"أنا والقدس: سيرة ذاتية" لهالة السكاكيني، هو شذرات تحكي قصة الحياة اليومية والمعاش الفلسطيني وبعضاً من مأساة فلسطين وأهلها. تركز على الحياة اليومية الفلسطينية، في مدينة القدس، في فترة تاريخية -سياسية حرجة تقع ما بين سنوات 1924-1948.
وتأتي أهمية هذا الكتاب من أهمية منهج كتابة السيرة الذاتية الذي يركز على المعاش والتفاعل اليومي، وعلى الميكرو والخاص، ومن خلاله يتم الولوج إلى العام واستنباطه من الخاص. والجميل في هذا النمط الكتابي هو حكاية ذاكرة فرد أو مجموعة عن قرب، ومن رحم التجربة اليومية. ويسمع الكتاب الصوت الخافت الفلسطيني (صوت الضحية الفلسطينية)، ويمثل الحياة أو الأحداث بوصفها ظواهر إنسانية ممتلئة بالثقافي والاجتماعي والسياسي والهوياتي. أما كاتبة السيرة الذاتية (هالة السكاكيني)، فهي ابنة المربّي والمفكر التنويري ابن مدينة القدس خليل السكاكيني، وقد اكتسبت هالة من الوالد حب المعرفة والثقافة، كونه مثقفاً ومتنوراً كان له دور في النهضة الثقافية للفلسطينيين ولأبنائه الثلاثة سري، وهالة، ودمية.
تكمن أهمية الانشغال بفن السيرة الذاتية واليوميات في الكشف عن الأحداث اليومية كما هي، من دون أن يتراكم غبار الزمن على المذكرات (المكتوبة) أو الذاكرة (المروية)، إذ تحضر اليوميات كوثيقة تاريخية مشبعة بالمعاني الإنسانية الواقعية، كونها تكتب تحت وطأة الحدث اليومي من دون الغرق في النوستالجيا (الحنين). ويعتبر المؤرخون والباحثون في حقول أخرى (ومنها على سبيل المثال حقل التاريخ الاجتماعي)، أن اليوميات والسير والمذكرات مصدر مهم وأساسي في رواية التاريخ المهمش وغير الرسمي، في مقابل التاريخ الرسمي الذي ترويه السجلات الحكومية؛ فاليوميات والمذكرات تبيّن لنا الوجه الآخر للروايات الرسمية، وتكون أكثر قدرة على ربط العلاقة ما بين الاجتماعي والسياسي والثقافي، وتقدم مقولة أكثر جرأة ونقدًا وعمقًا. وهذا الكتاب سيرة ذاتية لهالة السكاكيني، ويمكن اعتباره أحد أسفار القدس الذي يحكي بلاغتها في نصوص أبنائها المنكوبين.
ملامح الحداثة المقدسية التي اغتالتها النكبة
تركز السيرة الذاتية على حياة هالة السكاكيني، وتحكي، من خلال حديث هالة عن حياتها، قصة عائلتها، وتروي رواية الحداثة المقدسية إبان فترة الاستعمار البريطاني. تبدأ السيرة الذاتية بقصة العودة إلى البيت في حي القطمون سنة 1967، فقد عادت هالة وأختها دمية إلى البيت مشيًا على الأقدام، من مدينة القدس إلى حي القطمون، ورفضتا استعمال المواصلات العامة الإسرائيلية، كنوع من المقاومة وعصيان النظم الإسرائيلية التي تهيمن على المدينة. لقد عثرت الاختان السكاكيني على البيت في حي القطمون، وقد بدت بعض ملامح الاستعمار الإسرائيلي تغزو حي القطمون؛ فقد خُربت الحداثة العمرانية المقدسية بإضافة غرف مسبقة الصنع على أسطح المنازل وفي الحدائق، وأضحت الحدائق مهملة ويكثر فها الرث والقديم، وهذا ينم عن سلوك هجين وغريب عن الحداثة المقدسية مارسها المستوطنون الصهاينة. عند وصول هالة وأختها إلى البيت في طريق العودة بعد نكسة حزيران، بدت غبار الدهر والحرب والنكبة بادية على ملامح بيت السكاكيني، وحول البيت حضانة أطفال يهودية، وعادت الأختان أدراجهما إلى رام الله لتمضية ما تبقى من العمر بعيدًا عن منزل العائلة بضعة أميال، ويفصل بينهما نكبة ومؤامرة استعمارية، وحكايات وشجون وأسى وقصص طفولة وحياة وحب للقدس.
