Cry of Dawn: Between Promise and Menace!
Date: 
November 20 2019

جولة أخرى

وقع حادث الاغتيال المزدوج للقياديين في حركة الجهاد الإسلامي بهاء أبو العطا وأكرم العجوري (الذي نجا من الاغتيال) وما تبعه من ردود أفعال واندلاع جولة من التصعيد، عند تقاطع مجموعة من المنعطفات الحرجة والتوترات المتصاعدة والمسارات المتعارضة في المنطقة. لذا تستحق هذه الجولة مزيداً من القراءة والتحليل.

لم ترتق الجولة إلى مرتبة الحدث الاستراتيجي، إذ لم ينجم عنها تغيير جوهري في قطاع غزة. وأعلنت مصادر إسرائيلية أن الأمر لا يتعلق بالعودة إلى نهج الاغتيالات وإنما "عملية إحباط مركز" ضد "قنبلة موقوتة".

بدأت الجولة بضربة دقيقة ومعقدة طالت بهاء أبو العطا وزوجته، ما عدته بعض الأوساط نجاحاً استخباراتياً وعملياتياً بتوجيه مباشر من رئيس الأركان الإسرائيلي بعد مصادقة المجلس الوزاري المصغر للشؤون الأمنية والسياسية. لم تتأخر حركة الجهاد الإسلامي في الرد، بينما صمتت حركة حماس. تدخل المصريون والمبعوث الأممي وأُوقف إطلاق النار بالموافقة على شروط حركة الجهاد، بينما نفت مصادر إسرائيلية ذلك لاحقاً..

في احتفالات ذكرى تأسيسها 32 استعرضت حركة الجهاد الإسلامي جزءاً من ترسانتها العسكرية التي طورتها بفضل الدعم الإيراني. منذ عام تقريباً عادت العلاقات بين "الجهاد" وطهران إلى طبيعتها، بعد خلاف، وذلك في أعقاب انتخاب زياد النخالة أميناً عاماً للحركة.

الاعتماد على دعم إيران، وعدم انخراط الحركة في مؤسسات السلطة بجناحيها، جعلها تتبع سياسات "مستقلة" فيما يتعلق بالمواجهة مع إسرائيل، وترتبط، في الوقت ذاته، بالموقف الإيراني؛ وهذا بعض ما يميز حركة الجهاد عن حركة حماس، علاوة على تمايزهما الأيديولوجي والتاريخي. ورغم "التنسيق المشترك" والتصريحات الإعلامية الإيجابية، فإن ثمة "توتراً" بين الطرفين منذ سنوات.

انتهت الجولة وعاد الأمر إلى ما كان عليه "هدوء مقابل هدوء". في الواقع، تندرج هذه الجولة ضمن "تشكيل واقع أمني جديد في الطريق الى تسوية بعيدة المدى".

السياق الفلسطيني

بعد إحكام سيطرتها على قطاع غزة، أصبح هدف حركة حماس الاستراتيجي الحفاظ على سلطتها وسيطرتها. في سبيل ذلك بذلت الحركة جهوداً جبارة بالتركيز على "احتكار استخدام القوة"، مع إعطاء هامش محدود لسلاح فصائل المقاومة الأخرى، والتحكم فيه عبر "الغرفة المشتركة" وتوقيع التفاهمات وتشكيل قوات للضبط الميداني.

ورغم تطورها اللافت في ميادين العسكرة والسياسة والاجتماع، وامتلاكها مهارات تنظيمية قوية ومتطورة تمكنها من استمرار سيطرتها على القطاع، فإن حركة حماس تعيش ورطة حقيقية، نتيجة فشل نموذجها في الجمع بين السلطة والمقاومة، وعدم حصولها على الاعتراف السياسي بها. ويبدو أن الحركة لم تعد قادرة على استعادة هيبتها بممارسة "فعل المقاومة" بل بتقييدها، ما يدخلها في تناقض مع ذاتها ومع منافسيها.

