يعكس الجدل الحاد الدائر في إسرائيل اليوم بشأن القرار الذي أصدرته محكمة العدل العليا في 21 شباط/فبراير 2012 والقاضي بإلغاء العمل بـ "قانون طال" الصادر سنة 2002، الذي أعفى تلامذة المدارس الدينية من اليهود المتدينين المتشددين الحريديم من الخدمة العسكرية الإلزامية في الجيش الإسرائيلي، أزمة سياسية واجتماعية واقتصادية في آن معاً. كما يطرح علامات استفهام بشأن مستقبل العلاقة بين الدولة وبين الشباب الحريدي من اليهود المتدينين الرافضين للخدمة الإلزامية، ولا سيما في ظل الصعود المستمر في نفوذ التيارات الأصولية الدينية اليهودية ومحاولاتها فرض إرادتها على الدولة.
منذ نشوء دولة إسرائيل، شكل اليهود المتدينون الحريديم ظاهرة خاصة داخل المجتمع الإسرائيلي، واختاروا الابتعاد عن الأخذ بالقيم المعاصرة والحديثة والعلمانية لهذا المجتمع، وأصروا على التمسك بنمط الحياة التقليدية لليهود الحريديم كما كانت قائمة في عشرينيات القرن الماضي. وما رفضهم المشاركة في الخدمة الإلزامية في الجيش الإسرائيلي سوى مظهر من مظاهر رفضهم الاندماج في المجتمع الإسرائيلي، ودفاعهم عن خصوصيتهم الدينية والاجتماعية. ففي رأيهم، إن المهمة الأساسية الملقاة على عاتق شبابهم هي الانصراف الكامل إلى تعلم التوراة، وحماية الديانة اليهودية من خطر الاندثار، ولا سيما في أعقاب الدمار الكبير الذي لحق باليهود وبمقارهم الدينية في أوروبا في أثناء الحرب العالمية الثانية بسبب المحرقة النازية. وعلى الرغم من تغير الظروف وتبدل أحوال اليهود، ما زال الحريديم يعتبرون أن مهمة الدفاع عن الديانة اليهودية لا تقل أهمية عن الدفاع عن أمن إسرائيل.
ومع أن موضوع إعفاء الحريديم من الخدمة الإلزامية كان مطروحاً على الدوام على النقاش العام في إسرائيل، فإن هذه المسألة اتخذت بعداً جديداً أكثر حدة للأسباب التالية:
1 - التزايد الديموغرافي الكبير للحريديم، والذي من شأنه أن يؤدي في تقدير بعض الخبراء الديموغرافيين إلى تحولهم في المستقبل إلى أغلبية غير صهيونية داخل الدولة لا يخدم أبناؤها في الجيش الإسرائيلي، الأمر الذي لا بد من أن ينعكس سلباً على عديد هذا الجيش.
2 - تفاقم الهوة الاجتماعية والاقتصادية بين الحريديم وسائر طبقات المجتمع الإسرائيلي نتيجة تشددهم الديني وتقوقعهم داخل مجتمعهم وعدم مشاركتهم في سوق العمل.
