لم تولد الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة، بعد حزيران/يونيو 1967، داخل فلسطين وإنما ولدت في الشتات، وشكّلت المخيمات قاعدتها الاجتماعية، وكان في مقدمة أهدافها ضمان عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى وطنهم. وعلى الرغم من تشتت الشعب الفلسطيني وتوزعه على تجمعات عديدة، تتباين في أوضاعها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والقانونية، استطاعت منظمة التحرير الفلسطينية، التي جسدت هذه الحركة، أن توحد هذه التجمعات في كيان سياسي واحد.
ولكن قبل أن أتوقف عند كل مرحلة من هذه المراحل الخمس، سأحاول أن أعرض بشكل سريع طبيعة النشاط السياسي الذي انخرط فيه الفلسطينيون بعد وقوع نكبة فلسطين وحتى تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية.
البحث عن فلسطين في أطر ما فوق وطنية
تركت حرب 1948، التي أسفرت عن تهجير القسم الأعظم من الفلسطينيين وتمزيق الكيان الفلسطيني، المجتمع الفلسطيني من دون قيادة، وأدّت إلى اختفاء التعبيرات السياسية للحركة الوطنية الفلسطينية التي نشطت في عهد الانتداب البريطاني، حيث لم يبقَ من تلك التعبيرات سوى "الهيئة العربية العليا لفلسطين" برئاسة المفتي محمد أمين الحسيني، التي واصلت نشاطها، في القاهرة أولاً وفي بيروت فيما بعد، ولكن من دون أن يكون لنشاطها أي تأثير على تطور الأحداث. بيد أن غياب تعبيرات الحركة الوطنية الفلسطينية، التي عرفها عهد الانتداب، لم يؤدِ إلى القضاء على العمل السياسي الفلسطيني الذي استمر بأشكال وأطر تنظيمية جديدة، حيث انضم الناشطون الفلسطينيون، بعد النكبة، إلى تنظيمات ما فوق وطنية، قومية أو إسلامية أو شيوعية.
فقد كانت قضية فلسطين واحدة من أبرز القضايا التي استأثرت باهتمام "حزب البعث العربي"، الذي تأسس رسمياً في دمشق، في 7 نيسان/أبريل 1947، على يد معلمين سوريين هما ميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار، وشكّل بعد أشهر قليلة من تأسيسه "مكتب فلسطين" القومي، كما نجح في استقطاب عدد من الناشطين الفلسطينيين، وصار له، منذ مطلع الخمسينيات، حضور في الضفتين الغربية والشرقية لنهر الأردن، وبعد ذلك بسنوات في قطاع غزة. كما كانت نكبة فلسطين الباعث الرئيسي لبروز "حركة القوميين العرب"، التي لعب الدور المركزي في تأسيسها في بيروت، في مطلع سنوات الخمسينيات، طالب الطب الفلسطيني في الجامعة الأميركية في بيروت، جورج حبش، وهو ابن تاجر مسيحي من مدينة اللد، شهد نزوح أهله عن بيتهم وتشرد حوالي 30000 فلسطيني عقب المجزرة التي ارتكبتها القوات الإسرائيلية في المدينة في تموز/يوليو 1948. وقد بدأت هذه الحركة نشاطها بإنشاء "هيئة مقاومة الصلح مع إسرائيل" التي عملت على تعبئة اللاجئين الفلسطينيين ضد مخططات إعادة توطينهم. وبفضل هذه الهيئة، تمكنت حركة القوميين العرب من إقامة صلات بمخيمات اللاجئين في الأردن، بضفتيه، وفي لبنان وسورية، وتأليف خلايا سرية لها، وبخاصة بين صفوف معلمي مدارس "وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينين" (الأونروا).
وكانت "جماعة الإخوان المسلمين"، التي تشكّلت في مصر سنة 1928، على يد الداعية حسن البنا، قد واصلت نشاطها بعد النكبة، بالاستناد إلى "شِعَبها"، التي راحت تتشكّل في مدن فلسطين بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية. وفي النصف الأول من الخمسينيات، برزت "جماعة الإخوان المسلمين" في قطاع غزة بوصفها من أنشط القوى السياسية، وساهمت، مساهمة فاعلة، في النضال ضد مشروع توطين اللاجئين الفلسطينيين في سيناء، وضد مشروع تدويل القطاع، وذلك قبل أن تعاني من الحملات القمعية التي صارت تستهدفها، لا سيما بعد قرار السلطات المصرية بحظر نشاط الجماعة الأم في مصر في سنة 1954. كما عززت الجماعة وجودها في مخيمات اللاجئين في الضفتين الشرقية والغربية لنهر الأردن، لكنها ركّزت نشاطها على الجانب الاجتماعي على حساب الجانب السياسي.
وكان أعضاء التيار الشيوعي، الذي كانت تمثّله، قبل النكبة، "عصبة التحرر الوطني في فلسطين"، التي تشكّلت في مطلع عام 1944، قد توزعوا على المناطق التي قامت عليها دولة إسرائيل، حيث شكّلوا مع رفاقهم اليهود "الحزب الشيوعي الإسرائيلي"، في تشرين الأول/أكتوبر 1948، وعلى الضفة الغربية لنهر الأردن، حيث أسسوا، مع رفاقهم من الضفة الشرقية، "الحزب الشيوعي الأردني"، في عام 1951، وعلى قطاع غزة، حيث تحوّل تنظيم "عصبة التحرر الوطني" إلى "الحزب الشيوعي الفلسطيني في قطاع غزة"، في عام 1953.
الوحدة العربية هي الطريق لتحرير فلسطين
في سنوات الخمسينيات، كان من الطبيعي أن تستقطب الحركات والأحزاب القومية، مثل "حركة القوميين العرب"، في المقام الأول، و"حزب البعث العربي الاشتراكي"، في المقام الثاني، العدد الأكبر من الناشطين الفلسطينيين.
