A Discussion of the Origins of the BDS Movement among the Palestinians
Date: 
October 23 2016

أطلقت حركة مقاطعة إسرائيل إعلانها الأول سنة 2005، وقد دعت مواطني العالم إلى مقاطعة إسرائيل والضغط على الحكومات لفرض عقوبات عليها حتى إقرار الحقوق الفلسطينية التي حددتها في إنهاء الاحتلال وحق العودة والمساواة.

ويشير متضامنون رئيسيون مع الحقوق الفلسطينية، في لندن وبروكسل مثلاً، إلى أنهم قد بدأوا بهذه الحركة قبل نشوئها.[1]  ويتفاجأ كثيرون منهم عندما يعلمون بأن مقاطعة البضائع والمؤسسات الإسرائيلية كانت أداة واسعة الانتشار في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وخصوصاً في بداية الانتفاضة الثانية بامتداد تاريخي تمثل في موجات مقاطعة تاريخية.

نقاش سياسي ونظري

وعلى غرار توجهات لدى أطراف فاعلة في أوروبا مثلاً باعتبارها منشأ حركة المقاطعة، ثمة أدبيات أساسية عن الحركات الاجتماعية متخطية الحدود تقترح أن السياقات في دول الشمال العالمي هي الأساس.[2]  بيد أن هذا البحث وجد عدم دقة في هذه الأدبيات، إذ يتوجب لفهم حركة متخطية الحدود فهمها في سياقها الوطني إلى جانب سياقات عالمية. وتركز هذه المقالة على فهم نشوء حركة مقاطعة إسرائيل في سياقها الفلسطيني وإن بارتباط بالسياقات الإقليمية ومن الجنوب والشمال العالميين.

هناك توجه متزايد لدى أطراف فلسطينية وعربية ومن أماكن أُخرى في العالم إلى إيلاء أولوية لتدخل متعدد الأشكال من جانب دول قوية في الشمال، مثل الولايات المتحدة، لإحداث تغيير جوهري في دولة في الجنوب، كإزاحة نظام ديكتاتوري دموي أو احتلال. ويُعدّ مسار أوسلو مثالاً فلسطينياً بارزاً لهذا التوجه لدى نخب فلسطينية وجدت في التوسط الأميركي أملاً بالضغط على الاحتلال الإسرائيلي. وتحاذي تجربة أوسلو تجارب عربية أُخرى عززت اندفاعها هذا دول عربية مؤثرة كالسعودية وقطر. وقد كان من أبرز التحولات العربية في هذا الإطار سياسة الرئيس المصري الراحل أنور السادات الذي اشتهر بعبارته أن 99 في المئة من أوراق اللعبة هي في يد الولايات المتحدة، وذلك قبل توجهه إلى إبرام معاهدة كامب ديفيد.

مع هيمنة الولايات المتحدة على العالم في تسعينيات القرن الماضي ظهرت أدبيات تتعلق بالحركات الاجتماعية عابرة الحدود تنحو في هذا الاتجاه. ويعدّ كتاب "ناشطون بلا حدود" لمؤلفتيه كيك وسيكينك، الواسع الانتشار أكاديمياً، مثالاً بارزاً لهذا التوجه عبر اقتراح نموذج الطبق المرتد (البومرَنْغ boomerang). ويقترح نموذج الطبق المرتد أن أطرافاً محلية غير رسمية، مثل منظمات أهلية تُعّوَّق عن إحداث تغيير في دولتها تتعلق بقضايا حقوق الإنسان بسبب تعنت السلطة الوطنية، تقوم بالتشبيك مع "شبكات ضغط عابرة للحدود"، وتحديداً في مجتمعات الشمال، من أجل ضغط هذه الشبكات عابرة الحدود على دولها في الشمال أو على منظمات دولية من أجل أن يرتد الضغط على الدولة في الجنوب كي تلتزم متطلبات حقوق الإنسان في مجتمعها.

