تستدعي قراءة دلالات وارتدادات الحرب الأخيرة على قطاع غزة وضعها في سياق سلسلة الحروب والمجازر التي قادتها إسرائيل منذ قيامها حتى اليوم ضد الشعب الفلسطيني. فهي لن توقف حروبها هذه ما دام الشعب الفلسطيني يصر على روايته التاريخية، وعلى تمسكه بحقوقه الوطنية حتى لو اختُزلت إلى حدود دنيا وجارحة كما جرى في اتفاق أوسلو. ومن دون هذا يصعب تفسير قيام إسرائيل بشن خمس حروب فلسطينية منذ اتفاق أوسلو (حرب النفق سنة 1996؛ اجتياح الضفة سنة 2002؛ حروب إسرائيل الثلاث على غزة منذ سنة 2008)، وهي "حروب" خاضتها إسرائيل على شعب يرزح تحت احتلالها، وكانت قد طاردته حروبها واغتيالاتها في الشتات (أبرزها اجتياح لبنان وحصار بيروت في سنة 1982، واغتيال أبو جهاد في تونس، وحصارها الرئيس الفلسطيني أبو عمار في رام الله، إلخ). كما أنها ارتكبت عشرات المجازر المروعة ضد مخيماته وقراه ومدنه في تجمعاته المتعددة وفق مقتضيات سياسة تقوم على تفتيت الشعب الفلسطيني و"كي وعيه" الوطني. لذا، نجد أن إسرائيل لم تغير سياستها تجاه هذا الشعب بعد اتفاق أوسلو، وإنما استخدمت هذا الاتفاق للتعجيل في استيطانها الأرض حيث ازداد عدد مستوطنيها في الضفة الغربية ثلاثة أضعاف منذ الاتفاق، وكذلك واصلت سياسة الاعتقال الإداري، واعتمدت سياسة وضع الفلسطينيين في معازل، وبنت جدارها الفاصل، وشيدت الطرق الالتفافية العنصرية، واستمرت في تهويد القدس، وفي تثبيت السيطرة على المعابر والموارد الطبيعية، وفي تهميش اقتصاد الضفة والقطاع وترسيخ نظام الأبارتهايد ليشمل جميع الفلسطينيين داخل الخط الأخضر وخارجه ( ومن هنا دعوة إسرائيل الفلسطينيين إلى الاعتراف بها دولة يهودية).
ألا يجدر بهذا الالتفات إلى القضايا التالية:
أولاً، الحاجة العاجلة إلى إعادة تأهيل الحركة الوطنية الفلسطينية، وتشييد مؤسساتها بما لا يستثني أياً من القوى السياسية الفلسطينية الحية، ولا أياً من التجمعات الفلسطينية داخل فلسطين التاريخية وخارجها. نحن في حاجة إلى حركة وطنية جديدة قادرة على إنجاز استراتيجيا تشترك تجمعات الشعب الفلسطيني كلها وقواه في صنع القرار الوطني، كما في النضال التحرري، ووفق الأشكال الكفاحية الملائمة والناجعة لكل منها. ومن الواضح أن إحباط استكمال الوحدة الوطنية (ولا سيما بين "فتح" و"حماس") كان من أبرز دوافع العدوان الإسرائيلي على الضفة الغربية المحتلة أولاً وتحويله إلى حرب عدوانية على غزة ثانياً. ما تريده إسرائيل هو تجزئة الشعب الفلسطيني جغرافياً وسياسياً ومؤسساتياً وطائفياً، وعزل قطاع غزة عن الضفة الغربية، وكليهما عن القدس، والأراضي المحتلة منذ سنة 1967 عن الأراضي التي احتُلت في سنة 1948، وإبقاء الشتات خارج حدود فلسطين. لذا تستدعي اللحظة التاريخية الراهنة إنجاز حركتي "حماس" و"فتح" (وبإشراك القوى السياسية الأُخرى) تسوية تاريخية تحدد طبيعة المرحلة وأهداف النضال وأشكاله وسبل إشراك تجمعات الشعب الفلسطيني في تكويناته المتنوعة في النضال الوطني، واستثمار رصيد التعاطف والتأييد العربي والإقليمي والدولي لنضال الشعب الفلسطيني التحرري من أجل فرض العزلة والمقاطعة الدوليتين على إسرائيل، ودراسة سبل الانفكاك السريع من أسر اتفاق أوسلو، وعبثية المفاوضات الثنائية والرهان على أميركا وعلى المحاور الإقليمية، وتحفيز المقاومة بأشكالها المتنوعة السياسية والفكرية والثقافية والدبلوماسية والجماهيرية والمسلحة وفق مقتضيات الموقع والمرحلة والحالة الجماهيرية.
ثانياً، الحذر الشديد من حصر المطلب الفلسطيني في الدعوة إلى وقف إطلاق النار. فهذا يخدم استراتيجيا إسرائيل لما يشكله من تضليل وتزييف، لأنه يخفي حقيقة أن أحد الطرفين (شعب غزة) يقبع تحت الاحتلال والحصار والعدوان العنصري، وهو في حالة دفاع عن النفس، ومحروم من ممارسة حقه في الحرية، وفي مجابهة القوة التي تحتل أرضه وتشرد شعبه وتحول دون ممارسة هذا الشعب حقه في تقرير المصير. لذا يجب التركيز على إنهاء الحصار الذي يسيّج 2,800,000 شخص بالحرمان والبؤس والموت بالتدريج.
