يعتبر لبنان نفسه معنياً مباشرة بـ "صفقة القرن"، كونه من الدول التي استضافت اللاجئين الفلسطينيين على أراضيها منذ نكبة سنة 1948. وتحوّل موضوع اللجوء الفلسطيني مع مرور الزمن والتطورات المتعددة التي شهدها هذا البلد، ولا سيما الحرب الأهلية اللبنانية التي انقسم فيها اللبنانيون بين فريقين، واحد وقف مع المقاومة الفلسطينية المسلحة، والآخر وقف ضدها، إلى أحد أكثر الموضوعات حساسية وتأثيراً في التوازنات السياسية التي تستند إليها التركيبة الطائفية الهشة لهذا البلد.
تتجاهل "صفقة القرن"، في النص المنشور مؤخراً، حق عودة اللاجئين الفلسطينيين الذين هجّرتهم إسرائيل قسراً سنة 1948، ومنعت عودتهم بالقوة إلى أراضيهم. ولا تأتي إلى ذكر القرارات الدولية التي تطالب بتنفيذ هذا الحق، وهذه مسألة في غاية الأهمية بالنسبة إلى مستقبل اللاجئين الفلسطينيين في لبنان.
وجاء في نص الخطة، أنه طوال 70 عاماً، جرى التعامل مع اللاجئين الفلسطينيين "كبيادق على رقعة الشطرنج في الشرق الأوسط، وجرى تقديم وعود فارغة لهم ولبلادهم المضيفة. ومن الضروري إيجاد حل عادل ومنصف وواقعي لقضية اللاجئين الفلسطينيين لحل النزاع الإسرائيلي-الفلسطيني".
لكن التعليقات الإسرائيلية على هذا الكلام العام من الخطة قدمت تفصيلات أكثر تحديداً عن موضوع عودة اللاجئين. فقد كتب المحلل السياسي تسفي برئيل في "هآرتس": "ستخضع حركة اللاجئين من خارج الضفة الغربية وغزة إلى الدولة الفلسطينية لاتفاق بين الطرفين، ويجب أن تتقيد بمعايير متعددة، بينها القدرة الاقتصادية، بحيث لا يزيد عدد العائدين كثيراً بصورة تعيق تطوير البنى التحتية والاقتصاد في الدولة الفلسطينية، أو تزيد من المخاطر على أمن إسرائيل. ومع توقيع اتفاق السلام الإسرائيلي-الفلسطيني، لا يعود هناك وجود لوضع لاجئ، وسيُلغى عمل الأونروا، وستنتقل مسؤولياتها إلى الدولة المعنية. وحتى ذلك الحين، يُعتبر لاجئاً كل من كان مسجلاً لدى الأونروا كلاجئ عند إعلان الخطة الأميركية. ولا يجب فهم تسجيل عدد اللاجئين كموافقة أميركية على تعريف الأونروا لمصطلح لاجئ، بل هو فقط من أجل تحديد الحجم المتوقع للمطالبة بالتعويضات."[1]
في رأي عاموس يادلين، كل ما يمكن أن تضمنه الخطة "عودة رمزية ومراقَبة للاجئين إلى أراضي الدولة الفلسطينية، والأغلبية الساحقة من اللاجئين، سيجري التعويض عليها في أماكن سكنها الحالي."[2]
كما لحظت الخطة تخصيص مبلغ 6 مليارات دولار ونصف من أجل تشجيع الدولة اللبنانية على تأييدها. وهذا الاقتراح يعني، ضمناً، قبول لبنان توطين اللاجئين الفلسطينيين الذين لن يكون في استطاعتهم العودة قط إلى ديارهم أو إلى دولة فلسطين.
حقيقة الإجماع اللبناني على رفض توطين الفلسطينيين
منذ النكبة واللجوء الفلسطيني إلى لبنان، وقفت الحكومات اللبنانية بالمرصاد ضد جميع المحاولات الدولية لتوطين الفلسطينيين في لبنان التي نشطت منذ الخمسينيات، وذلك لسببين أساسيين: سبب معلن، هو الدفاع عن حق العودة للشعب الفلسطيني إلى أرضه، وإفشال المخططات الصهيونية الرامية إلى حل مشكلة اللاجئين الفلسطينيين بتوطينهم في الدول التي استضافتهم؛ وسبب آخر مضمر، هو انعكاسات توطين الفلسطينيين، وهم في أغلبيتهم من المسلمين، على التوازن الديموغرافي الهشّ لهذا البلد الذي يعتمد توزيع السلطات السياسية فيه على تقسيمات طائفية معقدة. وبخلاف دول عربية أُخرى، امتنعت الدولة اللبنانية من منح اللاجئين الفلسطينيين حقوقاً مدنية، بصفتهم مقيمين بصورة دائمة في البلد، وعاملتهم كأجانب ينتمون إلى فئة خاصة، وأنشأت في سنة 1950 "اللجنة المركزية لشؤون اللاجئين" التي أصبح اسمها في سنة 2002 "المديرية العامة للشؤون السياسية للاجئين". وخضعت حقوق الفلسطينيين المدنية في لبنان لتفسيرات وتأويلات متعددة وقوانين جائرة وظالمة، دفع الفلسطينيون ثمنها، وخصوصاً سكان المخيمات التي تحولت إلى أحزمة فقر وعوز.