فهل تتجاوز حركة المقاطعة "بي دي إس" (BDS) منشأها الفلسطيني – أو البعد العربي – في بحثها عن عالمية تنشد مقاطعة إسرائيل، وتستوحي بالتالي مساراتها وقيمها من هذه العالمية؟

ليست المشكلة في هذه الأدبيات هو سعي أطراف في دول الجنوب للربط بأطراف في دول الشمال، بل يعدّ هذا عاملاً مساعداً في التغيير باستحضار الضغوط المحلية إلى جانب الإقليمية والدولية، في عالم واحد ويتسارع تداخله. بل تكمن مشكلتها في إيلاء مراكز المجتمعات القوية أولوية في إحداث التغيير محلياً. والمفارقة أن كثيراً من أدبيات معاكسة، ينتقد التمركز الأوروبي أو ما بعد الكولونيالية، ويتفق مع هذه الأدبيات السائدة في الشمال باعتبار أن العوامل في دول الشمالي هي الأساس، فلا يقيم وزناً فعلياً لذوات الأطراف المتنوعة في الجنوب.

من أوسلو إلى الانتفاضة الثانية وتحدي قواعد اللعبة

وجد البحث أن حركة المقاطعة خلال فترة نشوئها (تحديداً منذ الانتفاضة الثانية حتى مؤتمرها الأول سنة 2007) لم تتبع نموذج الطبق المرتد "البومرنغ" في اتجاه دول الشمال وإن كان مساراً بين مسارات متعددة. ويشكل المسار الفلسطيني انطلاقة الحركة.

أرادت الحركة، وبالتحديد أطراف أساسية فيها، مساراً مباشراً في اتجاه أوروبا والولايات المتحدة للضغط على إسرائيل. غير ان هذا المسار لم يكن ليتم لولا التفاعلات الفلسطينية وتدخل مسارات أُخرى منها المسار العربي ومسارات في الجنوب. وقد حدث هذا سواء بشكل موضوعي بعيداً عن رغبة الفاعلين، أو برغبة مباشرة من فاعلين في الحركة، أو ممن ساهموا في تشكيل الحركة بشكل مباشر أو غير مباشر.

حدثت تحولات مهمة خلال حقبة أوسلو، وفرضت قواعد اللعبة الجديدة اعتبار الولايات المتحدة وسيطاً أساسياً في عملية السلام، أي أن لعبة "الطبق المرتد" عبر دول الشمال باتت الغالبة. وقد وازى ذلك تحول التمويل إلى الجامعات وكثير من المنظمات المدنية من مصادر عربية إلى أُخرى أوروبية ومن الشمال بشكل رئيسي.[3]  ورافق ذلك تحول في عمل كثير من المنظمات المدنية التي باتت تولي أهمية للمهنية والاحترافية والتنمية وبناء الدولة على حساب مقاومة الاستعمار الإسرائيلي وتنظيم أساليب هذه المقاومة.[4]

وعمد كثير من المنظمات خلال فترة أوسلو الأولى إلى القيام بمشاريع مشتركة مع الجانب الإسرائيلي وصلت إلى نحو 500 مشروع مشترك.[5] وكان ذلك تحولاً أساسياً في عمل منظمات مدنية نشأ العديد منها في أوساط مقاومة الاحتلال الإسرائيلي في ثمانينيات القرن الماضي وخصوصاً خلال الانتفاضة الأولى، فقد كانت فاعلة في تجارب المقاومة الشعبية والإضرابات والمقاطعة وإيجاد البدائل عن سلطة الاحتلال على الرغم من تفاوت النجاحات خلال الانتفاضة الأولى.

كما أن عملية أوسلو دفعت في اتجاه مزيد من التشظي في الحقل السياسي الفلسطيني. ولم يلق اتفاق أوسلو إجماعاً فلسطينياً وازناً، وإنما عزز التجاذب. وقد زاد في حدّة هذا التشظي استقطابات عالمية وإقليمية للتيارات الفلسطينية. ففي حين جرّمت الولايات المتحدة (والاتحاد الأوروبي خلال الانتفاضة الثانية) التعامل مع "حماس"، كانت الاستقطابات الإقليمية تفعل فعلها بدورها، وأبرزها استقطاب ما عُرب بمحوري الممانعة والاعتدال. كما أن عمليات التمويل الدولية للمنظمات المدنية ساهمت في التباعد بين العمل المدني والسياسي.