3 - تنامي حركة الاحتجاج الاجتماعي التي برزت خلال الصيف الماضي وشملت شرائح واسعة من الجمهور الإسرائيلي تطالب بالمساواة في تحمل العبء الأمني والاقتصادي بين أبناء المجتمع.[1]
تعديل "قانون طال" يتحول إلى أزمة ائتلافية
عندما اتخذت محكمة العدل العليا في إسرائيل قرارها في 21 شباط/فبراير 2012 بإلغاء العمل بـ "قانون طال"، منحت الحكومة مهلة زمنية تنتهي في مطلع آب/أغسطس من أجل وضع قانون بديل. وسرعان ما تحول الموضوع إلى تحد بالنسبة إلى الائتلاف الحكومي، فقام بنيامين نتنياهو بتشكيل لجنة خاصة لدراسة تعديل القانون بمشاركة مختلف أعضاء الائتلاف الحكومي وبرئاسة يوحنان بلسنر من حزب كديما. وعقدت هذه اللجنة اجتماعها الأول بتاريخ 21/5/2012 في الكنيست بحضور نتنياهو، وسرعان ما برز الانقسام الحاد بين أعضائها، فوقفت الأحزاب العلمانية، مثل أحزاب كديما و"إسرائيل بيتنا" والليكود، مع فرض الخدمة العسكرية والمدنية الإلزامية على التلامذة الحريديم من دون استثناء، في حين عارضت الأحزاب الدينية ذلك بشدة، وهددت بالخروج من الحكومة. وقبل أن تتمكن اللجنة من نشر توصياتها خرجت منها الأحزاب الدينية احتجاجاً على تضمن تلك التوصيات فرض عقوبات شخصية على التلامذة المتخلفين عن الالتحاق بالخدمة، كذلك فعل حزب "إسرائيل بيتنا" لسبب آخر، وهو رفضه تأخير سن الالتحاق بالخدمة الإلزامية من 18 إلى 22 عاماً. ولقد دفع هذا رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو إلى حل اللجنة في 1/7/2012 وتكليف وزير الشؤون الاستراتيجية موشيه يعالون معالجة الموضوع. فعقد يعالون عدة اجتماعات مع يوحنان بلسنر، لكنهما لم يتوصلا إلى صيغة متفق عليها، الأمر الذي حدا بحزب كديما على الخروج من الحكومة.
في 17/7/2012 أعلن شاؤول موفاز، زعيم حزب كديما، استقالته من الحكومة، وذلك بعد أن تبين له أن نتنياهو متمسك بالأحزاب الدينية أكثر مما هو متمسك ببقاء كديما. وهكذا خرج أكبر حزب من الحكومة بعد مدة لم تتجاوز 70 يوماً وهو يجر أذيال هزيمته السياسية، وبات مصير تعديل "قانون طال" في مهب الريح، الأمر الذي يعني أنه بدءاً من الأول من آب/أغسطس، سيتوقف العمل بتطبيق "قانون طال"، وبالتالي ستُفرض الخدمة في الجيش، ما لم يتم يتوصل إلى قانون بديل، على تلامذة المدارس الدينية مثلهم مثل سائر الإسرائيليين الذين بلغوا سن التجنيد الإجباري.
من حل للحفاظ على وحدة المجتمع الإسرائيلي إلى ظاهرة تقسمه وتضعفه
في الأعوام الأولى لقيام دولة إسرائيل كان التوجه العام لمؤسسيها هو العمل على التوفيق بين مختلف مكوناتها، من هنا جاءت موافقة دافيد بن - غوريون في تشرين الأول/أكتوبر 1952، على اقتراح زعيم الحريديم آنذاك الحاخام كاليتز إعفاء 400 طالب مدرسة دينية من الخدمة العسكرية. وكان الدافع الأساسي الذي جعل بن - غوريون، المعروف عنه أنه غير متدين، يقبل بإعفاء تلامذة اليشيفوت من الخدمة الإلزامية هو محاولته بناء ديمقراطية توافقية تعمل على الجمع بين منطق الدولة وبين المنطق الديني، لكن عندما تبين له أن المتدينين يستخدمون قرار الإعفاء للتهرب من الخدمة العسكرية ندم على قراره هذا، وهو ما بدا واضحاً في الرسالة التي بعث بها سنة 1963 إلى رئيس الحكومة آنذاك ليفي أشكول وقال له فيها أنه يشعر بأنه أخطأ بإعفاء الحريديم من الخدمة.[2]
