في سنة 2016 لم أكن الفلسطيني الوحيد الذي بات على يقين بفشل، بل عبثية كل من العملية السلمية والمقاومة المسلحة. فبعد ردح من الزمن أثبتت هذه الثنائية وما تنطوي عليه من تسلط على الشعب الفلسطيني، عجزها التام عن تحقيق ما نتطلع إليه من حقوق مشروعة في العودة وتقرير المصير والعيش الكريم. فإذا كانت إسرائيل دولة نووية سحقتنا ولا تزال عسكرياً، فإن ذلك لا يسوغ أبداً تقديم أكثر من 70% من أرض فلسطين مجاناً وترك موضوع اللاجئين معلقاً بين جولات مفاوضات هلامية. ومن جهة أُخرى، فإن تصنيم السلاح وحشرنا كشعب في خانة الدفاع عن واقع جيواستراتيجي رسمته دولة إسرائيل، ليسا إلّا انتحاراً. ومن نافل القول أن أهم أسباب فشل كلا الخيارين هو عدم وجود معرفة حقيقية بإسرائيل، فمعرفة العدو هي أساس تصور الحل، عدا كونها الخطوة الأولى لاشتقاق أدوات العمل الملائمة.
فما الحل إذاً؟ هو بداهة عودة اللاجئين إلى فلسطين، وأن تكون فلسطين تلك دولة العدالة الاجتماعية لجميع مواطنيها، وهو ما يُعرف بصورة عامة بحل الدولة الواحدة. وهذا خيار مفرط في الكرم من جانب الشعب الفلسطيني المضطهَد أن يقبل تشاطر أرضه مع مَن حلّوا محله فيها، وهو في نظر البعض خيار طوباوي، إذ لم يحدث أن قبل المضطهِد القوي تشاطر الغنيمة مع المضطهَد الضعيف. باختصار، لا يمكن لحل الدولة الواحدة أن يترجَم إلى واقع ملموس ما لم يعمل على تحقيقه معاً فلسطينيون وإسرائيليون مؤمنون بحق العودة، وهو إيمان يتناقض جوهرياً مع الصهيونية و"الإسرائيلية".
التعرف على "مفكك الاستعمار"
إن العثور على هكذا إسرائيليين ضروري للبتّ في جوهر مسألة حل الدولة الواحدة، كما أن الالتقاء على أساس إنجاز الحقوق الفلسطينية واحترام حقوق الإنسان يختلف جملة وتفصيلاً عن اللقاءات التطبيعية المبتذلة على أساس "وقف سفك الدماء والعيش المشترك بسلام" من دون التطرق إلى جوهر المشكلة، وهو طرد معظم الشعب الفلسطيني خلال نكبة 1948، وحق اللاجئين وذريتهم في العودة إلى ديارهم وأراضيهم.
من هنا بدأتُ بحثي بالإنجليزية والعبرية في الشبكة العنكبوتية عن هؤلاء اليهود بالكلمات المفتاحية التالية: إسرائيل؛ يهود؛ استعمار؛ صهيونية؛ حق العودة؛ فلسطين؛ حتى انتهيت إلى صفحة في الفيسبوك باسم "مفكك الاستعمار: مختبر فني وبحثي من أجل التغيير الاجتماعي" (De-Colonizer, research and art laboratory for a social change).
لفت نظري وجود نقاش محتدم في تلك الصفحة بشأن سؤال فحواه ما يلي: "كيف يمكن أن تمارس عائلة فلسطينية هُجّرت في أثناء النكبة حقها في العودة إلى بيتها الذي انتقلت ملكيته إلى عدة أشخاص قبل أن تشتريه عائلة يهودية تسكن فيه الآن؟"
تعددت محاولات الإجابة، وكفلسطيني من قطاع غزة الذي يشكل اللاجئون فيه أكثر من 70% من سكانه، أدليت بدلوي في الموضوع كصاحب بيت، فطرحت إخلاء البيت لمصلحة الأسرة الفلسطينية وتعويض الأسرة اليهودية وتوفير مسكن كريم لها، مشيراً إلى أن ذلك يتطلب وجود مؤسسات دولة تشرف على العملية وتمثل الجميع، ومن هنا ولجنا إلى حل الدولة الواحدة - دولة العدالة الاجتماعية - التي تمثل الجميع.