مع الانتفاضة الثانية، جرى تحدي جوانب أساسية من قواعد اللعبة، وإن مع استبطان جوانب أُخرى، بدرجة تراوحت بحسب كل طرف. منذ البدايات الأولى لاتفاق أوسلو، عارض الوفد الفلسطيني العلني المفاوض الاتفاق، باستثناءات مثل صائب عريقات. وجرت معارضة جوانب أساسية من أداء السلطة الفلسطينية من منظمات مدنية، مثل قمع الحريات أو احتكار التمويل. وفي الموضوع الأخير، جرى نزاع فترة سنوات من أجل إقرار قانون للمنظمات المدنية واقتربت صيغته في النهاية من وجهة نظر هذه المنظمات، الأمر الذي يشير إلى قوتها كطرف فلسطيني نشيط تاريخياً بغياب سلطة فلسطينية. لكن ثمة جوانب جرى استبطانها من قواعد اللعبة الجديدة، مثل حدوث انزياح في التمويل، وفي إيلاء أهمية أكبر لدول الشمال ومجتمعاتها، وفي تبني مقولات التنمية وبناء الدولة تحت الاحتلال.

ومع فشل مفاوضات كامب ديفيد سنة 2000 انفجرت الانتفاضة الفلسطينية الثانية التي كانت بمثابة بدء إعلان فشل عملية أوسلو وبدء تغير أكثر جدية في قواعد اللعبة. وبرزت حينها الدعوات إلى مقاطعة البضائع الإسرائيلية بقوة من هيئة التنسيق العليا للانتفاضة (التي تضم القوى السياسية)، ومن نقابات واتحادات عمالية وزراعية وصناعية ومن منظمات مدنية، بينما كان هناك وكلاء تجارين موضع مساءلة إذ عملوا لمصلحتهم باستيراد البضائع الإسرائيلية.[6]

حرّكت الانتفاضة الثانية المنظمات الفلسطينية المتعددة. وبدأت الجمعيات والمنظمات المدنية تغيير برامج التنمية وبناء الدولة وما شابهها، التي افترضت سلاماً يتحقق ودولة تُشيّد، إلى برامج الطوارىء. وقد كان استحدات حاجز سردا بين بيرزيت ورام الله سنة 2001 واحداً من الأحداث البارزة التي حركت تظاهرة شارك فيها الآلاف من جامعة بيرزيت ومنظمات مدنية. ومع بداية بناء جدار الفصل الإسرائيلي بدأت الاحتجاجات في قرى فلسطينية تتالت فيها مصادرة الأراضي أو أعمال بناء الجدار، ومنها تشكلت حملة "أوقفوا الجدار". غير أن هذا التوجه نحو العمل الاحتجاجي الشعبي كان أقل زخماً لدى المنظمات المدنية مقارنة بمواجهات الأطراف السياسية على الرغم من مواقع ضعف وانقسام لدى الأخيرة.

التفاعل الفلسطيني مع أوساط التضامن العالمية

إذاً، سادت المقاطعة لدى مختلف الفئات الفلسطينية في أثناء الانتفاضة الثانية، وفي حلقة جديدة من حلقات المقاطعة التي انطلقت منذ بدايات القرن العشرين وصولاً إلى الانتفاضتين الأولى فالثانية. وقد كان كل طرف فلسطيني يتواصل مع الأقرب إليه خارج فلسطين. على سبيل المثال، توجهت هيئة التنسيق العليا للانتفاضة إلى الشعوب العربية – بموازاة عقد قمم الدول العربية – خلال الفترة الأولى من الانتفاضة لتحثها على الضغط على حكوماتها ومقاطعة المنتوجات الأميركية والإسرائيلية.[7]  وقد حدثت موجات واسعة من المقاطعة العربية لهذه المنتوجات أو لشركات تُتهم بدعم إسرائيل. وكان هناك من يتواصل مع أطراف برلمانية أوروبية. على سبيل المثال، كان مروان البرغوثي يملك علاقات قوية ببرلمانيين أوروبيين. وفي أثناء الاجتياح الإسرائيلي للمناطق الفلسطينية في نيسان/أبريل 2002 أوصى الاتحاد الأوروبي بمقاطعة بضائع المستوطنات الإسرائيلية، وبفرض حظر السلاح على إسرائيل (والسلطة الفلسطينية)، وهي توصيات لم تأخذ بها الجهات التنفيذية الأوروبية. وبالمثل، كان هناك تواصل بين منظمات فلسطينية مثل "بديل" (المركز الفلسطيني لمصادر حقوق المواطنة واللاجئين) ومنظمات بلجيكية ومنها ممول لبديل آنذاك (أوكسفام – بلجيكا).