وحتى تسعينيات القرن الماضي ظل الإعفاء سارياً، وتولت وزارة الدفاع الإسرائيلية البت به، وكان ذلك ضمن صلاحيات وزير الدفاع. لكن في إثر الاعتراضات الكثيرة على هذا الإجراء بسبب عدم قانونيته، عيّن رئيس الحكومة ووزير الدفاع آنذاك إيهود باراك، في سنة 1999، لجنة لدراسة الموضوع برئاسة القاضي المتقاعد تسفي طال، فتوصلت هذه اللجنة إلى قانون، أقره الكنيست في سنة 2002 وجرى التمديد له في سنة 2007، ينظم عملية إعفاء تلامذة المدارس الدينية - الحريدية من الخدمة الإلزامية. وقد سمح هذا القانون لتلامذة المدارس الدينية - الحريدية بتأجيل قيامهم بالخدمة الإلزامية إلى حين بلوغهم سن 22 عاماً، وحينها يمكنهم الاختيار بين مواصلة الدراسة الدينية أو القيام بخدمة عسكرية قصيرة لمدة عام وأربعة أشهر - في حين أن مدة خدمة سائر المجندين تتراوح بين عامين وثلاثة أعوام - كما سمح للتلميذ الحريدي بالقيام بالخدمة العسكرية أو بالخدمة الإلزامية المدنية لمدة عام من دون أجر، مع إمكان العمل خارج إطار الخدمة الإلزامية بأجر، وهذا ما لا يحق للمجند العادي.[3]
ونتيجة الثغرات الكبيرة في "قانون طال" التي كانت موضع اعتراضات قانونية طوال الأعوام الماضية من جانب أطراف كثيرة، جاء قرار محكمة العدل العليا بإلغاء هذا القانون، الأمر الذي تسبب بالأزمة الحالية في إسرائيل، إذ اختلطت مواقف الأحزاب والتيارات السياسية الإسرائيلية بين الدفاع عن المصالح الوطنية، وبين التفكير في الحسابات الانتخابية والشخصية الضيقة.
تزايد حجم الإعفاءات من الخدمة وتراجع عدد المتطوعين في الجيش
من أهم الأسباب التي أدت إلى إعادة النظر في إعفاء تلامذة المدارس الدينية من الخدمة الإلزامية، التزايد الديموغرافي الكبير للحريديم وانعكاسه السلبي على عدد المجندين في الجيش، إذ يشير رؤوفين غال[4] إلى وجود 800,000 حريدي اليوم في إسرائيل يشكلون ما نسبته 10٪ من سكان إسرائيل، ونحو 13٪ من السكان اليهود. ويتوقع الكاتب، استناداً إلى الإحصاءات وإلى معدل النمو الديموغرافي لهذه الفئة من المتدينين التي توازي 5٪ سنوياً، أن يشكل الحريديم في سنة 2028 نصف سكان إسرائيل. فالمعروف أن الشبان الحريديم يتزوجون في سن مبكرة ويرزقون بعدد كبير من الأولاد، بعكس الشباب العلماني، ونظراً إلى عدم التحاق العدد الأكبر من هؤلاء بسوق العمل، سواء لأسباب تتعلق بدراستهم الدينية أو لعدم حصولهم على المؤهلات المطلوبة، فإن نحو 50٪ منهم يعيشون تحت خط الفقر، ويعتمدون بصورة خاصة على المساعدات التي يحصلون عليها من الدولة، أو من التبرعات.
ومن الأمور المثيرة للانتباه في الأعوام الأخيرة، المكانة المهمة للتعليم الديني في إسرائيل، إذ يوجد حالياً نحو 72,000 طالب مدرسة دينية. كذلك أظهرت دراسة قام بها الحاخام إسحاق رافيتس في سنة 2010، أن تلامذة المدارس الدينية الذين يواصلون تعليمهم الديني بعد بلوغهم سن الـ 18 عاماً يحصلون على مساعدات شهرية تتراوح بين 2000 و4000 شيكل، 720 شيكلاً من وزارة التعليم والباقي من المساعدات الخارجية من جهات يهودية وغيرها، الأمر الذي يشجع هؤلاء على مواصلة تعليمهم وعلى عدم الالتحاق بسوق العمل خوفاً من خسارة هذه التقديمات، ناهيك عن إعفائهم من دفع الضرائب وحصولهم على تسهيلات فيما يتعلق بالقروض السكنية وغيرها.[5] وعندما تنتهي فترة الدراسة الدينية يجد الحريديم صعوبة في الالتحاق بسوق العمل الإسرائيلي، نظراً إلى عدم حصولهم على التأهيل المهني خلال دراستهم الدينية، الأمر الذي يفاقم أزمتهم الاقتصادية.
