تزامنت أزمة وباء الكورونا في إسرائيل مع أزمة سياسية تغرق فيها منذ أكثر من عام، كلّفتها ثلاث معارك انتخابية لم تؤد إلى حسم واضح بين المعسكرين الكبيرين في إسرائيل: حزب الليكود بزعامة رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، وحزب أزرق أبيض برئاسة رئيس الأركان السابق بني غانتس. وحتى بروز أزمة وباء الكورونا، شهدت الحياة السياسية الإسرائيلية صراعاً مريراً خاضه نتنياهو دفاعاً عن بقائه السياسي، وعن منصبه كرئيس للحكومة، والأهم، للتهرب من إحالته على المحاكمة، بعد توجيه ثلاث لوائح اتهام ضده.
جاء تفشي وباء الكورونا في إسرائيل في لحظة سياسية حساسة للغاية، عشية تكليف رئيس الدولة رؤوفين ريفلين زعيم حزب أزرق أبيض بني غانتس تشكيل ائتلاف حكومي جديد، بعد حصوله على أغلبية الـ61 صوتاً من أعضاء الكنيست، بينهم الـ15 صوتاً من أعضاء الكنيست العرب من القائمة المشتركة.
لكن التصاعد الدراماتيكي في عدد الإصابات بالفيروس، وإعلان رئيس الحكومة الانتقالية بنيامين نتنياهو حالة الطوارىء في إسرائيل لمحاربة الوباء، أدّيا إلى حدوث انقلاب في المشهد السياسي في إسرائيل جذرياً. فقد سارع نتنياهو إلى استغلال أزمة الكورونا من أجل دعوة بني غانتس إلى الانضمام إليه، لتأليف حكومة وحدة وطنية تفرضها المرحلة الحرجة التي تمر بها إسرائيل.
على الرغم من الاحتجاجات الشعبية والحزبية الحادة، شكّل قبول غانتس هذه الدعوة صدمة كبيرة وسط أكثر من مليون إسرائيلي صوتوا لمصلحته فقط، لاعتقادهم أنه يشكل بديلاً سياسياً من حكم نتنياهو. وهكذا انقلبت صورة الوضع السياسي بين ليلة وضحاها، وأصبح نتنياهو من جديد الزعيم السياسي الأقوى، المسيطر على مقاليد الحياة السياسية في إسرائيل.
يمكن حتى الآن تلخيص تأثيرات أزمة الكورونا في الحياة السياسية كالتالي:
- تعزيز قوة نتنياهو السياسية
تفاوُض بنيامين نتنياهو على تأليف حكومة وحدة وطنية يشارك فيها حزب أزرق أبيض، وحزب العمل، إلى جانب الأحزاب اليمينية والدينية، وتولّي نتنياهو رئاستها من جديد، هما بمثابة انتصار سياسي لنتنياهو شخصياً، وهزيمة لخصومه الذين رفعوا شعار "فقط ليس بيبي ".
على الرغم من أزمة الكورونا، وربما تحت غطائها، بات من شبه المؤكد أن أول ما سيقوم به نتنياهو، بعد حصول حكومته الجديدة على ثقة الكنيست، هو البدء بتطبيق البند الوارد في "صفقة القرن" الذي يسمح لإسرائيل بتطبيق السيادة الإسرائيلية على المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية، وعلى غور الأردن. ومن المعلوم أن الإدارة الأميركية اشترطت قيام حكومة جديدة لتنفيذ هذه الخطوة. وتأليف حكومة وحدة وطنية يمكن أن يوفر الشرعية المطلوبة لتحقيق تطبيق السيادة الإسرائيلية على المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية، مع كل انعكاساتها الخطيرة.
عودة نتنياهو الى رئاسة الحكومة معناها استمرار سياسة التمييز ضد العرب في إسرائيل ومحاولات نزع الشرعية عن تمثيلهم السياسي في الكنيست، وتقويض الإنجاز الكبير الذي حققته القائمة المشتركة في انتخابات أيلول /سبتمبر 2019، بحيث أصبحت اليوم الكتلة الثالثة من حيث الحجم.
الأهم من هذا كله، تولّي نتنياهو رئاسة حكومة وحدة وطنية، معناه وقف ملاحقته قانونياً، وربما نهاية هذه الملاحقات. وبذلك يكون قد نجا من المحاسبة والمساءلة، ومن المنتظر أن تستمر حملاته التحريضية ضد الجهاز القضائي الذي يعتبره نتنياهو معاد له، وضد وسائل الإعلام الإسرائيلية وأجهزة الشرطة.
- تفكك حزب أزرق أبيض
كشفت أزمة الكورونا ضعف زعامة بني غانتس السياسية الذي وصفه أبراهام بورغ بـ"المسيح الدجال". وفعلاً شكّل قبول غانتس الانضمام إلى حكومة وحدة برئاسة نتنياهو خيانة لكل الوعود التي قدمها لناخبيه خلال الحملات الانتخابية الثلاث التي خاضها ضد نتنياهو. وكانت النتيجة الفورية لهذه الخطوة تفكك حزب أزرق أبيض وتفرّق الأحزاب المؤلِفة له . وهكذا ثبت مرة أُخرى أن أحزاب الوسط التي تنشأ حديثاً في مواسم الانتخابات عرضة للتفكك لدى تعرضها لضغوطات كبيرة، أو في مواجهة أزمات شديدة، مثل أزمة الكورونا.
