Israel: Challenges, Dilemmas, and Conundrums
Full text: 

يبلغ نصيب الفرد من الناتج القومي الإجمالي في إسرائيل نحو 40,000 دولار سنوياً، فعلى غرار المملكة المتحدة وفرنسا يتراوح مستوى المعيشة في إسرائيل بين المتوسط والمرتفع، أمّا قطاع التقانة العالية فيها فجلب استثمارات عالمية كبرى من شركات عملاقة كمايكروسوفت وإنتل،[1] كما أبرمت صناعاتها العسكرية عقوداً كبيرة مع الولايات المتحدة وروسيا والهند والصين جعلت منها في سنة 2018، ثامن أكبر مصدر للسلاح في العالم.[2] وعلاوة على الروابط التاريخية مع الولايات المتحدة، تحولت علاقة إسرائيل مع واشنطن خلال العقد المنصرم من علاقة استثنائية إلى علاقة فوق العادة: من أوباما الذي منح إسرائيل حزمة مساعدات عسكرية تبلغ قيمتها 38 مليار دولار (أكبر من قيمة المساعدات كلها التي تقدمها الولايات المتحدة إلى حلفائها مجتمعين)، إلى ترامب الداعم لإسرائيل دبلوماسياً وسياسياً بلا قيد أو شرط.

لقد أمست روسيا وهي الخصم السابق لإسرائيل، وعلى الرغم من بعض المطبّات العرضية، صديقاً ووسيطاً استراتيجياً متفهماً، أمّا عملاقا الشرق الأقصى (الهند والصين) فهما على تفاهم كبير معها، أكان ذلك على صعيد التآزر الفكري الشعبوي في حالة الهند، أم على صعيد المصالح الاقتصادية الذاتية في حالة الصين، كما تشهد العلاقات التجارية الإسرائيلية الأوروبية ازدهاراً، فالاتحاد الأوروبي أكبر شريك تجاري لإسرائيل[3] على الرغم من رفضه، من حين إلى آخر، لممارساتها، ومحاولاته اليائسة المتزايدة للحؤول دون إجهاز نتنياهو على حل الدولتين.

وفي الجوار، صمد السلام مع مصر على الرغم من زلزال سنة 2011، إلى درجة وجود تحالف نشط حالياً مع القاهرة لمواجهة الخطر (المتضائل) لتنظيم "ولاية سيناء" التابع لداعش، ومن الصعب تصور أن يدعو أي نظام مصري سابق إسرائيل إلى شنّ غارات جوية على أراضٍ مصرية حتى لو كان باسم الحرب على الإرهاب. أمّا العلاقات مع الأردن فليست بالاستقرار الذي كانت عليه بعد معاهدة السلام في سنة 1994 وقبلها، لكنها لا تزال ثابتة بالقدر الكافي على مستوى القضايا الأساسية الخاصة بالأمن. كذلك، انخرط عرب الخليج علانية في تحالف مع إسرائيل ضد إيران، ووطدوا معها علاقات تجارية وأمنية واستخباراتية، غالباً في الخفاء، لكنها تمضي قدماً من دون حياء.

وغير بعيد عن البيت الداخلي، يبدو أن القضية الفلسطينية هَوَت إلى قاع جدول أعمال المجتمع الدولي، وباتت في مرتبة ما بين قبرص الشمالية والتيبت؛ فالفلسطينيون الرازحون تحت الاحتلال وخلف الجدار محجوبون بكل بساطة عن أنظار الأغلبية العظمى من الإسرائيليين، بينما السلطة الفلسطينية تعرض خدماتها بطريقتين: الأولى، بمحاربتها أي تهديد حقيقي للوضع القائم من خلال آلية التنسيق الأمني، والثانية، بكونها تشكل حداً فاصلاً بين الجماهير الفلسطينية الساخطة وسلطات الاحتلال. وبينما تدين السلطة الفلسطينية سياسات إسرائيل، فإن نحو 130,000 عامل فلسطيني يعبرون الخط الأخضر يومياً للعمل في إسرائيل،[4] فاليد العاملة الفلسطينية تبني المستعمرات في الضفة الغربية في غياب عروض العمل الحقيقية البديلة.

أمّا حصار غزة، فلا يتمثل في الجدار المحيط بالقطاع فوق الأرض فحسب، بل في بناء سور حديدي يمتد تحت الأرض والبحر، يقال إن إسرائيل أتمت 70% منه.[5] والسؤال الحقيقي الذي يجول في الذهن في هذا المقام هو عمّا إذا كانت مساعي المجتمع الدولي لتحقيق "الاستقرار" (stabilization) في غزة ستوسع الهوة السياسية والاقتصادية والمجتمعية بين "الكيانَين" الفلسطينيين اللذين ما فتىء أحدهما يبتعد عن الآخر بسرعة فائقة، واللذين يشيّدان حواجز فلسطينية "داخلية" عصيّة على الاختراق بما يخدم إسرائيل في نهاية المطاف.

غير أن العقد المقبل وما وراءه، زاخران بتحديات كبيرة حقيقية بالنسبة إلى إسرائيل، لن أتطرق إليها جميعها، أو إلى تفصيلاتها أو تبعاتها المحتملة على إسرائيل وعلى اللاعبين الإقليميين الآخرين، فما سأعرضه سيكون عاماً وانتقائياً وجزئياً.

 I - التحدي العسكري - الاستراتيجي

لنلقِ في البداية نظرة على التحدي العسكري - الاستراتيجي وكيف تعاظم نتيجة ما تفرضه البيئتان المحلية والاستراتيجية من تحولات.

1) مأزق العقيدة: ارتكزت العقيدة العسكرية التقليدية إلى ثلاثة أركان أساسية أضيف إليها ركن رابع خلال العقد الماضي، وهي: (1) الهجوم؛ (2) الحسم؛ (3) الكشف المبكر (الإنذار المبكر)؛ (4) الدفاع، كملاذ أخير.[6]

تبلورت أول ثلاثة مفاهيم خلال الأعوام الأولى لنشأة إسرائيل، بهدف التعويض عن غياب العمق الاستراتيجي، واحتمال التهديد الشامل من طرف القوات المسلحة البرية التقليدية (conventional) العربية. وكان يراد من "الهجوم" (بما في ذلك الهجوم الاستباقي) نقل الحرب إلى أرض العدو. ويشكل "الإنذار المبكر" جزءاً متكاملاً مع مفهوم "جيش الشعب" الذي يحتاج إلى الوقت لاستكمال استدعاء الاحتياط. أمّا "الحسم" فيفترض حرباً قصيرة وحاسمة تنتهي بتدمير قوى العدو الرئيسية. وينجم عن الهجوم والحسم احتلال أراضي العدو، ثم الإبقاء عليها من أجل توسُّع ممكن حيثما وأينما تسنَّ ذلك، أو كورقة مقايضة تستجلب مكاسب أُخرى كمعاهدات سلام.