وخلال الأعوام المنصرمة، ازداد عدد التلامذة المتدينين الذين يطالبون بالإعفاء من الخدمة العسكرية بذريعة متابعة تحصيلهم الديني. ففي سنة 2005 بلغت نسبة الحريديم الذين أعفوا من الخدمة الإلزامية 14,8٪، وارتفعت هذه النسبة في سنة 2007 إلى 16,4٪، لتنخفض في سنة 2011 إلى 12,1٪. وقد أظهرت إحصاءات الجيش الإسرائيلي أنه يجري استغلال "قانون طال" للتهرب من الخدمة العسكرية. وعلى الرغم من استقرار أرقام الإعفاء من الخدمة خلال العامين الماضيين، فإنها مرشحة للزيادة في حال لم يتم تغيير "قانون طال".[6]
ولأول مرة ربما في تاريخ إسرائيل، بدأ يظهر العبء الثقيل لإعفاء الحريديم من الخدمة الإلزامية على بنية الجيش الإسرائيلي نفسه. وفي هذا الإطار، يشير مراسل صحيفة "هآرتس" عاموس هرئيل إلى أن الجيش الإسرائيلي بدأ يشكو في الأعوام الماضية من تراجع في عدد المجندين، وبرزت مخاوف من استمرار هذا التراجع نتيجة التوجهات العامة المتوقعة حتى سنة 2015. يقابل ذلك حاجة الجيش الإسرائيلي إلى مزيد من الفرق تلبية لمتطلبات أمنية فرضتها التغيرات الجارية والتهديدات الأمنية، فثمة حاجة مثلاً إلى تطوير مزيد من بطاريات الصواريخ الاعتراضية، مثل "القبة الحديدية"، الأمر الذي يتطلب وجود أطقم مؤهلة لاستخدامها، فضلاً عن الحاجة إلى فرق جديدة لجمع المعلومات الاستخباراتية القتالية.
برامج لتشجيع الحريديم على الخدمة في الجيش
من المعروف أن لدى الجيش الإسرائيلي حالياً فرقاً مخصصة للجنود المتدينين، الذين ينتمون إلى التيارات الدينية الصهيونية* التي لا ترفض الخدمة في الجيش، تحترم نمط حياتهم الديني وتراعي الفصل الكامل بين النساء والرجال والالتزام بالطعام الكاشير.
وقد وضع الجيش، بدءاً من سنة 2007، برنامجاً لتشجيع الحريديم على الخدمة الإلزامية سُمّي برنامج "دمج الحريديم"، ويخدم فيه اليوم نحو 2000 جندي حريدي تتراوح أعمارهم بين 22 و26 عاماً، معظمهم متزوج ولديه أولاد، وهم يخدمون بعد خضوعهم لدورة تأهيل لمدة عام ونصف العام ضمن الوحدات التكنولوجية واللوجستية. ويكلف هذا البرنامج الجيش مبالغ كبيرة نظراً إلى أن معظم الجنود الحريديم متزوجون ويحصلون على رواتب أعلى، الأمر الذي يجعل تكلفة الجندي الحريدي توازي أربعة أضعاف تكلفة الجندي العادي.[7]
ويوجد في الجيش الإسرائيلي كتيبة خاصة بالحريديم تحمل اسم "ناحل حريدي ليهودا وشومرون" تابعة لفرقة كفير. وقد تأسست منذ عشرة أعوام، ويتطوع في الخدمة في صفوفها سنوياً نحو 500 حريدي، وهي تقوم بمهمات الأمن الجاري في الضفة الغربية.[8] ولا يستبعد قائد فرقة كفير العميد أودي بن موحه أن يجري نشر فرقة ناحل هذه على الحدود مع قطاع غزة، وأن تشارك مع الكتائب الأخرى في كفير في أعمال الأمن الجاري على الحدود مع لبنان، وفي التمرينات التي ستجريها الفرقة في هضبة الجولان، الأمر الذي يدل على مدى اندماج كتيبة الحريديم هذه مع سائر الكتائب المقاتلة.[9]
وعلى الرغم من تفضيل الجيش الإسرائيلي عدم تشكيل فرق خاصة بطوائف معينة لأن هذا يتناقض تماماً مع الادعاءات بأن الجيش هو "جيش الشعب" و"بوتقة الصهر"، فإن قيادته اليوم مستعدة لإنشاء مزيد من الفرق المخصصة للحريديم بهدف تشجيع الشباب الحريدي على الالتحاق بالخدمة الإلزامية، سواء العسكرية منها أو المدنية، وذلك لتغطية العجز في أعداد المتطوعين في الجيش الآخذة في التراجع.