كانت تلك بداية التفاعل مع "مفكك الاستعمار"، والعمل المشترك مع القائمين عليه: إيتان برونشتاين، المناضل اليساري الذي انتقل من موقع الكيبوتسي اليساري الصهيوني إلى اليساري المناهض للصهيونية، وإليونور ميرزا المناضلة اليسارية الأنوثية (النسوية) المتحدرة من أب سوري من الجولان المحتل وأم يهودية جزائرية – فرنسية، والتي يعود الفضل إليها في ترسيخ البعد الجنوسي (الجندري) في "مفكك الاستعمار"، واستخدام اللغة الشاملة في إنتاجاته المكتوبة. وتجدر الإشارة إلى أن إيتان أسس منظمة "ذاكرات" (زوخوروت) قبل أن يتركها ويتفرغ لتأسيس "مفكك الاستعمار" مع إليونور.
المميز في عمل "مفكك الاستعمار" هو الانكباب على جواب سؤال "كيف"، لا الجدل العقيم اللئيم بشأن سؤال "ماذا". المسعى إذاً هو الإجابة عن سؤال كيفية إنجاز حق العودة بشكل ملموس وعملي على الأرض بعيداً عن الشعارات الرنانة. وهذا ليس كل ما يقدمه "مفكك الاستعمار" الذي يعمل في إطاره فلسطينيون وإسرائيليون، بل إن المختبر أنجز خريطة مفصلة لفلسطين والجولان السوري المحتل تشمل جميع القرى والمحلات والبلدات والتجمعات العربية واليهودية التي هُجّر أهلها، و / أو دُمرت كلياً أو جزئياً منذ بداية المشروع الصهيوني في فلسطين حتى سنة 2016، سنة إنجاز تلك الخريطة. كما يقوم متطوعو المختبر سنوياً بحملة توعوية بالنكبة في شوارع تل أبيب التي تصخب بالاحتفال بـ "يوم استقلال إسرائيل". فضلاً عن ذلك، أصدر إيتان وإليونور أول كتاب باللغة العبرية يتناول النكبة الفلسطينية من موقع مناهض تماماً للسردية الإسرائيلية، علاوة على أن المختبر يعمل على ما يمكن أن نسميه "وثائق مستقبلية".
مشروع قرية "حمامة" بداية تأسيسية
من نماذج هذه الوثائق مقطع مصور في أراضي قرية "حمامة"[1] التي هُجّر أهلها إلى قطاع غزة. فقبل أن تبدأ بلدية أشكلون الإسرائيلية بتجريف جزء مهم من أراضي حمامة بما يتضمنه من أطلال بيوت الفلسطينيين، من أجل إقامة منتزه عام، عمل "مفكك الاستعمار" ، استناداً إلى صورة جوية للقرية، على تحديد مكان بيت مدمر هُجّر أهله من حمامة، ثم كتابة اسم صاحب البيت على لافتة مع إحداثيات المكان وغرسها في مكان البيت، وتصوير العملية قبل رفع الفيديو على موقع يوتيوب. بهذا يمكن القول إن الفيديو وثيقة مستقبلية لأصحاب الأرض.
تعرفتُ إلى "مفكك الاستعمار" بعد إنجاز المقطع المصور الخاص بقرية حمامة، وأخبرني إيتان أنه لم يكن هناك أكثر من بيت في الفيديو نظراً إلى عدم القدرة على التواصل مع أهالي حمامة اللاجئين في قطاع غزة لتحديد مزيد من المواقع. ومن هنا اقترح إيتان أن نحاول التواصل مع مَن تبقّى في قيد الحياة من جيل النكبة من أهالي تلك القرية كي نحدد – على الخريطة - أماكن بيوتهم وبيوت معارفهم وأي أماكن وعقارات أُخرى.
كان إيتان قد حصل على مجموعة من آخر صور جوية لقرى وبلدات ومدن وتجمعات فلسطين قبل النكبة التقطها سلاح الجو البريطاني في سنة 1945، وزوّدني بصورة جوية لحمامة. طُبعت الصورة وعُرضت على مَن جرى التوصل إليهم من أهالي حمامة من جيل النكبة، فقام هؤلاء بتحديد أماكن بيوتهم وجيرانهم والمدرسة والبيدر وبعض البيارات والمسجد وسوق المواشي وسوق القرية، لكن لم يتسنّ غرس لافتات تحمل الأسماء والإحداثيات، فالجرافات كانت أسرع.