هذا، وتواجه حركة الجهاد تناقضاً من نوع آخر، فهي عازفة عن المشاركة في السلطة والاستفادة من منافعها، بينما تراكم عوامل القوة في إقليم انسحبت منه قوات الاحتلال، ومحكوم بديناميات معقدة داخلية وخارجية. وفي ظل التهدئات المتكررة والتفاهمات، تواصل الحركة الترويج لحرب مفتوحة ضد إسرائيل ولا تعترف بالاتفاقيات معها. وتراهن حركة الجهاد، مع تراكم القوة بالمعنى المادي والفوز بقلوب الناس باعتبارها الجهة التي لاتزال تقاوم، على أن تشكل فاعلاً أساسياً يصعب تجاوزه أو عدم الأخذ بمتطلباته داخلياً.

إن من شأن الجولة الأخيرة أن تترك أثراً لا يخفى من حيث زيادة التوتر في صفوف حركة حماس بين القيادة السياسية والذراع العسكري حول أولويات تخصيص الموارد والاهتمامات. إذ أوضحت هذه الجولة أن إسرائيل بالفعل، وحركة حماس بالامتناع، ملتزمتان بعملية التسوية وترغبان فيها. وهذا ما يشكل أحد نقاط الخلاف مع حركة الجهاد. يضاف إلى ذلك، ما يلي في باب الآثار المترتبة:

(1) كشفت الجولة بؤس إدارة صراعنا مع الاحتلال الإسرائيلي؛ فـالحديث المبالغ فيه بخصوص امتلاك القوة ما زال سمة أساسية لخطاباتنا؛ تسود بيننا لغة "الانتقام والثأر"، لا نعترف بالهزيمة عندما تقع، ولا نجري جردة حساب حقيقية عند نهاية كل جولة.

(2) توقيت الجولة لم يكن بريئاً؛ إذ جاء في وقت بدت فيه الأجواء إيجابية في العلاقة بين القوى والتنظيمات الفلسطينية وما توفره من مقدمة للانتخابات على طريق التوافق الوطني وإنهاء الانقسام. فالتصعيد من شأنه أن يحرج أو أن يربك أو أن يزود كل من ليس له مصلحة في الوحدة وإجراء الانتخابات حجة وذريعة.

(3) الجولة كشفت أن الجهوزية العسكرية وحدها لا تكفي لمواجهة طويلة، وأن الجبهة الداخلية تحتاج إلى ترميم وتقويم وإصلاح (يبدأ بالوحدة ولا ينتهي بتلبية الحد الأدنى من الحاجات الأساسية للصمود والمواجهة) وأن التوظيف الفئوي للمعارك الوطنية والتضحيات ما زال سيد الموقف.

السياق الإسرائيلي

مع رشقات الصواريخ انطلقت صافرات الإنذار، توقفت حركة القطارات، توقف التعليم، دخل الملايين إلى الملاجئ، تضرر الاقتصاد وبلغت الخسائر مليارات الشواكل، لحق بالسلامة النفسية وبالروح المعنوية ضرر كبير، أُعلنت حالة الطوارئ حتى مسافة 80 كم من القطاع. تساءل الجميع هل تصفية شخص واحد تستحق كل ذلك؟ بالغ الإعلام الإسرائيلي حين أعلن دخول إسرائيل "في حالة ذعر"!

تفاوت موقف الإسرائيليين في تفسير أسباب الجولة الأخيرة. عدّها البعض مناورة من بنيامين نتنياهو، يسّوق فكرة "الطوارئ" حتى يقطع الطريق على بيني غانتس وتشكيل حكومة مصغرة، وأيضاً حتى يوقف الملاحقة القضائية ويرمم صورة "سيد الأمن" التي خدشت في إسدود، عندما اضطر إلى الهرب من قاعة في أسدود عقب تعرضها لقصف فلسطيني. كما شكك البعض في أهداف التصعيد وفي وجود استراتيجية إسرائيلية واضحة أصلاً تجاه قطاع غزة. وهناك من رجح أن إسرائيل تسعى نحو خلق حوار سياسي مع حركة حماس يؤدي إلى تهدئة طويلة المدى.