وفي السنوات الأخيرة، جرى التشديد على رفض التوطين في وثيقة الوفاق الوطني، الموقّعة في حزيران/يونيو 2017، من جانب رئيس الجمهورية ميشال عون، ورئيس الحكومة آنذاك سعد الحريري، ورئيس مجلس النواب نبيه بري، ورؤساء جميع الأحزاب اللبنانية، وجاء فيها: "الحفاظ على مقومات الوطن اللبناني البنيوية، وعدم السماح بالتلاعب بالهوية الديموغرافية، والتمسك بالنسيج المجتمعي، ومواجهة أي محاولة لتثبيت جماعة غير لبنانية على أرض لبنان."[3]
صحيح أن الوثيقة لم تأتِ إلى ذكر الفلسطينيين صراحة، لكن تصريحات مسؤولين سياسيين لبنانيين تحدثت عن ذلك. وشهد العامان الأخيران حملة ضد اللجوء الفلسطيني والسوري على حد سواء من جانب مسؤولين لبنانيين حاولوا تضخيم أعداد اللاجئين الفلسطينيين في لبنان خدمة لأهداف سياسية ولترويج سياسة شعبوية عنصرية. [4]
لكن التعداد العام للفلسطينيين في لبنان الذي أجرته إدارة الإحصاء المركزي في لبنان، بالتعاون مع الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، بمبادرة من لجنة الحوار الفلسطيني-اللبناني، ونُشر سنة 2017، أظهر أن عدد الفلسطينيين الفعلي في لبنان هو 174.422، بينما في سجلات وزارة الداخلية والبلديات هناك 592.711 لاجئ فلسطيني مسجّل حتى كانون الأول/ديسمبر 2016، أمّا عدد المسجلين في وكالة الأونروا حتى آذار/مارس 2016، فبلغ 459.292 لاجئاً . ويعود هذا التفاوت في الأرقام إلى هجرة الفلسطينيين من لبنان، وبصورة خاصة خلال سنوات الحرب الأهلية اللبنانية، وهي هجرة مشابهة كثيراً لهجرة اللبنانيين أنفسهم.[5]
لبنان المأزوم كيف سيتعامل مع "صفقة القرن"؟
على الرغم من رفض الدولة اللبنانية الرسمي "صفقة القرن"، ليس خافياً على الأميركيين والإسرائيليين الأزمة المالية - الاقتصادية -الاجتماعية الخانقة التي يعانيها لبنان في الأشهر الأخيرة، بالإضافة إلى أزمة السلطة الحاكمة التي تواجه منذ أكثر من 100 يوم احتجاجاً شعبياً ضد السلطة السياسية الحالية القائمة على الفساد والمحاصصة. علاوة على ذلك، تحتاج الحكومة اللبنانية الجديدة التي تشكلت بعد استقالة الحكومة السابقة بضغط من الاحتجاج الشعبي، إلى اعتراف ودعم المجتمع الدولي لها، ولا سيما بعد اتهام إسرائيل لها بأنها "حكومة حزب الله".
يُضاف إلى ذلك، معاناة لبنان جرّاء العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة على حزب الله، والضغوطات التي تمارَس على الحكم اللبناني من جانب الإدارة الأميركية بطلب من إسرائيل، من أجل تقييد نفوذ هذا الحزب ووقف تعاظُم قوته العسكرية، وصولاً إلى المطالبة بنزع سلاحه. وليس من المستبعد أن تستغل إدارة ترامب هذه الأزمة الخانقة لترغيب لبنان في تأييد الخطة في مقابل دعم أميركي لمساعدة لبنان على النهوض من كبوته.
