في تموز/يوليو 2015، أعلنت وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى (الأونروا) أنه نظراً إلى العجز الكبير في موازنتها الذي يصل إلى 101 مليون دولار أميركي، وهو "أكبر عجز مادّي تتعرّض له على الإطلاق"، بحسب مفوّضها العام[1]، سوف تواجه خطر تأجيل افتتاح المدارس ومراكز التدريب المهني/الفنّي التابعة لها في مطلع العام الأكاديمي الذي ينطلق في أواخر آب/أغسطس (في الضفة الغربية وقطاع غزة)، وفي مطلع أيلول/سبتمبر في مناطق عملها الأخرى (الأردن ولبنان وسوريا).
لقد أثار هذا الخبر موجات من الصدمة في أوساط اللاجئين الفلسطينيين المسجّلين لدى الأونروا والسلطات المضيفة لهم. لم تكن المشكلة في عجز الموازنة في ذاته: فطوال عقود، عملت الوكالة من دون تمويل كافٍ، ما أدّى إلى تقليص متكرّر في أنشطة محدّدة ضمن برامج الوكالة المعتادة (التعليم، الصحة، الإغاثة والخدمات الاجتماعية)، وإلى قيود على التوظيف. بل إن الخبر الصادم هو أنه من شأن الإجراءات التقشّفية أن تطال برنامجاً بكامله، وأكثر من ذلك، يمكن أن تطال التعليم الذي يُعَدّ برنامج الأونروا الأساسي لناحية أعداد الموظفين (22000 موظف تربوي، أي ثلثَي موظّفي الوكالة)، والموازنة (نصف موازنة الوكالة)، وعدد المستفيدين (نحو 500000 طالب). كما أن التعليم يُعتبَر على نطاق واسع من المساهمات الأعلى قيمة التي تقدّمها الوكالة لمعيشة اللاجئين. في نهاية المطاف، دفعت الاحتجاجات الشعبية والديبلوماسية التي قادتها مجموعات من اللاجئين والدول المضيفة في الشرق الأدنى، بالمانحين إلى زيادة دعمهم المادّي للوكالة، ما أدّى إلى إلغاء الإجراء الذي كان قد اتُّخِذ بإرجاء فتح المدارس ومراكز التدريب المهني/الفني. إلا أنه ليس هناك ما يضمن أن هذه الأزمة لن تتكرّر في المستقبل. لكن ما هي محدِّدات تمويل الأونروا ودينامياته، وكيف ستؤثّر في حياة اللاجئين في المستقبل؟
القاعدة المؤسسية لمنظومة تمويل الأونروا
بغية الإجابة عن هذه الأسئلة، قد يكون من الضروري أولاً العودة باقتضاب إلى جذور تفويض الأونروا.
تأسّست الوكالة بموجب القرار 302 الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في كانون الأول/ديسمبر 1949 كهيئة تابعة لها يتم تمويلها بواسطة المساهمات الطوعية من أعضاء المجتمع الدولي، وتضطلع بمهام إنسانية/اقتصادية اجتماعية مؤقّتة: تأمين مساعدات الإغاثة للمعوزين بين نحو 720000 لاجئ لفترة لا تتعدّى التسعة أشهر (أي حتى كانون الأول/ديسمبر 1950)، والمساهمة في إعادة دمجهم اقتصادياً، بصورة جماعية، في البلدان المضيفة لفترة تمتد حتى حزيران/يونيو 1951[2]. نظراً إلى الطبيعة المطوّلة للصراع العربي-الإسرائيلي، وتحديداً تمسّك اللاجئين (والمتحدّرين منهم) بـ"حق العودة" إلى ديارهم، بحسب ما هو منصوص عليه في الفقرة 11 من قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 194 الصادر في كانون الأول/ديسمبر 1948، جرى باستمرار تمديد تفويض الأونروا انطلاقاً من الافتراض الضمني بأنها ستواصل نشاطها طالما أنه لم يتم التوصّل بعد إلى حل طويل الأمد لمشكلة اللاجئين[3]. بناءً عليه، حاولت أنشطتها تلبية الاحتياجات المتزايدة للسكّان الآخذين في التكاثر والذين يبلغ عددهم الآن أكثر من خمسة ملايين نسمة.
