يُعتبر بروز حركة مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها، أحد أهم التطورات التي طرأت على القضية الفلسطينية في الآونة الأخيرة، وبخاصة في العقد الأخير، إذ بدأت رسمياً مع النداء الذي أطلقته مؤسسات المجتمع المدني الفلسطيني سنة 2005. وقد بدت هذه الحركة بصفتها سفينة خلاص للكثير من أنصار القضية الفلسطينية، أو على الأقل بصفتها فرصة ذهبية لدفع هذه القضية إلى الأمام، في وقت كانت قد تعثّرت فيه الانتفاضة الثانية من جهة، ولم يبد هناك مجال لإيجاد حل عادل لقضية فلسطين من خلال السبل السياسية أو الدبلوماسية من جهة أُخرى. في هذا السياق، ظهرت حملة المقاطعة كوسيلة واعدة وفعّالة للمقاومة السلمية، لا سيما وأن المقاطعة سلاح يمكن اعتماده من قبَل أي فرد كان.
وسأركّز فيما يلي على المقاطعة وليس على سحب الاستثمارات أو العقوبات، لأن سحب الاستثمارات يخصّ الشركات والمؤسسات الكبرى في الدرجة الأولى، بينما تخصّ العقوبات الدول والحكومات.
ومع أن حملة المقاطعة قد انطلقت أصلاً من فلسطين وتحديداً من جانب الجمعيات الأهلية ذات الجذور العميقة في المجتمع الفلسطيني، فقد استهدفت، ولو ضمناً، الجمهور الغربي، على اعتبار أن مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها يعني في الأساس الأفراد والمؤسسات والدول الغربية (كما سيتّضح لاحقاً). وإذ احتلّت هذه الحركة مكانة فريدة في معظم المجتمعات الغربية في العقد الأخير من الزمن، ولاقت ترحيباً ومساندة في أوساط عديدة، بما فيها إتحادات العمال والجامعات والأحزاب السياسية اليسارية، فهي وجدت نفسها منبوذة في معظم الأوساط الرسمية، حتى أنها قد مُنعت قانونياً من قِبل بعض السلطات التشريعية والقضائية، خاصة في الولايات المتحدة. وقد يكون من المفيد التوقف عند تلك المفارقة كي نفهم بشكل أفضل القوى المساندة والقوى المعارضة للقضية الفلسطينية في المجتمعات الغربية، لكنني لن أتطرق في هذه المساهمة إلى الجوانب السياسية والاجتماعية لحركة المقطاعة، بل سأركّز على أسسها الأخلاقية والانتقادات الموجهة ضدها من قِبل خصومها.
ما الذي يحدد أخلاقية أو عدم أخلاقية حركة المقاطعة؟
على الرغم من تعرض حركة مقاطعة إسرائيل لهجمات مكثفة في الغرب لأسباب يُزعم أنها أخلاقية، فإنها لم تتصدَ، كما يبدو، لتلك الهجمات بشكل وافٍ ولم تبذل جهوداً كافية لدحض الحجج الموجّهة ضدها. وعليه، سأعرض في هذه المساهمة ما أراه أهم الانتقادات الموجّهة إلى هذه الحركة، ثم سأحاول التصدّي لها على أسس أخلاقية، كي أبيّن الطابع الأخلاقي لحركة المقاطعة.
إن أي مبادرة لمقاطعة أي مؤسسة أو دولة يمكن أن تُعدّ أخلاقية أو غير أخلاقية بناءً على أهدافها أو على وسائلها. وبالنسبة إلى الأهداف، يمكننا أن نقاطع مجموعة ما لمجرد أنها تنتمي إلى قومية أو ديانة معينة، كما يمكننا أن نقاطع مجموعة من العنصريين بسبب آرائهم وممارساتهم البغيضة. ومن الواضح أن المقاطعة الأولى يمكن أن تُعتبر غير أخلاقية بسبب أهدافها، بينما لا يمكن أن توضع المقاطعة الثانية في الخانة ذاتها. كذلك يمكن أن تُعتبر المقاطعة غير أخلاقية نظراً للوسائل المعتَمدة في تنفيذها. ومع أن أغلب حركات المقاطعة تعتمد على ممارسة الأفراد لحقوقهم الاقتصادية والثقافية، وتتكوّن من أعمال طوعية لا تفرض على أحد سلوكاً معيناً، إلاّ إن بعضها يلجأ إلى وسائل غير أخلاقية لتنفيذ أهدافه، مثل الحد من حرية الأفراد أو انتهاك حقوقهم. إذن، لو سلّمنا أن أخلاقية المقاطعة تعتمد أساساً على أهدافها ووسائلها، يمكننا أن نتساءل عما إذا كان هناك بين أهداف حركة مقاطعة إسرائيل أو وسائلها ما يجعلها غير أخلاقية؟
