تونس، مصر، اليمن، البحرين، ليبيا، عُمان، الجزائر، المغرب، موريتانيا، وحتى المملكة العربية السعودية. ليست قائمة البلدان التي عصف فيها "ربيع العرب" شاملة. فاروق مردم بك مؤرخ مولود في دمشق، وهو مدير سلسلة سندباد في دار نشر Actes Sud . نشر مجموعة من النصوص لكتاب مختلفين في مجلد "ساركوزي في الشرق الأوسط" (2010). وها هو يساعدنا على فك ألغاز تسارع عجلة التاريخ التي نشهدها اليوم.
هل كنتم تتوقعون حركة التحرر هذه في العالم العربي؟
فاروق مردم بك. كان لدى جميعنا في العالم العربي شعور بأن الأحوال ستتغير. لكن أياً منا لم يكن يتوقع أن تتغير الأمور بهذه السرعة الفائقة، سواءً في تونس أو في مصر. من كان بوسعه أن يتخيّل أن إفتداء محمد بوعزيزي بنفسه سيطلق فورة الشباب التونسي ويدفع الشعب الى اقتحام الشارع لقلب دكتاتورية قاسية في فترة زمنية قياسية؟ أيضاً، من كان يدري أنه ثمة في مصر شبيبة ثابتة العزم وتمتاز بنضوج سياسي؟ نحن نشهد قوة سياسية جديدة استخلصت دروس الأخطاء الماضية فرفعت شعارات محسوسة ومفهومة من قبل الشعب: حرية، سيادة، عدالة إجتماعية. أما بالنسبة لليبيا، فكان يلزم شرارة، ولقد أتت من الشرق في السابع عشر من فبراير/شباط حين سجنت السلطة محامي أسر ضحايا مجزرة سجن أبو سليم لعام 1996 لأنه طالب بإحقاق العدالة للضحايا البالغ عددهم 1200 قتيل. حتى ذلك الحين، حجب ظل شخصية القذافي غريبة الأطوار شقاءَ الشعب الليبي، وكان أقوياء هذا العالم قد غفروا له جرائمه لقاء صفقات مجزية... ويعود الفضل في تحوّل الاحتجاجات الى إنتفاضة شعبية حقيقية، بعد تونس ومصر، الى انهيار جدار الخوف. ويشعر العرب اليوم أن إسقاط دكتاتور بات أمراً ممكناً.
من أين ينبع هذا الحراك العام؟
فاروق مردم بك. هناك نوعان من المعطيات. ثمة المعطيات التاريخية المعروفة من الجميع. منذ السبعينات هوى العالم العربي في نظام استبدادي بشكل أساسي. وقعت سلسلة من الانقلابات بعد هزيمة 1967: في العراق، وليبيا، والسودان، وسوريا. وفي عام 1970، مات جمال عبد الناصر الذي كان يجسّد شرعية شعبية معينة بكفاحه ضد الامبريالية. وشهدنا في ذاك الزمن أن انعكس منحى السير نحو العلمنة الذي كان ابتدأ في القرن التاسع عشر مع حركة الاصلاح المؤسساتية والنهضة الثقافية. بالتوازي مع الثورة الايرانية، نشأ الاسلام الجهادي في العالم العربي مع الجهاد الأفغاني المموّل من العربية السعودية والمدعوم من الولايات المتحدة. الى أن وصلنا الى "خيار البدائل" المفروض على الشعوب العربية: إما الأنظمة الإستبدادية المفترسة، وإما الاسلاموية. لكن يوجد معطيات أخرى: إتجاهات عامة عميقة ملحوظة من علماء الديموغرافيا والتي تنحو على العكس الى تأكيد موقع الفرد وتنامي مكانة النساء في الحياة الاجتماعية. وعلى الرغم من المظاهر الخارجية الخادعة، لبس الحجاب على سبيل المثال، ارتفع مؤشر عمل النساء في كافة الدول العربية وانخفض معدّل الولادات. إنها معطيات وازنة يجهلها السياسيون غالباً. في الثورتين الأولتين، شارك جميع أطياف السكان. لم يكن الشعار الغالب ديني الطابع. حتى في ليبيا حيث التدين الشعبي قوي جداً، كانت المطالبة واضحة: حكومة مدنية، إنتخابات حرّة، دستور ديمقراطي يمكّن الجميع من المشاركة في الحياة السياسية.