في سيرة هالة يمكن تلمس معالم الحداثة المقدسية في الأحياء العربية الفلسطينية خارج أسوار البلدة القديمة لمدينة القدس، من خلال نمط البناء الحديث، ونظام المواصلات وترقيم خطوط النقل، وتوفر المدارس والسينما والمؤسسات مثل: جمعية الشبان المسيحية، المدرسة العمرية، النادي الرياضي، سينما ريجينت، سينما ريكس، المكتبات، وغيرها من مظاهر الحداثة. كما تبرز مظاهر الحداثة في انشغال العائلات المقدسية في الهموم التربوية والثقافية، والاهتمام بالشأن العام، وتبلور نخبة سياسية ثقافية فلسطينية، ربما كانت بمثابة بذور لمجتمع مدني فلسطيني يهتم بالشأن العام، ويعمل بمعزل عن الدولة (سواء الدولة الفلسطينية المحتجزة استعماريًا، أو الدولة الاستعمارية التي تنتهك الحق الفلسطيني، وتسهل بناء دولة صهيونية في فلسطين).
الانشغال بالاجتماعي
تنهمك سيرة هالة في السرد الاجتماعي عن حياتها وحياة أختها دمية وأخيها سري، فتتحدث عن تعليمها وتعليم أختها وأخيها المدرسي والجامعي، ولا تغفل هالة ذكر أدق التفاصيل عن دروسها المدرسية وواجباتها، وكانت متنبهة للنظم التعليمية والتربوية المختلفة. وقدمت هالة نقدًا لاذعًا للنظم التعليمة في المدارس الرسمية، وكانت تفضل النظام التربوي الإبداعي في مدرستها في الكولونيالية الألمانية. كما قدمت هالة بانوراما اجتماعية لطيفة وخفيفة الظل عن أسرتها، فهي تؤصل نسبها إلى مدينة القدس إلى الجد السابع، وتعتز بهويتها المقدسية. وفي حديث هالة عن ذاتها لا تهمل الحديث عن أختها ورفيقة دربها (دمية)، وعن والدها خليل السكاكيني، وأمها سلطانه عبدة، وعمتها ميليا، وتستذكر خالها وخالاتها وجدتها، وشخصيات اجتماعية كانت تشغل المسرح الاجتماعي لعائلة السكاكيني في أماكن سكنهم المتعددة في القدس والقطمون، والقاهرة أيضًا بعد رحلة الخروج إثر النكبة الفلسطينية سنة 1948.
تكتب هالة بذوق اجتماعي وسلاسة عن العلاقات الاجتماعية في القدس، وتبيّن العلاقات الطيبة بين مكونات المجتمع المقدسي، من مسلمين ومسيحيين ويهود؛ فإحدى العاملات في منزل السكاكيني امرأة يهودية، وزوار وأصدقاء الأب والفتاتين وسري هم من طوائف متعددة، ومعلم الموسيقى لهالة يهودي، ولم تظهر هالة أن هناك حالة من العداء بين تلك المكونات، كما بيّنت أن العلاقات مع المواطنين البريطانيين كانت جيدة، وأن هناك ألفة اجتماعية مع تلك الشريحة المقيمة في حي القطمون. كذلك، بيّنت هالة نمط العلاقات الاجتماعية والعمل في القدس وخصوصًا للطبقة الوسطى المقدسية، التي تمتاز بنمط حياتي ومعيشي معين، وألقت الضوء على علاقة القدس بالريف الفلسطيني لمنطقة القدس وبيت لحم، ووصفت بصورة جميلة كيف كانت الفلاحات الفلسطينيات يقمن ببيع منتجاتهن في القدس وحي القطمون، ويبدو أن العلاقات كانت اجتماعية اقتصادية وخصوصًا عندما علمت بعض الفلاحات عن موت سلطانة وتأثرن بالحادثة كثيرًا. ويلمس القارئ أن السيرة يطغى عليها الطابع الاجتماعي، إذ تبرز مكوّنات مجتمع القدس: الطوائف، الحرف، العائلات، أنماط السكن، العلاقات الاجتماعية، المناسبات الدينية والمواسم الشعبية...إلخ.
الاتكاء على الثقافي
تبرز في السيرة وبعض يوميات هالة، ملامح الحياة الثقافية في مدينة القدس بصورة عامة، وفي بيت السكاكيني بصورة خاصة. تتحدث هالة في أكثر من مكان ومناسبة عن الانشغال الثقافي لوالدها وعائلتها وبعض أصدقاء والدها، فهي عاصرت الحوارات الثقافية والنقدية في بيت السكاكيني، وهي طفلة، وعندما أصبحت فتاة بالغة أيضًا، ونالت نصيبًا منها. وتستذكر هالة بعض محاور هذه الحوارات في الأدب العربي والنحو والشعر، والفلسفة والفلاسفة، والنظم التربوية، والتاريخ.
