر أعداد المصابين شهادة على ذلك.
تعاملت لجنة المتابعة الحكومية في غزة مع إعلان الرئيس الفلسطيني حالة الطوارئ بحماسية الرد المضاد، موضحة أن حالة الطوارئ لا تشمل قطاع غزة، ويرجع ذلك إلى أن القطاع لا يوجد فيه حالات الفيروس المستجد. ومن خلال هذه العبارات يمكن القول والدلالة أن بعض القوى السياسية يعتبر الفيروس مجرد ذعر طبي مبالغ فيه، وأيامه لن تتعدى الأسابيع. إلاّ إن حكومة الأمر الواقع، وبعد أيام معدودة، طبقت القرارات متأخرة.
تثير هذه الأحداث وتطرح تساؤلات لا بد منها، أبرزها، كيف تتعامل غزة مع تداعيات الفيروس كسلوك جماعي اجتماعي، ومدى تداعيات احتكار القرار السياسي وتفرد الرد المضاد من الطرف الآخر.
سذاجة التفكير في الخطاب والتعبئة الجماهيرية
تعددت الحراكات الشعبية لدى المجتمع الفلسطيني في مناطق متعددة نتيجة قضايا تمس الحياة المعيشية، ومن زاوية أُخرى فإن المجتمع الفلسطيني يعاني هموماً ذاتية ومعيشية لا تضمن له العيش حتى الغد، فالظواهر المتعلقة برزقه تشكل بالنسبة إليه الحاجة إلى الأمن والاستجابة. وفي السياق ذاته مع أزمة الكورونا، تتعامل القوى السياسية والسلطات في غزة، من دون التفريق بين الهم المعيشي والهم الوجودي لدى سكان القطاع، فالكورونا أزمة هم وجودي، لكن أكثر من نصف سكان قطاع غزة يعانون الفقر، ولا يستطيع أي منهم أن يتحمل مسؤوليته، فترى الفرد في قطاع غزة ينكف عن ذاته، ويرى أنه من الضرورة تجاوز خطر الكورونا واستكمال العمل.
وتتعامل القوى السياسية تجاه تداعيات فيروس كورونا وتأثيراته في غزة على أنها أزمة جديدة فوق أزماتها الحالية، لكن هذه القوى لا تعمل لتحقيق الخلاص الحقيقي للشعب الغزي وسلامته، إنما تراقب تداعيات الكورونا على البيئة السياسية، التي قد توفر الأوضاع المناسبة للعمل على أدلجة المفاهيم الديمقراطية وتحقيق مكاسبها الشخصية، كما أن هناك نطاقاً ضيقاً تدور وتتشارك فيه فقط دوائر السلطات والنخب تجاه أي خطورة تحدث على القضية الفلسطينية، ويرجع ذلك إلى ضعف تماثلية الخطاب والتواصل الجماهيري من جانب القيادة وأذرع الأحزاب، ودور النقابات الفلسطينية ككل.
مرة أُخرى تستخدم القوى السياسية التعبئة الجماهرية، لكن ليس وفق اعتبارات جماهيرية، إنما باعتبار الجماهير موارد يتم توظيفها للحصول على مكسب ما. وتأخد الصورة منحناها إلى تحقيق هذا المكسب، ثم تتدهور الأمور والتنديد ومطالبة المجتمع الدولي بإنقاذ غزة وتحميل الاحتلال مسؤولية القطاع، هذه هي العادة.
جماهير غزة تسرُّ للخروج عن المألوف عبر سلوك اجتماعي موحد وتعبئة جماهيرية عفوية، مثل الهبات الشعبية أو حتى تظاهرات الشوارع، إلاّ إن تلك الحراكات استُغلت أو قُتلت سياسياً، ولم تستثمر القوى السياسية تلك الحراكات، بل استغلتها. وهذا ما يجعل الفلسطينيين في غزة يعتقدون أن الخطابات والتعبئة الاجتماعية ما هي إلاّ استهلاك سياسي ممزوج بقالب الأزمة، ولا يعبّر عن تطلعات الشارع حتى.
أزمة احتكار القرار
في الواقع الفلسطيني اليوم يُمارس احتكار القرار والهيمنة بدرجة شديدة، وذلك من جانب طرفين دون التعاون الحقيقي بينهما في إدارة أزمة الكورونا، وكل طرف يدعي امتلاك الرأسمال المعرفي والفهم الأصح، في إصدار التشريعات والقرارات السياسية.
يؤدي احتكار القرار ذي هيمنة الطابع الفردي إلى نشوء تناقضات مجتمعية وسياسية بسبب التضييق على أصحاب الرأي الآخر، ويمأسس حالة الانقسام، والتفتت المناطقي والاجتماعي، وشلل المؤسسات السياسية والأمنية.
وتدلل تداعيات احتكار القرار على غياب الاستراتيجيا لمواجهة الكورونا وخصوصاً في غزة، في ظل التأزم الصحي في القطاع والذي هو في الأصل شحيح الموارد والإمكانات. وإنْ تفشى الفيروس بشكل تام، وتأزم الوضع في القطاع، فليس لدى الغزيين سوى الصمود عبر الحوار المشترك.
هل حل لغز الكورونا في غزة؟
(انهيار، موت، بؤس، حرب، عزلة، أزمة...)، وغيرها من الكلمات التي تعد مألوفة في قطاع غزة، ويبدو أن المدينة تأخد الوضعية الاتكالية والقدم فوق القدم، عندما ترى العالم يشبهها أو اقترب منها صفة وصرامة، فغزة والعالم يشتركان الآن في العدو غير المرئي (كوفيد-19)، ولنتخيل سرعة انتشاره في غزة بمحاكاة سيناريو بسيط.
"رجل حامل للفيروس يدفع لسائق الأجرة البائس العملة الورقية مُرجعاً له الفكة، إلى أن يعود السائق إلى مكان إقامته 'المخيم'، ويشتري لعائلته المكونة من 8 أفراد ....." نهاية المشهد واضحة تماماً.
سبقت غزة العالم بفكرة العزلة والتباعد الاجتماعي، ليس عبر الحصار أو الانقسام، إنما بأزمة "حرية التنقل والحركة"، وعاش شعب غزة ذهنياً وجسدياً الكورونا كمحاكاة سابقة، حتى المفاجآت التي يعيشها العالم اليوم، عاشها الشعب الغزي.
وفي السياق ذاته، نرى بعض الدول الأوروبية، تعيش الآن على المساعدات والمعونات والمناشدات، بينما غزة اجتازت ذلك الأمر بمراحل، مع الأخذ بالاعتبار أن غزة ليس لديها تاريخ صراع مع وباء ما، إنما مع الإنسان نفسه.
في الإجمال، فعلى الرغم من سذاجة التفكير لدى القوى السياسية في غزة، والحالة التي سيفرضها فيروس كورونا، فإن الفلسطينيين في غزة يمارسون إدارة الأزمة من خلال تكتيك اجتماعي غير منظم عبر وسائل التواصل الاجتماعي بأقل أدوات ممكنة مثل التوعية الممزوجة بالسخرية العفوية، للحد من انتشار الفيروس والتعاون الاجتماعي، على أنه يجب أيضاً أن تضمن القوى السياسية شفافية المعلومات وعدم الاستخفاف بعقول الأفراد ليأخذ الشعب احتياطاته على الأقل، وأن تتعاون هذه القوى أيضاً من دون شرذمة، فضرورة التحرر الوطني تتضمن أولوية سلامة الشعب الفلسطيني.