جاءت انتخابات الكنيست في أيلول / سبتمبر 2019 نتيجة قرار رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو حل الكنيست وتحديد موعد انتخابات مبكرة بعد فشله في ضمان حكومة يقودها وتتمتع بأغلبية برلمانية. وقد حدث هذا على الرغم من أن القوى السياسية اليمينية المحافظة والمؤيدة له حصلت، في الانتخابات التي جرت في نيسان / أبريل 2019، على أغلبية مطلقة (65 عضواً من أصل 120).
جرى حل الكنيست بعد رفض رئيس حزب "إسرائيل بيتنا" أفيغدور ليبرمان، الحائز خمسة مقاعد نيابية فقط، الانضمام إلى حكومة نتنياهو لاشتراطه المصادقة على مشروع قانون التجنيد للجيش الإسرائيلي ليشمل اليهود الأرثوذكس، وهو ما عارضه حزبا "شاس" (يمثل اليهود الشرقيين المتدينين التقليديين)، و"يهودوت هتوراه" (يمثل اليهود الأشكيناز المتدينين التقليديين أو الأرثوذكس). ومثلما هو معروف، فإنه يتعايش في الحقل السياسي الإسرائيلي خليط من أحزاب دينية وأحزاب علمانية (أكبرها "الليكود"، وقد انضم مؤخراً إليها حزب أزرق أبيض، فضلاً عن ميرتس وحزب إسرائيل بيتنا) تتباين في حجومها في البرلمان، وفي توجهاتها الاقتصادية والاجتماعية.
يمكن إبداء ثلاث ملاحظات بشأن الانتخابات البرلمانية الأخيرة، والتي نجحت فيها 11 قائمة في الحصول على مقاعد في الكنيست، منها القائمة العربية المشتركة:
أولاً، غياب الجدل بين الأحزاب الإسرائيلية اليهودية بشأن المسألة الفلسطينية، وخفوت الاهتمام بالقضايا الاجتماعية والاقتصادية، في حين انحصر همّ كل تنظيم أو تكتل انتخابي، بشكل أساسي، في زيادة مقاعده في الكنيست لما تعنيه هذه من زيادة حصته من الامتيازات والميزانيات.
ثانياً، أن الأحزاب المتنافسة اعتمدت في خطابها العام لغة هوياتية مبنية على رؤيتها إلى مصالحها الفئوية، وإن استخدمت لغة المصلحة العامة والمخاطر الأمنية المحدقة (مثلما تصورها نخبها السياسية) بالدولة الإسرائيلية.
ثالثاً، سيادة سياسة إنكار تام لدى الأحزاب الإسرائيلية اليهودية لحقيقة كون إسرائيل دولة استعمارية استيطانية تقود نظام تمييز عنصري تجاه الشعب الأصلي وفضائه وحركته وموارده (الأرض؛ المياه؛ الأجواء؛ الحدود)، وغياب انتقادها لسلوك الدولة الإسرائيلية المتنكر للقانون الدولي والقيم والأعراف الإنسانية، وقبولها الدعم والإسناد من القوى الرجعية في العالم، وخصوصاً من الدول الاستعمارية الاستيطانية التي نجحت في تصفية السكان الأصليين وتهميشهم (كالولايات المتحدة وأستراليا وكندا).
يرى البعض، وعن حق، أن شكل المواجهة الحزبية في الانتخابات الأخيرة بين الليكود وحزب أزرق أبيض، أشار إلى مسعى لتحويل النظام السياسي الإسرائيلي من نظام قائم على التعددية الحزبية إلى نظام قائم على حزبين كبيرين، على غرار الولايات المتحدة وبريطانيا. ومن المؤشرات إلى هذا الأمر:
رفع نسبة الحسم في الانتخابات العامة إلى 3,25%، وسعي كل من الليكود وأزرق أبيض للحصول على عدد من المقاعد تمكّنه من تأمين أغلبية عددية، وإن بالتحالف مع أحزاب صغيرة، بما يتيح تشكيل حكومة.