غير أن تلك العقيدة التقليدية تآكلت مع الزمن، ولا سيما مع تلاشي التهديد العسكري التقليدي العربي (أي قيام الجيوش النظامية لدول الطوق – بشكل أساسي مصر والأردن وسورية - بشن هجوم بري كاسح) في أعقاب معاهدتَي السلام مع مصر والأردن، والانخراط فيما يسمى عملية السلام مع الفلسطينيين بعد سنة 1993.

استيقظت إسرائيل في سنة 2006 على كابوس حرب تموز / يوليو على لبنان، فعلى خلاف تجاربها السابقة منذ سنة 1948، كانت الخلاصة الأولى أن العمق الإسرائيلي (heart land) بات عرضة للهجوم، وبالتالي لم يعد مفهوم نقل الحرب إلى أرض العدو كافياً للإبقاء على الجبهة الداخلية الإسرائيلية في منأى عن ويلات الحرب. وفعلاً، أصبحت مشكلة إسرائيل تكمن في أنها نفسها أمست عرضة للتهديد، وهكذا أضحى "الدفاع" بشقّيه السلبي (الملاجىء والأماكن المحصنة) والنشط (منظومة صواريخ آرو، والقبة الحديدية، ومقلاع داود، إلخ) ركيزة أساسية متكاملة مع مجمل العقيدة العسكرية الإسرائيلية وتبدلاتها المستقبلية.

غير أن حرب 2006 أفضت إلى خلاصة أُخرى سبق أن تجلت بوضوح في حرب 1982 واحتلال لبنان: لقد تغيرت طبيعة التهديد الذي تواجهه إسرائيل من جيوش تقليدية كبيرة معادية إلى: (1) قوات غير تقليدية (non-conventional) صغيرة القوام نسبياً كحزب الله و"حماس"؛ (2) تحدي الصواريخ ومنظومات الأسلحة القصيرة والبعيدة المدى.

في كلتا الحالتين لم يعد الركنان التقليديان للعقيدة العسكرية الإسرائيلية يجديان نفعا، فـ "الحسم" وفقاً لمفهوم المفكر العسكري الألماني وفيلسوف الحرب كارل فون كلاوتزفيتز (أي تدمير القوة العدو المسلحة) لم يعد معياراً نافعاً يُعلَن بموجبه الانتصار مثلما حدث في سنتَي 1956 و1967، و"احتلال أراضي العدو" لم يعد يعطي أفضلية للتوسع المحتمل، أو لإجراء مقايضة سياسية. ففي المقام الأول ثبت أنه من المستحيل القضاء على قوات غير تقليدية صغيرة الحجم، تتحصن داخل حاضنة مدنية داعمة، بالأسلوب نفسه الذي اتُّبع للقضاء على أرتال الدبابات المصرية المكشوفة في سيناء في سنة 1967.

وقد تكون مفارقة على قدر كبير من الأهمية في أن ميزان القوة النارية لم يعد في مصلحة إسرائيل بشكل مطلق، فكلما ازدادت كثافة النيران المستخدمة، كانت أي مقاومة متبقية من طرف العدو (أو مجرد نجاته من الدمار) سبباً في تقويض صورة القوة الإسرائيلية، وبالتالي تحويل ما قد يبدو إنجازاً كمّياً إسرائيلياً (بحساب عدد القتلى والدمار الناجم عن الحرب) إلى هزيمة نوعية.

علاوة على ذلك، ونظراً إلى الترابط الوثيق بين الحاضنة المدنية وقوات العدو غير التقليدية (وهو ما ينطبق بصورة خاصة على حزب الله و"حماس")، فإن احتلال مزيد من الأرض لأي فترة زمنية كانت، ينطوي على مجازفة الانزلاق إلى مستنقع نزاع مسلح طويل الأمد يضع قواعده الطرف الآخر، مثلما تبيَّن في مرحلة ما بعد اجتياح لبنان في سنة 1982، وكما تجلى بوضوح في إحجام إسرائيل عن إعادة احتلال قطاع غزة بعد سنة 2005.

الخلاصة هي أن إسرائيل انتقلت إلى نمط جوهره الدفاع والردع، وهو نمط يبدو أنه متوقف على عدد من العوامل الاجتماعية - الاقتصادية والنفسية، والتي سنتطرق إليها فيما يلي. ولا نريد أبداً القول إن إسرائيل شطبت "الهجوم" من قاموسها الاستراتيجي، بل إنه، على العكس، ما زال يتصدر القائمة مثلما نص عليه أول تدوين علني للعقيدة العسكرية الإسرائيلية في وثيقة "استراتيجيا جيش الدفاع الإسرائيلي"،[7] لكن الدفاع من دون الرغبة في احتلال الأرض أو القدرة على الحسم الواضح ليس إلّا مجرد استخدام واسع للكثافة النارية، أي استخدام للقوة العسكرية من دون أي مضمون سياسي.

من الممكن القول إنه "ما من بديل"، من وجهة النظر الإسرائيلية، لكن ما ينجم بالضرورة عن ذلك هو في أحسن الأحوال تأجيل جولة النزال المقبلة بدلاً من هزيمة العدو، أي استخدام القوة لاستنزاف موارد العدو وإفقاده العزيمة بمرور الوقت، وهو ما يسميه المحللون الإسرائيليون: "جز العشب" (mowing the lawn). غير أن ذلك مرادف لمفهوم حرب الاستزاف الطويلة الأمد التي كثيراً ما سعت إسرائيل لتلافيها. الحقيقة أنه عدا قيام القوى المعادية لإسرائيل (كـ "حماس" وحزب الله) باتخاذ قرار من جانب واحد بخفض سقف النزاع وإنهائه، أكان ذلك ببيان معلن أم بحكم سيرورة الأمور، فإن إسرائيل تبدو غير قادرة على الخروج من مأزق العقيدة، لا اليوم ولا في المدى المنظور خلال العقد المقبل.

