تميزت المعركة الانتخابية الأخيرة التي خاضها بنيامين نتنياهو بكونها حملة شرسة، هجومية، لاأخلاقية، استخدم فيها كل الأسلحة المتوفرة لديه، من أجل إضعاف خصمه السياسي الأساسي بني غانتس، زعيم حزب أزرق أبيض، والتشكيك في صدقيته، وزعزعة ثقة الناخبين به. وبخلاف الحملة الانتخابية السابقة التي تمحورت على الفوارق الشخصية بينه وبين غانتس الذي يفتقر، في رأيه، إلى صفات الزعيم الحقيقي، ومحاولته تصوير نفسه كضحية ومستهدف سياسياً من جانب الشرطة والقضاء ووسائل الإعلام الإسرائيلية، توجهت معركته الانتخابية الأخيرة بصورة خاصة إلى جمهور المستوطنين واليمين واليهود الشرقيين الذين يمثلون قاعدة انتخابية تقليدية لليكود، وحملت رسالة أيديولوجية واضحة ورفعت شعارين أساسيين هما، بالاستناد إلى رئيس تحرير صحيفة "هآرتس" ألوف بن: "ضم المستوطنات وغور الأردن؛ وإلغاء استقلالية الجهاز القضائي وإخضاعه للمستوى السياسي." [1]
ويبدو أن هذه الحملة قد أتت ثمارها ، واستطاع نتنياهو الفوز على حزب أزرق أبيض بفارق 3 مقاعد، لكن هذا لم يجعله يحقق هدفه الأساسي، أي الحصول على كتلة يمينية مؤلفة من 61 مقعداً، وهو ما جعله فوزاً "ملتبساً" غير حاسم، وأعاد إسرائيل إلى المأزق السياسي الذي واجهته في الانتخابات السابقة التي جرت في أيلول /سبتمبر الماضي، إذ لم يحظ أي من الحزبين الكبيرين بالأغلبية المطلوبة لتأليف حكومة.
يمكننا الإشارة إلى عدد من العوامل التي ساهمت في تقدم نتنياهو على خصمه بني غانتس، أهمها:
رفع شعار ضم الكتل الاستيطانية وغور الأردن
مما لاشك فيه أن مشاركة بنيامين نتنياهو في العرض الاحتفالي لإطلاق "صفقة القرن" في البيت الأبيض إلى جانب الرئيس الأميركي دونالد ترامب، والخطبة الحماسية التي ألقاها هناك، وتوجّه فيها إلى اليمين الاستيطاني في إسرائيل، واعداً اياه بخطوات سريعة لضم المستوطنات وغور الأردن، شكّلا نقطة تحوّل إيجابية في معركته الانتخابية، وساهما كثيراً في تحفيز جمهور الناخبين اليميني على التصويت له بكثافة. صحيح أن نتنياهو اضطر إلى فرملة هذه الاندفاعة وتراجع عن القيام بخطوات ضم من طرف واحد قبل الانتخابات، بعد الموقف الأميركي الرافض لذلك في الوقت الحاضر. لكن شعار الضم أصبح محور الحملة الانتخابية لحزب الليكود، على الرغم من أن حزب أزرق أبيض أعلن هو أيضاً تأييده لمبدأ الضم.
- خطاب الكراهية:
كان خطاب الكراهية السلاح الأهم في حملة نتنياهو ضد القائمة العربية المشتركة، وضد المواطنين العرب في إسرائيل كافة، وكذلك ضد حزب أزرق أبيض ومعسكر أحزاب اليسار. ومن خلاله، قام بترهيب الإسرائيليين اليهود من خطر تعاون حزب أزرق أبيض مع الأحزاب العربية التي ترفض الاعتراف بيهودية دولة إسرائيل، وهو ما دفع زعيم أزرق أبيض بني غانتس إلى إعلان نيته عدم التعاون مع القائمة المشتركة، الأمر الذي فاقم تأجيج المناخ التحريضي الإقصائي ضد القائمة المشتركة.
ومن الأمثلة الفاضحة لخطاب الكراهية، الشريط المسرب لمستشار نتنياهو نتان إيشل الذي قال فيه ببساطة إن الكراهية تخدم حزب الليكود وتوحد معسكر اليمين بقيادة الليكود، وإن الحملة الانتخابية السلبية تؤثر بصورة جيدة في الناخبين من الشرقيين. الأمر الذي أثار اشمئزاز عدد كبير من المعلقين الإسرائيليين.