استمرار التعويل على الأحزاب الصغيرة، الأمر الذي يُفقِد الحزب أو التكتل الحاكم أغلبيته في الكنيست، ويجعله عرضة للابتزاز.
إن تحوّل النظام الانتخابي الإسرائيلي إلى نظام الحزبين الكبيرين، إن تم، لن يضمن الاستقرار لنظام سياسي محدد في مجتمع قائم على تعددية إثنية، ودينية، وقومية. وهي تعددية تحفّز مأسسة تشكيلات سياسية هوياتية لضمان مصالحها الفئوية. كما أن استناد نظام حزبي قائم إلى قطبين كبيرين، لن يحول دون تشكل تكوينات هوياتية تتقاطع مع مصالح طبقية وسياسية واعتبارية، وخصوصاً في نظام تهيمن عليه أيديولوجيا شمولية مبنية على اللامساواة البنيوية المتقاطعة مع تشكيلات طبقية وإثنية ودينية وقومية، وتتبنّى تمييزاً عنصرياً تجاه السكان الأصليين. بتعبير آخر، إن مأسسة نظام الحزبين، إن تم، لن تحمي من الصراعات التي تتقاطع فيها الهويات الموروثة مع عدم المساواة البنيوية التي تعمقت مع هيمنة الرأسمالية النيوليبرالية.
ويبدو أن التحولات الاجتماعية - الاقتصادية التي دخلت على المجتمع الإسرائيلي في العقود الأخيرة، بما فيه نمو طبقة وسطى وازنة، وترافُقها مع تحولات في المجتمع اليهودي الإسرائيلي نحو التديّن الأصولي والقومي المتعصب، ساهمت في توليد توتر بين اتجاهين: الأول يتبنّى ويرعى الانتماء الديني الأصولي، وهو اتجاه يسعى لتحويل إسرائيل إلى دولة يهودية أصولية تسيّرها الشريعة اليهودية، وتستثني من حقوق المواطنة مَن هم من غير اليهود؛ والثاني يتمسك بالعلمانية كسمة محددة لهوية الدولة من دون المساس بالبنى المؤسسة لعدم المساواة البنيوي (الطبقية والإثنية والقومية). ولا يجد الاتجاهان والتكتلان الأكبر غضاضة في التعامل مع العرب الفلسطينيين بمنطق استعماري استيطاني عنصري.
في ظل هذا الاستقطاب، يجد الفلسطينيون العرب من حملة الجوازات الإسرائيلية، أنفسهم خارج حسابات الكتلتين البرلمانيتين الأكبر كونها حسابات يحددها المنطق الاستعماري الاستيطاني بخصوصيته الصهيونية. فكل من الكتلتين حرص على تهميش الحضور السياسي والاجتماعي الفلسطيني وتحييد تأثيراته في المجتمع الإسرائيلي اليهودي، وهو ما سعى إقرار قانون القومية اليهودي لتكريسه. كما يجد كل من التيارين ما يسنده، راهناً، في التحولات الجارية على الصعيدين الدولي (تزايد اتجاهات الشعوبية المحافظة والقومية اليمينية)، والعربي، متمثلاً في توجهات النظام العربي الرسمي تجاه إسرائيل وداعمها الأميركي.
إن التعبيرات التنظيمية السياسية للتكوينات السياسية الهوياتية الأفقية في إسرائيل، والمترافقة مع الانقسام العمودي بين الاتجاه المتدين الأصولي، والعلماني اليميني، واتساع حدة الفجوات الطبقية في المجتمع، تشكل أحد مكونات المأزق الإسرائيلي الرئيسية. صحيح أنه يجب عدم المبالغة في تأثير هذا الواقع في رسم توجهات النخبة السياسية الإسرائيلية، إلّا إن من غير الحكمة تجاهله في رسم الاستراتيجيا السياسية الفلسطينية تجاه المجتمع الإسرائيلي ومؤسساته، بما في ذلك الكنيست.