2) العامل الاجتماعي الديموغرافي: ليس الأمر منفصلاً عن بعض التغيرات المهمة البعيدة المدى التي تشهدها إسرائيل على الصعيدين الاجتماعي - الاقتصادي والديموغرافي. إن ثمن تحقيق مستوى معيشة على النمط الغربي (على الرغم من وجود نسبة فقر كبيرة، إذ تشير التقديرات إلى أنه في سنة 2018 بلغت نسبة الذين يعيشون تحت خط الفقر 21,2%)[8] هو التغير المتدرج في الموقف المجتمعي حيال استخدام السلطة للقوة، فإسرائيل كنظيراتها الأوروبية، تشهد نفوراً وحساسية من الخسائر البشرية، الأمر الذي يثبط خياراتها العسكرية. وقد يكون المجتمع الإسرائيلي مستعداً لدفع ثمن باهظ لمواجهة التهديدات الوجودية الخطرة أو الواضحة، لكنه يبدو أكثر تردداً في تحمّل الخسائر البشرية في ظروف أكثر غموضاً أو أقل تهديداً، ولا سيما عندما يبدو أن استخدام القوة لن يُحدث تغييراً حاسماً لمصلحة إسرائيل، أو ينجز أهدافاً سياسية واضحة وجلية.[9]

ثمة بُعد آخر متعلق بطبيعة المجتمع الإسرائيلي نفسه، فقد تعمق الفصل بين ثلاث كتل متمايزة هي: اليهود غير المتدينين، والمتدينون (الحريديم)، والفلسطينيون من أهل 1948. ويشكل الحريديم والفلسطينيون من أهل 1948 معاً، 25% من سكان إسرائيل حالياً، ومن المتوقع أن تصل نسبتهم إلى 50% بحلول سنة 2050، وما لم يحدث تغيير مهم في أوساط الحريديم والفلسطينيين من أهل 1948 وفي النظام السياسي الإسرائيلي نفسه، فإن خسارة مورد بشري كبير كهذا سيثبط الآلة العسكرية. وفي المقابل، لا ترى الأوساط العسكرية الإسرائيلية في التجنيد الإجباري لهاتين الكتلتين إضافة إلى الجاهزية أو الفاعلية القتالية للجيش.[10]

إن مشهد التجنيد في إسرائيل يتغير، ذلك بأن زمن التجنيد الشامل تبدل، ونتيجة ذلك يتوقع أن يخدم 40% من الإسرائيليين في سن التجنيد في الجيش هذه السنة (2020)، والسبب في ذلك يعود جزئياً إلى ارتفاع نسبة الحريديم والفلسطينيين من أهل 1948 إلى مجمل السكان. علاوة على ذلك، بات المجندون من الطبقات الوسطى والميسورة (غالباً من الأشكيناز، وإن لم يكونوا حصراً كذلك) يتوجهون أكثر فأكثر نحو الخدمة في الوحدات التقنية الآمنة والمرموقة كالوحدة 8200 التي تشكل حاضنة لرواد الأعمال المستقبليين في مجال التقانة العالية، والتي تقدم كل ما يلزم تقريباً في هذا المجال بدءاً بما يحتاج إليه تطبيق ويز (WAZE)، وصولاً إلى شركة بلاك كيوب (Black Cube).

أمّا التحديات الأُخرى فتتعلق بمدى الاستعداد للخدمة، فمع ارتفاع مستوى المعيشة في إسرائيل انخفضت الرغبة في أن يتحمل الفرد خسارة سنوية لجزء مهم من دخله بسبب الخدمة في صفوف الاحتياط. وبما أن الدولة برهنت على عدم رغبتها أو قدرتها على تقديم تعويضات ملائمة، كانت النتيجة تقليص مدة الخدمة في الاحتياط، الأمر الذي أدى إلى انخفاض ملحوظ لقدرات قوات الاحتياط (مثلما تجلى مصادفة في الجنوب اللبناني في سنة 2006).

لقد هوت فعلياً نسبة انضمام مجندي الخدمة الإلزامية إلى الجيش من 75% إلى 50% خلال 20 عاماً فقط، وبينما يجيز القانون الإسرائيلي معاقبة الهاربين من الخدمة بالسجن، يتم في الواقع تجاهل أغلب الحالات، وعليه فإن التجنيد الإلزامي الشامل (universal conscription) في إسرائيل بات خرافة، فالحقائق تبيّن أن 35% من السكان يحملون العبء بينما يجد الـ 65% الباقين سبيلاً للتفلّت من الخدمة العسكرية من دون أن يتحملوا التبعات. ونتيجة ذلك، فإن الدوافع بين المجندين الجدد للانضمام إلى الوحدات القتالية انخفضت، فبحسب آخر الاستطلاعات انخفضت نسبة الراغبين في الخدمة في الوحدات القتالية من 90% في التسعينيات، إلى 80% في سنة 2010، ثم إلى 67% فقط من دفعة سنة 2018.[11]

كان مفهوم جيش الاحتياط (أو جيش الشعب) حاسماً لتفادي تكلفة إنشاء وحدات نظامية كبيرة دائمة (standing forces)، وللقيام بالتعبئة العامة من أجل مواجهة التفوق العربي الكمّي المفترض (لكن الواقع أن إسرائيل نجحت في أن تزج إلى الميدان بقوات برية يفوق حجمها الجيوش العربية المحاربة مجتمعة بما في ذلك تلك التي شاركت في حرب 1948). وكان "جيش الشعب" وسيلة لصهر عناصر اجتماعية وإثنية متفرقة ما كان لها أن تمتلك لغة وروابط ثقافية مشتركة وحساً قومياً وهوية، غير أن الجيش الجرار هو ضرورة لاحتلال الأراضي والحفاظ عليها.

سيتبيّن أن اجتماع المسارين الاجتماعي - الاقتصادي ومسار التغيرات الديموغرافية بدأ بتقويض القاعدة المادية لمفهوم جيش الشعب الذي يعتمد على الاحتياط، وبالتالي تقويض بنية الجيش الإسرائيلي وإلغاء دوره الممكن. إن التخلي عن الاعتماد على قوات الاحتياط والخزان البشري المتناقص سيزيد في الحاجة إلى قوات نظامية محترفة دائمة (professional standing forces) وصغيرة القوام نسبياً، وهو ما يجري العمل عليه حالياً. غير أن غياب الحشد العسكري سيحدّ من قدرة إسرائيل على احتلال مزيد من الأرض والثبات عليها، وفي الوقت نفسه سيخلق غياب قوات الاحتياط حاجة جديدة إلى الإنذار المبكر، وستزيد الحساسية من الخسائر البشرية في الميل إلى القوة النارية المطلقة والتعويل عليهما. ومن المرجح أن تذكّي جميع هذه العناصر بعضها بعضاً في منحى متصاعد يمتد خلال العقد المقبل.