- النزعة الشعبوية
برزت شعبوية نتنياهو في هجومه الشرس على الشرطة والجهاز القضائي، وعلى وسائل الإعلام الإسرائيلية التي اتهمها بشن حملة ضده، وبتأليب الرأي العام ضد مؤسسات فرض النظام والقانون.
كما يمكن أن نُدخل ضمن إطار هذه الشعبوية الزيارة الخاطفة التي قام بها نتنياهو إلى موسكو، في طريق عودته من واشنطن، لتقديم الشكر للرئيس فلاديمير بوتين لموافقته على إطلاق سراح المواطنة الإسرائيلية التي كانت موقوفة في روسيا بعد عثور السلطات الروسية على مخدرات في حوزتها، واصطحابها معه على متن طائرته الخاصة.
يبدو أن تحريض نتنياهو على الشرطة والقضاء والإعلام الإسرائيلي نجح في إقناع الناس، وأكبر دليل التفويض الشعبي الجديد الذي منحه الإسرائيليون له، على الرغم من إحالته على المحاكمة بتهم رشى وفساد. كما يدل هذا أيضاً على ميل الجمهور الإسرائيلي إلى عدم احترام سلطة تطبيق القانون وعدم ثقته بالقضاء. عن ذلك كتب المحاضر في الجامعة المفتوحة سليم بريك في "هآرتس": "كانت نتائج الانتخابات مفاجئة، لكن خيبة أملي لم تنبع فقط من تصويت الناخبين لليكود أو لليمين عموماً، بل من ازدراء قطاع واسع من الجمهور الإسرائيلي لسلطة القانون، وعدم اكتراثه بظواهر الفساد الخطرة الموجهة إلى بنيامين نتنياهو، وهذه رسالة في غاية الخطورة."[2]
واعتبر المحلل آفي برالي في صحيفة "يسرائيل هيوم" فوز نتنياهو "دليلاً على عدم ثقة الجمهور بجهاز تطبيق القانون، وبالشرطة والنيابة العامة والمستشار القانوني." وهو لا يرى أن هذا يعود إلى وقوع الجمهور ضحية الدعاية الانتخابية وتلاعب نتنياهو بعواطفه، بل يعود، في جزء منه، إلى "اهتمام الناس بوتيرة النمو الكبيرة، وبزيادة الناتج المحلي، وبالنجاح السياسي لحكومة نتنياهو." [3]
- ضعف خصوم نتنياهو السياسيين وهزالة معسكر اليسار
استغل نتنياهو ضعف الحملة الانتخابية التي خاضها حزب أزرق أبيض التي افتقرت إلى الروح الهجومية، واتخذت طابعاً دفاعياً كي يشن حملة شرسة ضد بني غانتس شخصياً، واتهامه هو أيضاً بالفساد. لقد طلب من وزير العدل الجديد الذي عيّنه فتح تحقيق في مخالفات قانونية ارتكبتها شركة ناشئة كان يتولى غانتس رئاسة إدارتها، لتشويه صورته؛ واستغل لمصلحته تسريب حديث عائد إلى مستشار غانتس الاستراتيجي يسرائيل بكار، يصفه فيه بأنه يوازي الصفر، وليس لديه الجرأة لمهاجمة إيران؛ ولجأ إلى شركة تجسس خاصة طلب منها جمع معلومات شخصية عن غانتس تصلح لابتزازه[4].
من جهة أُخرى، كان بارزاً فشل غانتس في أن يقدم نفسه كزعامة سياسية بديلة من نتنياهو، فإذا أضفنا إلى ذلك الهشاشة السياسية لتحالف أزرق أبيض، واحتمالات تفككه بعد الانتخابات، وعدم وجود فوارق كبيرة في المواقف السياسية الأساسية بين الحزبين الكبيرين، فإن هذه العوامل جميعها أدت الى عودة عدد من الذين انتخبوا حزب أزرق أبيض في الانتخابات الأخيرة إلى أحضان الليكود، حزبهم الأصلي.