قبل المبادرة إلى الإجابة عن هذا السؤال، لا بدّ من التذكير بأن حركات المقاطعة تُعتمد بشكل واسع في أنحاء كثيرة من العالم، بما فيها الدول الغربية، لتحقيق أهداف سياسية واجتماعية شتى. ففي الولايات المتحدة الأميركية، على سبيل المثال، كثيراً ما نجد مجموعات في المجتمع المدني تدعو إلى مقاطعة شركات بسبب ممارساتها التمييزية، أو إلى مقاطعة مجموعات بسبب مواقفها السياسية، أو حتى إلى مقاطعة ولايات بسبب سياساتها أو قوانينها. ففي عام 2010، تكوّنت حركة في الولايات المتحدة لمقاطعة ولاية أريزونا لأنها شرّعت قانوناً اعتُبر أنه يميز ضد الأجانب، وخصوصاً أولئك الآتين من المكسيك، وقد انضمّت الكثير من المؤسسات العامة إلى تلك الحركة، من بينها حكومات بلدية، مثل المجلس البلدي في مدينة لوس أنجليس، الذي منع موظفيه من الذهاب إلى أريزونا لأغراض مهنية، كما منع الحكومة البلدية من التعامل مع شركات مقرها في أريزونا. وقد دامت تلك المقاطعة أكثر من سنة كاملة، واعتبر البعض أنها نجحت في إقناع بعض الولايات الأُخرى بالعدول عن تشريع قوانين مماثلة.
الحجج الموجهة ضد حركة مقاطعة إسرائيل ودحضها
أمّا الحجج الموجهة ضد مقاطعة إسرائيل، فيمكن أن تُلخّص ضمن خمسة بنود رئيسية، على النحو التالي:
أولاً، يدّعي بعض منتقدي حركة مقاطعة إسرائيل أنها تحدّ من الحرية الأكاديمية وحرية الرأي، وذلك لأنها تمنع الأكاديميين والمثقفين والفنانين الإسرائيليين من التعبير عن آرائهم وعرض أعمالهم في المحافل وعلى المنابر الدولية. وهذه الحجة الموجّهة ضد أساليب أو وسائل حركة المقاطعة تسيء فهم وسائل الحركة، ربما بشكل متعمّد، إذ إن المقاطعة موجهة، حسب مبادئها المعلَنة رسمياً، ضد المؤسسات وليس ضد الأفراد. مع ذلك، يجب الإقرار بأنه من الممكن أن تؤدي بعض أعمال المقاطعة إلى الحد من مشاركة بعض الأفراد الإسرائيليين في المؤتمرات الأكاديمية والحفلات الفنية وغيرها؛ مثلاً إذا قاطع مهرجان موسيقي أوركسترا إسرائيلية أو إذا لم تتم الموافقة على عقد مؤتمر أكاديمي تحت مظلة جامعة إسرائيلية. كما يمكن أن تضرّ مثل تلك الأعمال بمصالح بعض الأفراد في إسرائيل. فهل يعني ذلك أنه قد تمّ الحد من حريتهم في التعبير عن آرائهم أو انتهاك حقوقهم الأساسية؟
من الواضح أن ثمة محافل عديدة ومناسبات متعددة يمكن أن يمارس فيها الفرد الإسرائيلي حقوقه في التعبير عن رأيه، ولا تنعدم الفرص أمام المثقفين والفنانين الإسرائيليين ليفعلوا ذلك في دولتهم، حيث لديهم منابر كثيرة ووسائل تكنولوجية شتى لإيصال صوتهم إلى العالم الخارجي (مقارنة مثلاً بالمثقفين والفنانين الفلسطينيين الذين لا يتمتعون بتلك الفرص، لا سيما بسبب الاحتلال). ولا يمكن بالتالي أن تُعتبر المقاطعة انتهاكاً لحقوق الأفراد الإسرائيليين وإن مسّت بمصالحهم أحياناً. وتجدر الإشارة، في هذا السياق، إلى أن بعض التدابير والقوانين الموجهة ضد أنصار المقاطعة، التي مررت مؤخراً في الولايات المتحدة، هي التي تحد من حرية الرأي والتعبير، إذ إنها تمنع المواطنين في الولايات المتحدة من ممارسة حقهم في التعبير عن رأيهم. وممارسة النشاط الاقتصادي كما يشاؤون، إذا كانا في خدمة حركة المقاطعة.