3) الفخ التقاني: إسرائيل من أكثر الدول ابتكاراً في مجال التقنيات العسكرية، وهي تكرس جهداً كبيراً للبحث والتطوير في المجالين العسكري والمدن، مثلما تشير أرقام دائرة الإحصاء المركزية لسنة 2018.[12] لقد جعل كل من الدعم الحكومي الأميركي السخي، وتلاقح الأفكار مع شركات أميركية، إسرائيل رائدة في كثير من المجالات التقنية العسكرية، وإحدى أوائل الدول في استخدام الطائرات المسيّرة (drones) للأغراض العسكرية على الإطلاق. وهذا التقدم التقني يمنح أفضلية، لكنها نسبية وليست مطلقة، فعلى سبيل المثال، صحيح أنه ما من منظومة مدمجة لإطلاق الذخائر تضاهي طائرة "أف 35" الأميركية الصنع الموضوعة في خدمة إسرائيل، لكن امتلاك هذه الطائرة ليس ضرورياً لتنفيذ ما تريده جهة ما، إذ يكفي لذلك امتلاك عدد معين من الطائرات المسيّرة الدقيقة أو الصواريخ المجنحة. وقد يكون قلق إسرائيل إزاء الهجمات على مصفاة بقيق السعودية مبالغاً فيه بصورة متعمدة، لكنه لا يخلو من الصدق؛ فالحفاظ على "التفوق النوعي" الإسرائيلي (الذي تلتزم به الولايات المتحدة رسميا) ربما يكون صعباً في الحدود الملائمة، غير أن هذا التفوق سيستمر وإن كان أثره في طبيعة الردع أو الخيارات العملياتية الإسرائيلية محدوداً.

4) بين الردع والدفاع: كثيراً ما كان الردع الاستراتيجي غاية إسرائيل، أي حماية الدولة من أي تهديد وجودي مثل ذاك الذي اعتبرته كذلك في سنة 1948. ولذلك رأى الآباء المؤسسون (وبصورة أساسية دافيد بن - غوريون) في الردع النووي ضرورة، وعملوا على أن ترتكز السياسة الخارجية الإسرائيلية على التحالف مع قوة عظمى، كفرنسا في الخمسينيات (وهي التي أهدت إسرائيل القنبلة النووية)، والولايات المتحدة منذ أواخر الستينيات (وهي التي أعطت إسرائيل ما مجمله 142,4 مليار دولار من المساعدات الاقتصادية والعسكرية منذ سنة 1948، الأمر الذي يجعل إسرائيل أكبر حاصل على المساعدات الأميركية منذ الحرب العالمية الثانية)،[13] وذلك استناداً إلى الفرضية القائلة إن نفوذ قوة عظمى كفيل بردع أي عدو كان. لكن بينما أصبح الردع النووي ركزية أساسية (بمعنى أنه الملاذ الأخير) ولا سيما بعد أن امتلكت إسرائيل قدرة الرد على هجوم نووي يرتكز على الغواصات المتطورة بفضل الكرم الألماني،[14] فإن قدراتها على الردع الأشمل، بما في ذلك علاقاتها البعيدة المدى مع الولايات المتحدة، هي مسألة قابلة للنقاش (وسأتطرق إلى هذه المسألة لاحقاً).

الردع نمط عملياتي يهدف إلى جعل الطرف الآخر يمتنع من البدء بإطلاق النار، وإلى تمكين الرادع من العمل بحرية ضد المردوع، لكن الردع المتبادل أمر آخر: ففي المراحل المتقدمة من الردع المتبادل يصبح الطرفان غير قادرين أو راغبين في التحرك، وبالتالي تنشأ حالة من التكافؤ الفاعل، ينطبق عليها المصطلح النووي الذي استُخدم في حقبة الحرب الباردة: "التدمير المتبادل المؤكد" (Mutually Assured Destruction “MAD”)، وهو ما يمكن أن ينطبق فعلاً على حالة إسرائيل وحزب الله وينسحب على إسرائيل وإيران.

غير أن استمرارية هذه الحالة أمر خاضع للنقاش. فبالنسبة إلى إسرائيل تُعدّ حالة "التدمير المتبادل المؤكد" مشكلة حقيقية لأنها تنسف مبدأ حرية العمل الإسرائيلي من أساسه، فضلاً عن أن حالة "التدمير المتبادل المؤكد" تعطي الطرف المناوىء هامشاً للمناورة، الأمر الذي يكبح القوة المسلحة الإسرائيلية التي ترمي أساساً إلى حرمان خصومها من هذه الميزة. هكذا، وفي مفارقة أُخرى، تبدو حالة "التدمير المتبادل المؤكد" كأنها وبال على قدرة الردع الإسرائيلي بدلاً من كونها تعزيزاً لها.

من هذا المنطلق يمكن التساؤل: إلى متى ستظل إسرائيل على استعداد للتعايش مع وضع "تدمير متبادل مؤكد"؟ وهل ستحل لحظة ما تبدو فيها تكلفة الإبقاء على حالة الردع المتبادل أكبر من تكلفة انتهاكها، إذ إن إسرائيل لم تتعايش قط في الماضي مع أي وضع قائم واجهت فيه خطراً وجودياً حقيقياً أو ملموساً (لنَعُد إلى التاريخ منذ تعاظم القوة العسكرية المصرية في أوساط الخمسينيات وصولاً إلى حالة صدام حسين في أوائل التسعينيات)، ولا حتى مع أي قيود على حرية تحركها. وهكذا، فإن وضع "التدمير المتبادل المؤكد" في هذا السياق غير مستقر من أساسه، ومن الصعب بمكان توقّع لحظة الانهيار بدقة، غير أن تلك اللحظة حاضرة في أذهان واضعي الاستراتيجيات وصنّاع القرار في إسرائيل، أو على الأقل سينتبهون لها عندما تلوح في الأفق.

يشكل "الدفاع" ملاذاً، وقد تم ترسيخه كركن في العقيدة الإسرائيلية بعد تقرير وزير العدل السابق دان ميريدور عن الأمن القومي في سنة 2007. لكن الدفاع: (أ) مكلف جداً؛ (ب) فيه ثغرات لأنه لا يمكن أن يكون كاملاً؛ (ج) هو كمبدأ يميل إلى السلبية، وبالتالي لا يبدو أنه سيقدم حلاً للتهديد المتنامي الذي تشكله الصواريخ الدقيقة أو الطائرات المسيّرة الهجومية الموجهة بالأقمار الصناعية، أو ما يرجح أن تراه المنطقة خلال العقد المقبل من روبوتات قتالية وأسلحة هجومية موجهة عن بعد.

لا شيء ممّا تقدّم يهدف إلى التقليل من شأن قدرات إسرائيل العسكرية أو التخفيف من هولها، فهي مذهلة وفي تطور مستمر. ويبدو أن المستقبل، على المدى القريب والمتوسط، سيشهد على الأرحج مزيداً من النزوع إلى استخدام القوة النارية الكثيفة بدلاً من الاعتماد على القوة البرية، على الرغم من احتفاظ إسرائيل بقوات مدرعة ضخمة تستطيع نشرها في الميدان في زمن قصير (1800 دبابة وعربة مدرعة، علاوة على مئات أُخرى في الاحتياط وفقاً لمصادر غربية)،[15] الأمر الذي يعني ازدياد الاعتماد على القوة الجوية ووسائل الإيصال من بُعد (المدفعية والطائرات المسيّرة والصواريخ)، بينما ستزوَّد القوات البرية بمزيد من المدرعات والروبوتات وتقنيات الذكاء الاصطناعي لاستخدامها على أوسع نطاق من أجل تقليل الخسائر البشرية بأكبر قدر ممكن. لقد أضحت الحرب الإلكترونية السيبرانية (cyber war) تتبوأ مكانة مركزية، وما انفكت تضطلع بدور حاسم في الدفاع والهجوم، ويرجح أن تكون بأهمية أي سلاح آخر خلال أي حرب مقبلة.