هل كانت هذه التحوّلات مُستشرفة من قبل المؤلفين والأعمال التي تنشرونها؟
فاروق مردم بك. نعم، بكل تأكيد. أطاح الشعراء والروائيون بالمحرّمات – الدينية والسياسية والجنسية- التي رخت بثقلها على هذه المجتمعات. أدان الكاتب المصري صنع الله ابراهيم ضَرَبات مصر الجديدة: الدكتاتورية، الفساد، الظلامية، والإذعان للولايات المتحدة. وبيّن أن هذه الحالة بمثابة مفارقة تاريخية لا تتناسب والوعي السياسي للمصريين. ورسم علاء الأسواني، مؤلف كتاب "بناية يعقوبيان" لوحة مشينة لبلده في ظل نظام مبارك. وكانت مقالاته الصحفبة المتابعة عن كثب للأحوال السياسية والاجتماعية تُبرز الشعور العام بأنه طفح الكيل. وهذان المؤلفان اليوم هما من الوجوه البارزة للثورة المصرية. ويسعني قول الأمر نفسه عن كتاب آخرين مصريين كثر، بل عن كتاب سوريين وجزائريين ولبنانيين وسعوديين... إنه أدب حرّ متداول في حقل ثقافي عربي موحّد رغم الرقابة والحدود.
ما هي الأخطار التي تتهدّد هذه الثورات؟
فاروق مردم بك. بادىء بدء، إنها الثورة المضادة بالطبع. رغم أنه جرى إزاحة رموز مهمة من النظام القديم في هذه البلدان، إلا أن المنتفعين منه كثر ولديهم قاعدة إجتماعية وإمكانات مالية وشبكات مصالح وحجج ديماغوجية. إنه لأمر جوهري لهذه الثورات- التي هي على سبيل التذكير ديمقراطية بصورة راسخة وغير عنيفة وتطالب بالحرية والكرامة فحسب- أن لا تتوقف في منتصف الطريق لأن الخاسرين قد يقفزون مجدّداً بعنف شديد. لكن هناك تيقّظ، ونضوج سياسي، لا سيما عند الشباب الذي يواصلون الاعتصام والتظاهر وتعبئة الشعب حول مطالبهم.
هل ينبغي التدخل في ليبيا؟
فاروق مردم بك. قد يرغب المعسكر الغربي في التدخل. أرجو أن لا يتم ذلك على شاكلة تدخل عسكري، الذي سيكون مأسوياً وبالغ الخطورة لأنه سيقوّي كلاً من القذافي والجهاديين. الشعي الليبي قالها بالاجماع: هو لا يريد تدخلاً عسكرياً خارجياً، بل يريد إسقاط النظام بإمكاناته الخاصة. جلّ ما يطلبه مساعدة إنسانية، أغذية وأدوية وتعبئة عالمية لمؤسسات حقوق الانسان.... وأن تقوم الصحافة العالمية بعملها بنزاهة وموضوعية.
ما هي رؤيتك لتطور هذه الحركات؟
فاروق مردم بك. نحن نعيش أياماً إستثنائية. لن تتوقف موجة القعر هذه، وإن أخذت الانتفاضات الشعبية اليوم وغداً أشكالاً مختلفة. فكل بلد عربي لديه ظروفه الخاصة، وعلاقة الشعوب بالحكام تتباين من بلد لآخر. لكن في جميع هذه البلدان تُرفع شعارات الحرية والعدالة الاجتماعية ذاتها. وليس مستحيلاً أن نشهد تحركات شبابية أبعد من العالم العربي. وهذا الأخير على طريق الخروج من "اللعنة" التاريخية، الخيار إما إستبداد أو إسلاموية الذي حاولوا أسره فيه. حان الآن دور الغربيين للقيام بثورة عقلية لاعادة تفكير علاقاتهم بهذه البلدان.
أجرت المقابلة شارلوت بوزونيه