ربما يكون الفلسطينيون في الأرض الفلسطينية من الشعوب الأكثر قدرة على التأقلم مع متطلبات الوقاية من وباء فيروس الكورونا الآخذ في الانتشار في مختلف أرجاء المعمورة، ذلك بأنهم معتادون على تقييد الحركة والإغلاقات وما إلى ذلك من إجراءات مشتركة بين إجراءات الاحتلال الإسرائيلي العقابية وبين إجراءات الوقاية من الكورونا.
ولعل من أبرز الأمثلة على القدرة على التأقلم مع التحدي الذي تفرضه الجائحة، هو سرعة تفاعل وتأقلم الجامعات الفلسطينية مع الحاجة إلى التعليم عن بعد؛ ففي الأسبوع الأول لإعلان حالة الطوارئ والتي شملت إغلاق المؤسسات التعليمية كافة، بما فيها الجامعات، بادرت جامعة بيرزيت إلى الطلب من أساتذتها محاولة البحث عن سبل للتواصل مع الطلبة عن طريق وسائط التواصل الرقمية التي يمكن أن تصلح لمواصلة العملية التدريسية من دون الحاجة إلى اللقاءات المباشرة بين لطلبة والأساتذة.
ولعل التجارب السابقة الناتجة من تحديات الاحتلال كانت معيناً لنا في مواجهة هذا التحدي، فقبل نحو ثمانية عشر عاماً، أي مع اندلاع الانتفاضة الثانية، وقيام قوات الاحتلال الإسرائيلي باجتياح الضفة الغربية وإغلاقها، لجأت جامعة بيرزيت بإمكاناتها العلمية الذاتية، إلى تطوير بوابتها الإلكترونية التي أطلقت عليها اسم "رتاج". وتبع هذه التجربة إنشاء أنظمة رقمية مشابهة في سائر الجامعات في الوطن. وبعد عودة الهدوء، استمرت الجامعة في تطوير هذا النظام والاعتماد علية جزئياً في التواصل مع الطلبة؛ جزئياً لأن الأمر أصبح نهجاً متبعاً في الجامعات من ناحية، ولأننا نتوقع دائماً من ناحية أُخرى، تضييق الخناق من جانب الاحتلال، وبالتالي الحاجة مجدداً إلى الاعتماد على مثل هذه البدائل.
وقد فوجئت إدارة الجامعة بسرعة تجاوب الأساتذة والموظفين مع هذا النداء، إذ نشأ تفاعل مكثف ومنظم لدرجة غير مسبوقة عبر مختلف وسائل التواصل الرقمية بين الأساتذة والطلبة، لتبادل الخبرات والمعلومات والاقتراحات، بشأن أفضل السبل الملائمة. ولم يكن هناك تململ ولا تذمر، فالكل شعر بالمسؤولية وبالحاجة إلى الابتكار والإبداع، كما كان هناك تسابق في نشر التجارب، بعضها أكثر نجاحاً من الآخر، وبعد مرور أسبوع كان معظم الأساتذة قد استقر إلى الوسيلة التي وجدها أكثر ملائمة لحاجاته، ذلك بأن التخصصات المتعددة كانت تتطلب وسائط مختلفة.
وكان هناك قلق من احتمال عدم تجاوب الطلبة، أو عدم قدرتهم على مواكبة هذا الأسلوب الجديد الذي يتطلب قدراً أكبر من المعرفة التقنية وكذلك الانضباط، لكن مرة أُخرى، فوجئنا إيجابياً بتجاوب وكفاءة عالية من الأكثرية الساحقة من الطلبة. فعلى سبيل المثال، في الدائرة التي أعلّم فيها، تُقدر نسبة حضور الطلبة للمحاضرات الافتراضية عن بعد بنحو 80%، وهي نسبة لا تقل عن نسبة الحضور الاعتيادية في الصفوف الحقيقية.
ويتسابق الأساتذة في نقل أخبار نجاحاتهم إلى بعضهم البعض عبر المجموعات الافتراضية التي قاموا بإنشائها لهذه الغاية، فهذا يقول، اليوم ابتكرت طريقة لأخذ الحضور والغياب، وآخر يقول اليوم نجحت أول مرة في تقسيم الصف إلى مجموعات افتراضية واستطعت التنقل بينها، وثالث يشرح لزملائه كيف يمكنه عرض وسائل إيضاح وشرائح عبر سبل التواصل في الأنظمة الرقمية.
وما يثير الإعجاب أيضاً، الطريقة التي تم من خلالها التغلب على المشكلة الفنية المتعلقة بتقطع خدمة الإنترنت وبطئها، الأمر الذي كان عامل إحباط للأساتذة والطلبة، فقد خاطبت نقابة العاملين في الجامعة شركة الاتصالات، التي وافقت فوراً على رفع سرعة الإتنرنت المقدمة لبيوت الأساتذة، مع الاستعداد لتزويد كل واحد منهم براوتر أكبر ومجاناً، وبهذا لم نعد نسمع عن هذه المشكلات التقنية إلاّ ما ندر.
ومع اقتراب الفصل الدراسي من منتصفه، واقتراب الامتحانات، يشعر الجميع بانهم أمام تحدٍ آخر، فالكل مشغول بعقد اجتماعات دوائر لمناقشة أسلم الطرق لإجراء الامتحانات عن بعد بطريقة تضمن النزاهة والعدالة والأمانة، وهذا تحدٍ غير سهل. ويُلاحظ أن ذوي الخبرة من الأساتذة بدأوا بدراسة هذا الأمر وتقديم بعض الاقتراحات، ولا يوجد لدي شك في أننا سنتمكن من تذليل هذه العقبة أيضاً.
ومما يثير الإعجاب أيضاً روح التعاون بين مختلف الأساتذة، ومن أكثر الملاحظات طرافة تباين القدرة على التأقلم مع هذا الأسلوب الجديد تبعاً لتباين الأجيال؛ فالأكبر سناً من الأساتذة، وجدوا صعوبة أكبر في التأقلم، لكنهم بالقدر ذاته، وجدوا رغبة في المساعدة والتعاون من الأساتذة الأصغر سناً، وهو ما عكس الموازين بين الأجيال بشكل مفاجئ، إذ جرت العادة قبل ذلك أن يكون الأساتذة الشباب موضع عناية ورعاية من الأساتذة الأكبر سناً.