سيصبح الجيش أصغر حجماً وأكثر احترافاً وسيتناقص الاحتياط بالتدريج ليصبح شكلياً و"احتياطياً" بالفعل، وسيكفّ عن كونه العمود الفقري للجيش الإسرائيلي مثلما كان منذ سنة 1948 حتى سنة 2006. ولا يبدو أن إسرائيل ستقبل بتهديد ملموس لوجودها (كالقنبلة النووية الإيرانية)، وستسعى لكسر جمود حالة "التدمير المتبادل المؤكد" التي ستكبل يدها. ولن يحل الدفاع والردع محل الهجوم، إلّا إن الهجوم سيكون سيفاً مشهراً، لكنه سيف مثلوم. تلك هي الصورة الواسعة المحتملة لسنوات الـ 2020 مثلما تبدو اليوم.

 II - الخريطة الإقليمية الجديدة

لقد تراجع بلا شك التهديد العسكري العربي التقليدي، وأصبحت إسرائيل ترى أن الخريطة الإقليمية حالياً وفي المستقبل القريب محكومة بواقع مختلف: التوسع الإيراني الملحوظ، وحضور حلفاء طهران، وهما يشكلان مصدر قلق حقيقي (فقد أصبحت إيران رسمياً التهديد الأول لإسرائيل)،[16] لكنهما أيضاً مدخل ملائم لنسج علاقات جديدة مع جزء من الدول العربية المحيطة بإسرائيل على الأقل، وللالتفاف بشكل فاعل على القضية الفلسطينية وإبطال شروط مبادرة السلام العربية لسنة 2002، وبالتالي إحراز تطبيع للعلاقات مع أكثر الدول العربية من دون أي انسحاب إسرائيلي.

لكن كيفية مواجهة التهديد الإيراني لا تزال مجهولة؛ فإيران حاضرة عسكرياً وسياسياً وفكرياً ودينياً ومجتمعياً، أمّا توسعها فيستند إلى قاعدة ديموغرافية / دينية (متمثلة في دعم جماهيري)، وهو في كثير من الأحيان يكتسي طابعاً هوياتياً وتاريخياً، ولهذا، فإنه ليس حضوراً يمكن تفكيك عراه باستخدام متقطع أو حتى مستمر، ففي غياب المعلومات الدقيقة والمفصلة يصعب معرفة مدى تأثير عملية "جز العشب" في سورية ولاحقاً في العراق، في قدرة إيران على نشر صواريخها وحلفائها في هذه الجبهة أو تلك، أو معرفة عدد الصواريخ التي فشل حزب الله في الحصول عليها وإضافتها إلى ترسانته المزعومة ذات الـ 150,000 صاروخ. وتجدر الإشارة إلى أن "جز العشب" في سورية (أو ما وصفته وثيقة آيزنكوت الاستراتيجية لسنة 2015 بـ "المعركة بين حربين")، فشل على ما يبدو في الحؤول دون أن يتحول اليمن إلى مصدر جديد للتهديد الصاروخي.[17]

ما من شك في أن إسرائيل ما برحت تدرس خياراً آخر هو "الاحتلال والاقتلاع"، لكن لا يبدو أن ذلك ممكن مع سورية أو العراق أو اليمن أو بالتأكيد مع إيران نفسها، كما أن ذلك الخيار يصطدم مباشرة بحالة "التدمير المتبادل المؤكد" في لبنان. وحتى لو قررت إسرائيل المجازفة وتحدي التوازن القائم (وأن تتجاهل الدمار في إسرائيل الذي قد يحدث جرّاء لذلك)، فإن السؤال الحقيقي هو: ماذا بعد؟ أي ما الذي سيحدث بعد استخدام القوة النارية الكثيفة في لبنان ونشر القوات الإسرائيلية على تلال الجنوب اللبناني وفي وديانه وما وراءه؟ وكم ستبقى هناك؟ ومَن سيستلم الأمور بعد الانسحاب؟

على صعيد حساس آخر، يقال إن إسرائيل نظرت في مسألة شن هجوم على المنشآت النووية الإيرانية، لكنها ارتدعت عن ذلك بسبب خشية الولايات المتحدة، بحسب ما أشير، من توسع الدائرة لتشمل أجزاء أُخرى من المنطقة، وأن تنجر الولايات المتحدة نفسها إلى حرب غير مرغوب فيها ولا يمكن كسبها مع إيران.[18] لا أحد يعرف كيف ستتغير هذه الحسابات، لأن حدوث مواجهة بين إسرائيل وإيران من عدمه خاضع لعوامل أُخرى كمصير خطة العمل الشاملة المشتركة أو ما سيحل محلها، والأسلوب الذي قد يعاد وفقاً له صوغ العلاقات مع واشنطن والغرب خلال ولاية ثانية لترامب أو في عهد خليفته.

صحيح أن بعض الأنظمة العربية يميل إلى إسرائيل على حساب إيران، لكن ذلك ليس خياراً شعبياً (يشهد على ذلك استمرار الجمود الكبير في العلاقات العلنية بين إسرائيل من جهة، ومصر والأردن من جهة أُخرى، بعد مرور عقود على معاهدتَي السلام معهما)، على الرغم من محاولات استثنائية موجهة حكومياً للإيحاء بعكس ذلك في الصحافة والمحتوى الخليجي على وسائل التواصل الاجتماعي. إن التحالف الخليجي - الإسرائيلي هش في الحقيقة وطارىء للغاية، فاحتمال ترميم دول الخليج لعلاقاتها مع إيران يوازي حماستها في أن تقوم أطراف أُخرى بشنّ الحرب على إيران. إن المصالحة بين طهران والرياض وأبو ظبي، أو على الأقل التعايش بينها، أمر وارد في العقد الثاني من هذا القرن، كما أن حلول وضع تسعى فيه دول الخليج لإشعال فتيل مواجهة إسرائيلية - إيرانية ليس حتمياً.

وإذا ما أبقت إيران على موقفها الحاضر واستراتيجيتها الإقليمية، فإن خيارات المواجهة الإسرائيلية ستكون مؤلمة كلها، فالتعايش مع الوضع الحالي يتطلب الاستعداد للقبول بالتكافؤ والردع المتبادل، أمّا الحرب فسيكون ثمنها غير مسبوقاً ونتائجها غير مضمونة، في حين أن الحوار أو التفاعل الإيجابي المباشر ليسا مطروحين على الطاولة. إن التغيير الوحيد الممكن هو الذي سيصدر عن طهران نفسها، ولا يبدو أن ذلك يلوح في الأفق.

