لا يختلف مشهد العدوان الإسرائيلي على غزة كثيراً عن مشهد العدوان عليها في سنة 2008/2009 ، ثم في سنة 2012، أكان على صعيد الهمجية العسكرية وآلة القتل والتدمير، أم على صعيد دفاع المقاومة الفلسطينية بسلاح رادع هو الصواريخ التي تستهدف المدن الإسرائيلية. لكن الأوضاع تختلف بين هذه الأعوام والمواجهات، وخصوصاً في ضوء تفاعلات الثورات العربية والثورات المضادة وتصاعد نيران الحرب المفتوحة ضد توسع النفوذ الإيراني في الشرق العربي، وما يتركه ذلك من انعكاسات على الصراع العربي - الإسرائيلي و"محور الممانعة" الإقليمي والعلاقة بين أطرافه.
تنفرد جولة الصراع الراهنة في قطاع غزة بكون أفقها السياسي لا يتجاوز في كل الأحوال اتفاقاً جديداً لوقف إطلاق النار والشروط التي تحكمه في ظل اختلال التوازن العربي - الإسرائيلي. لذلك من الصعب أن نتصور أن إسرائيل قد تحقق نصراً في هذه المعركة الضارية بنزع الصواريخ الفلسطينية، أو أن يكون في قدرة حركة "حماس" والمقاومة الفلسطينية تغيير معادلة الصراع مع إسرائيل عبر إطاحة موازين القوى الراهنة.
كان طبيعياً لتركيا، بحكم دورها الجديد في سياق عملية إعادة التموضع في الشرق الأوسط، أن تتجاوز خطاب الاحتجاج والتنديد الشديد ضد السياسات الإسرائيلية، لتكون وسيطاً في مساعي التهدئة وتضمن حضورها الإقليمي عقب خسائرها الكبيرة في أنحاء العالم العربي. لكن استعادة المبادرة والانتقال إلى تحرك ما، كوقف العدوان، يتطلبان توفر إمكانات وأدوات عمل تفتقدها أنقرة حالياً بسبب تجميد العلاقات مع الدولة العبرية والقطيعة مع مصر في مرحلة ما بعد حكم "الإخوان المسلمين". قد نتصور سيناريواً بديلاً تشجع فيه تركيا حليفتها الوحيدة في المنطقة، قطر، على السعي لحجز مكان في دائرة المداولات لوقف إطلاق النار، ولا وسيلة لها في هذا السعي سوى تقديم المساعدات لإعادة إعمار القطاع، أو تأمين المواد الغذائية والمحروقات تخفيفاً لمعاناة سكان القطاع. في هذا السيناريو يبدو التحالف التركي- القطري ضعيفاً، أو بالأحرى في حالة قصور في المنافسة مع مصر (ومعها السعودية) في شأن دور الضامن لوقف إطلاق النار.
نأتي إلى التحرك الإيراني، فنرى أن إيران تحاول تعويض انكماش نفوذها الإقليمي بسبب الحرب في سورية وتدهور الأوضاع في العراق، وذلك عبر تصعيد الضغوط على إسرائيل لإبعاد الأنظار عن مفاوضات الملف النووي الإيراني، وإبراز هشاشة الدور الإسرائيلي في أجندة الأمن والاستقرار الإقليميين. وها إن الصواريخ تعيد إنعاش الحضور الإيراني في معادلة الصراع من خلال حركة الجهاد الإسلامي، كما تفتح الأبواب لاستعادة حركة "حماس" في "محور الممانعة" بعدما أدارت هذه الأخيرة ظهرها لطهران ودمشق تزامناً مع صعود "الإخوان المسلمين" إلى السلطة في القاهرة. وإذا تسنى لفصائل المقاومة الفلسطينية الاحتفاظ بترسانتها الصاروخية، وهذا أمر مرجح، فإن إيران تكون قد حافظت على وسيلة ردع مهمة جداً في حال انهارت المفاوضات النووية في فيينا، أو تعثرت، وفُسح في المجال لنقل التهديدات الإسرائيلية المتكررة بضرب البرنامج النووي إلى حيز التنفيذ.
احتفاؤنا بالدورين التركي والإيراني مدخلاً لتغيير ميزان القوى القاتل مع إسرائيل، لا يوازيه سوى إحباطنا إزاء الحالة العربية المأسوية، فقد انطلقت تظاهرات في العديد من عواصم العالم، وعلت صرخات الاحتجاج في أنقرة أكثر من طهران التي اكتفت بالدعوة الحذرة إلى مساعدة الشعب الفلسطيني. وحده العالم العربي ظل صامتاً فاقداً حتى الحد الأدنى من مشاعر التضامن الإنساني. وتسابق كثيرون إلى الإغاثة وتقديم العون، إلاّ إن المنظمات المهنية التي كانت دائماً سباقة إلى الاضطلاع بهذا الدور في مصر، شاركت في موقف الصمت والنأي بالنفس. ونقل أحد كبار الصحافيين المصريين، أن أسوأ ما في هذا المشهد المضحك المبكي تمثل في إفصاح وسائل الإعلام المصرية عن توجهات سياسية مؤيدة بشكل أو بآخر لأهداف العدوان الإسرائيلي. ونظراً إلى أنه لم يسبق أن عرفت مصر "أم الدنيا" مثل هذه الظاهرة، فإنه يصح التساؤل عما إذا كانت القاهرة قد استقالت من دورها العربي والتاريخي. هذه ليست دعوة إلى حرب تحرير ولا إلى مشاركة في إطلاق الصواريخ، وإنْ صرنا نرى ضرورة لحماية البنية التي تصنعها، والإرادة التي تطلقها وتعرف كيف تميز بفضل المعيار الفلسطيني بين العدو والشقيق.