فخلافاً لبرنامج "جماعة الإخوان الإسلاميين"، الذي كان يرى في فلسطين أرض "وقف إسلامي" ويعتبر أن استعادتها يتطلب حشد " كل إمكانيات الأمة الإسلامية " و"القضاء على عوامل الفساد الداخلي فيها "، من جهة، ولبرنامج الشيوعيين، الذي كان يستند إلى قرار تقسيم فلسطين الدولي، رقم 181 الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في تشرين الثاني/نوفمبر 1947، ويدعو إلى تعاون القوى الديمقراطية العربية واليهودية في النضال "ضد الاستعمار وضد الرجعيتين العربية واليهودية"، من جهة ثانية، خلافاً لهذين البرنامجين، أرجع ممثلو التيار القومي العربي النكبة الفلسطينية إلى التجزئة العربية وضعف الولاء القومي، معتبرين أن القضية الفلسطينية قد تحوّلت إلى قضية عربية، وأن الخطر الصهيوني بات يهدد كل العرب، الذين عليهم "العمل على تحرير فلسطين والقضاء على دولة إسرائيل عن طريق القوة"، ورفض "كل أنصاف الحلول، مثل مشاريع تعويض وإسكان اللاجئين الفلسطينيين". ورأى ممثلو هذا التيار في الوحدة العربية الطريق إلى تحرير فلسطين، مقدّرين، لدى الإعلان في شباط/فبراير 1958 عن قيام الوحدة الاندماجية بين مصر وسورية، أن الجماهير العربية قد نجحت في إقامة "نواة دولة الغد العظمى"، وأن ولادة الجمهورية العربية المتحدة قد مثّل أول رد عربي "من مستوى التحدي الذي حملته إلى العرب نكبتهم في فلسطين".
منظمة فلسطينية مقاتلة ومستقلة عن الأحزاب والنظم العربية
لكن بينما كان ممثلو التيار القومي العربي يروجون لشعار "الوحدة العربية هي طريق تحرير فلسطين"، كان عدد من الشبان الفلسطينيين يعملون في السر على إنشاء منظمة فلسطينية مقاتلة ومستقلة عن الأحزاب والنظم العربية.
كانت خطوط الهدنة قد شهدت، بعد النكبة، عمليات إغارة فردية على مواقع الجيش الإسرائيلي ودورياته. ثم حل محل التسلل الفردي نوع من العمل العسكري شبه المنظم، حيث قرر الرئيس جمال عبد الناصر، بعد الغارة الإسرائيلية التي وقعت على قطاع غزة في 28 شباط/فبراير 1955، والاحتجاجات الشعبية الفلسطينية التي أعقبتها مطالبة بالتسليح، تشكيل وحدات من الفدائيين الفلسطينيين.
وفي منتصف الخمسينيات، ولا سيما بعد العدوان الثلاثي على مصر في خريف عام 1956، كانت قد نضجت، لدى عدد من اللاجئين المتعلمين من قطاع غزة فكرة تشكيل هذه المنظمة الفلسطينية المقاتلة والمستقلة. فقد كان معظم مؤسسي "حركة فتح" من اللاجئين الذين وفدوا إلى غزة بعد سنة 1948، والتقى بعضهم في القاهرة في إطار "رابطة الطلبة الفلسطينيين" التي تأسست في مطلع الخمسينيات، وبدأ عدد منهم حياته السياسية في "جماعة الإخوان المسلمين"، كما كان من بينهم من تمرس بالعمل المسلح، في إطار المجموعات العسكرية السرية التي شكّلتها "جماعة الإخوان المسلمين"، أو شارك في المقاومة المسلحة ضد الاحتلال الإسرائيلي لقطاع غزة. وقد تقاطر معظمهم إلى بلدان الخليج لتوفير الموارد المالية اللازمة لإطلاق حركتهم. ويُعتقد أن النواة الأولى لـ "حركة فتح" قد تأسست في الكويت في 10 تشرين الأول/أكتوبر 1957، بحضور مندوبين قدموا من عدة بلدان عربية، ثم انضم إلى هذه النواة الأولى لاحقاً عدد من الفلسطينيين الذين لجأوا إلى سورية.
لقد استندت "حركة فتح" عند انطلاقتها إلى اللاجئين في الشتات، من المعلمين والموظفين، كما استندت إلى الطلبة الفلسطينيين في البلدان العربية والأوروبية من أعضاء "الاتحاد العام لطلبة فلسطين" الذي تأسس في عام 1959. بيد أن "حركة فتح" لم تشهد عند تأسيسها إقبالاً على العضوية فيها، بل تمّ انتقادها من أطراف كثيرة بوصفها حركة "إقليمية" تقف في وجه الناصرية والوحدة العربية. ولم تنفتح آفاق العمل الواسعة أمامها إلا بعد انفراط عقد الجمهورية العربية المتحدة، في أيلول/سبتمبر 1961، وانتصار الثورة الجزائرية، في تموز/يوليو 1962، حيث راحت تظهر لها خلايا في كل من قطاع غزة والأردن ومصر وسورية ولبنان والكويت وقطر والسعودية. وبوصفها حركة لاجئين، تعمل خارج الأرض الفلسطينية، كانت " فتح" بحاجة إلى دعم عربي، وجدته في البداية في الجزائر، منذ عام 1962، ثم في سورية اعتباراً من عام 1964.
وقد تركت توجهات هذه الحركة تأثيراً على الحركات والأحزاب القومية العربية، حيث اندفعت "حركة القوميين العرب"، منذ مطلع الستينيات وبصورة تدريجية، للعمل على ضمان استقلالية أعضائها الفلسطينيين، كما راحت تحضّر لممارسة العمل المسلح. ومن جهة أخرى، بدأ أعضاء "حزب البعث" الفلسطينيون يضغطون، منذ سنة 1959، على قيادتهم القومية من أجل تشكيل إطار فلسطيني مستقل.
الولادة العربية لمنظمة التحرير الفلسطينية
كانت الوحدة المصرية-السورية، التي تحققت في شباط/فبراير 1958، قد خلقت شعوراً لدى قطاعات واسعة من الفلسطينيين بأن الوقت قد حان كي ينظّم الشعب الفلسطيني صفوفه، ويستعد لمعركة "التحرير" بالاستناد إلى جدار دولة الوحدة. كما شجعت على تصاعد الأصوات الداعية إلى ضم فلسطين إلى الجمهورية العربية المتحدة.
ويبدو أن الرئيس جمال عبد الناصر قد وجد نفسه، في تلك الفترة، أمام تحدٍ كبير. فهو لم يكن في مقدوره أن يرفض مبدئياً فكرة ضم فلسطين إلى دولة الوحدة، لكنه كان يشعر، في الوقت نفسه، بأن هذه الدولة غير قادرة وحدها، وبمعزل عن الدول العربية الأخرى وعن الفلسطينيين أنفسهم، على حمل أعباء معركة التحرير. وعليه، طرحت حكومته على مجلس جامعة الدول العربية، المنعقد في القاهرة في آذار/مارس 1959، اقتراحاً يدعو إلى العمل على إبراز الكيان الفلسطيني. ووافق المجلس على "إعادة تنظيم الشعب الفلسطيني وإبراز كيانه شعباً موحداً يسمع صوته في المجال القومي وعلى الصعيد الدولي وبواسطة ممثلين يختارهم الشعب الفلسطيني". ومن جهة أخرى، وفي خضم الصراع على النفوذ الذي كان يخوضه في مواجهة جمال عبد الناصر، طرح النظام الجمهوري في العراق، بزعامة الجنرال عبد الكريم قاسم، في خريف العام 1959، فكرة قيام "جمهورية فلسطينية"، تبسط سيادتها، في مرحلة أولى، على الضفة الغربية وقطاع غزة، ثم توسّع هذه السيادة لتشمل المناطق الفلسطينية التي احتلت عام 1948. وأعلنت الحكومة العراقية بالفعل، في آذار/مارس 1960، تشكيل "فوج التحرير الفلسطيني".