وقد كان مؤتمر الأمم المتحدة في دوربان في جنوب أفريقيا لمناهضة العنصرية، والمؤتمر الموازي للمنظمات المدنية، في آب/أغسطس وأيلول/سبتمبر 2001 مهماً لتشكل حركة مقاطعة إسرائيل. وفي العملية التحضيرية لمؤتمر دوربان، وما خرج منها من صدى عالمي بسبب الخلافات في موضوعي العبودية وفلسطين، تشجعت أطراف فلسطينية متنوعة على استعارة التجربة الجنوب الأفريقية وتطبيقها على الاستعمار الإسرائيلي التي عدّته نظام فصل عنصري – أبارتهايد. وكتب محمود درويش مقالة يصف فيها الاستعمار الإسرائيلي بأبشع أشكال الأبارتهايد. ونشرت "بديل" عدة مقالات عن المماهاة بين الأبارتهايد والاستعمار الإسرائيلي. وحث أمير مخول، مدير الجمعيات الفلسطينية في أراضي سنة 1948، "اتجاه" آنذاك، خلال توجهه إلى دوربان على مقاطعة الجمعيات الإسرائيلية والدفع في اتجاه استعارة تجربة جنوب أفريقيا (وكتب لاحقاً عن ضرورة تعددية التجارب).

ومع الدفع الفلسطيني الذي توجه بوفد إلى جنوب أفريقيا ضمن المظلة العربية، خرج مؤتمر المنظمات غير الحكومية الذي شاركت فيه نحو ثلاثة آلاف منظمة وحركة عالمية، بإعلان مماهاة بين إسرائيل ونظام الفصل العنصري. ودعا الإعلان إلى فرض عقوبات عالمية على إسرائيل وإنشاء حركة عالمية لمقاطعتها على غرار تجربة جنوب أفريقيا.

شكلت هذه الدينامية والإعلان الذي رافقها شرارة مهمة في طريق تشكل حركة المقاطعة. وقد بنيت على ذلك الإعلان إعلانات فلسطينية لاحقة. ففي سنة 2002 جرى صوغ أول إعلان مقاطعة فلسطيني يتوجه إلى العالم وقّعه عدد من المنظمات الفلسطينية.[8]  لكنه كان إعلاناً خجولاً (نشر بالعربية بداية لتخوف بعض المنظمات من مموليها). ثم تشكلت حملة المقاطعة الفلسطينية الأكاديمية والثقافية (PACBI) في سنة 2003 وخرج إعلانها في سنة 2004. وتشكل حملة المقاطعة الأكاديمية رافعة أساسية في تشكل حركة المقاطعة. وأخيراً خرج إعلان المقاطعة واسع المشاركة والتأسيسي في سنة 2005. وقد ارتكزت هذه الإعلانات جميعها على تجربة جنوب أفريقيا جنباً إلى جنب مرتكزات أُخرى.

في وقت كانت القيادة الفلسطينية تولي اهتمامها الأساسي، خلال مرحلة أوسلو، إلى العلاقات مع الدول وأطراف مكرسة حول العالم، كانت تجربة نشوء حركة المقاطعة تقترح أهمية موازية لبناء صلات بالحركات القاعدية حول العالم. وفي هذا الشأن، كانت منتديات مناهضة الحرب على العراق في المنتدى الاجتماعي الدولي، ومنتديات المجتمع المدني في لجنة الأمم للتضامن مع الشعب الفلسطيني، واحداً من الفضاءات المهمة للحركات العالمية آنذاك. وقد دفعت أطراف فلسطينية متعددة، مثل حملة "أوقفوا الجدار" وأمير مخول ومنظمة بديل (ثم مبادرة الدفاع عن الأراضي المحتلة – فلسطين والجولان) وأكاديميون، مثل الراحل جابي برامكي، نائب رئيس جامعة بيرزيت حينها، أو ليزا تراكي وعمر البرغوثي (في العلاقة بأكاديميين بريطانيين مثلاً) وغيرهم من الأطراف الفلسطينية كي يجري تبني قيم المقاطعة قبيل تشكل حركة المقاطعة (BDS) وبعدها. ولن تخوض هذه المقالة كثيراً بالبعد المتخطي للحدود، لكنها إشارة إلى أن التفاعل بين الوطني والعابر للحدود ظلّ قوياً طوال الوقت من جهة، وبأن تبني حركات تضامن مع فلسطين من جهة أُخرى، مثل لجان التنسيق الأوروبية بشأن فلسطين (ECCP)، قيم المقاطعة صاحبته عملية ضغط طويلة من أطراف فلسطينية وأيضاً من أطراف قاعدية في أوروبا بدأت بحملات مقاطعة ضد شركات محددة.

