غزة: التاريخ الاجتماعي تحت الاستعمار البريطاني، 1917 ـ 1948
أباهر السقّا
بيروت ورام الله: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2018. 325 صفحة.
ليست مدينة غزة في نظر أباهر السقا، أستاذ علم الاجتماع في دائرة العلوم الاجتماعية والسلوكية في جامعة بيرزيت، مختلفة عن المدن الفلسطينية، ولا سيما فيما يتعلق بحياتها اليومية، وبعاداتها وتقاليدها الاجتماعية (ص 195 - 207)، إلاّ إن الحكم على المدينة هو الأمر المختلف؛ فقد "شُوّه" بفعل طغيان السياسي على الاجتماعي، ذلك بأن مدينة غزة لم تكن بائسة تاريخياً، أو فقيرة مثلما هو واقعها الآن، أو مثلما هي تمثّلاتها في المخيال الفلسطيني، وربما العربي العام. وعلى العكس من هذا الانطباع السائد، كانت غزة مدينة ثرية بمواردها المتنوعة ومصادرها البنيوية وإرثها التاريخي والمعماري، لكنها سُلبت بالتدريج عناصرَ كينونتها، و"مجدَها" وسبلَ رفاهيتها ووسائلَها، وذلك بفعل الأزمات السياسية الكثيرة التي حلّت بها، ونتجت من صراعات متنوعة الأطراف والأهداف.
هدف الكتاب، كما صرّح المؤلف، هو إعادة الاعتبار إلى مدينة غزة في التاريخ الاجتماعي الفلسطيني، من خلال رصد سردي وتحليلي مكثف لـ "التاريخ الاجتماعي" للميدان اليومي والذاتي والجماعي، ورصد ما كان عليه واقع المدينة ـ لا القطاع ـ في الفترة المدروسة (1917 ـ 1948). ويتركز هذا الرصد على التفاعلات والممارسات الروتينية واليومية للمركبات الاجتماعية المختلفة، كالتركيبات "السوسيو ـ اقتصادية والتعليمية والثقافية"، علاوة على "عادات المدينة الاجتماعية"، و"الأنماط الاستهلاكية"، والبنى الدينية والأهلية والعائلية والسياسية. وقد شكّل تبنّي منهج التاريخ الاجتماعي، لدارسي المدينة حصراً، مخرجاً منهجياً آمناً تغلّب الكاتب من خلاله على كثير من التعقيدات والتصنيفات والتقسيمات السياسية والجغرافية التي فرضتها تلك الأزمات السياسية. فمن الخطأ ـ يورد الكاتب ـ أن يتم التعامل مع قطاع غزة "كما لو أنه مدينة واحدة"، لأن التحليل "السوسيولوجي" في نظره، يتطلب وجود مسافات تفصل جغرافياً تاريخ المدينة ومكوناتها الاجتماعية عن غيرها من المدن والمواقع الجغرافية الواقعة في الدائرة الجغرافية نفسها.
يشتمل الكتاب الواقع في 325 صفحة، على خمسة أقسام، وقد صدر عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية، كجزء من سلسلة المدن الفلسطينية التي تحرص المؤسسة على إصدارها بشكل دوري.
مدينة غزة عثمانياً وبريطانياً
الواقع السياسي كان، وما زال، يطارد أو يلازم المدينة منذ قيامها، كأنه "قدر" حتمي يبوح بمجموعة من الدلالات المهمة، منها أنه تأكيد الموقع الاستراتيجي الذي تنعم به المدينة "كبوابة لفلسطين على العالم"، كما أنه مؤشر إلى مخزون اجتماعي وسياسي واقتصادي وثقافي وإرث عمراني، يجعل أنظار الطامعين تحوم صوب المدينة. ويبدو أن السقّا، ومن خلال هذا القدر السياسي نفسه، استطاع انتزاع ذاك المخزون الاجتماعي من مخالب التنين السياسي، ليقدم لنا هذه الدراسة الثرية بعناصرها.
لم تتوقف مدينة غزة يوماً عن أن تكون موضوعاً للصراعات السياسية بين كثير من القوى الكبيرة، وخصوصاً في الفترة العثمانية، والتي أفقدت المدينة كثيراً من "إرثها المعماري" (ص 31).
يرصد الكتاب المعطيات السياسية التاريخية المشكّلة للمدينة في الفترة العثمانية، مثل: تأسيس العديد من الممثليات الأجنبية في مرحلة مبكرة من حياة المدينة، واستقطابها حضوراً فرنسياً؛ النزاعات المتواصلة بين قوى أجنبية والسلطات العثمانية، بحجة "حماية المسيحيين في الشرق" (ص 33). وهذا الحضور "المكثف" للقوى الأجنبية وصل إلى حد السماح للأجانب بالتملك في المدينة، وما أعقبه من تشكل طبقة بورجوازية، وتراكم للثروة في أيدي "نخبة" صغيرة من السكان، وهي أمور أسست لظهور فوارق طبقية واقتصادية، فضلاً عن أن تلك الفترة كانت شاهدة على تسريب أراضٍ كثيرة لليهود.