في نهاية العام 1963، شرعت إسرائيل في تحويل مجرى مياه نهر الأردن، الأمر الذي أدّى إلى تزايد حدة التوتر على جبهة الصراع العربي-الإسرائيلي، وتأجيج حدة الخلاف بين المحاور العربية المختلفة. ففي مواجهة سورية، التي طرحت فكرة التصدي بالقوة لإسرائيل، اتّخذ الرئيس جمال عبد الناصر موقفاً حذراً، كان ينبع من قناعته بأن مصر غير مستعدة للدخول في حرب مع إسرائيل وأن دخولها في مثل هذه الحرب سيكون "مغامرة عسكرية". وفي 23 كانون الأول/ديسمبر 1963، بادر الرئيس المصري إلى دعوة ملوك وأمراء ورؤساء الدول العربية إلى الاجتماع في القاهرة لبحث الموقف الذي يتوجب تبنيه لمواجهة المشروع الإسرائيلي.
وفي مؤتمر القمة العربي الأول، الذي التأم في القاهرة ما بين 13 و 16 كانون الثاني/يناير 1964، أدان المجتمعون قيام إسرائيل "بعدوان خطير جديد على المياه العربية بتحويل مجرى نهر الأردن"، واتخذوا "القرارات العملية اللازمة لاتقاء الخطر الصهيوني الماثل، سواء في الميدان الدفاعي أو في الميدان الفني أو ميدان تنظيم الشعب الفلسطيني وتمكينه من القيام بدوره في تحرير وطنه وتقرير مصيره". وأوكل المؤتمر إلى أحمد الشقيري، ممثل فلسطين لدى مجلس جامعة الدول العربية، مهمة الاتصال "بالدول الأعضاء والشعب الفلسطيني بنية الوصول إلى إقامة القواعد السليمة لتنظيم الشعب الفلسطيني"، ولكن دون أن يشير صراحة إلى إنشاء الكيان الفلسطيني.
وفي 2 حزيران/يونيو 1964، أعلن مؤتمر القدس قيام منظمة التحرير الفلسطينية، وأقر "الميثاق القومي" و"النظام الأساسي" للمنظمة، معتبراً نفسه مجلساً وطنياً. وانتخب أحمد الشقيري رئيساً لمنظمة التحرير الفلسطينية وكلَّفه باختيار أعضاء لجنتها التنفيذية وعددهم 12 عضواً.
وقد حدد "الميثاق القومي" المبادئ الأساسية التي تقوم عليها منظمة التحرير على قاعدة الترابط العضوي بين البعدين الوطني والقومي في النضال من أجل تحرير فلسطين، إذ أكد على أن فلسطين "وطن عربي تجمعه روابط القومية العربية بسائر الأقطار العربية"، وهي بحدودها، التي كانت قائمة في عهد الانتداب البريطاني، "وحدة إقليمية لا تتجزأ"، وأن الوحدة العربية وتحرير فلسطين "هدفان متكاملان يهيئ الواحد منهما تحقيق الآخر". وبعد أن اعتبر باطلاً وعد بلفور، وصك الانتداب، وتقسيم فلسطين وقيام إسرائيل، ورأى في الصهيونية "حركة استعمارية في نشوئها، عدوانية وتوسعية في أهدافها، عنصرية تعصبية في تكوينها"، دعا "إلى إعادة الأوضاع الشرعية إلى فلسطين" و "تمكين أهلها من ممارسة السيادة الوطنية والحرية القومية"، مع تأكيده أن منظمة التحرير الفلسطينية، باعتبارها "مسؤولة عن حركة الشعب الفلسطيني في نضاله من أجل تحرير وطنه"، لن تمارس "أية سيادة إقليمية على الضفة الغربية في المملكة الأردنية الهاشمية ولا قطاع غزة ولا منطقة الحمة [في سورية]".
كانت مواقف القوى الفلسطينية المنظّمة سلبية عموماً تجاه النتائج التي تمخض عنها المؤتمر الوطني الفلسطيني. فقد انتقد ممثلوها الأسلوب "الفوقي، البعيد عن الجماهير وعن الديمقراطية"، الذي اتّبع في تشكيل منظمة التحرير الفلسطينية، وخضوع رئيسها لضغوطات الحكومات العربية ورفضه الإقرار بالسيادة الفلسطينية على الأرض الفلسطينية. بيد أن منظمة التحرير الفلسطينية نجحت - وعلى الرغم من معارضة سورية والسعودية لقيامها – في الحصول على اعتراف رسمي عربي في مؤتمر القمة العربي الثاني، الذي انعقد في مدينة الإسكندرية، في 10 أيلول/سبتمبر 1964. ولعل اعتراف الأنظمة العربية، وعلى رأسها النظام المصري، آنذاك بمنظمة التحرير الفلسطينية، كان يهدف إلى سحب البساط من تحت أرجل التنظيمات الفدائية الفلسطينية المستقلة، وتأطير الفلسطينيين في إطار خاضع للنظام الرسمي العربي. وهو ما دفع "حركة فتح" بالذات إلى الإسراع في تثبيت حضورها على أرض الواقع من خلال قيام جناحها العسكري "قوات العاصفة" بتنفيذ أولى عملياته العسكرية في مطلع كانون الثاني/يناير 1965.
مرحلة هيمنة الكفاح المسلح في الشتات
كانت لهزيمة حزيران/يونيو 1967 نتائج مباشرة على الصعيد الفلسطيني، تمثّلت في سقوط الرهان نهائياً على دور الجيوش النظامية العربية، وفي تحرر العمل الوطني الفلسطيني من قيود "الوصاية " الرسمية العربية. وهكذا، انتشرت ظاهرة العمل الفدائي على نطاق واسع، وتشكّلت تنظيمات فلسطينية جديدة، واضطر أحمد الشقيري إلى تقديم استقالته من رئاسة منظمة التحرير.