ومثلما شكلت هذه السياقات متخطية أملاً بحدوث حركة مقاطعة عالمية، فإن هذه السياقات زادت في قوة أطراف فلسطينية مرتبطة بهذه السياقات.

تيار ثالث؟

بعد أوسلو، بدأت محاولات تشكيل تيار فلسطيني خارج استقطاب تنظيمي "فتح" و"حماس"، وبطابع يساري يودّ تشكيل قيادة فلسطينية جماعية. ومع اندلاع الانتفاضة الثانية وزيادة التسييس، تكررت هذه المحاولات. وكان هذا تياراً اجتماعياً يسعى لتعبير سياسي متمايز، مثله مثل أي فئة اجتماعية تود التمايز اجتماعياً وسياسياً. وقد أشار جميل هلال إلى تنامي قوة هذا التيار في الحقل الفلسطيني وعدّه تياراً ثالثاً ينافس التنظيمات والتكنوقراط (مثل سلام فياض لاحقاً).[9]

كانت منظمات مدنية فلسطينية تمتلك خبرة تشكيل تحالفات واسعة، وهي ظلت مسيسة، وتتنوع علاقاتها مع أطراف مدنية وسياسية وأكاديمية، وهو ما يشهد على علاقاتها القوية. مثلاً، تشكلت منظمة الشبكات الأهلية سنة 1993، وتشكل تجمع مماثل سنة 1995 في أراضي سنة 1948، وتشكلت حملة "أوقفوا الجدار" في أواخر سنة 2003، ودفعت "بديل" بتشكل شبكة جديدة سنة 2004 تهتم أكثر بحق العودة وبكل فلسطين التاريخية، وتشكلت حملة المقاطعة الأكاديمية والثقافية في سنة 2003.

غير أن ما يميز التيارات الأساسية التي اندفعت أساساً إلى تشكيل حركة المقاطعة (BDS) هي أنها ليست من أوساط المنظمات غير الحكومية الكبرى، وإن كان هناك تقاطعات معها، بل هي أقل تمويلاً ومؤسساتية إذ لم تعتمد على التطوع بالكامل، وسعت كي تكون حركات ذات بعد شعبي واحتجاجي وتطوعي وإن كانت عملياً محدودة في امتداداتها الشعبية ويغلب عليها الطابع المديني.

لكن التمايز كتيار جديد لا يكفي لفهم ظاهرة تشكل حركة المقاطعة. ففكرة التوحد متجذرة أيضاً في الطموح السياسي الفلسطيني. فحتى عندما يحضر الانقسام فإن دعوات ومبادرات التوحد لا تهدأ. وكانت مبادرات التوحد الفلسطينية خلال الانتفاضة الثانية رداً أيضاً على قاعدة أساسية فُرضت خلال عملية أوسلو، وهي التشظي في الحقل السياسي الفلسطيني.

لذا، عمدت هذه التيارات، التي يمكن عدّها نواة تشكل حركة المقاطعة خلال سنة 2005 عبر إعلان المقاطعة، بالتكتل ومحاولة قيادة الحقل السياسي – المدني الفلسطيني بشكل يتسم بعمل جماعي. يمكن عدّها محاولة جدية جديدة لقيادة فلسطينية جامعة، من أوساط يسارية هذه المرة. وسريعاً ما ضمت نواة الفاعلين شبكة المنظمات الأهلية الفلسطينية، إذ استكملت في مكاتبها في رام الله لقاءات تشكيل إعلان سنة 2005.[10] وقد دفعها إلى التوحد أيضاً التشكيك المستمر من مناصرين أوروبيين وغيرهم في أن قيم المقاطعة لإسرائيل لا تشكل إجماعاً فلسطينياً، وفي أن دعواتهم هذه هي جزئية وثمة آراء فلسطينية مدنية مختلفة.