مأزق إسرائيل الاستراتيجي
ضمن هذا الفهم لسمات أساسية للحقل السياسي الإسرائيلي الذي تهيمن عليه أيديولوجيا الشمولية الاستثنائية، يجب تحديد اتجاه الفعل الفلسطيني السياسي والثقافي، وهو فهم ينطلق من إدراك أن السياسة الاستعمارية الاستيطانية التي اعتمدتها الحركة الصهيونية منذ أكثر قرن، وواصلتها إسرائيل منذ سنة 1948، واستمرت في تبنّيها منذ سنة 1967، فشلت في تحقيق هدفها المتمثل في تطهير أرض فلسطين من سكانها الأصليين. واليوم، وبعد انقضاء أكثر من عشرة عقود على هذا المشروع الاستعماري، لا يزال ما لا يقل عن نصف الشعب الفلسطيني يقيم على أرض وطنه التاريخية، كما أن عدد الفلسطينيين لا يقل عن عدد اليهود الإسرائيليين.
لقد فشل الاستعمار الصهيوني في المهمة التي أنجزها استعمار أميركا وكندا وأستراليا وغيرها. ونحن في هذا السياق بحاجة إلى التمعن في دلالات فشل المشروع الصهيوني في تصفية وجود الشعب الفلسطيني من على أرض وطنه، وفشله في إخماد حيوية الوطنية الفلسطينية لدى مكونات الشعب الفلسطيني داخل فلسطين التاريخية وخارجها. ويجب التمعن أيضاً في حقيقة أن مأزق الحركة السياسية الفلسطينية المركب، وتفكك حقلها السياسي الوطني إلى مكونات محلية بعد تهميش واختفاء مؤسساتها الوطنية الجامعة، لم يُفقِدا الوطنية الفلسطينية حيويتها، ولا تمسّك الشعب الفلسطيني بروايته التاريخية المتجددة الفصول، وبجغرافيا الشعب الفلسطيني وديموغرافيته ونضاله. وعلى الرغم ممّا دخل على النظام العربي الرسمي من لمحات تطبيعية، ومن تبهيت لحقوق شعب فلسطين وتزييف لروايته، فإن الشعوب العربية لم تشارك نخبها السياسية الحاكمة هذا التحول، وإنما هي ما زالت على انحيازها إلى قضية الشعب الفلسطيني وعدائها للصهيونية ولإسرائيل الاستعمارية. وهناك ما يدعم الاعتقاد بأن ثمة تحولات مهمة في الرأي العام العالمي (خارج المؤسسات والأجهزة الرسمية) - بما في ذلك في الولايات المتحدة وأوروبا - لجهة إدراك ما تمثله إسرائيل من قيم وسياسات رجعية وعدوانية لكل ما هو تقدمي، فضلاً عن دعمها لكل ما هو عنصري ومتخلف ورجعي في العالم.
نحو رسم اتجاه الفعل الفلسطيني
إن إدراكنا لكل ما يجري أمر ضروري لمنع تحويل المسألة الفلسطينية الوطنية إلى مسائل جزئية يصبح كل منها موضوعنا الشاغل، وهو ضروري كي لا نقع في شباك منطق الرأسمالية الليبرالية المتوحشة التي تختزل المجتمعات إلى مجرد أفراد وسوق (عمل وسلع) يحركها دافع الربح الخاص أولاً وآخراً.
الأمر الذي يجب أن يوجه الفعل الفلسطيني إزاء النظام السياسي الإسرائيلي الداخلي ومؤسساته، هو السعي لإرهاقه وتفكيكه بالتدريج على المدى المتوسط والطويل، وإضعاف هيمنة الصهيونية على المجتمع الإسرائيلي اليهودي وتنمية التناقضات داخله وتوسيع دائرة التأييد للحق الفلسطيني في التحرر والمساواة والعدالة.