يُعرّف معظم المراقبين وكالة الأونروا التي يشغّلها نحو 31000 موظف غالبيتهم الساحقة من اللاجئين، بأنها مورّد "شبه حكومي" للخدمات العامة في ميادين التعليم والصحة، والإغاثة والخدمات الاجتماعية، وتحسين المخيمات (التي تضم نحو 30 في المئة من مجموع السكان المسجّلين لدى الوكالة)، والقروض الصغيرة/التمويل الصغير. فضلاً عن ذلك، برهنت خدمات الحماية التي تؤمّنها الوكالة في حالات الطوارئ، عن دور محوري في إنقاذ المجتمعات الفلسطينية التي تعاني من العنف المسلّح، وأحدث مثالَين على ذلك حماية الفلسطينيين في سوريا المنكوبة (منذ اندلاع الحرب الأهلية في العام 2011)، وفي قطاع غزة خلال عملية "الجرف الصامد" الإسرائيلية وبعدها في العام 2014.
بيد أن هذه الإنجازات العملانية الجديرة بالتنويه لم تواكبها الإجراءات اللازمة للتحسين على المستوى المؤسسي. فقد أحجمت الجمعية العامة للأمم المتحدة، في انعكاسٍ لغياب التقدّم في التوصّل إلى تسوية لمسألة اللاجئين، عن تجهيز الأونروا بالهيكليات وآليات التمويل التي تتماشى مع وضعها الراهن بعدما تحوّلت هيئة (شبه) دائمة: ففي حين أن الإطار الزمني للتفويض الممنوح لها ظل مقتصراً على ثلاث إلى خمس سنوات، ما يحول دون التخطيط في المدى الطويل، لا يزال تمويلها يستند، بصورة شبه حصرية، إلى المساهمات الطوعية لأعضاء المجتمع الدولي: نحو خمسة في المئة فقط من موازنة الأونروا العادية تغطّيها الموازنة العادية للأمم المتحدة (تشمل التغطية في شكل خاص رواتب الموظفين الدوليين)، والمساهمات من وكالات الأمم المتحدة الأخرى مثل منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسيف) أو منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو). فضلاً عن ذلك، وفي حين قد تبدو الأونروا شبيهة بالهيئات الحكومية، لا يُسمح لها بجمع الضرائب أو فرضها على اللاجئين لتمويل برامجها المتعدّدة (التي تُقدَّم مجاناً أو مقابل بدل زهيد). أخيراً، ليس هناك نص قانوني حول مستوى ضمان تمويل الأونروا: بالتالي، هل الأونروا مسؤولة قانوناً عن تأمين الخدمات المناسبة، بصورة مستمرة، للاجئين المسجّلين لديها؟
تطرّق المستشار القانوني للأمم المتحدة إلى هذه المسألة في العام 1975، عندما طرحت الدول العربية علامة استفهام حول حق الأونروا في خفض الخدمات بعد أزمتها المالية الحادّة الأولى، قائلاً: "لم تضع الجمعية العامة، في أي وقت من الأوقات، تفويضاً دقيقاً للأونروا إن لناحية طبيعة الخدمات التي ستقدّمها الوكالة أو لناحية مستواها... من وجهة نظر قانونية، يُستنتَج بالتالي أنه للمفوض العام سلطة تحديد مستوى خدمات الأونروا ضمن الموارد المتوافرة له للاضطلاع بتلك الخدمات"[4].
كشف هذا البيان حقيقة وضع الأونروا، أي اعتمادها الكامل على المساهمات الطوعية، ما يعني، بحسب تقويم وُضِع مؤخراً عن الوكالة، أنها "خاضعة للمساءلة أمام المانحين والمضيفين أكثر منه أمام اللاجئين الفلسطينيين"[5]. لكن تبيّن على مر السنين أن هذه المساهمات الطوعية مشروطة وغير متوقّعة. وزادت أنواع عدّة من الأحداث الطارئة من عدم قابليتها للتوقّع، بدءاً من موجات العنف المسلّح التي تطال اللاجئين والاحتياجات الطارئة الناجمة عنها وصولاً إلى تقلّبات أسعار الصرف: خلال الأزمة المالية الأخيرة في صيف 2015، خسرت الأونروا 25 مليون دولار بسبب هذه التقلّبات[6].