صحيح أن لهذه النواة حضورها السياسي والاجتماعي والأكاديمي فلسطينياً، لكنها تبقى أضعف من التنظيمات الفلسطينية الأساسية مثل "فتح" و"حماس"، الأمر الذي يفسر ضعف مبادرات المقاطعة المنظمة والواسعة في فلسطين نفسها، باستثناء هبات المقاطعة ذات الطابع العفوي غالباً خلال حروب غزة المتكررة مثلاً. لكن حركة المقاطعة، وعبر تمأسسها كحركة ابتداء من سنة 2007 وتشكل سكرتاريا تضم ممثلين عن التجمعات الرئيسية المدنية أو النقابية أو السياسية، لا تزال تسعى لتوسع المقاطعة داخل فلسطين. وقد تبنت مؤخراً منظمة التحرير الفلسطينية، على هشاشتها الحالية، إعلان المقاطعة.

أسئلة ختامية

وبشأن الخلاف حول أن حركة المقاطعة قد اكتسبت زخمها، ونبع تشكلها من مجتمعات الشمال، ترى هذه المقالة أن نشوء الحركة الأساسي هو فلسطيني، كما أن له مسارات عربية ومن الجنوب العالم وكذلك من الشمال وإن لم تركز هذه المقالة عليها.

غير أن التيارات المشاركة في حركة المقاطعة، بما فيها "القوى الوطنية والإسلامية" المشاركة في السكرتاريا، تبقى أضعف من التنظيمات الفلسطينية المكرسة في الضفة الغربية وقطاع غزة. وثمة وعي، بمراجعة أدبيات أطراف أساسية في حملة المقاطعة، كما بمقابلة بعضهم، بأن المقاطعة هي أداة لا تكتمل إلاّ باستعادة الحراك السياسي الفلسطيني لفاعليته. ويتم ذلك سواء بالأطر التنظيمية الجامعة التي تتخطة الانقسام وأجواء الحرب الأهلية، وببرامج متفق عليها من أطراف متنوعة لتحصيل الحقوق الفلسطينية، الأمر الذي يمكنه أيضاً أن يعطي زخماً منظماً لحملة المقاطعة في فلسطين وخارجها. إن المسار الذي قاد إلى تكريس قيمة المقاطعة فلسطينياً وتشكل الحركة يضم طيفاً عريضاً من القوى الفلسطينية السياسية والمدنية والنقابية، ويبقى سؤال التمثل بفعالية هذه التيارات في حركة المقاطعة من دون الشعور بالهامشية سؤالاً مفتوحاً.

وإذ جرى تحدي جوانب أساسية من قواعد اللعبة التي فرضتها عملية أوسلو (أولوية المفاوضات، التشظي، عزل المدني عن السياسي...)، فقد جرى أيضاً استبطان لقواعد سائدة، مثل أولوية المسار نحو دول الشمال. فقوة الجذب في الحقل الفلسطيني دفعت نحو السعي للتغيير باستجداء دول الشمال للضغط على إسرائيل. لكن هذا يجري تحديث أيضاً من البعض. صحيح أن نشوء حركة المقاطعة هو فلسطيني، والحركة هي ذات قيادة فلسطينية وتسعى لتوسيع المقاطعة فلسطينياً، وعندها عدة مسارات عربية وعالمية من الجنوب، لكن يبقى سؤال مدى أولوية الشمال العالمي على غيره حاضراً.

لا تركز هذه المقالة على نقاش مسارات الحركة خارج فلسطين، لكنها ناقشت باختصار شديد بعض الامتدادات، فلا يمكن الحديث عن السياق الفلسطيني بمعزل عن العالم. فنشوء الحركة ونشاطها مرتبط بمسارات خارج فلسطين، وهو يستحق نقاشاً في مكان آخر. وبما أن الحركة تولي أهمية للتجربة الجنوب الأفريقية، فمن المفيد هنا استحضار جانب من هذه التجربة.