وكان الطموح الأولي للتنظيمات الفدائية أن تشكّل الأراضي الفلسطينية المحتلة ساحة الكفاح المسلح الرئيسية، حيث أعلنت قيادة "حركة فتح" بالفعل بدء عملياتها القتالية، من داخل هذه الأراضي، في 28 آب/أغسطس 1967، فيما أسمته "الانطلاقة الثانية". لكن الآمال الفلسطينية بتطور الكفاح المسلح في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وتحوّله إلى حرب شعبية، تبددت بصورة كاملة مع مطلع عام 1968، وبرزت بالتالي الحاجة إلى "ملاذات آمنة" في الدول العربية المجاورة. وكان واضحاً أن الأردن هو المرشح لأن يقدم ملاذاً آمناً، إذ تقيم فيه أغلبية اللاجئين الفلسطينيين، ويملك أطول حدود عربية مع إسرائيل ومع الضفة الغربية.
وكانت "حركة فتح" قد نجحت، في الدورة الرابعة للمجلس الوطني الفلسطيني، في إدخال تعديلات على بنود "الميثاق القومي" لمنظمة التحرير المقرّ في الدورة الأولى للمجلس الوطني في أيار/مايو 1964. فخلافاً للميثاق القديم، الذي عرّف فلسطين بأنها "وطن عربي"، شدّد " الميثاق الوطني" الجديد على أن فلسطين "وطن الشعب العربي الفلسطيني"، وعلى أن هذا الشعب هو "صاحب الحق الأول والأصيل في تحرير واسترداد وطنه"، وهو "يرفض كل أنواع التدخل والوصاية والتبعية". وتجاوباً مع هذا التوجه، حُذف من بنود الميثاق الجديد البند الذي كان يشير إلى أن منظمة التحرير "لا تمارس أية سيادة إقليمية على الضفة الغربية"، وجرى التأكيد على أن منظمة التحرير "مسؤولة عن حركة الشعب العربي الفلسطيني في نضاله من أجل استرداد وطنه وتحريره والعودة إليه وممارسة حق تقرير المصير فيه" .
ومن جهة أخرى، فرض طموح "حركة فتح" إلى ضمان الاعتراف بمنظمة التحرير على الساحة الدولية، بوصفها "ممثل" الشعب الفلسطيني، وإقرار عدد من الدول العربية، بعد هزيمة حزيران/يونيو، بوجود إسرائيل كأمر واقع من خلال اعترافها بقرار مجلس الأمن رقم 242، فرض على قيادتها البحث عن صيغة تضمن التعايش مع التجمع السكاني اليهودي في فلسطين. وهكذا، برز، في النصف الثاني من عام 1968، شعار " الدولة الفلسطينية الديمقراطية " التي ستضمن، بعد تحرير فلسطين "من الاغتصاب والاحتلال الصهيونيين"، حق جميع مواطنيها الشرعيين، "بغض النظر عن الدين واللغة"، بالتمتع بحقوق متساوية، وهو الشعار الذي تبنّاه المجلس الوطني الفلسطيني، في دورته الثامنة التي انعقدت في نهاية شباط/فبراير 1971.
في تموز/يوليو 1971، وبعد مواجهات واسعة اندلعت في أيلول/سبتمبر 1970 بين الجيش الأردني وقوات منظمة التحرير الفلسطينية، نجحت الحكومة الأردنية في إنهاء حالة "ازدواجية السلطة" التي سادت في الأردن منذ عام 1968، وتمكنت من القضاء على الوجود الفلسطيني المسلح، الأمر الذي فرض على منظمات المقاومة الفلسطينية المسلحة نقل قيادتها إلى لبنان وتوسيع وجودها فيه، مستفيدة من الاتفاقية التي تم التوصل إليها في القاهرة بين قائد الجيش اللبناني، إميل البستاني، وياسر عرفات، في 3 تشرين الثاني/يناير 1969، والتي ضمنت حق الإقامة والعمل والتنقل للاجئين الفلسطينيين في لبنان، وحق منظمة التحرير الفلسطينية في إدارة المخيمات الفلسطينية، وحق الفدائيين في مهاجمة إسرائيل عبر ممرات محددة في جنوب لبنان.
بقيت فصائل منظمة التحرير الفلسطينية متمسكة بشعار "تحرير فلسطين" حتى اندلاع الحرب العربية الإسرائيلية الجديدة في 6 تشرين الأول/أكتوبر 1973، التي خلقت، من خلال التوازن العسكري النسبي الذي أفرزته، الوهم بإمكانية التوصل إلى تسوية سياسية شاملة تقوم على قاعدة انسحاب إسرائيل من الأراضي العربية التي احتلتها في حزيران/يونيو عام 1967. وهكذا، طُرح السؤال حول مصير الضفة الغربية وقطاع غزة بحدة على جدول أعمال منظمة التحرير الفلسطينية. وقد أجمعت فصائل المنظمة على رفض عودة الضفة الغربية إلى السيادة الأردنية، مستندة في ذلك إلى موقف قطاعات واسعة من جماهير المناطق الفلسطينية المحتلة التي عبّرت من خلال " الجبهة الوطنية الفلسطينية "، التي تشكّلت في آب/أغسطس 1973، عن رغبتها في أن تتحمّل منظمة التحرير مسؤوليتها عن مصير الأراضي التي قد تنسحب عنها إسرائيل.
وفي أعقاب نقاشات حامية، تبنّى المجلس الوطني الفلسطيني، في دورته الثانية عشرة التي انعقدت في القاهرة في مطلع حزيران/يونيو 1974، "البرنامج السياسي المرحلي" لمنظمة التحرير، الذي نص على إقامة "سلطة الشعب الوطنية المستقلة المقاتلة فوق الأراضي الفلسطينية التي سيندحر عنها الاحتلال". ولكن بدا واضحاً، منذ ذلك الحين، أن منظمة التحرير تتجه نحو تبنّي شعار إقامة دولة فلسطينية مستقلة في الضفة الغربية، بما فيها القدس الشرقية، وقطاع غزة، إلى جانب دولة إسرائيل، وهو الشعار الذي أقرّته بالفعل، بعد ثلاث سنوات تقريباً، الدورة الثالثة عشرة للمجلس الوطني الفلسطيني، التي انعقدت في القاهرة في آذار/مارس 1977.