يمكن القول إن الجولة انطوت على مجموعة من الأهداف الإسرائيلية: رسالة إلى طهران، تحييد حركة حماس وإشعال نار الفتنة بين الفصائل، تعطيل المسار الذي انفتح بالموافقة على الانتخابات طريقاً لاستعادة الوحدة، وأغلب الظن أن الهدف الأساسي محاولة الدفع نحو تشكيل حكومة وحدة لمواجهة تحديات كبيرة بما فيها خطة السلام الأميركية وزيادة النفوذ الإيراني.

المقاومة ومستقبل غزة

بالرغم من الإدراك الجماعي أن القدرة المتاحة أقل مما يلزم لكسر الحصار والخروج من المأزق، فإن التصعيد الأخير كشف إلى حد كبير أن المزاج العام يميل نحو استخدام الأساليب العنيفة، ويرى البعض في ذلك "نزعة انتحارية" في واقع يزداد سوءاً لا انفكاك منه. فالحصار ليس آلية احتلالية فحسب، وإنما هو مرتبط بسلوكنا أيضاً وطريقة تعاملنا معه، كما يجدر الانتباه إلى أن الهياكل المؤسساتية في قطاع غزة ليست تعبيراً عن "سلوك قوى تحرر وطني وحاجاتها"، وإنما هي خليط من مؤسسات سلطوية وميليشيات مسلحة وهياكل دولية وأطر شعبية وفئوية، بينما السيطرة والتحكم في يد جهة واحدة (الغرفة المشتركة ليست سوى يافطة؛ ثمة حسابات معقدة). في ضوء التعقيدات القائمة، يجدر بنا أن نعيد النظر في شعار "الجمع بين السلطة والمقاومة"، ربما بإعادة تعريف كل منهما في سياق قطاع غزة -الذي أرادته إسرائيل سياقاً ملتبساً- وهو ما أسميه تعريف دور غزة في المشروع الوطني بما لا يحملها ما لا تطيقه. لعل الانتخابات المزمع إجراؤها تشكل مدخلاً لذلك.

في الأثناء دعونا نتأمل ما يلي:

(1) هناك من يقوّم الجولة بوصفها نجاحاً فلسطينياً في الحفاظ على "إرادة القتال" باعتبارها ضرورة وطنية. إذا كان الأمر كذلك، فلماذا تقتصر التعبيرات عن هذه الإرادة في غزة وحدها وعبر إطلاق الصواريخ تحديداً؟ ألا يوجد تعبير آخر؛ الصمود مثلاً، الجدارة، قطع الطريق على المخططات الإسرائيلية ذات البعد الاستراتيجي!

(2) ليس صحيحاً أن جمهور غزة أراد استمرار التصعيد ومواصلة الرد، فالذين خرجوا إلى الشوارع هم من أنصار حركة الجهاد وبعض الفصائل الأخرى. أما الناس فلم تعد تحتمل، وهي لا ترى جدوى في تكرار مثل هذه الجولات القاتلة. هذا ويدرك الجمهور ما في هذه الجولة من حمولة إقليمية أكثر منها تعبيراً عن حاجة أهل القطاع.

(3) مما لاشك فيه أن ثمة إنجازات حققها صمود شعبنا ومقاومته الباسلة بمختلف أشكالها. لكن المبالغة في تحقيق "الانتصارات" وإنكار الخسائر الجمة التي يتعرض لها شعبنا في الأرواح والممتلكات أمر فيه نظر ولا يخدم البتة أهدافنا الوطنية.

(4) كانت غزة دوماً شوكة في الحلق أو خنجراً في الخاصرة، وأرادت إسرائيل أن تتخلص منها (لاعتبارات عديدة، لم يكن ذلك سهلاً)، تمكنت إسرائيل على يد أريئيل شارون من فصل غزة عبر شيطنتها واتهامها بالإرهاب وتضخيم قوتها العسكرية. اليوم، تريد إسرائيل إبعاد قطاع غزة بعيداً عن جوارها بالمعنى الرمزي أو الفعلي ولا يوجد ذريعة أفضل من إظهارها خطراً وجودياً عليها!

Read more