 III - المشهد المتغير في الولايات المتحدة

ما من شك في أن الأمور شرعت تتغير في الولايات المتحدة بصرف النظر عن العلاقات الاستثنائية التي تربطها بإسرائيل، فللمرة الأولى تسببت إسرائيل بخلافات حزبية داخل أميركا،[19] إذ برزت أشكال عديدة غير مسبوقة من النقد الموجه إلى إسرائيل داخل الحزب الديمقراطي من قواعده حتى مرشحيه للرئاسة (باستثناء بايدن)، الأمر الذي يعكس بصورة عامة تحولاً لدى جمهور الحزب الديمقراطي وبعض أوساطه الشبابية ولدى الأوساط اليهودية الليبرالية نفسها.

ففي استطلاعات سنة 2015، وصف 47% من الأميركيين إسرائيل بالحليف، وفي سنة 2017 انخفضت النسبة إلى 41%، ثم إلى 37% في أواخر سنة 2018. أمّا الارتفاع الطفيف في نسبة داعمي إسرائيل من الجمهوريين / المحافظين فلم يعوّض الهبوط الحاد في نسبة داعميها من الديمقراطيين / الليبراليين. وتكتسي الفجوة العمرية أهمية كبرى، فـ 25% فقط ممّن تراوحت أعمارهم بين 18 و29 عاماً قالوا إن إسرائيل حليف، مقارنة بـ 55% ممّن تجاوزت أعمارهم 65 عاماً. واعتبر 43% من البيض إسرائيل حليفاً، مقارنة بـ 19% فقط من الأفروأميركيين، و22% من ذوي الأصل الهسباني (اللاتيني). وينظر 27% من الليبراليين إلى إسرائيل بإيجابية، مقارنة بـ 60% من المحافظين.[20]

وتشير إحدى النتائج إلى أن مصدر المصوتين التطابقيين (أي الناخبين الذين يقولون بضرورة انعدام بروز أي فجوات بين إسرائيل والولايات المتحدة) انتقل من الأوساط اليهودية التقليدية إلى الأوساط الإنجيلية الصهيونية المصممة على تهيئة الأوضاع الملائمة ليوم القيامة، وذلك بحسب معتقداتهم الدينية. ويمكن أن يُنسب جزء كبير من ذلك إلى الاستراتيجيا المقصودة التي استنبطها بنيامين نتنياهو للتحالف مع الجمهوريين على حساب التيارات الأكثر ليبرالية في الساحة السياسية الأميركية، والتي باتت أثر تشككاً في مستقبل عملية السلام وحروب غزة والاحتلال والمستعمرات، إلخ، وهذا الأمر هو الذي جعل نتنياهو يبحث عن حليف متحرر من هذه القيود، فهو يبحث عن منفعة فجّة قوامها 70 مليون أميركي إنجيلي في مقابل 6 مليون أميركي يهودي.

السؤال الوجيه الذي يبرز هنا هو كيف سيتجلى ذلك في المستقبل؟ إن التماثل بين ترامب ونتنياهو فريد من نوعه، ونأمل بأن يكون تكراره مستحيلاً. فجميع الدلائل تشير إلى اقتراب مسيرة نتنياهو من نهايتها، ولو أن حدوث ذلك سيستغرق بعض الوقت، كما أن على ترامب أن يبرهن أنه يمثل الولايات المتحدة الأميركية إذا كان يريد كسب الانتخابات في سنة 2020، ذلك بأن وجهاً جديداً في إسرائيل، وآخر في واشنطن، سيقدران على تدارك كثير من المشكلات الحالية وتهدئة الأصوات الناقدة المتصاعدة.

لكن هناك احتمال ليس بقليل، أن يفوز ترامب بولاية ثانية، وفي تلك الحالة سيتعين عليه الوفاء بدَيْنه للقاعدة الانتخابية الإنجيلية. قد لا يكون لديه رغبة حقيقية أو مصلحة في أن يزيد في حدة تشنجهم، ولعله قليل الاهتمام بدعم بينس في انتخابات 2024، وهي على كل حال بعيدة الأجل. أمّا بينس فلا يحتاج إلى أن يساعده ترامب لكسب الإنجيليين، بل إنه ربما سينأى بنفسه عنه. وقد يكون ترامب راغباً في التخلص من إنجازات أوباما، لكن الحرب على إيران غير واردة في هذا المشهد من حيث المبدأ، من دون إمكان نفي الانزلاق نحو الحرب من دون قصد، أو نتيجة سوء تقدير.

مع هذا كله، لا بد من بعض التروي. فما يتضمنه حصول ترامب على ولاية ثانية لا يزال أمراً غامضاً، ذلك بأن تحرره من عبء ضمان إعادة انتخابه سيجعله قادراً على المضي في أي اتجاه مدفوعاً برغبته في ترك بصمته الخاصة، كما أنه بعد تقديمه الكثير لإسرائيل فإنه قد يطلب منها أن "توفي بما عليها"؛ أمّا مطلبه فباب التخمين بشأنه مفتوح على مصراعيه. ومن جهة أُخرى، ربما يخبو اهتمامه بإسرائيل كلية ليركز على إشباع شهية دول الخليج النهمة بصفقات السلاح، وقد يسعى للتوصل لاتفاق مع إيران رغماً عن إسرائيل ورغباتها.

سيكون المشهد مغايراً مع رئيس غير ترامب، رئيس بتوجه "متوازن" وأكثر تقليدية إزاء الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، وذي مقدرة أكبر على مراقبة أفعال إسرائيل وحتى اتخاذ إجراءات عقابية بشأن أنشطة المستعمرات مثلما طرح بيرني ساندرز وآخرون.[21] وقد ينطوي الأمر على العودة إلى دور أكثر نشاطاً لتحقيق تسوية سلمية وإعادة إحياء حل الدولتين، ولو أن فرص نجاح هذا المشروع ضعيفة.

متعددة هي الآثار المترتبة على أي تغير حقيقي في الموقف الأميركي، فعلاوة على المعونة العسكرية السنوية البالغة 3,8 مليار دولار، ثمة 3,8 مليار أُخرى على شكل ضمانات قروض حتى سنة 2023 (هي بمثابة احتياط مالي يجوز لإسرائيل أن تستخدمه مثلما ترتئي)،[22] فضلاً عن إجراءات أُخرى تضمن تدفق رؤس الأموال إلى إسرائيل، كعشرات الملايين من دولارات الدعم الخاص المعفي من الضرائب والموجّه إلى المستعمرات.[23] إن أي تغير سيكون له أثره في إسرائيل بحسب نطاقه ومدته، ومن المرجح أن تكون الإدارة الأميركية الجديدة على موعد مع معركة جديدة بشأن "قروض الإسكان"، كتلك التي حدثت مع شامير في سنة 1991.

