شكل المؤتمر الذي عقدته مؤسسة الدراسات الفلسطينية بالتعاون مع معهد عصام فارس للسياسات العامة والشؤون الدولية بمناسبة مرور 100 عام على تصريح بلفور و70 عاما ًعلى صدور قرار التقسيم، فرصة فريدة من أجل قراءة تاريخية عميقة متأنية وجدية لهذين الحدثين التاريخيين اللذين كانا في أساس نكبة الشعب الفلسطيني، وخسارته لأرضه، وحرمانه من حقوقه.
خلال يومين على التوالي تعاقب على الكلام مجموعة من كبار الباحثين المتخصصين في التاريخ الفلسطيني وتاريخ المنطقة للإضاءة على عدد من الأسئلة في طليعتها: عمق التداخل بين المشروعين الصهيوني والاستعماري الكولونيالي؟ والدور الذي لعبته الحركة الوطنية الفلسطينية عبر التاريخ بهدف التصدي لانعكاسات تصريح بلفور وقرار التقسيم.
تميز اليوم الأول للمؤتمر بالمداخلة التي قدمها رشيد الخالدي شارحاً دلالات اعتراف ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل مشدداً على العوامل الداخلية التي كانت في صلب هذا القرار لا سيما إرضاء الجمهور المسيحي الإنجيلي الذي يشكل قاعدته الانتخابية واستمالة الجمهور اليهودي الأميركي. ورأى الخالدي في الإعلان دليلاً ساطعاً على استحالة أن تقوم الولايات المتحدة بدور الوسيط النزيه في النزاع الإسرائيلي-الفلسطيني، فهي لم ولن تكون في يوم من الأيام وسيطاً بل طرفاَ وقف على الدوام إلى جانب إسرائيل. تلا ذلك ورقة قدمتها بيان نويهض الحوت تحدثت فيها عن الدور التأسيسي الذي لعبه وليد الخالدي في التأريخ للنكبة الفلسطينية وللمشروع الصهيوني.
في جلسات اليوم الأول للمؤتمر، عالجت نورا عريقات كيف يمكن وضع القانون الدولي في خدمة أهداف استعمارية ومشاريع احتلالية. وشددت على أهمية الاستخدام الذكي والناجع للقانون الدولي في خدمة نضال الشعب الفلسطيني من أجل نيل حقوقه. أما أنيس القاسم فألقى الضوء على الازدواجية في تفسير قرارات الشرعية الدولية، وفشل هذه الشرعية في وضع حد للمخالفات الإسرائيلية للقوانين الدولية، والعجز العربي في التصدي لذلك.
وقدمت سحر هنيدي في ورقتها قراءة لتصريح بلفور بالاستناد إلى الأرشيف البريطاني، بينما قام يوجين بورغان بدارسة قرار تقسيم فلسطين في ضوء الصراع الدولي على النفوذ في المنطقة. وشرح شفيق المصري الدور الذي لعبه قرار التقسيم في منح الشرعية الدولية لقيام دولة إسرائيل. ودافع كميل منصور عن أهمية الديناميات الفلسطينية من أجل الحصول على اعتراف دولي، وضرورة الحضور الفلسطيني في الساحة الدولية.
في اليوم الثاني للمؤتمر قدم آلان غريش عرضاَ لأعمال المثقفين والكتاب والصحافيين الفرنسيين الذين زاروا المنطقة بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، وكتاباتهم عما كان يجري في فلسطين متسائلاً عن سبب تعاميهم عن الاستعمار البريطاني، ومعترفاً بأن هذه الكتابات التاريخية ما تزال تؤثر اليوم أيضاً على السردية السائدة اليوم في فرنسا. أما دومينك فيدال فقد أوضح مدى اعتماد وجود إسرائيل بصيغتها الحالية على وعد بلفور. وتحدث جيلبير أشقر عن ازدواجية المشروع الصهيوني، وتحول الشعب اليهودي من أمة مُضطَهدة (بفتح الهاء) إلى أمة مضطِهدة (بكسر الهاء).
في الجلسة الأخيرة للمؤتمر تحدث رشيد الخالدي عن وعد بلفور من منظور ضحاياه، وتحدث ماهر الشريف عن نشوء الحركة الوطنية الفلسطينية في مطلع العشرينيات من رحم الحركة القومية العربية في بلاد الشام، داحضاَ الفكرة الصهيونية القائلة إن الحركة الفلسطينية كانت مجرد رد فعل على الحركة الصهيونية ومشروعها؛ بينما تناول خالد الحروب دور القيادات الوطنية الفلسطينية في التصدي لقرار التقسيم، وعرض حسن كريّم مواقف النظام العربي الرسمي من قرار تقسيم فلسطين.
أعقب ذلك طاولة مستديرة أدارها الياس الخوري موضوعها :النكبة الفلسطينية سيرورة مستمرة". وقد امتازت جلسات المؤتمر بالنقاشات المثمرة التي برزت خلالها مشاركة واضحة لجيل الشاب.
يأتي مؤتمر مؤسسة الدراسات الفلسطينية في فترة حساسة للغاية من التطورات التاريخية المتسارعة، حيث يجري تشويه الحقائق التاريخية ووضعها في خدمة أهداف سياسية شعبوية تحريضية، ونرى غلبة "fake News" الحقائق الكاذبة في التأثير على الرأي العام. لقد كان هدف عمل مؤرخي مؤسسة الدراسات تصويب البوصلة من خلال إظهار الحقيقة التاريخية من مصادرها المتنوعة، والمساهمة في قراءة ناضجة وواعية ومحكمة لأحداث الماضي من أجل فهم ما يجري اليوم من مخططات للقضاء على القضية الفلسطينية وعلى نضال الشعب الفلسطيني.
من خلال هذا المؤتمر تحرص المؤسسة، كما قال رئيس مجلس أمنائها طارق متري على القيام بدورها كمؤسسة بحث غايتها المساهمة في خلق وعي ومعرفة أفضل للتاريخ الفلسطيني في مجتمعاتنا العربية. وهي تضع هذه المعرفة في خدمة متخذي القرارت والحركات والتنظيمات السياسية من أجل بلورة رؤية جديدة للمشروع الوطني الفلسطيني، ومن أجل حماية النضال الفلسطيني، هذا النضال الذي كما قال عنه ماهر الشريف كان وسيبقى نضالاً وطنياً وليس دينياً ضد المشروع الاستعماري الصهيوني .