العبء الاقتصادي
في الأعوام الأخيرة، لم يعد إعفاء الحريديم من الخدمة العسكرية يثير مشكلة قومية تهدد وحدة المجتمع الصهيوني فحسب، بل بات يشكل مشكلة اقتصادية أيضاً. فمن المعلوم أن الخدمة في الجيش، سواء أكانت عسكرية أم مدنية، تتضمن إعداد المجندين وتأهيلهم ليلتحقوا بسوق العمل بعد تسريحهم، لذا فإن عدم مشاركة الحريديم في الخدمة الإلزامية فاقم الضائقة الاقتصادية التي يعانون منها وزاد في العبء الذي تتحمله الدولة.
وبرز ذلك العبء الاقتصادي من خلال التوصيات التي تقدمت بها لجنة تراختنبرغ التي كلفها بنيامين نتنياهو دراسة حركة الاحتجاج الاجتماعي خلال الصيف الماضي. إذ تضمنت هذه التوصيات تخصيص مبلغ 760 مليون شيكل لمراكز الإعداد المهني الخاصة بالحريديم في جميع أنحاء إسرائيل، بالإضافة الى مشاريع للتعليم الابتدائي المجاني، وتقليص عدد أعوام الدراسة في المدارس الدينية المخصصة للطلاب المتزوجين من أجل تشجيعهم على الالتحاق بسوق العمل.[10]
وفي الواقع فقد ساهمت حركة الاحتجاج الاجتماعي، والدعوات إلى تطبيق العدالة الاجتماعية والمساواة في تحمل العبء الأمني والاقتصادي، في تسليط الضوء مجدداً على العبء الذي يشكله الحريديم، ليس فقط بسبب عدم مشاركتهم في الخدمة الإلزامية بل أيضاً بسبب عدم اندماجهم في سوق العمل وتحولهم إلى عالة على الدولة وعلى دافعي الضرائب من الإسرائيليين. وفي مقال لرؤوفين غال، المسؤول عن خطة تشجيع الحريديم على الدخول في سوق العمل، كتب ما يلي: "ثمة مشكلة لدى الجمهور الحريدي، فاستناداً إلى تقرير اقتصادي صادر سنة 2008 يظهر أن تدني نسبة المشاركة في سوق العمل وسط الحريديم هو الذي يمنع إسرائيل من أن تكون خلال الأعوام العشرين المقبلة من بين أول 15 دولة اقتصادياً في العالم. كما أن نحو 56٪ من العائلات الحريدية هي عائلات فقيرة كثيرة الأولاد، الذين مصيرهم الفقر."[11]
المطالبة بتطبيق الخدمة الإلزامية على العرب بين مؤيد ومعارض
شكلت الدعوة إلى تعديل "قانون طال" مناسبة لمطالبة أحزاب إسرائيلية ممثلة في الائتلاف الحكومي مثل حزب "إسرائيل بيتنا"، بتطبيق الخدمة الإلزامية على الحريديم وعلى العرب في الوقت نفسه. ولا تعبر هذه الدعوة عن رغبة حقيقية في تطبيق مبدأ المساواة تجاه الأقلية العربية، التي تعاني من سياسة التمييز والغبن، بقدر ما هي مناورة من جانب هذه الأحزاب العلمانية لاجتذاب تأييد الجمهور العلماني من خلال محاربة نفوذ الأحزاب الدينية. فمن المعروف أن إسرائيل تعامل عرب 48 بصفتهم مواطنين من الدرجة الثانية، وتحرمهم الكثير من حقوقهم مقارنة بسائر مواطنيها من اليهود.