وبالاستناد إلى هذا التحوّل الذي طرأ على مواقفها، استطاعت منظمة التحرير الفلسطينية أن تحقق عدداً من المكاسب السياسية المهمة على الصعيدين الدولي والعربي. ففي الأسبوع الثاني من تشرين الأول/أكتوبر 1974، أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة، بعد الكلمة التي ألقاها ياسر عرفات أمامها، قرارين، الأول حمل الرقم 3236 ودعا إلى ممارسة الشعب الفلسطيني حقوقه الثابتة في فلسطين، بما فيها "حقه في تقرير المصير، من دون تدخل خارجي، وحقه في الاستقلال والسيادة الوطنيين"، بينما حمل الثاني الرقم 3237 ونص على منح منظمة التحرير صفة المراقب في هيئة الأمم المتحدة. أما مؤتمر القمة العربي السابع، الذي انعقد في مدينة الرباط ما بين 26 و 29 تشرين الأول/أكتوبر 1974، فقد أكد حق الشعب الفلسطيني "في العودة إلى وطنه وتقرير مصيره"، وحقه "في إقامة السلطة الوطنية المستقلة بقيادة منظمة التحرير الفلسطينية، بوصفها الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني".
بيد أن هذه المكاسب صار يتهددها خطر التبديد نتيجة الأحداث التي شهدها النصف الثاني من السبعينيات. فقد دخلت منظمة التحرير في موقع الدفاع عن النفس على الصعيد السياسي، إثر تبدد سراب التسوية السياسية الشاملة وإقدام مصر على انتهاج طريق الحل المنفرد مع إسرائيل، الذي تكلل، في أيلول/سبتمبر 1978، بتوقيعها على اتفاقية "كمب ديفيد". كما دخلت منظمة التحرير في موقع الدفاع عن النفس على الصعيد العسكري، بعد اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية، في نيسان/أبريل 1975، وقيام إسرائيل، إثر عدوانها على جنوب لبنان في منتصف آذار/مارس 1978، بإقامة "الشريط العازل". وفي مثل هذه الظروف، راح يطرأ تحوّل على بنية منظمة التحرير، شجعت عليه الموارد المالية الكبيرة التي صارت تمتلكها قيادتها، وبخاصة بعد أن قررت القمة العربية في بغداد، التي انعقدت في تشرين الثاني/نوفمبر 1978، تقديم مساعدة سنوية للمنظمة، قُدّرت بمبلغ 300 مليون دولار، لتمكينها من التصدي لتداعيات "اتفاقية كمب ديفيد" السلبية على وجودها في لبنان وعلى صمود سكان المناطق الفلسطينية المحتلة.
وقد تمثّل التحوّل الذي صار يطرأ على بنية منظمة التحرير في تحوّلها، على الصعيد العسكري، من منظمة فدائيين إلى منظمة تمتلك جيشاً نظامياً، يخوض، في الأساس، حرب مواقع بالاعتماد على أسلحته الثقيلة، وبخاصة سلاح المدفعية والصواريخ. أما على الصعيد الاجتماعي، فقد راحت المنظمة تتحوّل إلى جهاز "حكومي" بيروقراطي، يتمتع القائمون عليه بامتيازات مادية ومعنوية عديدة، وإلى هيئة للتشغيل والرعاية الاجتماعية، تشغّل عشرات الآلاف من المتفرغين الذين يتقاضون رواتب شهرية، وترعى آلاف الأسر في المجالات الاجتماعية المختلفة.
ومن ناحية أخرى، بات اللاجئون الفلسطينيون في لبنان مهمشين من الناحيتين السياسية والاجتماعية، ومن دون حماية في نزاع أصبحوا هدفاً له من أطراف عديدة، كما تبيّن خلال مجزرة مخيمي صبرا وشاتيلا في أيلول/سبتمبر 1982، وخلال "حرب المخيمات" بين المنظمات الفلسطينية و"حركة أمل" الشيعية، التي اندلعت في عام 1985 وانتهت بقيام البرلمان اللبناني، في أيار /مايو1987، بإلغاء اتفاقية القاهرة لعام 1969.
البحث عن تسوية سياسية ضمن مشاريع الحكم الذاتي
بعد خروج قوات منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت، طرح الرئيس الأميركي رونالد ريغان، في مطلع أيلول/سبتمبر 1982 ، مشروعاً لتسوية سياسية تقوم على اشتراك الأردن والفلسطينيين، دون الإشارة إلى منظمة التحرير الفلسطينية، في مفاوضات مع إسرائيل بهدف تمكين سكان الضفة الغربية وقطاع غزة من "التمتع بحكم ذاتي كامل لشؤونهم الخاصة"، وإجراء انتخابات حرة لاختيار سلطة فلسطينية تثبت خلال فترة انتقالية، تمتد على مدى خمس سنوات، "كون الفلسطينيين قادرين على حكم أنفسهم، وكون مثل هذا الحكم الذاتي لا يشكّل تهديداً لأمن إسرائيل".
ومع أن قيادة منظمة التحرير الفلسطينية لم تعلن رفضها القاطع لتسوية سياسية يكون سقفها الحكم الذاتي، وسعت إلى الانفتاح، في تلك الفترة، على كلٍ من الأردن ومصر، كي يساعداها على الخروج من حالة الضعف الذي صارت تعاني منه، إلا أن أبواب التسوية السياسية بقيت موصدة أمامها، بل صارت الدول العربية، المنشغلة بالحرب العراقية-الإيرانية وتداعياتها، تتجاهل وجودها تجاهلاً تاماً تقريباً، كما تجلى ذلك في مؤتمر قمة عمان العربية في تشرين الثاني/نوفمبر 1987.
ولم تنفتح آفاق جديدة أمام منظمة التحرير الفلسطينية إلا بعد انعقاد الدورة الثامنة عشرة للمجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر، في نيسان/أبريل 1987، التي أنهت الانقسام في صفوفها، واندلاع الانتفاضة الشعبية في الضفة الغربية وقطاع غزة، في كانون الأول/ديسمبر 1987.
فقد كرّست هذه الانتفاضة انتقال مركز الثقل في النضال الوطني الفلسطيني نهائياً من الخارج
إلى الداخل، وأحيت الدور السياسي لمنظمة التحرير، وتركت تأثيرات كبيرة على الفكر السياسي الفلسطيني وتطوره، وذلك بعد أن ركّزت قيادتها الوطنية الموحدة على هدفَي الحرية والاستقلال، ورسمت فعالياتها النضالية حدود الدولة الفلسطينية على أساس " الخط الأخضر " الذي يفصل الأراضي الفلسطينية التي احتلت في عام 1967 عن أراضي العام 1948. وأعادت الانتفاضة للقضية الفلسطينية أولويتها على سلم الاهتمامات العربية، كما دفعت الحكومة الأردنية إلى إصدار قرارها، في 31 تموز 1988، بـفك العلاقة القانونية والإدارية بين الضفتين الشرقية والغربية لنهر الأردن، وحرّكت الانتفاضة، بطابعها الشعبي والسلمي، موجة واسعة من التعاطف مع الشعب الفلسطيني، وعزّزت مواقع قوى السلام داخل إسرائيل ،كما نشّطت المساعي الدولية لإيجاد تسوية سياسية للصراع.