الخريطة الجوية لقرية حمامة ويبدو فيها المنزل الذي يظهر في الفيديو.
رجلان من حمامة يدلان على موقع منزلَيهما.
"مَعين أبو ستّة": انفتاح على حوار
كان مشروع حمامة ملهماً لمشروع أقوى أثراً: "مَعين أبو ستّة" أو "المَعين".
تعود ملكية منطقة المَعين إلى آل أبي ستة الذين هُجّروا منها في إبان النكبة، وقد أقيمت على أراضي المَعين شرقي قطاع غزة أربعة كيبوتسات: "نيريم"؛ "ماغين"؛ "عين هاشلوشاه"؛ "نير عوز".
ووفقاً للآلية نفسها، تم الحصول على صورة جوية لمَعين، ثم جرى تحديد الأماكن والبيوت وغرس لافتات في تلك المواقع. لكن هذه المرة أجرى إيتان مقابلات مع قاطني الكيبوتس جمعها في مقطع مصور يضم مقتطفات من المحادثة المطولة التي أجريتها أنا مع أحمد أبو ستة، صاحب الذاكرة الفولاذية الذي حدد كثيراً من الأماكن في المَعين، ولا سيما "البيت الأبيض"، وهو البيت الذي بناه جده قبل النكبة، والذي أصبح قاعة معارض تابعة لكيبوتس نيريم.
خريطة جوية لمَعين.
كان المقطع المصور[2] هذه المرة مادة للنقاش مع أهالي الكيبوتسات المقامة على أراضي المَعين، فقد نظم "مفكك الاستعمار" في "البيت الأبيض" معرضاً لصور توثّق العملية، علاوة على عرض للمقطع المصور والمقابلات دام 4 أيام.
"البيت الأبيض" هو الاسم الذي أطلقه آل أبو ستّة على البيت الذي بناه أحمد أبو ستّة الجد الشهير بـ "أبو بريشة"، وهو اليوم البيت الوحيد المتبقّي من بيوت المَعين، والذي، مثلما ذكرت، أصبح قاعة معارض تابعة لكيبوتس "نيريم".
خلال أيام المعرض رُفعت لافتة على بابه تقول: "بنى أحمد محمد صقر أبو ستة هذا البيت"، وقد تلا ذلك كله نقاش محتدم مع مَن حضر من سكان الكيبوتس بشأن محتوى الفيديو وعودة اللاجئين الفلسطينيين. وفي الختام دُعي "الاختيارية" الموجودون إلى توجيه رسائل إلى أهل المَعين اللاجئين، وكتب 23 شخصاً الرسائل التالية:
"عندما نقبل قصتكم وتقبلون قصتنا سنتمكن في نهاية المطاف من العيش سوية" (بالعبرية، ومن دون توقيع).
"ما شاهدته اليوم مؤثر ومؤلم أيضاً. فمع أني أعيش هنا منذ أكثر من 35 عاماً، إلّا إنني أشعر بالأمل، وبضرورة عودتكم إلى هذه الأرض لتحيوها بمشاعر الماضي وبثقافتكم أنتم يا سكانها، فالأرض ليست مجرد حجارة، بل هي قيم وجذور وحب للمكان، ولا مكان للتهجير. قلبي معكم" (إفرات كاتس من كيبوتس نير عوز، بالعبرية).
"لمَن عاشوا هنا قبلي، قبل أن أولد، وقبل أن أعرف شيئاً عن الصراع: أتمنى لو كان في إمكاننا أن نتشارك بسلام هذه الأرض الجميلة، لأن ذلك كان سيوفر علينا كثيراً من العناء وسفك الدماء. وكشخص يعيش في نيريم، أود أن نعيش كجيران نحترم حيوات بعضنا وبيوتنا، فأنا لا أزال مؤمنة بالحلم المسمى (سلام)، وقد نلتقي يوماً ما" (أديل رايمر، بالإنجليزية).
"نمد يدنا للسلام. نتمنى أن نلتقي بأناس من المَعين وأن نتحدث معهم. فقط بعد العرض الذي نظمه إيتان تعرفنا إلى تاريخ هذا المكان" (عائلة كروتنبرغ من كيبوتس ماغين، بالعبرية).
ورقة رُسمت عليها وردة وكُتب عليها عبارة "للمستقبل" (بالإنجليزية، ومن دون توقيع).