لكن التغيرات التي يمر بها المجتمع الإسرائيلي، ولا سيما في ظل التزايد الديموغرافي للأقلية العربية وسياسات التمييز ضد هذه الأقلية، أدت إلى تفاقم الفجوات الاجتماعية والاقتصادية بين العرب واليهود، الأمر الذي رأى فيه بعض المعلقين الإسرائيليين أنه بات يشكل تهديداً حقيقياً لإسرائيل مستقبلاً. ففي رأي المعلق السياسي في صحيفة "هآرتس" ألوف بن: "تمر إسرائيل حالياً في غمرة تغيرات اجتماعية غير مسبوقة، وبات مجتمعها متعدد الثقافات، وأصبح أشبه بـ 'دولة ثلاثية القومية›' تتألف من العلمانيين والحريديم والعرب. ومن أوجه الأزمة التي يثيرها هذا التوزع الانخراط في سوق العمل. ومما لا شك فيه أن مستقبل استقرار إسرائيل رهن بدمج العرب والحريديم في صلب المجتمع الإسرائيلي."[12]
ضمن هذا السياق للأزمة الاجتماعية والاقتصادية، جاءت الدعوات إلى فرض الخدمة الإلزامية المدنية على الشباب العرب في إطار مجتمعاتهم المحلية العربية. ويأتي ذلك بعد عقود من رفض إسرائيل أداء العرب الخدمة الإلزامية، باستثناء الدروز والبدو، بحجة الشك في ولائهم لها، ولأنها لا تريد طابوراً خامساً داخل جيشها.
وقد أثارت هذه الدعوات جدلاً واسعاً في الأوساط العربية التي رفض زعماؤها وممثلوها في الكنيست الفكرة بصورة قاطعة. وكان الاعتراض الأساسي على أنه كيف يمكن تطبيق المساواة على العرب في تحمل العبء الأمني، في حين يعاني هؤلاء من عدم المساواة في الحصول على حقوقهم الأساسية، سواء على صعيد الأجور أو المخصصات الاجتماعية أو التقديمات الصحية؟ فقد رفض عضو الكنيست أحمد طيبي، ممثل القائمة العربية الموحدة، أن يكون العرب "ضحية الخلاف الدائر بين العلمانيين والمتدينين"، كما رفض عضو الكنيست طالب الصانع الفكرة وانتقد عدم إشراك العرب في لجنة بلسنر، أمّا عضو الكنيست حنين الزعبي، عن التجمع الوطني الديمقراطي، فرأت أن فكرة فرض الخدمة الإلزامية على العرب هي "فكرة عمياء وغبية."[13]
وجاءت ردة فعل الشارع العربي مشابهة في رفضها، فأعلنت جمعية "بلدنا" للشباب العرب في حيفا، أن نحو 80٪ من الشباب العرب يعارضون الخدمة الإلزامية، وأن فرضها بالقوة سيؤدي إلى حدوث احتكاك. وتساءلت الجمعية كيف يمكن لإسرائيل، بعد مرور نحو 64 عاماً من تجاهل العرب، الادعاء بأن المشاركة في الخدمة الإلزامية ستساعدهم في الاندماج في سوق العمل وستؤمن لهم فرصاً لإيجاد وظائف؟[14]
وتجدر الإشارة هنا إلى أنه منذ سنة 2007 أنشىء جهاز للخدمة الوطنية التطوعية للشبان العرب، يضم اليوم نحو 2400 متطوع أغلبيتهم من النساء اللواتي ينتمين إلى عائلات فقيرة لا تملك المال الكافي لإرسال بناتها للدراسة، فترسلهن إلى هناك حيث تحصل الواحدة على مبلغ 700 شيكل لقاء عملها التطوعي، الأمر الذي يساعدها في الحصول على عمل فيما بعد. وبرزت أصوات عربية رأت أن العمل التطوعي للشبان العرب ضمن مؤسسات مجتمعهم المحلي، مثل مراكز الإطفاء أو الشرطة المحلية في بلداتهم، يشكل فرصة لخدمة مجتمعهم المحلي وتأمين فرص أفضل لهم في المستقبل.[15]