صعود تمثيل الليكود في الانتخابات الأخيرة، يعود أيضاً إلى تصويت المستوطنين المتدينين الذين فضلوا حزب نتنياهو على حزب "قوة يهودية" الذي لم يتجاوز نسبة الحسم. ويمكن أن نضيف إلى هؤلاء اليهود الشرقيين الذين صوتوا سابقاً مع أورالي أباكسيس، زعيمة حزب "جيشر"، لكنهم صوتوا هذه المرة إلى جانب الليكود، احتجاجاً على انضمام أباكسيس إلى التحالف مع حزب العمل وحركة ميرتس اليسارية.[5]
فوز "ملتبس" ومأزق متجدد
بعد مرور أقل من أسبوع على الانتخابات، يبدو جلياً أن نشوة الانتصار التي شعر بها أنصار الليكود كانت سابقة لأوانها، وصورة الفوز الساحق التي روجها نتنياهو في الساعات الأولى لظهور النتائج بدأت تتبدد وتكتنفها الشكوك. صحيح أن الليكود متقدم بـ3 مقاعد على أزرق أبيض، لكنه بحاجة ماسة إلى 3 مقاعد كي يؤمن الأغلبية البرلمانية المطلوبة (61 عضو كنيست)، وذلك بعد أن رست النتائج النهائية على فوز معسكر أحزاب اليمين والأحزاب الحريدية بـ58 مقعداً، وفوز معسكر الوسط- اليسار بـ40 مقعداً، والقائمة المشتركة بـ15 مقعداً، وحزب إسرائيل بيتنا بـ7.
ومن مظاهر الأزمة السياسية المستجدة خوض أحزاب المعارضة، وفي مقدمها حزب إسرائيل بيتنا، معركة قانونية لنزع الشرعية عن انتخاب نتنياهو، من خلال طرح اقتراح قانون مزدوج يمنع تولي أي شخص رئاسة الحكومة أكثر من ولايتين متتاليتين، وكذلك منع تولي شخص توجّه إليه لوائح اتهام بالفساد، منصب رئاسة الحكومة. على الرغم من أهمية هذا القانون، فإنه على الأرجح سيصطدم بمعارضة كبيرة في الكنيست، ومنذ الآن يعتبره أنصار الليكود قانوناً شخصياً ينتهك إرادة الناخبين الذين صوتوا لنتنياهو.
إذا تجاوز نتنياهو مشكلة محاكمته، سواء بتأجيلها أو لأي سبب آخر، وحصل على تكليف من رئيس الدولة بتأليف الحكومة، فسيكون أمام خيارين لا ثالث لهما: حكومة يمينية ضيقة لن تحظى بأكثرية الأصوات في الكنيست، أو حكومة وحدة وطنية مع أزرق أبيض، مع المداورة في رئاستها بين الحزبين، مع كل الانعكاسات السلبية على أزرق أبيض الذي خاض حملته على أساس لا للجلوس في الحكومة مع نتنياهو.
ومهما آلت اليه الحال، فإن الوضع الذي أفرزته الانتخابات الأخيرة هو صورة لما آلت إليه الحياة السياسية في ظل حكم نتنياهو المستمر منذ سنة 2009. مع ذلك، ستشكل عودته إلى رئاسة الحكومة بداية حقبة مختلفة جديدة، عنوانها الأساسي الضم من طرف واحد لأكبر جزء من أراضي الضفة الغربية إلى إسرائيل، وحكم اليمين المتطرف العنصري، وتوحش سياسة الإقصاء والإلغاء للمواطنين العرب في إسرائيل، وتحوّل إسرائيل أكثر فأكثر إلى دولة أبرتهايد. و معناها أيضاً زيادة اليأس عند الفلسطينيين وانعدام الأمل بقيام دولتهم الوطنية الفلسطينية.
[1] ألوف بن: "نتنياهو تخلى عن الغموض القيمي لمصلحة ايديولوجيا واضحة وخرج رابحاً"، "هآرتس" 2/3/2020، يمكن مراجعة الترجمة الكاملة على الرابط: https://digitalprojects.palestine-studies.org/ar/daily/mukhtarat-view/23...
[2] سليم بريك: "انتصرت الكراهية، التحريض والعنصرية"، "هآرتس" 3/3/2020https://www.haaretz.co.il/debate/arabic/1.8624355
[3] آفي برالي: "لماذا فاز نتنياهو"، "يسرائيل هيوم"، 3/3/ 2020https://www.israelhayom.co.il/opinion/738605
[4] يمكن مراجعة افتتاحية "هآرتس" بعنوان :" قضية ووترغيت إسرائيلية"، نشرة "مقتطفات من الصحف العبرية" 5/3/2020
[5] حاييم ليفنسون وهاجر شيزف: "الليكود ازداد قوة ليس بقضل ارتفاع نسبة التصويت بل بفضل اليمين الذي تخلى عن أزرق أبيض"، "هآرتس" ، 4/3/2020 https://www.haaretz.co.il/news/elections/.premium-1.8626064