ولعل المهمة الفلسطينية الأولى هي توحيد الحركة السياسية للشعب عبر بناء مؤسسات وطنية جامعة على أسس ديمقراطية تنسحب على المستويات السياسية والقطاعية والمهنية والثقافية من أجل تمثيل حقوق ومصالح الكل الفلسطيني.
إن غياب هذه المؤسسات التمثيلية الجامعة كان سبب القلق إزاء الاعتبارات التي تحكمت في سلوك القائمة المشتركة في الانتخابات الأخيرة (وما سبقها)، وفي رؤيتها إلى مصالح الفلسطينيين في إسرائيل وحقوقهم، مع الأخذ في الاعتبار غياب وضوح الرابط بين هذه الحقوق وحقوق ومصالح الكل الفلسطيني. والحقيقة أن القلق الفلسطيني العام الراهن مصدره مشاهد انجرار النخب السياسية لمكونات الشعب الفلسطيني (داخل فلسطين التاريخية وخارجها) إلى منطق الاعتبارات المحلية خارج نص الكل الفلسطيني.
كما أن تفكك الحركة السياسية الفلسطينية إلى حركات محلية كان وما زال محرك الدعوة إلى صوغ مشروع وطني للكل الفلسطيني: مشروع لا يستثني خطط تنمّي وتصون حقوق ومصالح كل تجمّع في سياق منسجم مع حقوق ومصالح الكل الفلسطيني. وعلى المشروع السياسي الفلسطيني الجامع – على الرغم ممّا يستشري من سياسات عدوانية ويمينية وعنصرية في إسرائيل تجاه الشعب الفلسطيني - أن يناقش رؤيته إلى مستقبل اليهود الإسرائيليين، وأن يطرح حلاً يناقض ما يطرحه المشروع الصهيوني الاستعماري الاستيطاني من حيث القيم ورؤية المستقبل. وهنا يجب مناقشة مستقبل العلاقة بين الفلسطينيين العرب واليهود الإسرائيليين، بما في ذلك الرؤية إلى دولة ديمقراطية علمانية واحدة تعيد توحيد أرض فلسطين التاريخية، وتتصدى للظلم التاريخي الذي ألحقته الحركة الصهيونية والقوى الداعمة لها بالشعب الفلسطيني، والأذى الذي سببته لشعوب عربية أُخرى.
ولا يستطيع المشروع السياسي الفلسطيني أن يتجاهل الواقع الذي تشكَّل على أرض فلسطين التاريخية جرّاء المواجهة مع المستوطنين المستعمرين، ومع سياسات التطهير العرقي. وهو واقع يشتمل على سمتين بارزتين يصعب تجاهلهما: الأولى، أن ليس للإسرائيليين (مثلما كانت حال المستوطنين الفرنسيين في الجزائر) بلد أمّ يعودون إليها وتعترف بهم كمواطنين، إذ إن أغلبية هؤلاء باتت تحمل هوية إسرائيلية يهودية؛ والثانية يرسمها فشل المشروع الصهيوني في تصفية فلسطين من شعبها الأصلي، على الرغم من العقود العديدة على بدء العمل بهذا الأمر، وعلى الرغم من استخدام المشروع الصهيوني أشكالاً متعددة من العنف والإرهاب والقمع لدفع الشعب الفلسطيني إلى التخلي عن حقوقه.
ويجب التشديد على أن طرح مشروع وطني نضالي جديد طويل الأمد (الدولة الديمقراطية الواحدة أو الثنائية القومية) - وهو ما يتعين على مكونات الشعب الفلسطيني كلها أن تناقشه بعمق وحكمة - لا يعني التوقف عن مواصلة النضال (بأشكاله الملائمة التي تخدم الهدف)، محلياً وإقليمياً ودولياً، بل ربما يعني التشديد على ضرورة هذا النضال ووضوح هدفه، مع العمل على كشف جميع أشكال التزوير والتزييف والطمس لروايته وتاريخه النضالي الطويل.