وشعرت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، ولا سيما في ظل مناخات الانفراج الدولي التي تولّدت عن سياسية " البيروسترويكا" السوفياتية، أن الظروف باتت ناضجة كي تقدم على طرح مبادرة سياسية سلمية. ولهذا الغرض، انعقدت الدورة التاسعة عشرة للمجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر، في منتصف تشرين الثاني/نوفمبر 1988، وأصدرت في ختام أعمالها "إعلان الاستقلال"، الذي أعلن قيام دولة فلسطين فوق الأرض الفلسطينية، وعاصمتها القدس الشريف، لتكون دولة للفلسطينيين "أينما كانوا، فيها يطوّرون هويتهم الوطنية والثقافية، ويتمتعون بالمساواة الكاملة في الحقوق وتصان فيها معتقداتهم الدينية وكرامتهم الإنسانية". وتضمن "إعلان الاستقلال" موافقة منظمة التحرير، لأول مرة منذ نشوئها، على قرار تقسيم فلسطين الدولي، وذلك عندما أشار إلى أنه "مع الظلم التاريخي الذي لحق بالشعب الفلسطيني، بتشريده وحرمانه من حق تقرير المصير، إثر قرار الجمعية العمومية رقم 181 لعام 1947 الذي قسّم فلسطين إلى دولتين عربية ويهودية، فإن هذا القرار ما زال يوفّر شروطاً للشرعية الدولية تضمن حق الشعب العربي في السيادة والاستقلال الوطني". وعلى الرغم من معارضة بعض فصائل منظمة التحرير، أعلن البيان السياسي الصادر عن تلك الدورة موافقة منظمة التحرير على قرارَي مجلس الأمن رقم 242 و 338 ، كأساس لانعقاد المؤتمر الدولي للسلام، بمشاركة منظمة التحرير على قدم المساواة مع الأطراف الأخرى. كما جدد ، بعد أن أكد "حق الشعوب في مقاومة الاحتلال الأجنبي"، رفضه "الإرهاب بكل أنواعه، بما في ذلك إرهاب الدولة".
وبذلك، استجابت منظمة التحرير لشروط الإدارة الأميركية للحوار معها، مبررة موافقتها على قرارَي مجلس الأمن، اللذين يخاطبان الدول، بأن فلسطين، بعد أن صارت "دولة"، صار بوسعها التفاوض، على أساسهما، حول الانسحاب الإسرائيلي من أراضيها. وقررت إدارة الرئيس رونالد ريغان بالفعل، في 15 كانون الأول/ديسمبر 1988، تفويض وزارة الخارجية "الدخول في حوار موضوعي مع ممثلي منظمة التحرير الفلسطينية".
بيد أن "مبادرة السلام" الفلسطينية ما أن انطلقت حتى اصطدمت بجدار التعنت الإسرائيلي، وبإعلان إدارة الرئيس الجديد جورج بوش، في 21 حزيران/يونيو 1990، تعليق الحوار الأميركي – الفلسطيني، وذلك في وقت راحت فيه الانتفاضة تعاني من الإنهاك، ومن الانقسام بين قواها الفاعلة، ولا سيما بعد بروز "الإسلاميين" كمنافسين لمنظمة التحرير يرفضون الاعتراف ببرنامجها السياسي وبوحدانية تمثيلها للشعب الفلسطيني.
فـ "جماعة الإخوان المسلمين"، التي ظلت قيادتها، حتى ذلك الحين، تعتبر أن الوقت لم يحن بعد لإعلان "الجهاد" على الاحتلال الإسرائيلي، وأن المرحلة "لا تزال مرحلة إعداد وتربية الجيل الإسلامي الذي سيقود عملية تحويل المجتمع إلى مجتمع إسلامي كمقدمة لإعلان الجهاد"، بادرت، بعد اندلاع الانتفاضة، إلى تشكيل "حركة المقاومة الإسلامية" (حماس )، التي تأسست في قطاع غزة، ثم مدّت نشاطها، في كانون الثاني/يناير 1988، إلى الضفة الغربية، وصارت تبرز، من خلال نشاطاتها العسكرية والسياسية المستقلة، بوصفها إطاراً منافساً وموازياً لمنظمة التحرير الفلسطينية. وكان قد شجع على هذا التحوّل في مواقف "جماعة الإخوان المسلمين" تشكيل "حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين"، قبل سنوات من اندلاع الانتفاضة، التي انشدّ مؤسسوها إلى تجربة الثورة الإسلامية في إيران، وأعطوا الأولوية في نشاطهم للنضال ضد الاحتلال الإسرائيلي من خلال تبنّي استراتيجية الكفاح المسلح، ونظروا إلى حركتهم باعتبارها تمثّل نقيض الاتجاه "الإصلاحي" لـ "جماعة الأخوان المسلمين".
وهكذا، عندما شرع النظام العراقي بغزو الكويت في 2 آب/أغسطس 1990، كانت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية تواجه مأزقاً سياسياً خانقاً. فبينما كانت "مبادرة السلام" الفلسطينية قد وصلت إلى طريق مسدود، كانت الانتفاضة قد أصبحت عاجزة، بعد أن فشلت في التحوّل إلى حالة من العصيان المدني الشامل، عن تحقيق مكاسب سياسية جديدة للقضية الفلسطينية. وفي الوقت نفسه، كانت موجات الهجرة اليهودية الواسعة تتدفق إلى إسرائيل من جمهوريات الاتحاد السوفياتي. أما الواقع الرسمي العربي، الذي انقسم على نفسه بعد الغزو العراقي للكويت، فقد كان عاجزاً عن ممارسة أي ضغط جدي على الإدارة الأميركية.