تمويل الأونروا الانحداري إنما المرِن
في الواقع، استمرّت المساهمات الطوعية في التزايد بالمعنى المطلق. لكن الزيادة في الموازنة العادية لم تصل إلى نسبة الخمسة في المئة المطلوبة، بحسب الأونروا، من أجل مواكبة متوسط الزيادة السنوية في أعداد السكان الذي يبلغ 3.5 في المئة[7]، ما أدّى إلى تراجع البنى التحتية والخدمات التربوية والطبية والسكنية والاجتماعية للوكالة. واقع الحال هو أن نسبة الموازنة العادية (التي لا تغطّي المشاريع الخاصة والتكاليف الإضافية في حالات الطوارئ) إلى عدد اللاجئين تسجّل، كما هو مبيّن في الجدول أدناه، تراجعاً مستمراً منذ ثمانينيات القرن العشرين.
السنة |
1. الموازنة العادية (بملايين الدولارات) |
2. السكان المسجّلون (بحسب التقديرات الموضوعة في شهر حزيران/يونيو من كل عام) |
3. نسبة ½* |
1980 |
184،3 |
1،844،318 |
99،92 |
1990 |
229.0 |
2،519،487 |
90،1 |
1995 |
251،3 |
3،172،641 |
79،21 |
1996 |
258،7 |
3،308،133 |
78،2 |
2000 |
280،6 |
3،373،494 |
75،1 |
2010 |
551،8 (لمدّة سنتَين)** |
4،766،670 |
115،76 (معدل 57،9 في السنة) |
2014 |
589،2 (لمدّة سنتَين)** |
5،030،049 |
117،4 (معدل 58،6 في السنة) |
* النسبة ½ في العمود 3 تقدّم فقط مؤشرات ترتيبية، نظراً إلى أن خدمات الأونروا لا تطال جميع اللاجئين المسجّلين لديها (مثلاً، الأشخاص الذين لا يقيمون في البلد المضيف حيث هم مسجّلون لا يُفيدون من خدمات الوكالة). لا تغطّي الموازنة العادية التكاليف المترتبة عن المشاريع الخاصة والطارئة الناجمة عن النزاعات المسلّحة.
** تضع الأونروا موازنتها كل سنتَين، على الرغم من أنه يجري تمويل العمليات على أساس سنوي.
بيد أن النقطة الأولى والأهم التي يجب التطرق إليها هي الدعم المستمر الذي يقدّمه للأونروا مانحوها الأساسيون، لا سيما الولايات المتحدة وأوروبا. ففي حين استنكر هؤلاء المانحون تحوّل الأونروا مؤسسة "شبه دائمة"، وشجبوا باستمرار ما يُزعَم عن استخدام التنظيمات القتالية الفلسطينية لمنشآت الوكالة وخدماتها لأغراض أيديولوجية وعسكرية، لا يزالون يعتبرون أن الأونروا تواصل النهوض بالمهمة، ذات الطابع السياسي في شكل خاص، التي أوكِلت إليها في قرار تأسيسها رقم 302، وتحديداً العمل على "... تعزيز ظروف السلام والاستقرار" (الفقرة 5). بما أن برامج الإغاثة والبرامج الصحية أدّت إلى التخفيف من التأثير الاقتصادي والاجتماعي لأزمة اللاجئين الفلسطينيين على الاقتصادات المضيفة، وبما أن برنامجها التربوي شكّل استثماراً في الموارد البشرية للاجئين الصغار، اعتُبِرَت الأونروا حصناً ضد عدم الاستقرار الإقليمي (وتهديده للمصالح الجيوسياسية الغربية في المنطقة) جراء الأيديولوجيات "التخريبية" مثل الشيوعية، وفي الآونة الأخيرة، التشدّد الإسلامي. في السياق عينه، وعلى الرغم من الانتقادات الإسرائيلية للوكالة لأنها تبقي على "هوية اللجوء"، قال الإسرائيليون إنهم يكنّون التقدير للأونروا كعنصر يساهم في تعزيز الاستقرار في الضفة الغربية وغزة، بما يصبّ في إطار الأهداف الاستراتيجية الحيوية لإسرائيل[8].
