دون تردد يبني الفنان عبد الرحمن قطناني مخيماً في وسط صالة العرض في غاليري صالح بركات في بيروت ضمن معرضه الأخير بعنوان "عصف فكري" (Brainstorm)، مقسماً الصالة إلى جزئين؛ داخلي يستكشف المخيم ومكنوناته، وخارجي يتعامل مع علاقة المخيم بالعالم المسؤول عن إيجاده. ويعرض للمشاهد أربع مجموعات تحاكي بعضها بعضاً أنجزت جميعاً من مواد معدنية مختلفة من وحي المخيم.
يستخدم قطناني في بناء مخيمه الأشبه بموقع تصوير فيلم، مواد من الحياة اليومية تتحول إلى قطع كولاج في عمل فني تركيبي، يذكرنا بأعمال الفنان الأميركي روبرت روشنبرغ مع اختلاف الموضوع المتناول بالطبع. ويوفر قطناني للمشاهد إمكانية التجول في أزقة المخيم الضيقة قبل أن يخرجه إلى مساحة شاسعة تصدمه وتريه النقيض بعد أن تنتهي الأزقة.
وفي أول زقاق تسير فيه في المخيم تجد نفسك محاطاً بالمرايا من جهتين، فتنظر من حولك إلى صور متكررة لانهائية من الأزقة، وكذلك تتكرر ألواح الزينكو والصفائح المعدنية الملونة التي صنعت منها جدران المخيم وبيوته ودكاكينه بشبابيكها وأبوابها الصغيرة، والأقفال وحنفيات المياه، وأعمدة الكهرباء والأسلاك المتشابكة الممتدة عبر سماء المخيم الضيقة.. وللحظات يبتلعك المكان. ولكن عندما تحاول استيعاب المشهد، سرعان ما تتحول إلى جسم دخيل؛ وتصر المرايا على الحفاظ على مسافة بينك وبين صور المخيم المتكررة إلى المالانهاية، لتشعرك وكأن المخيم يلفظك خارجاً.
ولد عبد الرحمن قطناني في مخيم صبرا بعد عام واحد من المجزرة، وعاش في المخيم كطفل وشاب يسمع قصصاً لا تنضب عن فلسطين وعن الرجوع إليها تتكرر كما المرايا وكتوالي الأجيال في المخيم. طرح قطناني أسئلة حول العودة إلى فلسطين، كطفل وكشاب على الأجيال التي عاشت النكبة، ودائماً كانت الإجابات مبهمة دون أفق، تتمحور حول الانتظار.
ماذا يعني لقطناني ولـ أكثر من ٦ ملايين لاجىء فلسطيني العيش في مخيمات اللجوء في وضع مؤقت ودائم في الوقت ذاته؟ فالمكان مؤقت بفكرته ومساحته وببنيته التحتية، وبالمواد المستخدمة لبنائه، ولكن مؤقتيته المستمرة منذ أكثر من ٧١ عاماً تتحول إلى ديمومة. بالنسبة إلى قطناني يشعره ذلك بأنه في سجن لا يتمنى لأحد العيش فيه ولا الدخول في سيكولوجيته. وبالنظر إلى الحالة السياسية والتهميش الذي طال اللاجئين على مر السنوات، يؤرقه شعور بأن الخروج منه غير ممكن.
أراد قطناني لجمهور معرضه أن يصبح جزءاً من العمل، وأن يشعر بوضع المخيم المؤقت وتكرار الوقت والأسئلة، واختفاء الأفق، والتموضع في قلب المخيم حيث يختفي الزمن ويكبر المكان ليبتلع أحلام الأجيال الجديدة. فالمؤقت يتكرر كل يوم، كما تتكرر الأزقة وحالة اللجوء، والأسئلة حول انتهاء الحالة المؤقتة، ويساهم كل ذلك في حالة لانهائية من الانتظار ودائرة تكرار مغلقة تعاد فيها القصص والحكايا والآمال والأحلام المتجددة مع كل جيل يحمل الأسئلة نفسها.
انتقال قطناني من مخيم صبرا إلى بيروت فباريس، غيّر من تفكيره حول الفن. فقد اتسمت أعماله عندما كان يعيش في المخيم بصغر حجمها، وصارت تكبر عند انتقاله إلى بيروت. وعندما ذهب إلى باريس في إقامة فنية، تغير إحساسه بالمساحة، وأصبح ينظر إلى قاعة العرض سلفاً قبل أن يقرر كيف بالإمكان استغلالها لعرض عمل فني واحد كبير فيها. وفي هذا المعرض، يطبق قطناني رؤيته الجديدة بعرضه أعمالاً ضخمة، صممت خصيصاً لصالة العرض بوحي من المخيم الذي ولد وعاش فيه معظم حياته وواكبه بصرياً في اللاوعي وسيطر على حياته وذاكرته وتوجهه الفني.
الموجة
موجة شائكة
تنتهي أزقة المخيم، والمساحات الضيقة التي تحيط بالمشاهد من كل صوب، حين يدلف إلى فضاء واسع تتصدره موجة فضية ضخمة، كأنها جزء من تسونامي يهاجم المكان. وتبدو الموجة من بعيد مائية لامعة منسابة وملساء، ولكن عند الاقتراب منها تتكشف تفاصيلها المذهلة، لتشكل نقيضاً لما نراه عند الوهلة الاولى: عمل تركيبي ثلاثي الأبعاد يتألف من أسلاك شائكة حيكت باستخدام النول الذي طوره الفنان لإنتاج العمل، والناتج سجادة معدنية شائكة ضخمة على هيئة موجة بالإمكان استكشافها من ثلاث جهات وتبدو كشريط شوك يهاجم المشاهد فور خروجه من المخيم.