لكن فيضان القوة الغاشمة من جانب إسرائيل، وما يوازيه على الجانب العربي من مظاهر فراغ القوة، يدعونا إلى التأمل بعمق أكبر في مآلات الاستقطاب الإقليمي المتبادل بين إيران وتركيا. فتطور السلوك التركي المتشدد إزاء إسرائيل خلال السنوات الأخيرة، يظهر أن صانعي القرار في أنقرة تحركهم في آن واحد حسابات باردة تتعلق بالمصالح، وضوابط أخلاقية تتعلق بالعدالة وحقوق الإنسان والتضامن الإسلامي. لذلك فإن معارضة تركيا الحصار الإسرائيلي على قطاع غزة، والاعتراف بحركة "حماس" وبناء علاقات مميزة معها، بعد الانحياز الواضح إلى القضية الفلسطينية، تندرج في عملية إعادة توجيه للسياسة باتجاه التعاطف الواضح مع القضية الفلسطينية؛ فالهجوم الإسرائيلي على أسطول السلام التركي في سنة 2010 كان نقطة التحول في علاقات ملتبسة راحت تتدهور بين إسرائيل وتركيا على خلفية الحرب العدوانية على قطاع غزة سنة 2008، وقبلها العدوان على لبنان في صيف سنة 2006. وجاء قرار طرد السفير الإسرائيلي في أنقرة، وتجميد العلاقات التركية - الإسرائيلية مطلع أيلول/سبتمبر 2011، ثم إعلان أنقرة تعزيز وجودها البحري في الحوض الشرقي للبحر الأبيض المتوسط، لتؤكد دخول تركيا سباق الزعامة الإقليمية من البوابة الفلسطينية.
هل يعني هذا أن ثمة احتمالاً لأن تجاري تركيا النهج الإيراني - الأصولي في معارضة إسرائيل؟ إن تركيا، حتى إشعار آخر، تتمسك بمبدأ التسوية السلمية، وتتهم إسرائيل بتقويض عملية السلام التي تؤيد أنقرة إدارتها على نحو متوازن وعادل، بينما تعلن إيران أن إسرائيل دولة غير شرعية ولا ترى حلاً وافياً للصراع العربي -الإسرائيلي والفلسطيني – الإسرائيلي إلاّ بالجهاد المسلح والمقاومة المستمرة.
خلافاً لإيران يجري الخطاب التركي في شأن القضية الفلسطينية تحت سقف القانون الدولي والحقوق المشروعة المعترف بها للشعب الفلسطيني، وفي مقدمها حقه في تقرير المصير وإقامة دولته المستقلة إلى جانب إسرائيل. وهذا لا يمنع من أن تتطور التصورات الاستراتيجية التركية وتلتقي التصورات الإيرانية انطلاقاً من رؤية مشتركة إلى التحولات في العلاقات الدولية، وتحديداً في الحقل الجيوسياسي وتراجع مكانة الغرب بالتدريج على النطاق العالمي.
يبقى أن السباق على النفوذ في العالم العربي وآسيا الوسطى، هو في قلب الدينامية الاستراتيجية بين تركيا وإيران. وقد كشفت الثورات العربية والتحولات التي غيرت، ولا تزال تغير، صورة العالم العربي، الاختلافات في مقاربة القطبين للأوضاع المستجدة، وخصوصاً في شأن الأزمتين السورية والعراقية. وأياً يكن تطور هذه الاختلافات، فإن مشكلة فراغ القوة العربية، تخلق بيئة جاذبة لتنافس القطبين الإيراني والتركي. وما دام المشروع العربي غائباً، فإن الاستقطاب الإيراني - التركي سيستمر. ولا يغير في هذه الحالة سوى عودة مصر واندفاعها إلى استعادة دورها العربي والإقليمي. وإذا حدث ذلك فإن المنطقة تستعيد شيئاً فشيئاً التوازن وتعود المحاور الإقليمية إلى حجمها الطبيعي، ولا يعود العالم العربي ملعباً لها فقط، وتعود مصر لتستعيد دور القاطرة العربية، فتُحدث مع تركيا توازناً أفضل وكذلك مع إيران.
هل نحلم بعقلانية ما في زمن التفكك واللايقين؟ وماذا لدى تركيا وإيران لوقف سياسة الإبادة الإسرائيلية بعيداً عن مزاحمة العرب في شأن الزعامة الإقليمية.