وإزاء هذه الظروف الصعبة، تبنّت قيادة منظمة التحرير " المبادرة" السياسية التي طرحها الرئيس العراقي صدام حسين، في 12 آب/أغسطس 1990، على قاعدة "الربط" بين كل النزاعات في الشرق الأوسط. وبعد الحرب، التي انتهت بهزيمة الجيش العراقي على يد "التحالف الدولي" وانسحابه من الكويت، واجهت قيادة منظمة التحرير تحدياً جديداً، حيث فُرض عليها حصار سياسي ومالي، عربي ودولي، شديد، نتيجة وقوفها إلى جانب العراق، دفعها إلى الموافقة على الشروط الأميركية للمشاركة في المؤتمر الدولي للسلام الذي دعت إليه الإدارة الأميركية، ثم على الدخول في مفاوضات سرية مع الحكومة الإسرائيلية، أسفرت، في أيلول/سبتمبر 1993، عن "اتفاق إعلان المبادئ الفلسطيني الإسرائيلي" وتبادل "وثائق الاعتراف المتبادل" بين منظمة التحرير الفلسطينية والحكومة الإسرائيلية.
تهميش منظمة التحرير وشيوع الوهم بتحوّل الحكم الذاتي إلى دولة مستقلة
لقد توهمت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية أن "اتفاق أوسلو"، وما نتج عنه من قيام سلطة وطنية على الأرض الفلسطينية، سيخلق، لأول مرة في التاريخ، وجوداُ قومياً للشعب الفلسطيني فوق أرض وطنه، معتبرة أن عوامل السيادة الفلسطينية يمكن أن تتجمع شيئاً فشيئاً، وأن الحكم الذاتي في الضفة الغربية وقطاع غزة في وسعه أن يتطور، بعد انتهاء المرحلة الانتقالية، إلى دولة فلسطينية مستقلة. ولهذا، سعت هذه القيادة، بتشجيع من أطراف عربية ودولية عديدة، إلى تعزيز دور السلطة الوطنية في الضفة الغربية وقطاع غزة على حساب دور منظمة التحرير، الأمر الذي تسبب في إضعاف دور هذه الأخيرة بوصفها
"المظلة السياسية الجامعة" للفلسطينيين، وإلى تعميق الانقسام بين تجمعات الشعب الفلسطيني الرئيسية الثلاثة، في الشتات، وفي المناطق التي احتلت عام 1967، وفي المناطق التي احتلت عام 1948، بحيث صار كل تجمع من هذه التجمعات يواجه صعوبة في الربط بين نضاله من أجل مهماته الخاصة ونضاله من أجل مهماته الوطنية العامة. كما كان من نتائج تهميش دور منظمة التحرير، وما رافقه من تركيز معظم الفصائل الفلسطينية على العمل في الضفة الغربية وقطاع غزة، واهتمام المجتمع الدولي بهاتين المنطقتين وتوجيه دعم الدول المانحة إليهما، تراجع الدور السياسي للفلسطينيين في الشتات.
بيد أن كل التنازلات التي قدمتها قيادة منظمة التحرير، بما في ذلك قيامها في الدورة الحادية والعشرين للمجلس الوطني الفلسطيني، التي انعقدت في مدينة غزة ما بين 22 و 25 نيسان/أبريل 1996، بإدخال تعديلات على الميثاق الوطني الفلسطيني، انطلاقاً من "إعلان الاستقلال"، وذلك "بإلغاء المواد التي تتعارض مع الرسائل المتبادلة بين منظمة التحرير الفلسطينية وحكومة اسرائيل يومي 9 و 10 أيلول|/سبتمبر 1993 "، لم تفلح في تمهيد الطريق أمام مهمة إجلاء القوات الإسرائيلية عن كامل الأرض الفلسطينية المحتلة وتطوير الكيان الوطني الفلسطيني الوليد وصولاً إلى إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية. بل أدّى رفض إسرائيل الوفاء بالتزاماتها، واستمرار الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة في فرض حقائق جديدة على الأرض، من خلال مواصلة عمليات مصادرة الأراضي وبناء وتوسيع المستوطنات وتهويد القدس، إلى خلق شروط اندلاع انتفاضة جديدة، في نهاية أيلول/سبتمبر 2000، وبخاصة بعد فشل مفاوضات كامب ديفيد في تموز/يوليو 2000، بين ياسر عرفات وإيهود باراك، في التوصل إلى حلول لقضايا الوضع النهائي.
وبينما كانت الانتفاضة الجديدة تتجه نحو عسكرة فعالياتها، جاءت أحداث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 2001 ، وتركيز إدارة جورج بوش الابن على الحرب الشاملة ضد "الإرهاب"، لتضفيان بعداً خطيراً على ظاهرة العسكرة هذه. فقد استنتج رئيس الوزراء الإسرائيلي الجديد، أريئيل شارون، أن الوضع الجديد يتيح له الادعاء أنه يقف في الخطوط الأمامية للحرب على "الإرهاب"، ويجعله طليق اليدين ليضع قواعد جديدة للصراع مع الفلسطينيين تنسف الخطوط الحمراء التي كانت قائمة سابقاً. وهكذا، أصدر أريئيل شارون، في آذار/مارس 2002، أوامره للجيش الإسرائيلي باجتياح مدن الضفة الغربية، الخاضعة للسلطة الوطنية الفلسطينية، ومحاصرة مقر رئيس هذه السلطة ومنظمة التحرير الفلسطينية، ياسر عرفات.
البحث عن الإصلاح المتعثر
وبدأت منذ ذلك الحين تتصاعد الدعوات، ومن منطلقات مختلفة، إلى إصلاح السلطة الوطنية وأجهزتها. فإدارة الرئيس جورج بوش، التي اتهمت رئيس السلطة بـ "تشجيع الإرهاب"، وجدت في مطلب الإصلاح وسيلة لإقصاء ياسر عرفات عن القيادة، بينما رأت حكومة شارون في هذا المطلب مدخلاً إلى إضعاف السلطة الوطنية الفلسطينية برمتها. وفي المقابل، عبّر مطلب الإصلاح عن طموح عدد كبير من الفلسطينيين ومن مختلف الاتجاهات، الذين رأوا فيه الوسيلة الوحيدة لدمقرطة مؤسسات السلطة الوطنية وتخليصها من الفساد، الذي استشرى نتيجة اعتماد الاقتصاد الفلسطيني في مناطق الحكم الذاتي على مساعدات "الدول المانحة" وتطبعه بطابع ريعي، سمح للنخبة البيروقراطية – الأمنية ببناء نفوذ اقتصادي كبير.