كما تشير هالة إلى حالة ثقافية كانت تتمتع بها الطبقة الوسطى في القدس من خلال حكايتها عن عائلتها، فقد كانت هالة وأختها وعائلتها يرتادون السينما لمشاهدة الأفلام، وكانت تحضر الندوات العامة التي كان بعضها يقدمها المربّي خليل السكاكيني، وكانت تقرأ هالة بعض القصص والروايات والأدب العالمي وكتب الفلسفة والتاريخ. وكانت هالة وأختها تتقنان اللغة الألمانية والإنكليزية وبعض الفرنسية، وهذا مؤشر على اهتمام الطبقة الوسطى المقدسية بالثقافة وتعليم الأبناء، وخصوصًا في مدارس البعثات الأوروبية التي دخلت إلى القدس في فترة الإصلاحات العثمانية. ويتجلى الانشغال الثقافي لعائلة السكاكيني في سيرة هالة في حديثها عن مكتبة والدها، ودراسة سري في الولايات المتحدة الأميركية، ودراستها مع أختها دمية في بيروت، وعملها لاحقًا هي وأختها في التدريس، وكذلك عمل أخيها سري كمدرس، وكانوا ثلاثتهم (سري، ودمية، وهالة) يدرسون في كلية النهضة، وكان يتندر سري ويطلق عليهم لقب "الثالوث المقدس".
تأريخ الحياة المقدسية
تمثل السيرة وبعض اليوميات التي ضمنت في متن النص وملحق في نهاية السيرة، تاريخاً اجتماعياً مقدسياً غنياً، يركز على أحداث يومية بتفصيل جميل وسرد غير ممل. وفي هذا التأريخ للحياة اليومية المقدسية، تبرز الهوية المقدسية المنفتحة على الآخر، والهوية العابرة للطائفية والطبقية والحزبية، وتبرز هوية القدس كمدينة عربية فلسطينية يتعايش فيها أقوام وأجناس من شتى بقاع الأرض، ويمكن ملاحظتهم من خلال مسميات عديدة كالمقاطعة والكولنيالية اليونانية والكولنيالية الألمانية وأسماء الأشخاص والعائلات ...إلخ.
تسرد سيرة هالة الحياة المقدسية منذ سنة 1924 وحتى سنة 1948، أي أنها تحكي عن التاريخ الاجتماعي لمدينة القدس في فترة الاستعمار البريطاني، وهي تكتب تاريخاً اجتماعياً من خلال المعايشة اليومية والانخراط في الحياة المدرسية والعمل وممارسة الأنشطة الثقافية، وتبيّن هالة طبيعة الحياة للطبقة الوسطى المقدسية، التي كانت تقضي عطلة الصيف في مدن أخرى مثل نابلس، رام الله، بيروت، دمشق، والقاهرة. وتتضمن السيرة كذلك محاولة للتأريخ الثقافي المقدسي، من خلال ذكر أسماء المدارس والمدرسين العرب والأجانب، والمؤسسات الثقافية المتنوعة، وطبيعة الأنظمة التربوية والثقافية المتعددة.
كما أرّخت هالة لحالة الحرب، ففي أكثر من موقع في السيرة، تحدثت عن إضراب سنة 1936، وعن الحرب العالمية الثانية، ومدرعات الجنود البريطانيين، ومنع التجول، وإرهاب العصابات الصهيونية التي فجرت فندق المللك داود في القدس، وفندق سمير أميس في حي القطمون، وهجمات العصابات الصهيونية في الليل على الاحياء المقدسية ومنها حي القطمون. وأشارت إلى مقاومة المقدسيين والفلسطينيين بصورة عامة، وتصديهم لهجمات العصابات الصهيونية، فقد تولى أبو دية من بلدة صوريف في شمال مدينة الخليل، وأبو عطا، مسؤولية الدفاع عن حي القطمون قبل سقوطه في يد العصابات الصهيونية.
وتروي هالة بشجن قصة وفاة والدتها، والحياة الاجتماعية والنكات التي كانت تدور بين العمة ميليا والأصدقاء والجيران. وتحدثت عن ذلك الصباح الأليم يوم الخروج من القطمون إلى القاهرة، وعن حياتهم في القاهرة، وعن العودة إلى السكن في رام الله، ومن ثم العودة لزيارة البيت السليب في حي القطمون بعد هزيمة حزيران سنة 1967.
أخيرًا وليس آخرًا، برعت هالة في بناء سردية مقدسية بنكهة سياسية واجتماعية وثقافية وبنبض حي، وأعطت صورة واضحة ودقيقة للحياة اليومية في القدس، وخصوصًا حياة الطبقة الوسطى التي تبنت نمط الحياة الحداثي، وعاشت خارج أسوار البلدة القديمة في القدس، في أحياء مثل القطمون والطالبية. كما امتازت سيرتها الذاتية ببنية سردية جمعت بين الحديث عن الخاص والانتقال السلس إلى العام، وهذا الأسلوب الجميل جعل السيرة الذاتية تنطوي على غنى معرفي، بحيث مثّلت مرجعًا أوليًا مهماً لدراسة القدس في الفترة الانتدابية.