إن الدور الذي تضطلع به الولايات المتحدة كجهة ردع أو حماية "خارجية" قد يتغير، فمن جهة، ربما يكتسي الأمر طابعاً أكثر إلزامية لو وقّعت إسرائيل والولايات المتحدة على اتفاقية دفاع مشترك مثلما نوقش مراراً في الماضي، ويبدو أنه يُعاد النظر فيه في عهد ترامب، وسيكون ثمن ذلك خسارة إسرائيل حريتها في التحرك والاعتماد على حليف لم يبرهن بصورة عامة على أنه دائماً الصديق وقت الضيق، ومن جهة أُخرى لن تسعف إسرائيل لا رمال الرأي العام المتحركة، ولا مؤازرة الإنجيليين الذين حلّوا محل اليهود. وبعد سنة 2020 سيكون أمام خليفة نتنياهو، أياً يكن، خيارات صعبة.

 IV - تحدي الشرعية

كثيراً ما هيمنت إسرائيل على سردية أصل النزاع على أرض فلسطين وطبيعته، لكنها ما برحت تخسر المعركة على عدة جبهات خلال العقد المنصرم أو يزيد، ولا يبدو أنها ستتمكن من ترميم صورتها المعنوية السابقة في الغرب. وتشكل الأصول التاريخية البحتة والأوساط الأكاديمية أحد جوانب هذه المعركة، وعلى هذه الجبهة بالذات تم تفنيد معظم، إن لم يكن جميع ما جاء في الرواية الصهيونية، أو وضعه موضع شك. وكلما خسر الفلسطينيون معركة الأرض، نجحوا في تثبيت تاريخهم الماضي - أمّا كون ذلك بمثابة تعويض عن الخسارة، فأمر آخر.

وينبع تحدي الشرعية من حقيقة أن سردية الصراع برمّتها تبدلت، فصارت إسرائيل جلاداً بعد أن كانت ضحية - ليس دائماً ولا أبداً ولا في كل مكان ولا مع كل الناس في الغرب، بل بصورة عامة في المعارك الفارقة في الأوساط الأكاديمية، وفي المعركة الحاسمة للظفر بالعقول والقلوب في الغرب الذي نصّب نفسه كبوصلة أخلاقية للعالم. ففي كتاب عاموس عوز "من هنا وهناك في أرض إسرائيل" يعبّر "زد" (Z) عن تمرده على القيود الأخلاقية الغربية (لمَن لم يقرأوا تلك الصفحات القليلة، أدعوكم إلى قراءتها)، غير أن معظم ذوي العقول من الإسرائيليين يعتبر خسارة الموقف الأخلاقي قاسية كخسارة أي معركة في الميدان.

وتشكل محاربة حركة المقاطعة (BDS) واحداً من أبرز وأكثر جوانب هذه المعركة نشاطاً، وفيما عدا الشق المتعلق بالعقوبات، فإن الأمر لا يتعلق بعدد الشركات الدولية أو المؤسسات الأكاديمية التي تقاطع إسرائيل فعلياً، بل بدور حركة المقاطعة الذي يحثّ على وضع شرعية إسرائيل موضع تساؤل. إنها معركة حياة أو موت أخلاقي، ولذلك يعتبر بعض الدوائر في إسرائيل الأمر بمثابة صراع وجود لا يقل خطورة عن أي تهديد مادي بشن حرب، وأكثر التجليات على ذلك حدة يتمثل في الهجوم على حركة المقاطعة بقيادة تحالف غير متوقع بين الممول الديمقراطي حاييم صبّان، وشلدون أدلسون الداعم الأسبق لنتنياهو، ومجموعة أُخرى من المليارديريين الأميركيين اليهود.

ثمة مأزق إسرائيلي آخر يكمن في الاستخدام المفرط للقوة وتبرير منطقه، إذ لا يمكن أن تُشنّ حرب معاصرة بمعزل عن الرأي العام الدولي وقضية مشروعية تلك الحرب، ولعل وطأة الأمر على الدول أكبر ممّا هي على القوى غير الدولية (non-state actors). فمع أن إسرائيل تتمتع بحماية الولايات المتحدة، إلّا إن استخدامها للقوة في لبنان وغزة كان إشكالياً، ويشهد على ذلك تقرير غولدستون وتقرير ميتشل الذي سبقه. وتجدر الإشارة إلى أن وثيقة آيزنكوت الاستراتيجية تولي اهتماماً خاصاً بالدفاع القانوني والعلاقات العامة لتبرير الأعمال العسكرية الإسرائيلية، إلّا إن استعمال إسرائيل القوة غير المتكافئة، ولا سيما ضد أهداف مدنية، أضعف موقفها بشكل كبير حتى في قلب الولايات المتحدة، كما أن تعويلها على مزيد من القوة في المستقبل ينطوي على خطر ابتعاد مراكز الدعم الغربية عنها أكثر فأكثر.

V - المعضلة الفلسطينية

في ظل غياب تحرك حقيقي نحو اتفاق سلام مع الفلسطينيين و / أو انسحاب عسكري ومدني إسرائيل واسع من الضفة الغربية والقدس الشرقية (ليس هنالك ما يشير إلى أن ذلك سيُطرح على الطاولة في المستقبل المنظور)، يتكرر وصف مأزق إسرائيل بأنه: الوقوع بين مسعى الحفاظ على "طابعها الديمقراطي واليهودي" من جهة (أي الإبقاء على أغلبية وسيطرة يهودية)، والانزلاق نحو نظام فصل عنصري والإدانة الدولية من جهة أُخرى.[24]

يبيّن الواقع أنه، علاوة على سكان غزة والفلسطينيين من أهل 1948، بات هناك تقارب في عدد السكان العرب واليهود بين نهر الأردن والبحر الأبيض المتوسط،[25] ويبدو أن مزيداً من التوقعات المستقبلية كافٍ لتبرير الخطر السكاني. وعلى الرغم من تفاوت التقديرات، ثمة مصدر موثوق يشير بوضوح إلى أن اليهود، وبحلول سنة 2025، سيكونون أقلية في الأراضي المقدسة (أي أقل من 50%).[26]

لكن ثمة فجوة مادية تفصل بين التغيرات السكانية وانعكاساتها على السياسة، إذ يمكن التعامل مع "الخطر الديموغرافي" الفلسطيني من خلال رسم حدود اعتباطية تفصل بين السكان الفلسطينيين واليهود للإبقاء على مظهر يوحي بالاستقلالية والانفصال بين الكيانين، وعبر اللجوء إلى ذرائع ذات شكل قانوني لـ "عدم التمييز" ضد السكان اليهود المستوطنين (مثلما يحدث الآن على صعيد شراء اليهود الأملاك الخاصة في الضفة الغربية)، ومن خلال الاحتفاظ بقطع أرض كبيرة بذرائع أمنية.