"كيهودية إسرائيلية أتمنى عودتكم. يجب أن يعود كل مَن يرغب في العودة. أتمنى أن يحالفني الحظ لأرى ذلك في حياتي. أُقرّ بأنكم طُردتم ومُنعتم من العودة. أتمنى أن نتمكن جميعاً من العيش معاً على هذه الأرض" (بالإنجليزية، ومن دون توقيع).
"أتمنى أن تتم عودتكم في يوم قريب، وأن نتمكن من العيش معاً، وأن يُثري كل منا حياة الآخر" (المخلصة نعومي، بالإنجليزية).
"ستتحرر فلسطين، وعندما تتحرر فلسطين سنتحرر جميعاً. أنتم دائماً حاضرون في أفكارنا وأفعالنا. مع المحبة والأمل من أرض فلسطين الجميلة" (بالإنجليزية، ومن دون توقيع).
"حزين ومؤلم. كم أتمنى أن نعيش في سلام ومحبة" (أورنا، بالعبرية).
"ننتظر عودتكم! وكلما كانت أسرع، كان ذلك أفضل. آسفة جداً على ما فعلناه بكم... لـ 71 عاماً حتى الآن... لنفكك الاستعمار! ولنُنهِ الاحتلال!" (إليونور، بالإنجليزية).
"قرأت وشاهدت ولاحظت وتأثرت وتألمت وحزنت وغضبت. كم ظَلمنا بلا معنى باسم اليهودية والصهيونية والاستعمار. قلبي معكم" (سيغال، بالعبرية).
"أملي أن نحيا في سلام وسكينة" (ماريانا، بالعبرية).
"تأثرت جداً جداً. أتمنى أن يحل السلام بين شعبينا" (بالعبرية، ومن دون توقيع).
"يؤسفني أنكم لا تعيشون معنا هنا، ويؤسفني أن بلدي عاملكم بقسوة شديدة وبصفاقة وفظاعة. لا أتمنى لكم إلّا مستقبلاً أفضل" (سو شاشتر، بالإنجليزية)
"ألمكم ألمي. يؤسفني أن قصتكم أُخفيت عنّا لسنين. هذا المعرض مجرد تعبير رمزي عن بداية جبر الضرر الذي لحق بكم" (نعوميكا تسيون، جارتكم من سديروت، بالعبرية).
"الأرض لا تفرق، فهي تستضيف كل سكانها من دون تمييز. يسرنا أن نقيم في مختلف أرجائها مجتمع المساواة والتشارك، لأيام أفضل" (درود 19 عاماً، ونور 17 عاماً، بالعبرية)
"مؤثر للغاية. أتمنى أن تكون بارقة أمل بيننا نحن الذين نعيش على مقربة من بعضنا البعض. رسالتي هي الحوار، فقد يتطور الحوار إلى حسن جوار" (نعومي غومي من كيبوتس نير عوز، بالعبرية)
"السلام، السلام، السلام. هو كل ما تريدونه ونريده" (المخلص حايوتاه من كيبوتس نير عوز، بالعبرية).
وسأورد فيما يلي الرسائل التي كُتبت باللغة العربية، وسأضبط لغتها لتصبح مفهومة للقرّاء:
كتب تال من "مفكك الاستعمار":
"أحبائي اللاجئين من المَعين، اسمي تال، وأريد أن أعيش معكم في سلام وأمل ومحبة. خرج أهلي من العراق في سنة 1970، وهاجروا إلى هذا البلد (إسرائيل / فلسطين). أنا متضامن معكم ومع الشعب الفلسطيني، وأتمنى أن نعيش مع بعضنا البعض إن شاء الله، فأرضي هي أرضكم، وبيتي هو بيتكم، ونحن ننتمي إلى العائلة نفسها."
"نتطلع إلى عودتكم القريبة، هذا وطنكم، ولكم الحق في أن تعودوا وتعيشوا فيه إن شاء الله".