وفي هذا الإطار، لا يتفق عالم الاجتماع أسعد غانم مع رافضي تطبيق الخدمة الإلزامية المدنية على عرب 48، وقد عبر عن ذلك قائلاً: "لا يبدو واضحاً لي سبب معارضة الخدمة المدنية الإلزامية داخل الوسط العربي. إن رفض الزعامات والقيادات العربية الخدمة الإلزامية يخدم موقف الدولة التي لا تريد أن تستثمر في الشبان العرب، ولا ترغب في السماح لهم بتنظيم صفوفهم وخدمة مجتمعهم والاستفادة من مرحلة التأهيل لدخول الجامعات والحصول على أماكن للعمل." وأضاف غانم أن "مشاركة العرب في الخدمة الإلزامية سيساهم في محاربة سياسة التمييز التي تنتهجها الدولة ضدهم، وأن رفض القيادات العربية لها سيؤدي إلى مفاقمة التمييز والغبن والضائقة التي يعانيها الشباب من أبناء الأقلية العربية في إسرائيل."[16]
في الخلاصة، فإن عجز حكومة نتنياهو عن التوصل إلى قانون جديد للخدمة الإلزامية يطبق على الحريديم ويكون مقبولاً من الجميع من شأنه أن يخلق لها مشكلة جدية حتى بعد خروج حزب كديما من صفوفها.
* المتدينون الصهيونيون، ويسمون بالعبرية "هتسيونيم هَداتييم"، ممثلون اليوم في الكنيست من خلال حزب "البيت اليهودي- المفدال الجديد"، وهم مع الخدمة العسكرية في الجيش. وكان حزب المفدال قد دعا إلى حل مشكلة الخدمة العسكرية للمتدينين الصهيونيين من خلال ترتيب يسمى "يشيفوت هِسدير"، يدرس بموجبه هؤلاء التوراة خلال خدمتهم العسكرية.
[1] رؤوفين غال، "تجنيد الحريديم في الجيش الإسرائيلي- تعديل قانون طال"، تحرير مئير ألرين ويهودا بن مئير (بالعبرية)، معهد أبحاث الأمن القومي، مذكرة رقم 119، حزيران/ يونيو، 2012.
[2] إفيشاي برافرمان، "سبل دمج الحريديم في المجتمع الإسرائيلي"، "يسرائيل هَيوم"، 1/3/2012.
[3] أنطوان شلحت، "حكومة كينغ بيبي"، "مجلة الدراسات الفلسطينية"، العدد 91، صيف 2012، بيروت.
[4] إفيشاي برافرمان، مصدر سبق ذكره.
[5] ديفيد زولدن، "لا تخافوا من توصيات بلسنر"، "هآرتس"، 26/6/2012.
[6] عاموس هرئيل، "الإعفاءات في الجيش للحريديم"، "هآرتس"، 11/7/2012.
[7] ليلخ شوفال، "نصف المتهربين من الخدمة العسكرية ليس للدراسة الدينية"، "يسرائيل هَيوم"، 3/6/2012.
[8] المصدر نفسه.
[9] ليلخ شوفال،"الكتيبة الحريدية التابعة لفرقة كفير تعمل بصورة ممتازة"، "يسرائيل هَيوم"، 24/7/2012.
[10] شاحر إيلان، "هآرتس"، 14/10/2011.
[11] رؤوفين غال، "ثورة الحريديم الصامتة"، "هآرتس"، 10/12/2010.
[12] ألوف بن، "مستقبل إسرائيل مرهون بدمج العرب والحريديم في المجتمع"، "هآرتس"، 17/2/2010.
[14] ريمون مرجيه، "الشباب العرب يرفضون الخدمة الزامية"، "معاريف"، 9/7/2012.
[15] المصدر نفسه.
[16] أسعد غانم، "نعم للخدمة الإلزامية المدنية لفلسطينيي 48"، "هآرتس"، 16/7/2012.