والقول إن هذا يفضي إلى نظام أبارتهايد، مبني على فرضية أنه لا يمكن لذلك النظام أن يوجَد من دون أن تدفع إسرائيل ثمناً ملموساً، وأن إسرائيل غير قادرة على إيجاد أساليب جديدة تُبقي بها على منظومة سيطرة تخلو مستقبلاً من الأبارتهايد، أو تحتوي على جرعة منخفضة منه على الأقل – مثلما فعلت نوعاً ما داخل حدودها حتى الآن.

ومع كل ما تقدم، ليس "الوضع القائم" جامداً، فقوى التوسع في صعود داخل إسرائيل، أو على الأقل أكثر نشاطاً على الأرض. ومن وجهة نظر إسرائيل، فإن خسارة السباق الديموغرافي تُعتبر أقل خطراً من تضافر النضال الوطني الداخلي للفلسطينيين حملة الجنسية الإسرائيلية غربي الخط الأخضر مع النضال الوطني "الخارجي" شرقه. وفي ظل غياب تسوية سلمية، يُرجَّح أن يتلاشى الخط الفاصل بين النضالين، وأن يزداد التآزر والتفاعل بينهما. وبهذا المعنى، لا تكمن مشكلة حكم 6 ملايين فلسطيني في عددهم المطلق (ولو أن ذلك جزء من المعادلة)، بل في حسهم الوطني الذي قد يؤدي إلى "نزعة انفصالية" أكبر لدى الفلسطينيين من أهل 1948 بدءاً بالاستقلالية الثقافية من جهة، وصولاً إلى أشكال متجددة وغير مسبوقة من الاحتجاج والعنف في غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية من جهة أُخرى.

إن الانسحاب من وجهة النظر الإسرائيلية يبدو أكثر الخيارات عقلانية، لكنه أقلّها إمكاناً، نظراً إلى توازن القوى وطبيعة القوى النشطة على الساحة الإسرائيلية. ولا يرجح حدوث تقاطع مسارات يدفع الحكومة الإسرائيلية إلى سحب 600,000 مستوطن من الضفة الغربية والقدس الشرقية، أو حتى جزء لا يستهان به من ذلك العدد، فجميع الأحزاب الإسرائيلية متوافقة على هذه المسألة. وسيكون ثمن الإبقاء على هذا الوضع هو نقل الصراع مع الفلسطينيين إلى قلب إسرائيل ذاتها بصورة لم نعهدها من قبل، وبحيث يصبح الصراع صراعاً "داخلياً" أكثر منه صراعاً بين إسرائيل وعدو "خارجي".

 

[1] Eytan Halon, “Israeli Hi-Tech Firms Raise Record 6.4 b$. in 2018”, The Jerusalem Post, 9/1/2019.

[2] Toi Staff, “Israel Named World’s 8th Largest Arms Exporter”, The Times of Israel, 13/3/2019.

[3] European Commission, Countries and Regions/Israel.

[4] Tali Heruti-Sover, “Israel Seeks to Increase Enforcement and Protection for Palestinian Workers in Israel”, Haaretz, 1/5/2019.

[5]Israel Completes 70% of Underground Barrier Along Gaza Fence”, Middle East Monitor, 1/10/2019.

[6] Charles Freilich, Israeli National Security: A New Strategy for an Era of Change (New York: Oxford University Press, 2018).

[7] انظر:

Ahmad Samih Khalidi, “Original English Translation of the 2015 Gadi Eisenkot IDF Strategy-Introduction: On the Limitations of Military Doctrine”, Journal of Palestine Studies, vol. XLV, no. 2 (Winter 2016), pp. 127–146.

https://www.palestine-studies.org/sites/default/files/jps-articles/JPS178_07_%20Khalidi.pdf

[8] Alon Einhorn, “21.2% of Israeli Population Lives Below the Poverty Line-New Report”, The Jerusalem Post, 31/12/2018.

[9] Freilich, op. cit., pp.117-161.

[10] Avi Jager, “The Myth of Compulsory Military Service in Israel”, The Jerusalem Post, 18/10/2018.

[11] Ibid.

[12]Israel's Expenditure on Civilian R&D Rises 4.6 pct in 2018: Report”, Xinhua, 29/8/2019,

[13] US Congressional Research Service, “US Foreign Aid to Israel”, 7/8/2019.

[14] Sebastien Roblin, “Israel: An 'Underwater' Nuclear Power (Thanks to German Submarines)”, The National Interest (14/5/2019).

[15] The International Institute for Strategic Studies (IISS) Report, “The Military Balance 2019”, February 2019.

[16] Yoav Zitun, “IDF Chief: Israel's Next Main Security Challenge is Iran-Led Activity to North”, Ynet, 24/10/2019.

[17] Amos Harel, “Iranian Threat to Israel Is Real, Even if it Serves Netanyahu’s Interests”, Haaretz, 30/10/2019.

[18] Ronen Bergman and Mark Mazzetti, “The Secret History of the Push to Strike Iran”, New York Times, 4/9/2019.

[19] Laura Kelly, “Progressives Press Democrats to Rethink Israel Policy”, The Hill, 5/11/2019.

[20] Chemi Shalev, “New Poll Shows Support for Israel Plummeting Among U.S. Liberals, Millennials and Women”, Haaretz, 26/10/2018.

[21] Eric Cortellessa, “Democratic Hopeful Sanders Urges Giving Chunk of US Military Aid to Gaza Instead”, The Times of Israel, 28/10/2019,

[22] US Congressional Research Service, “US Foreign Aid to Israel”, 7/8/2019.

[23] Uri Blau, “Where Do Tax-Exempt U.S. Donations to the Settlements Go?”, Haaretz, 15/12/2015.

[24]Full Transcript: Kerry Blasts Israeli Government, Presents Six Points of Future Peace Deal”, Haaretz, 28/12/2016.

[25] Jeffrey Heller, “Jews, Arabs Nearing Population Parity in Holy Land: Israeli Officials”, Reuters, 26/3/2018.

[26] Freilich, op. cit., p. 113.

 

* المقالة في الأصل مداخلة بالإنجليزية قُدّمت خلال حلقة عمل استراتيجية نظّمتها مؤسسة الدرسات الفلسطينية في بيروت بين 9 و10 تشرين الثاني / نوفمبر 2019، وعنوانها:

“Israel: Challenges, Dilemmas, and Conundrums”.

ترجمها إلى العربية: مصعب بشير، ودقّقها الكاتب.