غير أن المشهد ليس شاعرياً، ولا غاية في الوردية، ففي مقابل تلك الرسائل، ثمة أُخرى تفيض حباً وسلاماً لكن "من بعيد"، إذ لم يُعترف بالنكبة، ولا بحق العودة:
"أعزائي، يشهد الناس في عالمنا مواقف صعبة في كثير من الأماكن، وكم هو مؤسف ذلك. لقد أُجبرتم على ترك بيوتكم، وأنا تركت بيتي وجئت إلى هنا كحل للمشكلة العويصة التي مر بها الشعب اليهودي، شعبي. آمل بأن تتحلوا بالشجاعة والقوة لتجعلوا بيئتكم جيدة ومزدهرة مثلما فعلنا. اِعملوا على إيجاد سبيل للعيش المشترك بين شعبَينا" (بالعبرية، ومن دون توقيع).
"شاهدت المعرض، واستمعت إلى الجانب الآخر. يؤسفني أن الأمور جرت على ذلك النحو، لكن لكل عملة وجهان. أرجو أن يتحقق السلام، وأن تستمر العلاقة بيننا لما فيه خير الجميع. أتمنى أن يكون الأمر بيننا على هذا النحو" (بالعبرية، ومن دون توقيع).
"تؤسفني معاناتكم، فنحن جميعاً أفراد في الأسرة البشرية، لكنكم تتعرضون للمعاناة والتهديد على يد إخوانكم المسلمين أكثر من ذلك بألف مرة. لو أن الأمور جرت بشكل معاكس لما طُرحت مسألة العودة إلى الديار، لأننا لو عدنا لتعرضنا للذبح. أتمنى أن يحل السلام والتعايش" (بالعبرية، ومن دون توقيع).
كانت تلك الرسائل المكتوبة. أمّا النقاش الحاد الذي دار على أرض المَعين وعلى صفحة الدعوة إلى المعرض في الفيسبوك، فشهد كثيراً من الأقوال المحكومة بالمنطق "الأزعر" الشعبوي الصهيوني، والتي لم تخلُ من تشنج وصراخ في بعض الأحيان. وفيما يلي عيّنات من ذلك:
"كانت حرب بيننا وبينكم، أنتم هاجمتمونا وخسرتم الحرب، لذلك عليكم تحمّل النتائج!" (من دون توقيع).
"القلب يعتصر، لكن للعقل كلاماً آخر، فما حدث ]تهجير أهل المَعين[ لم يكن كل شيء، وإنما كان جزءاً واحداً فقط من الحقيقة" (من دون توقيع).
"لن نصل إلى اتفاق مع الفلسطينيين حتى لو قبلنا حق العودة!" (من دون توقيع).
"لا أريد دولة عربية هنا!" (من دون توقيع).
ما انفك الجمهور الإسرائيلي يميل إلى التطرف، وهذا الأمر ليس مفاجئاً، ذلك بأن الأسس التي قامت عليها دولة إسرائيل ما كان لها إلّا أن تؤدي إلى ذلك، لكن علينا كفلسطينيين ألّا نغفل دور استخدام الخوف كأداة للدعاية الصهيونية، فالعرب "يريدون إلقاء اليهود في البحر"، ويريدون "القتل والدمار"، ويريدون بعودتهم "أن يجعلوا من البلد نسخة أُخرى من الدول العربية"، ويريدون "أن يعودوا وأن يصبحوا أكثرية تعامل اليهود مثلما يعامَل المسيحيون في مصر أو العراق، وأن يفرضوا إسلامهم الإرهابي." صحيح أن إلقاء اليهود في البحر لم يكن فكرة فلسطينية، وصحيح أن عودتنا ليست مرادفاً لطرد اليهود أو نشر الظلامية، لكن تصدّر الصواريخ لخطابنا العام، وما سبق ذلك من عمليات انتحارية في المطاعم والحافلات في التسعينيات، أعطى ذرائع جاهزة لتعزيز الفاشية والخطاب العنصري المستشريَين أصلاً داخل إسرائيل.
يقودنا ما تقدم إلى معادلة الجدوى والأخلاق، فقد سقط فعلياً خيار تحرير فلسطين بالبندقية في أيلول / سبتمبر 1970، ليس فقط بسبب المعارك التي دارت في الأردن، بل لغياب استراتيجيا التحرير. فإرسال المقاتلين في مجموعات تطلق النار على ما تيسر من الأهداف من دون تمييز بين مدني وعسكري ما كان له أبداً في الأمس أن يعيد أي لاجىء، كما أن إطلاق الصواريخ اليوم من داخل ركن معزول داخل فلسطين، ومن بين المدنيين، لتسقط على رؤوس مدنيين آخرين، لن يعيد أحداً. وفي المقابل، من المستحيل، بل من العبث أن يكون الاعتراف بإسرائيل، والقبول بدويلة على شذرة من أرض فلسطين، حلاً لقضية جوهرها عودة اللاجئين.