عجوزات الأونروا المالية ناجمة في شكل أساسي عن ظاهرة "تململ المانحين"، بسبب الزيادة المستمرة في أعداد اللاجئين والتكاليف ذات الصلة المترتّبة عن توسيع خدمات الأونروا وفريق عملها (من نحو 5900 موظف في العام 1951 إلى 31000 موظف حالياً). يُخصَّص أكثر من 70 في المئة من موازنة الأونروا العادية - وهذا ما يثير غضب المانحين- لتسديد رواتب الموظفين المحليين، لا سيما المعلمين، فلا يبقى متّسع من المجال للتدخّلات والمشاريع المبتكرة. ومنذ العام 2000، ساهم عاملان اثنان في تفاقم تململ المانحين: أولاً، تعطُّل عملية السلام الإسرائيلية-الفلسطينية ما جعل المانحين يواجهون احتمال تمديد وجود الأونروا إلى أجل غير مسمّى؛ ثانياً، ظهور العديد من أزمات اللاجئين الكبرى، غير اللجوء الفلسطيني، في الشرق الأدنى، تحديداً أزمتَي اللاجئين العراقيين والسوريين منذ العامَين 2003 و2012 على التوالي، فضلاً عن حالات الطوارئ التي نجمت عن اندلاع نزاعات مسلّحة جديدة في لبنان (2007) وغزة (2008/2009، 2014)، والتي ألقت بمزيد من الضغوط على موازنة الوكالة.
لقد كان لعجوزات الموازنة تأثير كمّي ونوعي على خدمات الأونروا: إرجاء التدخّلات ذات الأولوية الدنيا، مثل بناء ملاجئ ومدارس وعيادات للاجئين وصيانتها؛ وتعليق المنح الجامعية المنتظمة والتوقّف عن تأمين حاجيات المدارس؛ والقيود على التوظيف وتجميد رواتب الموظفين المحليين. وحاولت الوكالة أيضاً خفض تكاليف برنامج الإغاثة عبر استبدال مقاربتها التقليدية المستندة إلى وضع اللجوء لتوزيع المساعدات بمقاربة مستندة إلى الاحتياجات. في هذا الإطار، استبدلت منذ العام 1982 نظام "التوزيع العام للحصص الغذائية" الذي كان جميع اللاجئين يحصلون بموجبه على حصص غذائية، ما عدا أولئك الذين يتخطّى دخلهم مستوى معيّناً، بنظام أكثر تقييداً حيث لا يحق الحصول على هذه المساعدات سوى للأسر التي لا يتخطّى دخلها حداً أدنى معيّناً والتي لا تضم أفراداً ذكوراً مقتدرين جسدياً (ما عدا في لبنان). أدّى ذلك، إلى جانب كل السقوف التي فُرِضت على الأهلية بسبب نقص التمويل، إلى حصول تراجع في نسبة اللاجئين الذين يُفيدون من برامج الإغاثة من نحو 43 في المئة في العام 1982/1983 إلى 5.7 في المئة من جميع اللاجئين المسجّلين لدى الوكالة اليوم[9]. مؤخراً، في العام 2010، أدخلت الأونروا تحسينات إلى مقاربتها المستندة إلى الاحتياجات عبر تحديد اللاجئين الفقراء المعوزين عن طريق أداة علمية تُعرَف بـ"صيغة الاختبار بالوسائل غير المباشرة" التي تُحدّد أيضاً بصورة أفضل مستويات الفقر لدى الأسر.
