كنا نفترش الضيق ونتقاسمه حتى يتسع وتكبر مساحاته بروح الحضور والنوايا والتكافل. وكي لا يتكوّن لدى القراء والقارئات الانطباع بأن الافتراش هو كما خارج الجدران، فما كان يحدث هو أن يقوم كل أسير بابتداع عدّته الرياضية، من صنع بديل للفرشة الرياضية سواء من بطانيات أو مصليات قديمة في حين كان سعيدو الحظ قد نجحوا في قص نصف فرشة من فراش السجن ولم تسترجعها إدارته. وفي المقابل، كان البعض يلجأ إلى ملء قناني بلاستيكية للمشروبات الخفيفية بالملح بدلا من الأوزان الحديدية الممنوعة، بينما كان "أصحاب العضلات" يملؤون اثنين من غالونات الزيت الكبيرة بحجم 16 لتراً بالملح وقليل من الماء لزيادة الوزن وإدخال أكبر قدر من الملح كي تتحوّل إلى صلبة، ويخرجون صباحاً إلى الساحة وكل واحد معه عصا المكنسة من الحجرة المقيم فيها، لتجتمع العصي بشد وثاق اجتماعها ولا تفرَّقا، ويجري توثيق الغالونين من طرفي العصي بالتوازي بواسطة حبال جدلها الأسرى من بقايا قماش أو بقايا أكياس البطاطا الشبكية، وهكذا تكون قادرة على حمل الأثقال. وتبقى الأوزان جاهزة للاستخدام إلى حين تداهم فرقة التفتيش حجرات الأسر أو المرافق العامة في ساعات الفجر الباكرة وتصادرها، وفي صباح اليوم التالي يكون الأسرى قد جهّزوا عدّة جديدة ... وهكذا يكون سباقان، الرياضي في ساحة السجن، وسباق الأدمغة مع السجان.
في الأيام الأخيرة من زمن الكورونا تداخلت عليّ ثلاثة أزمنة حضرتني مجتمعة. عدت لمزاولة الرياضة في البيت، فقد أغلقت وزراة الصحة الإسرائيلية البحر الحيفاوي وشاطئه، وقد درجتُ في الأشهر الأخيرة على استعادة عادتي القديمة في ممارسة الرياضة الخفيفة واللعب على المساحة التي تجمع رمل شاطئه وأمواجه ومسارات المشي ورائحة البحر وصوته وناسه. ووجدتني في رياضة البيت أعود إلى الركض الموضعي لمدة أربعين دقيقة تتلوها تمارين لياقة. والركض الموضعي هو قطع المسافات دون الحاجة إليها أو دون القدرة على تجاوزها، لكن الغاية لم تكن المسافات بل خلق بدائل وتوازنات جديدة مؤقتة إلى أن يترك لنا الوباء مساحاتنا.
لكن ما جرى هو أن الركض الموضعي ورياضة البيت، أعاداني إلى رياضة زمن السجن. وهذه كانت رياضة وكانت طقوس حريّةٍ صباحية قبل أن يخيم نهار السجن الذي ينجلي مع حلول المساء وهدوئه والاختلاء إلى الذات بقلبها وذهنها وخيالها، وإلى الكتاب والقلم والورقة. وطقوس السجن لها أُناسها بأسمائهم وشخصياتهم وأجوائهم وقضاياهم التي تختزل القضية الواحدة..
عدت إلى كل هؤلاء، وأنا أجهد نفسي أكثر في الركض الموضعي الذي اكتشفت بأنه ليس موضعياً بل حملني إلى مشارف غور بيسان وأطراف مرج ابن عامر حيث سجن الجلبوع، لم يدخلني إليه لكن حريتي اليوم تتسع لمن تركتهم هناك، وبالذات أولئك الذين أصبح الأملُ عصيّاً بالنسبة إليهم، لكنهم لا يتركونه يفلت مهما اشتدت نوائب بؤس الحال في محيطنا الواسع. أشغَلَتني بهم الكورونا فأين يحتمون وبماذا وممّن يحتمون هذه المرة؟ أي حال هذا وأنت تدرك أو تدركين بأن ظهرك إلى الحائط ولا مجال للتقدّم ولا مكان للعودة إلا الحائط الذي قد يكون بذاته موبوءاً!! ينصتون بقلق إلى بلاغات الحذر والحظر، فينظرون حولهم لتلتقي حيرات عيونهم، فلا المكان مكان، وكل الحذر الذي يتخذونه هو خارج حدود الحذر المصادرة مسبقاً.
قلقون على أنفسهم، وكلٌّ قلقٌ على أحبته المسجونين فيما وراء الجدار، أو المسجونين فيما وراء الحصار، يفكر فيهم يقلق عليهم، وهم يفكرون فيه ويقلقون عليه.
فكرت بممثل المعتقل الذي تستدعيه إدارة السجن لتبلغه بالإجراءات والتعليمات وبإلغاء الزيارات العائلية، وبالتأكيد يردّون طلبه بالسماح بالاتصالات الهاتفية، ولا مجال للمواد الطبية المعقمة والكحول بالحجة إياها، أي لأسباب أمنية يحظر عليه معرفتها، فيعود إلى الأسرى الذين ائتمنوه ليمثلهم، وفي حقيبته الخاوية خيبة يسعى إلى إخفائها وتعليمات لا يمكن تطبيقها في اكتظاظ الضيق.
أواصل الركض الموضعي وخيالي هناك هناك بعيداً، حيث من أصروا رغم استعصاء الامل أن يُحكِموا قبضتهم عليه، ولسان حالهم يصرخ "وإما حياة تسرّ الصديق وإما حياة تسرّ الصديق" فرغم كل الحال سيبقى: "وعلى هذه الأرض ما يستحق الحياة".
Post-Prison Memories and Memories From Prison: Reflections on Running in Place Distances, for the Sea is Unreachable
Date:
March 26 2020
blog Series:
From the same blog series: Coronavirus in Palestinian Life