يقول قطناني"صنعت نولاً بمواصفات محددة لأتمكن من نسج الأسلاك الشائكة بطريقة طولية وعرضية. لا نستخدم القفازات بتاتاً في النسيج، بل نستخدم أيدينا للوصول إلى النتيجة التي نبتغيها". بالنسبة إلى قطناني الموجة المنسوجة من أسلاك شائكة تستكشف الحدود الفردية والحدود التي تفرضها العادات والتقاليد التي يبنى منها النسيج الاجتماعي في المخيم. ويقول "لاستيعاب هذا النسيج يجب تحليله خيطاً خيطاً وتفككيه أو تقبله وتركه كما هو." ويضيف "الشريط الشائك المنسوج يمثل حدود العادات والتقاليد التي تتحول إلى موجة ضخمة عند مراكمتها، هذا النسيج من شأنه أن يكون شوكاً وأن يثير النزاع بين اللاجئين أنفسهم في المخيمات نتيجة لتراكم الضغوطات النفسية، يمكنه كذلك أن يتحول إلى موجة من التغيير، فيتم استغلاله لقلب الموازين وليصبح ثورة من أجل التحرر من الحدود الشخصية التي يضعها المجتمع والتخلص من سطوة القيود، فالتحرر الفردي الذي يرتبط بقرار شخصي عند كل فرد، هو أساس التحرر الجمعي".
زقاق المخيم
يستخدم قطناني المعدن عبر معرضه هذا، من ألواح الزينكو إلى صفائح من براميل نفط فارغة، والأسلاك الشائكة وصفائح علب السمنة والجبنة والزيت وغيرها. وتأتي مهارته في العمل على هذه المواد طبيعية بحكم حياته في المخيم. ساعده كذلك عمله في ورشة والده للنجارة منذ الصغر على التحكم في المواد وتطويعها، فقد اعتاد على استخدامها في الإصلاح والبناء. فعندما تتسرب مياه الشتاء من غرف البيت في المخيم، "نحضر على الفور قطعة زينكو ونثبتها أو نحضر قطعة من الحديد وندقها هنا وهناك، ونستخدم المواد المتوفرة حولنا ومنها براميل النفط الفارغة التي تكثر حول المخيم لحلول سريعة."
إضافة إلى المخيم والموجة، يضم المعرض مجموعتين أخريين تواجه وتحاكي إحداهما الأخرى. وتجسد الأولى أطفالاً يلهون، صنعت من ألواح الزينكو، تقابلها الثانية والتي نفذت من خلال تفريغ صور لشخصيات معروفة على أغطية براميل نفط حمراء.
تبدو ظلال الأطفال في المجموعة الأولى كبيرة جداً بالمقارنة مع حجم الأجساد الصغيرة، وكأن الأطفال يلهون في العتمة بالقرب من شمعة تضخم ظلالهم بشكل مبالغ مستخدماً الزينكو لصناعة الظلال وكأن ظلال الأطفال هو امتداد المخيم. ويؤكد قطناني في مجموعته هذه على توق الأطفال اللاجئين المهمشين الذين أُسقطوا من كافة الحسابات السياسية، إلى الفرح وإلى حياة طبيعية "ليس تحت احتلال ولا في مخيم لجوء"، رغم أن ظلهم "ظل المخيم" يتبعهم أينما ذهبوا حتى في أوقات اللعب.
مخيم
وتستعرض المجموعة الثانية وجوه شخصيات معروفة بعلاقتها مع النفط والسياسة في آن واحد، وجوه مفرغة حفرها قطناني على أغطية براميل نفط ملونة بالأحمر القاني دائرية الشكل، وجعلها تحتل جداراً كاملاً يختفي خلفه المخيم الذي يعيش في ظل السياسة والاقتصاد اللذين يتحكمان به. يقول قطناني، "كان للنفط دور متناقض عبر تاريخنا، فقد كان داعماً للثورة الفلسطينية وحركات التحرر الوطني في إحدى الفترات، ولكنه يستخدم اليوم ضدنا كفلسطينيين، وتحول إلى شيك مفتوح يدعم إسرائيل في حربها على غزة ويلعب دوراً في الحصار الاقتصادي على الفلسطينيين في المنطقة، فهو مادة تقوم عليها الرأسمالية العالمية الداعمة لإسرائيل والتي أصبحنا بسببها لاجئين".
يدعو معرض "ثورة فكرية" إلى إيجاد مساحة للتفكير معاً كفلسطينيين لاجئين وإلى إيجاد قواسم مشتركة والعمل الجماعي للخروج من الظل ومن دائرة مفرغة تتكرر بشكل مالانهائي والتحرر من سطوة السياسة والاقتصاد.
معرض عصف فكري (Brainstorm) لعبد الرحمن قطناني، غاليري صالح بركات، من ٨ تشرين الثاني/ نوفمبر 2019 حتى 31 كانون الثاني/ يناير ٢٠٢٠.