ثانياً، يزعم بعض أعداء حركة مقاطعة إسرائيل أنها منافِقة لأنها يجب أن تتوجه أولاً إلى دول مثل الصين أو كوريا الشمالية أو حتى الولايات المتحدة، إذ إن كل تلك الدول وغيرها تنتهك حقوق الإنسان بشكل أفدح من إسرائيل، وهي بالتالي أولى بالمقاطعة من إسرائيل. والجواب على تلك الحجة أنها تسيء فهم الأساس الأخلاقي للمقاطعة بشكل عام. فالمقاطعة هي مجرد أسلوب لتحقيق هدف أخلاقي ما وليست وسيلة يمكن اعتمادها بشكل فعّال أينما وجدنا انتهاكاً لحقوق الإنسان. من المؤكد أن ثمة جرائم أُخرى في العالم عدا تلك التي ترتكبها إسرائيل، وقضايا عادلة غير قضية فلسطين، بل يمكن التسليم بأن ثمة انتهاكات لحقوق الإنسان أفدح مما نشاهده في فلسطين، لكن لا يمكن اتباع أسلوب المقاطعة في كل واحدة من تلك الحالات بشكل فعّال. فعلى سبيل المثال، ليس من المجدي مقاطعة كوريا الشمالية لأنها معزولة أصلاً عن أغلبية العالم ولا تشارك في معظم المحافل الثقافية والفنية، بسبب العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها من قبل الأمم المتحدة والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. ولم تنجح تلك العقوبات حتى الآن في تغيير تصرفاتها سواء على المستوى الداخلي أو الخارجي. من جهة أُخرى، ليس من الممكن مقاطعة الولايات المتحدة من قبل من يسكن فيها، ولن تؤدي مقاطعتها إلى نتيجة إذا مورست من قبل بعض الأفراد والمجموعات المقيمين خارجها، لأن اقتصادها الجبار لن يتأثر بحركة محدودة نسبياً.
إن المقاطعة وسيلة ليست هدفاً بحد ذاته، ويتمّ تطبيقها حصرياً في الحالات التي يمكن أن تؤدي إلى النتائج الأخلاقية المرجوّة؛ وإسرائيل أولى من غيرها، لأنها دولة تعتمد بشكل أساسي على الغرب، وتستمد دعماً مادياً ومعنوياً منه لا يمكنها أن تستغني عنهما، وبالتالي يمكن أن تؤثر المقاطعة على تصرفاتها وتجعلها تدفع ثمناً ملموساً لانتهاكاتها للحقوق الفلسطينية، خاصة إن أتت من جانب العالم الغربي أو من جانب أوساط معيّنة في الغرب.
ثالثاً، يقول البعض إن مقاطعة إسرائيل تضرّ بالقضية الفلسطينية، إذ إنها تجعل المجتمع الإسرائيلي أكثر تعنّتاً وتطرفاً، بينما يجب أن يركّز الطرف الفلسطيني على محاورة المجتمع الإسرائيلي ومخاطبته مباشرة وليس مقاطعته. بل يزعم هؤلاء أن المثقفين والأكاديميين الإسرائيليين هم من أكثر عناصر المجتمع الإسرائيلي تجاوباً مع القضية الفلسطينية، وهم أكثر شرائح المجتمع الإسرائيلي استعداداً للحوار والعمل على إيجاد حل للقضية الفلسطينية. قبل الرد على هذه الحجة، يجب التذكير بأن حركة المقاطعة قامت من بين أنقاض محاولات عديدة للحوار والتبادل الثقافي بين المجتمعين الإسرائيلي والفلسطيني، كما قامت بعد فشل كل المبادرات السياسية والسلمية. فقد جرت تجارب عديدة لإقامة حوار ما بين مجموعات فلسطينية وإسرائيلية في التسعينيات من القرن الماضي في فلسطين كما في الغرب، بعضها رسمي وبعضها الآخر غير رسمي، لكنها لم تحقق أية نتائج ملموسة ولم تغيّر شيئاً على أرض الواقع. والمجتمع الإسرائيلي اليوم هو أكثر تطرفاً من أي وقت في الماضي، كما برهنت انتخابا الكنيست الأخيرة التي جرت في آذار/مارس 2015. وعلى الرغم من ادّعاء الأكثرية في الأوساط الأكاديمية والثقافية بأنها تعارض الاحتلال، فإن معارضتها هذه أصبحت في الواقع سلبية وخجولة، وهي غير قادرة على التأثير على المؤسسة السياسية الإسرائيلية أو غير راغبة في ذلك. والأهم من ذلك كله أن أي دعوة إلى الحوار في ظل احتلال عسكري دموي يمكن أن تُعتبر مشينة من الناحية الأخلاقية، لأن لا مجال لحوار حقيقي في غياب تناسق في القوة بين المتحاورين، كما أن مطالبة المضطهَد بمحاورة المضطهِد تفرض على الأول القبول بالظلم والاستبداد بدلاً من المقاومة.