إنها واحدة من الخطوات الكثيرة التي اتّخذتها الأونروا منذ العام 2004/2005 لتحديث إدارتها وماليتها، تحت تأثير الضغوط من المانحين. وشمل برنامج "التطوير التنظيمي" أيضاً تطبيق لامركزية التخطيط العملاني عبر نقل المسؤولية في هذا المجال من المقر الرئيس إلى المكاتب الميدانية، وإرساء آليات إدارية حديثة الهدف منها تعزيز الوضوح في إجراءات الموازنة، وتقويم البرامج والتدخّلات الطارئة عن طريق الرصد، والبحث عن سبل لإشراك البلدان المضيفة واللاجئين بصورة أكبر في تخطيط تدخّلات الوكالة وتطبيقها. بيد أن التقدّم في هذه القطاعات والمبالغ التي أمكن ادّخارها من خلال هذه الإجراءات لم تحقّق الفائدة المرجوّة بسبب التكاليف الإضافية المحتومة المترتّبة عن التوسّع المستمر لقاعدة المستفيدين من الوكالة والأزمات الطارئة المتواصلة المذكورة آنفاً التي أثّرت في حياة اللاجئين في العقود المنصرمة. باتت الموازنة المخصّصة لهذه الحالات الإنسانية الطارئة تساوي موازنة الأونروا للبرامج العادية والمشاريع الخاصة ذات الصلة[10]. فضلاً عن ذلك، وخلافاً لتوقّعات الأونروا، لم تحصل الوكالة على علاوات مالية مكافأةً لها على جهودها الداخلية من أجل الإصلاح. وبينما يقرّ المانحون أن الأونروا تعمل بصورة أفضل من معظم البيروقراطيات في الشرق الأدنى، وبموارد مالية أقل، فإنهم حوّلوا الإصلاح الداخلي شرطاً يربطون التمويل به[11].
في نقطة أكثر إيجابية، كشفت أزمة الأونروا المالية في صيف 2015، النقاب عن الدور البارز الذي تؤدّيه الآن البلدان العربية في تقديم الدعم الديبلوماسي والمالي للوكالة. فمن جهة، انضمّت البلدان المضيفة إلى الأونروا في تنبيه المجتمع الدولي إلى المخاطر الاجتماعية والسياسية التي يمكن أن تنجم عن ضعف نظامها التعليمي في وقت كانت المنطقة بأسرها تعاني من الاضطرابات. ومن جهة أخرى، عمدت العديد من بلدان الخليج الثرية، مثل السعودية والكويت والإمارات العربية المتحدة، إلى تغطية العجز بنسبة تصل إلى النصف. في هذا الإطار، احتلّت السعودية في العام 2014 المرتبة الثانية بين المساهمين في موازنة الوكالة للحالات الطارئة[12]. علاوةً على ذلك، وخلافاً للموقف السائد بأن القوى الغربية تتحمّل كامل المسؤولية في تمويل برامج الوكالة العادية، زادت البلدان المذكورة مساهمتها في موازنة تلك البرامج إلى 7.8 في المئة، بحسب ما نصّت عليه قرارات الجامعة العربية التي كانت لا تزال غير مطبّقة، بالمقارنة مع نحو اثنين في المئة أو أقل (مجموع مساهمات البلدان العربية كافة) سابقاً[13].
هل من طريق نحو الأمام؟
ليست الأزمة المالية التي تعرضّت لها الأونروا في أواخر صيف 2015 سوى رأس جبل الجليد بالنسبة إلى الوكالة، كما جاء على لسان مفوّضها العام[14]. من المتوقّع أن يبلغ عجز التمويل 81 مليون دولار على أقل تقدير في العام 2016، وقد اعتمدت الأونروا خطوات تقشّفية بهدف سد الثغرة: فإلى جانب الاستغناء عن خدمات أكثرية الموظفين الدوليين الذين يعملون بموجب عقود قصيرة الأمد، جمدّت الوكالة جزئياً استخدام موظفين محليين، وشجّعت التقاعد الطوعي من الخدمة. علاوةً على ذلك، جرت زيادة أعداد الطلاب في قاعات التدريس المكتظّة أصلاً (أكثر من 35 طالباً في كل قاعة في الأردن ولبنان بسبب تزايد الأعداد جراء انضمام طلاب جدد من صفوف اللاجئين الفلسطينيين القادمين من سوريا). نوعية التعليم الذي تقدّمه الأونروا هي على المحك، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الأنشطة الأخرى التي لا تُعتبَر أساسية، مثل الخدمات الاجتماعية التي تؤمّنها منظمات مجتمعية. لكن هذه الخطوات ليست سوى مجرد بدائل مؤقتة. في المستقبل القريب، سيبقى التلويح بشبح انتشار عدم الاستقرار في الشرق الأدنى في حال عدم حصول الأونروا على التمويل المناسب، الأداة الأساسية في يد الوكالة من أجل تأمين أموال كافية لمواصلة خدماتها.