كانت منظمة الوحدة الأفريقية ودولاً محاذية لجنوب أفريقيا، إضافة إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة وغيرها من الكتل الإقليمية، قد تبنت ودعت إلى مقاطعة نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا منذ بداية ستينيات القرن الماضي (خلال الفترة 1962-1963)، ولم تتراجع. وشكلت بالتالي روافع ضرورية عالمياً – إلى جانب حركة مناهضة الأبارتهايد في مجتمعات الشمال – حتى وصلت المجموعة الأوروبية والولايات المتحدة إلى مثل هذه المقاطعة في سنة 1985 وسنة 1986.[11] عدا السياق الفلسطيني، فثمة أسئلة أُخرى عن مسارات حركة مقاطعة إسرائيل عالمياً وقيمها المتنوعة.

 

[1]   على سبيل المثال:

“Palestinian call”, PSC website, n. d., via

http://www.palestinecampaign.org/campaign/palestiniancall/ accessed on 1 September 2015; Sophia Abdellah, “Complicity and Apartheid: On Campaigning for Palestinian Rights in Belgium”, al-Majdal magazine, Issue 54 (Autumn 2013); Badil website, via https://ongoingnakba.org/en/publication/periodicals/al-majdal/item/1982-...

[2]   من أبرز هذه الأدبيات كتابا:

Margaret keck and Kathryn Sikkink, (1998), Activists Beyond Borders: Advocacy Networks in International Politics. (New York: Cornell University); Sidney Tarrow (2012), Strangers at the Gates: Movements and States in Contentious Politics (New York: Cambridge University Press).

[3]   انظر مثلاً كتاب جابي برامكي في إشارته إلى هذا الموضوع:

Gabi Baramki (2010), Peaceful Resistance: Building a Palestinian University under    Occupation (New York: Pluto Press).

[4]   Rima Hammami (2000), “Palestinian NGOs Since Oslo: From NGO Politics to Social Movements?” Middle East Report, no. 214, pp. 16-19, 27, 48; Islah Jad, (2007),        

“NGOs: Between Buzzwords and Social Movements,” Development in Practice,       

vol. 17, no. 4/5 (August 2007), pp. 622-629.                                                                 

[5]   Andrew Rigby (2020), Palestinian Resistance and Nonviolence (Jerusalem: Palestinian Academic Society for the Study of International Affairs).                                          

[6]   شاكر جودة، "حملة مقاطعة المنتجات الإسرائيلية وعلاقتها باتجاهات المستهلك الفلسطيني نحو المنتجات المصنعة محلياً: حالة تطبيقية على السلة الغذائية في محافظة غزة". رسالة ماجستير، الجامعة الإسلامية (غزة).

[7]   "نداء فلسطيني إلى الجماهير العربية"، موقع البوابة (21  تشرين الأول 2000).

[8]      “A Call to Boycott Israel Issued by Palestinian Civil Society Organizations,” Badil website, 28 August 2002.                                                                                   

[9]   جميل هلال (2013)، "إضاءة على مأزق النخبة السياسية الفلسطينية" (بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية).

[10]   شكلت الأجسام التالية القوى الأساسية التي دفعت في اتجاه خروج إعلان المقاطعة سنة 2005: حملة المقاطعة الثقافية والأكاديمية (PACBI)؛ "حملة أوقفوا الجدار"؛ "بديل"؛ شبكة "مبادرة الدفاع عن فلسطين وهضبة الجولان المحتلتين" OPGAI؛ "اتجاه"، وانضمت إليها شبكة المنظمات غير الحكومية الفلسطينية (PNGO) حيث جرت في مكتب الأخيرة في رام الله المشاورات النهائية للخروج بالإعلان سنة 2005. استندت هذه المعلومات إلى مسؤولة سابقة في "بديل" حينها، ومقالة لنورا عريقات بعنوان “BDS in the USA, 2001-2010”، ومقابلة صحافية مع عدنان رمضان بعنوان “Boycott movement has empowered Palestinians, says co-founder” والتقرير السنوي لبديل السنة 2005.

[11]   Audie Klotz (1995), Norms in International Relations: The Struggle against Apartheid (London: Ithaca and Cornell University Press), p. 5.

Read more