ويشير الكاتب إلى أن المدينة في تلك الفترة، حظيت بإصلاحات كثيرة قامت بها السلطات العثمانية (ص 34)، لكن ذلك لم يؤثر في انفتاح غزة على محيطها الإقليمي العربي (ص 261)، بفعل زخم العلاقات التجارية والسياسية والاجتماعية بين المدينة وإقليمها المجاور.
أمّا حقبة الاستعمار البريطاني، فجاءت "لتقنّن" الحدود و"تقيّد" حركة المواطنين، مثلما يشير الكاتب، فقد أحدث البريطانيون تغييرات وصفها السقا بـ "الدراماتيكية"، وخصوصاً في محاولة عزل المدينة عن محيطها. وفي تلك الفترة، ظهرت تمثّلات عائلية ووجاهات وأنماط سلطة اجتماعية، ولا سيما من الأثرياء المستندين إلى بعض المرجعيات العائلية، والذين كانوا أصحاب مصلحة في إدارة شؤون المدينة اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً، إلاّ إن دور الأهالي المهم، ووعيهم أهمية إعمار المدينة وتنميتها، تركا أثرهما في البنية التحتية والخدماتية التي بدأت تتطور بالتدريج في تلك الفترة.
حالة استعمارية وليس انتدابية
بالنسبة إلى السقّا، خضعت مدينة غزة كبقية المجتمع الفلسطيني، لحالة استعمار وليس لحالة "انتداب"، وافتراضه هذا قائم على انتفاء "الشرط القانوني لفرض الانتداب" (ص 15 ـ 16).
وفي هذا السياق، يشير إلى أن الالتزامات القانونية والفكرية، بل حتى الأخلاقية، والتي من المفترض أن تلازم حالة الانتداب، لم تكن حاضرة، أو أنها كانت مغيّبة تماماً، إذ إن "المنتدِب" مارس كثيراً من "التصورات والممارسات الفوقية والعنصرية"، بزعم بثّ روح "الحضارة" أو "تحضير" الفلسطيني (ص 17).
غياب "الحداثة" المستحقة
غابت فكرة الحداثة عن مدينة غزة، على الرغم من وجود ميناء مهم، ويردّ الكاتب السبب في هذا إلى بقاء هذا الميناء "مبتوراً" وغير مؤهل للاستخدام، الأمر الذي جعل المدينة تفقد كثيراً من الامتيازات "الحداثية"، بل إنها أُقصيت تماماً عن موضوع الحداثة الذي استحقته مدن أُخرى طورت مرافئها مثل يافا وحيفا (ص 265).
وكانت البنى الخدماتية في تلك الفترة، كالمياه والإنارة ووسائل التنقل، وافرة بصورة كانت كفيلة بوضع غزة في مستوى اقتصادي لائق أو مقبول. و"التغيرات الحضرية" التي طرأت يومها على المدينة، على الرغم من أنها فقدت خلال الفترة العثمانية كثيراً من إرثها الحضاري (ص 131 ـ 134)، كانت بارزة بفعل دور الأهالي الإيجابي، وحرصهم على تنمية مدينتهم (ص 140 ـ 145). من هنا، حظيت البنى التعليمية والثقافية والفنية باهتمام عدة مؤسسات، من ضمنها البلدية (ص 179 ـ 182). وبدا ذلك من خلال الحرص على بناء المدارس وإصلاحها، وتفعيل دور الصحافة، وبناء المكتبات والنوادي الترفيهية والرياضية والثقافية ودور السينما.
باختصار، يعتبر الكاتب أن الاجتماعي الأصيل للمدينة كان مهمشاً لمصلحة السياسي المفتعَل. ولاستكشاف ذلك المهمش، ولإزالة الضباب وآثار "التشويه" عن تفصيلاته، يأخذنا الكاتب في رحلة ممتعة إلى عوالم المدينة؛ رحلة على "متن" كثير من السرديات والحكايات والتراجم والمقابلات والتفصيلات والملاحق والمراسلات والأرشيفات المهمة، بل أسماء كثير من الشخصيات التي كانت فاعلة في تلك المرحلة، ليقول لنا إن مدينة غزة جزء لا يتجزأ من المجتمع الفلسطيني، وإنها لا تختلف عنه بشي، إلاّ ربما بحجم المأساة التي حلّت على أرضها، وبكثرة "الأبواق" التي مثلتها.
الدراسة على الرغم من انفتاحها على كثير من الجدل، فإنها تشير إلى جهد بحثي عالٍ ودسم، مكتظ بالتفصيلات ومُلهم، وفي الوقت عينه، تدعونا إلى صوغ أسئلة بحثية جديدة.