لذلك يجب أن تجري مناقشة فكرة اعتماد الحل الذي قد يحقق تطلعات الشعب الفلسطيني بأقل كلفة، أي حل الدولة الواحدة. ورب منتقد يقول إن إسرائيل رفضت هذا الحل عندما تبنّته منظمة التحرير الفلسطينية حتى سنة 1969، وإن إسرائيل لن تقبل بحق العودة، ولذلك علينا أن نضربها بكل قوة. والرد على ذلك هو أنه في الواقع لم يحدث قط أن قبل المضطهِد أي حل يطالب به المضطهَد، وأن حل الدولة الواحدة موضوع نضال لا هوادة فيه، لكن من دون الانجرار إلى مربع العنف الذي تنشده الآلة الحربية الصهيونية، ولا إلى مربع التنازلات الذي تعشقه دبلوماسيتها، ولا التنسيق الأمني الذي تحتاج إليه أجهزتها الأمنية.
على الرغم من التشرذم الفلسطيني وغياب الاستراتيجيا، وعلى الرغم من وصول الفاشية والعنصرية إلى مستويات غير مسبوقة في إسرائيل، فإننا أمام بقعة ضوء مهمة جداً في هذا المشهد القاتم.. أمام مفكّ تقدمي يمكنه تفكيك إسرائيل من الداخل إذا دَعَمه موقف جمعي فلسطيني مؤيد. إن استطلاع[3] مركز "كارتوجيوغرافي" العام الماضي بشأن كتاب "النكبة" الذي ألّفه بالعبرية إيتان برونشتاين وإليونور ميرزا، مؤشر إيجابي، وفيه طرح للسؤال التالي:
لقد أصبح أغلب السكان الفلسطينيين الذين كانوا يعيشون في البلد، لاجئين بعد حرب الاستقلال في سنة 1948، ومنذ ذلك الحين تشتتوا في جميع أنحاء العالم. ويكمن حق عودة اللاجئين الفلسطينيين في تمكين كل لاجىء (وذريته) من الاختيار بين العودة الفعلية إلى المكان الذي كان يعيش فيه في سنة 1948، وأي تسوية أُخرى من باب التعويض. لذا فإن حق العودة يعني أن أكثر من 7 ملايين لاجىء فلسطيني سيختارون العودة إلى البلد. إلى أي حد تدعم أو تعارض حق العودة وفقاً لما تم تفصيله؟
لقد طُرح السؤال بهذه الصيغة التفصيلية للتأكد من فهم المستطلعة آراؤهم للمقصود بالعودة، ليجيب 16,2% منهم بـ "نعم"، أو "نعم للعودة وفق الشروط التي يراها اللاجئون".
إن رؤية جديدة تعتمد حل الدولة الواحدة، دولة فلسطين بعلم جديد ولغتين رسميتين هما العربية والعبرية، دولة ديمقراطية قائمة على مفاهيم العدالة الاجتماعية والرفاه مع ضمان عدم إقصاء أي مكون، كفيلة - إذا ما تُرجمت إلى خطاب لـ "حركة التحرر الفلسطينية" - برفع هذه النسبة أضعافاً.
وتحقيق ذلك متوقف على اقتناع أصحاب المصلحة بذلك، وهم المتضررون من الوضع الحالي في مخيمات اللجوء داخل فلسطين وخارجها، والذين يعيشون في رعب ويعانون أمراض الصهيونية داخل إسرائيل.
فهذا الاقتناع يشكل الخطوة الأولى للتشبيك والتعبئة والنضال الطويل المستنير نحو تحرير فلسطين إذا كان التحرير يعني عودة اللاجئين.
[1] يمكن الاطلاع على المقطع الخاص بقرية حمامة، في موقع يوتيوب، في الرابط الإلكتروني التالي: https://www.youtube.com/watch?v=x
[2] لم يُرفع المقطع المصور الخاص بالمَعين على يوتيوب، فهو لا يزال في جولة عرض في إسبانيا وفرنسا حتى لحظة كتابة هذا النص.
[3] انظر نتائج الاستطلاع، في الرابط الإلكتروني التالي: https://tv.social.org.il/wp-content/uploads/documents/seker-shiva.pdf