- انهيار معسكراليسار الإسرائيلي
إعلان زعيم حزب العمل عمير بيرتس موافقته على الانضمام إلى حكومة وحدة وطنية بزعامة نتنياهو، كان بمثابة إطلاق رصاصة الرحمة على ما تبقى من يسار إسرائيلي. إذ عكست هذه الخطوة انتهازية بيرتس وتنكّره لجميع الوعود التي قطعها لناخبيه، وتذرّعه بحالة الطوارىء في إسرائيل وأزمة الكورونا، لتحقيق مكاسب حكومية لم يكن يحلم بها، نظراً إلى النتائج الهزيلة التي حققها حزب العمل في الانتخابات الأخيرة. وبيرتس الذي حلق شاربه قبل الانتخابات، وأقسم أمام الجمهور بأنه لن يشارك في حكومة يترأسها نتنياهو، تجاهل هذا كله، وهو الآن يفاوض على المناصب الوزارية التي سيحصل عليها حزبه.
طبعاً، الخاسر الأكبر هو حركة ميرتس، فبانضمامها الى حزب العمل ضحت بجمهورها العربي من خلال الاندماج مع حزب العمل، وها هي اليوم تخسر جمهورها اليساري اليهودي والعربي، على حد سواء.
- استغلال حالة الطوارىء للتشدد في إجراءات الرقابة والتعقب
شكلت أزمة الكورونا ذريعة للحكومة الإسرائيلية لإصدار قرار يسمح لجهاز الأمن العام والموساد تتبّع المواطنين في إسرائيل بواسطة هواتفهم الخلوية، بحجة رصد المصابين بفيروس الكورونا والكشف عنهم، مع كل ما يعني ذلك من انتهاك للحرية الفردية. وقد أثار هذا القرار جدلاً كبيراً وسط الجمهور الإسرائيلي الذي رأى في هذه الخطوة انتهاكاً للحريات وحقوق الأفراد، ويشكل خطراً على الديمقراطية في إسرائيل، ويجعلها تشبه الأنظمة البوليسية، مثل الصين، وطالب كثيرون بضرورة خضوع عمل الشاباك لرقابة هيئات تشريعية، لمنع استغلال المعلومات التي يجمعها لغايات أُخرى.
شكلت أزمة الكورونا ذريعة لمنع الكنيست الجديد من انتخاب رئيس جديد له، مع إصرار رئيسه السابق الليكودي يولي إدلشتاين على عدم دعوة الكنيست إلى الاجتماع لانتخاب رئيس جديد، ولانتخاب اللجان، الأمر الذي دفع المحكمة الإسرائيلية العليا إلى التدخل، وإصدار قرار يفرض على إدلشتاين الدعوة إلى انتخاب رئيس جديد للكنيست.
كثيرون في إسرائيل رأوا في موقف إدلشتاين، المدعوم من رئيس الحكومة، محاولة لشل عمل السلطة التشريعية، وجعل كل القرارات في يد الحكومة الانتقالية التي يترأسها نتنياهو. في النهاية، اضطر إدلشتاين إلى الدعوة إلى انتخاب رئيس كنيست جديد، ففاز بالمنصب بني غانتس، تمهيداً لانضمامه إلى حكومة وحدة وطنية.
- عدم وجود سياسة ناظمة في معالجة أزمة الكورونا، وتخبّط في القرارات
بحسب عدد من المراقبين الإسرائيليين، أظهرت أزمة وباء الكورونا غياب سياسة حكومية ناظمة شاملة، كما أبرزت تخبطاً في القرارات المتخذة، وتضارباً في الصلاحيات، وتردداً في إشراك الجيش الإسرائيلي، ولا سيما قيادة الجبهة الداخلية مثلاً، في الجهود المبذولة لمواجهة تفشي الوباء. والأهم أن هذه الأزمة أظهرت المشكلات الكثيرة التي كان يعانيها النظام الصحي في إسرائيل، حتى قبل تفشي وباء الكورونا، مثل النقص في عدد الأسرّة، وفي اليد العاملة الطبية، وفي المستلزمات وغيرها.
على الرغم من استغلال نتنياهو السياسي لأزمة الكورونا لتدعيم مكانته السياسية، فإن ذلك لا يحجب الصعوبات الهائلة التي تواجهها إسرائيل، مثل كل دول العالم، في محاربة تفشي الوباء. قد تكون هذه الأزمة هي أخطر وأهم اختبار للزعامة السياسية لنتنياهو، ومن المنتظر أن يكون لنتائجها الصحية والاقتصادية والإنسانية تأثيرها الحاسم، ليس في مستقبل نتنياهو فحسب، بل في مستقبل كل الإسرائيليين.