هل من حل لمشكلة التمويل التي لطالما عانت منها الأونروا، ومن أجل عدم المجازفة بتعريض مستقبل اللاجئين التربوي للتهديد من جديد؟
ليس وارداً على ما يبدو تأمين التمويل للأونروا عبر تخصيصها بنسبة أكبر من موازنة الأمم المتحدة العادية: في هذا السياق، تشير الأونروا ضمناً إلى الشلل المؤسّسي، عبر التذكير بوضعها كوكالة مؤقتة تابعة للأمم المتحدة، وإلى التفكير الذي كان سائداً بين الدول الأعضاء عند تأسيسها بأنه "في الأمر مصلحة للأونروا واللاجئين على السواء إذا تمكّنت الوكالة من جمع مساهمات طوعية، بأيّ مبلغ كان، من الدول الأعضاء". كما أن تزويد الأونروا بتمويل أكثر استدامة قد يُفسَّر بأنه إقرار رسمي من الأمم المتحدة بفشلها في تطبيق القرار 194.
يحاول الآن المعنيون في المركز الرئيس للأونروا توسيع قاعدة المانحين بهدف إشراك مانحين يمكن أن يقدّموا مساهمات كبيرة، مثل الصين وروسيا والهند والبرازيل؛ لكن قد يكون ذلك صعباً في ظل انعدام آفاق السلام. هذا وقد اقترحت أصوات محافظة في إسرائيل والولايات المتحدة حلولاً أكثر جذرية، منها تكليف البلدان المضيفة الاضطلاع بجزء من برامج الوكالة (سواءً بصورة أحادية أو تحت ستار "الشراكة")، أو حتى إلغاء خدمات الأونروا في الأردن بصورة تدريجية، حيث أن معظم اللاجئين هم مواطنون وأقل اعتماداً على خدمات الوكالة بالمقارنة مع اللاجئين في البلدان الأخرى. في المدى الطويل، يمكن تطبيق المنطق نفسه في الضفة الغربية وقطاع غزة، حيث يتمتّع اللاجئون والسكان الأصليون بالوضع القانوني نفسه. واقع الحال هو أن تقاسم عبء تأمين الخدمات مع البلدان المضيفة يتماشى مع نص وروحية قرار تأسيس الأونروا رقم 302 الذي يضع مسؤولية دمج اللاجئين في المدى الطويل على عاتق البلدان المضيفة. بيد أن ما يشهده الأردن وفلسطين حالياً من هشاشة سياسية واقتصادية يجعل هذا السيناريو غير واقعي، على الأقل في المدى القصير إلى المتوسط.