وبالتوازي مع الدعوة إلى إصلاح السلطة الوطنية وأجهزتها، عاد إلى الظهور من جديد مطلب إصلاح منظمة التحرير الفلسطينية، الذي طُرح منذ السبعينيات قبل أن تغيّبه قيادة المنظمة طوال سنوات، وتزايدت الحاجة إلى تحقيقه بعد تأكد فشل "اتفاق أوسلو" ورحيل ياسر عرفات في تشرين الثاني/نوفمبر 2004. وخلال النقاشات التي صارت تدور حول مطلب الإصلاح هذا، طرحت أفكار تدعو إلى فتح أبواب منظمة التحرير أمام حركتَي "حماس" و"الجهاد الإسلامي"، وإعادة تشكيل المجلس الوطني الفلسطيني، عبر اللجوء إلى الانتخابات، حيثما أمكن ذلك، وتقليص عدد أعضائه ليصبح في حدود 300 عضو، مناصفة بين الداخل والخارج، كي يكون قادراً على الاضطلاع بدوره الرقابي والتشريعي، وتجديد تركيبة اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، بحيث تتحمّل السلطة الوطنية مسؤولية شؤون السكان الفلسطينيين في الداخل، بينما تحافظ منظمة التحرير على دورها كممثل للشعب الفلسطيني في الداخل والخارج على السواء، وتفعيل دور النقابات والاتحادات الشعبية ودمقرطة هيئاتها، واعتماد مبدأ الكفاءة في تعيين ممثلي دولة فلسطين في الخارج.
وعلى الرغم من اتفاق القوى الوطنية والإسلامية الفلسطينية، خلال الحوارات التي عقدتها في القاهرة في آذار/مارس 2005، بعد أسابيع قليلة على انتخاب محمود عباس على رأس السلطة الوطنية ومنظمة التحرير، على معظم هذه الأفكار، إلا أن نقلها إلى حيز الواقع قد تعثر جراء الانقسام الذي وقع داخل النظام السياسي الفلسطيني بعد استيلاء "حركة حماس" على السلطة في قطاع غزة في حزيران/يونيو 2007. من الصحيح أن كل الاتفاقات التي تمّ التوصل إليها بعد ذلك لإنهاء هذا الانقسام وتحقيق المصالحة الوطنية، بما فيها الاتفاق الذي وقع في القاهرة في أيار/مايو 2011، قد أعادت التأكيد على هذه الأفكار، إلا أن مهمة إصلاح منظمة التحرير الفلسطينية وتوسيع الائتلاف الجبهوي داخلها لم تتحقق إلى اليوم.
خاتمة
جاءت الأحداث والتطورات الأخيرة، التي سبقت العدوان الإسرائيلي الأخير على قطاع غزة ورافقته، بما فيها اتفاق المصالحة، الذي وقع في غزة في 23 نيسان/أبريل 2014، وتشكيل حكومة التوافق الوطني، والوحدة في ميدان التصدي للعدوان الإسرائيلي على غزة، وتشكيل الوفد الفلسطيني الموحد إلى مفاوضات القاهرة، لتؤكد أن منظمة التحرير الفلسطينية هي الضمانة الرئيسية للوحدة الوطنية الفلسطينية ولحماية المشروع الوطني الفلسطيني. ومن هنا تبرز الحاجة الماسة اليوم إلى وقف تهميش دورها وإزالة كل العقبات التي تعترض تحقيق مهمة إصلاحها. والخطوة الأولى على هذه الطريق قد تكون في دعوة الإطار القيادي المؤقت لمنظمة التحرير الفلسطينية، الذي اتُفق عليه في اتفاق القاهرة في أيار/مايو 2011، إلى الانعقاد، بحضور ممثلي حركتَي "حماس" و "الجهاد الإسلامي"، كي يضطلع بدوره كقيادة تعبّر عن الشراكة الحقيقية لمختلف مكوّنات الحركة الوطنية الفلسطينية، وتضمن تعزيز نضال الشعب الفلسطيني من أجل رفع الحصار بصورة كاملة عن قطاع غزة، وإعادة إعمار ما دمره العدوان الإسرائيلي، والمضي قدماً على طريق تكريس الاعتراف بدولة فلسطين، ودعوة المجتمع الدولي إلى عقد مؤتمر دولي يحدد سقفاً زمنياً لانسحاب قوات الاحتلال الإسرائيلي من أراضيها، وبخاصة بعد أن ثبت بأن المفاوضات الثنائية الفلسطينية –الإسرائيلية، التي تدور منذ أكثر من عشرين عاماً برعاية أميركية، لم تفضِ سوى إلى نتيجة واحدة هي تكريس احتلال إسرائيل، وتوسيع استيطانها على أرضنا وزيادة وحشية اعتداءاتها على شعبنا.
مراجع رئيسية
-أبو عمرو، زياد. أصول الحركات السياسية في قطاع غزة 1948-1967. عكا: دار الأسوار، 1987.
- أبو فخر، صقر. الحركة الوطنية الفلسطينية: من النضال المسلح إلى دولة منزوعة السلاح. بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2003.
-حوراني، فيصل. الفكر السياسي الفلسطيني 1964-1974. دراسة للمواثيق الرئيسية لمنظمة التحرير الفلسطينية. بيروت: مركز الأبحاث-منظمة التحرير الفلسطينية، 1980.
الخالدي، رشيد. القفص الحديدي: قصة الصراع الفلسطيني لإقامة دولة. بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2008.
-الشريف، ماهر. البحث عن كيان. دراسة في الفكر السياسي الفلسطيني 1908-993". نيقوسيا: مركز الأبحاث والدراسات الاشتراكية في العالم العربي، 1995.
-الشريف، ماهر. قرن على الصراع العربي-الصهيوني. هل هناك أفق للسلام؟. دمشق: دار المدى، 2011.
- الشعيبي، عيسى. الكيانية الفلسطينية. الوعي الذاتي والتطور المؤسساتي 1947-1977. بيروت: مركز الأبحاث-منظمة التحرير الفلسطينية، 1979.
-صايغ، يزيد. الكفاح المسلح والبحث عن الدولة. الحركة الوطنية الفلسطينية 1949-1993. ترجمة باسم سرحان، بيروت، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2002.
-عبد الرحمن، أسعد. منظمة التحرير الفلسطينية. جذورها، تأسيسها، مساراتها. نيقوسيا: مركز الأبحاث-منظمة التحرير الفلسطينية، 1987.
-هلال، جميل. النظام السياسي الفلسطيني بعد أوسلو. دراسة تحليلية نقدية. بيروت-رام الله: مؤسسة الدراسات الفلسطينية-مواطن، المؤسسة الفلسطينية لدراسة الديمقراطية، 1998.
-هلال، جميل. "في الذكرى الستين للنكبة: الانقسام الفلسطيني والمصير الوطني"، مجلة الدراسات الفلسطينية، ع 73، (شتاء 2008)، ص 57-65.