لكن أي تغيير في الموقف اللبناني إزاء توطين اللاجئين الفلسطينيين من شأنه أن يخلق خلافات سياسية عميقة بين اللبنانيين ويوقظ مجدداً مخاوف دفينة، ومن الممكن أن تتحول إلى صراعات تغذي انقسام اللبنانيين بين فئة تؤيد منح الفلسطينيين الجنسية، أو على الأقل حقوقهم المدنية الكاملة، وبينها حق العمل والتملك، وبين مَن يعارض ذلك بشدة، خوفاً على التوازن الديموغرافي. وبسبب الأزمة الاقتصادية الخانقة، فإن اللبنانيين أنفسهم في الوقت الحاضر يعانون البطالة وضيق العيش وانسداد الأفق. أمّا التعويض المالي الذي يقترحه واضعو الخطة على لبنان، فيبدو ضئيلاً مقارنة بالدين العام للدولة اللبنانية، البالغ حالياً 86 مليار دولار.
لكن هناك ملفات أُخرى عالقة بين لبنان والولايات المتحدة وإسرائيل، يمكن أن تشكل أيضاً ورقة ضغط على الدولة اللبنانية، من أهمها ملف ترسيم الحدود البحرية والبرية مع إسرائيل، والذي طلب لبنان رسمياً من الولايات المتحدة التوسط من أجل حلّه خلال الزيارة التي قام بها الموفد الأميركي ديفيد شنكر إلى بيروت. ومن المعروف أن هناك خلافاً على ترسيم حدود المياه الاقتصادية في البلوك 9 للنفط والغاز القريب من الناقورة، إذ تدّعي إسرائيل أن هناك 8 كيلومترات مربعة تقع ضمن أراضيها، لم يتوصل حتى الآن المفاوضون الأميركيون إلى حلّه، بالإضافة الى الخلاف على ترسيم الحدود البرية بين لبنان وإسرائيل في أكثر من 13 نقطة.[6]
وفي هذا السياق، تجدر الإشارة إلى حاجة لبنان إلى المساعدة العسكرية التي تقدمها الولايات المتحدة إلى الجيش اللبناني، والتي تمارس إسرائيل نفوذها داخل الإدارة الأميركية في كل سنة عند تجديدها، لوقف هذه المساعدات بحجة النفوذ المتمادي لحزب الله في هذا الجيش.
لكن كل هذا لا يمكن أن يدفع لبنان إلى تأييد خطة ترامب، لأنه يدرك جيداً أنه لا يستطيع في الوقت الحالي المخاطرة بانهيار سلمه الأهلي الهش. كما أنه من الصعب أن نرى لبنان في المرحلة الحالية التي يمر بها ينضم إلى معسكر الدول العربية التي تؤيد الخطة، أو تلك التي تقف موقفاً ملتبساً منها.
[1]-تسفي برئيل: "بالنسبة إلى رؤيه ترامب: السيادة الإسرائيلية تستند إلى ما جاء في التوراة وليس الى الاتفاقات الدولية"، "هآرتس"، 31/1/2020
[2]- عاموس يادلين: "قبيل نشر خطة ترامب: ماذا بعد؟"، "مباط عال"، 27/1/2020.
[3]-http://nna-leb.gov.lb/ar/show-news/290958/nna-leb.gov.lb/ar
[4]- على سبيل المثال ما كتبه وزير الخارجية السابق جبران باسيل في سنة 2018 على تويتر، شارحاً سبب رفض منح المرأة اللبنانية المتزوجة من فلسطيني أو سوري حق إعطاء الجنسية لأولادها: "أنا مع مساواة المراة بالرجل، وإعطاء المرأة حق منح جنسيتها لأولادها، لكن باستثناء المتزوجة من فلسطيني أو سوري، وذلك حفاظاً على أرضنا." هذا مع العلم بأن عدد اللبنانيات المتزوجات بفلسطينيين لا يتعدى الـ3000 ، ومن غير المفهوم كيف يمكن أن يشكل أولادهن خطراَ على الكيان اللبناني.
[5]-في التعداد المشار إليه أعلاه، نحو 5763 أسرة فلسطينية قالت إن هناك فرداً أو أكثر من أفرادها مقيم خارج لبنان، وهؤلاء يشكلون 12.2% من عدد العائلات الفلسطينية الموجودة حالياً في لبنان. للمزيد من المعلومات عن الموضوع، بالإمكان العودة إلى تحقيق "هجرة الفلسطينيين من لبنان: خيار فردي أم مؤامرة منظمة"، نشرة "جسور للحوار والعودة"، العدد 2، كانون الثاني/يناير 2019.
[6]-https://www.alarabiya.net/ar/arab-and-world/2019/09/10/%D9%84%D8%A8%D9%8...