في نهاية المطاف، وحده النقاش الواضح والصادق بين الأونروا وأصحاب الشأن الأساسيين، لا سيما المانحين والبلدان المضيفة، حول التحدّيات المطروحة على الوكالة في المدى المتوسط إلى الطويل يمكن أن يؤدّي إلى الإصلاح الضروري جداً في مجال تمويل الوكالة. يقع على عاتق الأونروا إطلاق مثل هذا النقاش، إنما لا يمكنها أن تقوم بذلك بمفردها: فهي بحاجة إلى دعم قوي من اللاجئين، بما في ذلك من موظفيها المحليين، لمنح هذه المبادرة اندفاعة كافية من أجل إقناع البلدان المانحة باعتماد مقاربة أكثر واقعية في التعامل مع الأونروا واحتياجاتها. إلا أن هذا يتطلّب إعادة النظر في العلاقة الهرمية الراهنة بين المركز الرئيس للوكالة والشركاء المحليين، كما ورد في رأي يعبّر عن وجهة نظر سائدة على نطاق واسع: "[لا تزال] مشاركة موظّفي الأونروا [المحليين] المتواجدين في الجبهة الأمامية واللاجئين المستفيدين من خدمات الوكالة، محدودة في التخطيط، بما في ذلك إصلاح الخدمات..."[15]. إدراكاً لهذا الواقع، تعهّد المفوض العام مؤخراً بسدّ "الفراغ في التواصل بين الإدارة العليا والموظفين في شكل عام"، عبر تنظيم نقاشات واقعية حول المسائل الخلافية و"تطوير التواصل بين الأونروا واللاجئين الفلسطينيين"[16].
يبقى السؤال المطروح، ما السبيل لتنظيم هذه النقاشات وآليات التواصل مع الحفاظ في الوقت نفسه على وضع الوكالة كجهة محايدة وغير منحازة تتولّى تأمين الخدمات؟
[1] Slemrod, A., Dyke, J., “Can the UN's agency for Palestinians be fixed?”, Irin News, 3 July 2015, http://www.irinnews.org/report/101707/can-the-un-s-agency-for-palestinia...
[2] انظر القرار 302، http://www.unrwa.org/content/general-assembly-resolution-302
[3] يحدّد القرار 194 المعايير المطلوبة من أجل تسوية مشكلة اللاجئين الفلسطينيين، لا سيما من خلال الترحيل والتعويضات كبديل عن العودة.
[4] “Report on the Authority of the Commissioner-General to Reduce Services as a Consequence of Financial Stringency”, in: Report of the Commissioner-General of the United Nations Relief and Works Agency for Palestinian Refugees in the Near East, 1 July 1974 – 30 June 1975, Supplement No.13 (A/10013), Annex IV.
[5] ICAI, DFID’s Support for Palestine Refugees through UNRWA, 2013, http://icai.independent.gov.uk/wp-content/uploads/2011/11/ICAI-UNRWA-rep...
[6] Can the UN's agency for Palestinians be fixed? By Annie Slemrod and Joe Dyke
[7] UNRWA and the transitional period: a five-year perspective on the role of the Agency and its financial requirements. Vienna, UNRWA Headquarters, 31 January 1995, p.9.
[8] Rosen, Steven J., “Why Has the U.S. Congress Done So Little About UNRWA?” Middle East Forum, Winter 2014-2015, http://www.meforum.org/5113/congress-unrwa
[9] UNRWA, UNRWA in Figures—Figures as of 1 January 2015, http://www.unrwa.org/sites/default/files/unrwa_in_figures_2015.pdf.
[10] أي 49.8 في المئة من موازنة الأونروا الإجمالية البالغة 1.32 مليار دولار أميركي. انظر UNRWA, Pledges to UNRWA (Cash and In-kind) for 2014 - Overall Donor Ranking in USD as 31 December 2014, http://www.unrwa.org/sites/default/files/2014_overall_donor_ranking.pdf
[11] انظر USA Department of State, 2015 UNRWA-U.S. Framework for Cooperation, Report, November 28, 2014, http://www.state.gov/j/prm/releases/frameworknew/234468.htm
[12] انظر Pledges to UNRWA (Cash and In-kind) for 2014 .. , op.cit,
[13] انظر Address of UNRWA Commissioner-General …to the UNRWA Advisory Commission, 16 November 2015, http://www.unrwa.org/newsroom/official-statements/address-unrwa-commissi...
[14] المرجع نفسه.
[15] ICAI, DFID’s Support for Palestine Refugees through UNRWA, 2013, http://icai.independent.gov.uk/wp-content/uploads/2011/11/ICAI-UNRWA-rep...
[16] انظر Address of UNRWA Commissioner-General …to the UNRWA Advisory Commission, 16 November 2015, op.cit.