وفي هذا السياق، من الضروري الانتباه إلى أن مَنْ يتبنى مقولة أن لإسرائيل الحق في الدفاع عن نفسها ضد قوى المقاومة إنما يدعم دولة الاستعمار الاستيطاني واستمرار احتلالها وممارستها العنصرية ضد شعب فلسطين. لذا يجب ألاّ تغيب أولوية رفع الحصار عن غزة وحقها في الارتباط بالضفة الغربية، وضرورة إطلاق الأسرى (فهم مناضلون حرية)، على أن يترافق ذلك مع المباشرة في ورشة عمل لإعادة تشييد الحركة الوطنية وتوحيدها واستنهاضها وإعادة الاعتبار إلى القضية الفلسطينية كقضية تحرر وطني لشعب يناضل من أجل التحرر من أبشع استعمار استيطاني عنصري في التاريخ المعاصر. إن هذه أداة استراتيجيا عزل إسرائيل سياسياً وأخلاقياً ودولياً، وتوليد توازن قوى جديد. وما يثير الاستغراب والعجب هو التردد والتلكؤ في انضمام فلسطين إلى المعاهدات والاتفاقات الدولية التي تتيح محاكمة قادة إسرائيل على ما ارتكبوه ويرتكبونه يومياً من جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.
ثالثاً، من الحكمة أن تستذكر الحركة الفلسطينية بعض صفحات تاريخها الراهن. ومن هذه الصفحات ما يحذر بشدة من إبرام اتفاقات أو تفاهمات من دون تأمين ما يكفل تنفيذها على الأرض ويحول دون التهرب من ذلك. وعلينا ألاّ ننسى ما جرى بعد الخروج من بيروت سنة 1982، وبعد ما يقرب من صمود ومقاومة باسلة استمرت قرابة ثلاثة أشهر في مواجهة حصار وقصف وتدمير. فشروط الخروج من بيروت لم تشمل ضمانات ملموسة وواضحة لحماية المخيمات من محاولات الاستفراد بها، سواء من إسرائيل أو من قوى محلية موتورة. ومن هنا كانت مجزرة صبرا وشاتيلا بعد نحو أسبوعين من خروج المنظمة من لبنان، وقد تبع ذلك بعد أعوام قليلة حروب على بعض هذه المخيمات. ويفيد هنا التذكير بأن إسرائيل التي وافقت على اتفاقية الهدنة سنة 2012 تجاهلت تطبيق العديد من بنودها على الأرض، كما أنها لم تلتزم شروط إطلاق الجندي الإسرائيلي شاليط، إذ عادت فاعتقلت كثيرين ممن أطلقت بعد اختطاف اثنين من المستوطنين في منطقة الخليل وقتلهما.
ومن صفحات التاريخ الفلسطيني القريب ما يستدعي الحذر الشديد من العودة إلى الوقوع في شباك المحاور العربية والإقليمية والدولية. فهذه المحاور المتداخلة دفعت إلى الاستقطاب الداخلي والانكشاف الشديد لتأثيراتها وضغوطها وأجنداتها، وقادت الحركة الفلسطينية إلى انقسام مدمر لم تنجح حتى اللحظة في الخروج منه. ويكفي التمعن في واقع عديد الدول العربية لإدراك حجم الدمار والمآسي والتمزق الذي تركه الالتحاق بمحاور عربية وإقليمية ودولية، وما يجري من عنف طائفي، ومن شقاء سياسي واجتماعي واقتصادي وتقهقر ثقافي وحضاري. والحالة الفلسطينية لم تكن بعيدة، في العقدين الأخيرين، إذ وقعت في مصيدة هذا المحور أو ذاك، الأمر الذي قاد إلى شق الحركة الوطنية وتسويغ هذا الانقسام بشعارات متهافتة.
ولهذا، لا مفر من حماية استقلالية الحركة الوطنية الفلسطينية من تدخلات وضغوط المحاور الإقليمية والدولية، عبر وحدة وطنية تقوم على أسس وطنية وديمقراطية وتمثيلية شاملة (بعيدة عن التفرد والاستفراد الفصائلي والعقائدي)، إذ لم يعد خفياً ما تولد من الارتهان إلى هذه المحاور من تخريب للحركة الفلسطينية. ولا يُخفى الخراب الذي جلبه الرهان على الولايات المتحدة على الرغم من سطوع وضوح عدائها للشعب الفلسطيني (ولشعوب المنطقة)، وما تحمله من انحياز سافر إلى العنصرية التوسعية الإسرائيلية.
خلاصة الأمر، أن العدوان على غزة والصمود المبهر لشعب غزة وأداء المقاومة المشرف والرادع لاندفاع العدوانية العنصرية الإسرائيلية، كلها أمور وفرت حالة انتعاش وطني ينبغي لنا استثمارها لمصلحة إعادة نظر جماعية في تجديد بنية الحركة الوطنية الفلسطينية ومرجعياتها واستراتيجيتها وبرنامجها فتُبنى على التشارك والتحرر من ضغوط المحاور الإقليمية والدولية وتدخلاتها، ومن قيود اتفاق أوسلو. كما بيّن التضامن الرائع لمكونات الشعب الفلسطيني كافة (داخل فلسطين وفي الشتات) كم نحن في حاجة إلى إطلاق العنان لإبداعات الوطنية الفلسطينية في اندفاعاتها الكفاحية المتنوعة ضد الاحتلال والحصار والتمييز والعنصرية والظلم، من أجل التحرر من كل ما هو ظلامي ومدمر لقيم الحرية والمساواة والعدالة.
ولعل الدعوة إلى التئام الإطار القيادي الموقت لمنظمة التحرير دليل على بداية صحوة قيادات الفصائل الفلسطينية فيما يتعلق بأهمية إعادة بناء منظمة التحرير كإطار جامع لحركة تحرير وطنية، وليس كمسوغ لسلطة تحتفل بالتنسيق الأمني مع دولة استعمارية استيطانية عنصرية.