رابعاً، يدّعي بعض منتقدي حركة المقاطعة أنها تنزع الشرعية عن إسرائيل وتطالب بتدمير إسرائيل، وهو انتقاد موجّه إلى الأهداف السياسية لحركة المقاطعة، ويتعمّد تشويه وتحريف هذه الأهداف. فقد حدّدت حركة المقاطعة أهدافها السياسية بشكل واضح، واختصرتها بثلاثة بنود صريحة: إنهاء الاحتلال (عن الضفة الغربية وقطاع غزة ومدينة القدس وهضبة الجولان)، وعودة اللاجئين (حسب قرار الأمم المتحدة رقم 194)، ومنح الحقوق الأساسية للمواطنين الفلسطينيين داخل إسرائيل. وعليه، لا يمكن لمن اطلع على أهداف هذه الحركة أن يعتبر أنها تطالب بتدمير إسرائيل، بل يمكن القول إن أهداف الحركة تنطوي على اعتراف ضمني بإسرائيل لدى المطالبة بالحقوق الكاملة للفلسطينيين من حاملي الجنسية الإسرائيلية بصفتهم مواطنين في دولة إسرائيل. وأمّا إذا قيل إن إعطاء هؤلاء المواطنين حقوقهم الكاملة وعودة اللاجئين سيؤديان إلى تدمير دولة إسرائيل، فهذا الادّعاء يقول على افتراض أن إسرائيل ستزول لو أصبحت دولة ديمقراطية لكل مواطنيها. وحتى لو سلّمنا أن تحقيق هذين الهدفين سيقضي على إسرائيل كدولة صهيونية عنصرية، فإن أصحاب هذا الانتقاد يقصدون من ورائه إثارة المخاوف من "إبادة" الشعب الإسرائيلي وليس من مجرد تغيير الطابع السياسي للدولة.
إن نزع الشرعية عن دولة إسرائيل بصفتها دولة تميّز بين مواطنيها على أساس عرقي أو ديني، هو هدف لا غبار عليه أخلاقياً، ولا ينطوي على إبادة شعب أو على تدميير مجموعة بشرية.
أخيراً، يزعم خصوم حركة المقاطعة أنها معادية للسامية. ويشكل الادعاء الإنتقاد الأضعف من قِبل أعداء حركة المقاطعة، لكنه يتردد بشكل دوري في الكثير من الأوساط الغربية. ويمكن التصدي له كما تصدّينا للإنتقاد السابق، إذ إنه من الواضح أن أهداف الحركة المعلنة لا تحتوي على أي شيء يمكن أن يُستشف منه معاداة أي ديانة أو عرق أو إثنية. أمّا بالنسبة لوسائل المقاطعة، فإن المؤسسات الإسرائيلية لا يجري مقاطعتها لمجرد كون الأفراد العاملين فيها هم في أغلبيتهم من اليهود. ونجد تلك المفارقة كثيراً حين نعترض على سياسات وممارسات دولة إسرائيل في المحافل الدولية، إذ إن الناطقين باسمها يعتبرون أن أي اعتراض على سياسات وممارسات إسرائيل هو بمثابة اعتداء على الشعب اليهودي كشعب، وذلك بحجة أن إسرائيل تعرّف نفسها بصفتها دولة اليهود وتعتبر نفسها ممثّلة لكل يهود العالم. بيد أن هذا التعريف هو تعريفها هي وليس تعريف بقية العالم لها، لا سيما اليهود غير الصهاينة الذين يرفضون ذلك التعريف بقوة. ويمكن التذكير هنا أيضاً أن حركة المقاطعة قد حظيت بدعم ومساندة بعض المنظمات اليهودية غير الصهيونية أو المعادية للصهيونية، مثل منظمة "صوت يهودي للسلام" (Jewish Voice for Peace).
ربما يعتبر البعض أن دحض الحجج الموجهة ضد حركة مقاطعة إسرائيل هو عمل غير مجدٍ لأن دوافع أعداء الحركة مشبوهة والحجج الموجهة ضدها ملفّقة لأغراض سياسية وليست نابعة من رغبة مخلصة في محاورة الأسس الأخلاقية التي تستند إليها أهداف الحركة أو وسائلها. بيد أن ثمة سببين للتصدّي لتلك الحجج مباشرة، أولهما أن هناك جمهوراً واسعاً في العالم يستمع إلى تلك الحجج ويقتنع بالبعض منها، وبالتالي يجب تفنيدها من أجل التأثير على هذا الجمهور؛ وثانيهما يكمن في أهمية تذكير أنصار حركة المقاطعة بأسسها الأخلاقية، لا سيما وأن كثيراً منهم يركز عادةً على الجوانب السياسية للحركة، ويتجاهل أسسها الأخلاقية.