أدخلت هزيمة حرب حزيران / يونيو 1967 تغييرات جذرية على خريطة المنطقة السياسية؛ لم تتوقف تداعياتها حتى اللحظة، لكنها هيأت لولادة حركة مقاومة فلسطينية اختلفت من حيث تكوينها القيادي وقاعدتها الاجتماعية عن الحركة الوطنية الفلسطينية التي انهزمت في سنة 1948.
لا شك في أن نهوض حركة المقاومة الفلسطينية، وائتلافها في إطار منظمة التحرير واعتمادها المقاومة الشعبية، أمور استفادت كلها من المناخ الشعبي الذي ولدته هزيمة حزيران / يونيو المدوية. لكن سر نجاح حركة المقاومة الفلسطينية استند إلى نحاجها في تمثيل الإرادة الوطنية لشعب مشرد ولاجئ ومحتل وتواق إلى التحرر، وفي كسب مساندة الشعوب العربية ودعم القوى اليسارية والنيّرة في العالم، الأمر الذي يفسر لماذا كسبت منظمة التحرير بسرعة اعترافاً عربياً وأممياً كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني بشكل سريع (سنة 1974)، وتمكنت من طرح قضية فلسطين كقضية العرب الأولى، ومن إدراجها على رأس قضايا التحرر الوطني في العالم.
إن العودة مؤخراً لطرح أسباب توالد الهزائم العربية بعد حزيران / يونيو 1967، يبرره فشل الانتفاضات العربية التي طالبت بالحرية والخبز والكرامة، والتي شهدتها عدة عواصم ومدن عربية في السنوات الأولى من العقد الحالي، ومنها كذلك ما شهدته الحركة الوطنية الفلسطينية في العقدين الأخيرين، وخصوصاً منذ منتصف العقد الماضي، من تفكّك وترهّل وانقسام، وما تولد لدى فئات فلسطينية واسعة من غياب الجدوى مما هو قائم سياسياً، ومن تراجع القضية الفلسطينية بعد اتفاق أوسلو إلى شأن فلسطيني، ومن اختزال فلسطين إلى جزئها الذي احتل سنة 1967، واختصار السياسة الفلسطينية إلى التنافس بين سلطتي حكم ذاتي إداري على كل من الضفة الغربية وقطاع غزة.
لن أعود إلى ما كتبه آخرون، وهم كثر، عن أسباب هزيمة حزيران / يونيو 1967، ومنهم صادق جلال العظم (الذي عُرف كتابه "النقد الذاتي بعد الهزيمة" على نطق واسع)، ومهدي عامل ونديم بيطار وحليم بركات ومحمد حسنين هيكل وغيرهم. يكفي القول هنا أن سيرورة الأوضاع في العالم العربي خلال الخمسين عاماً الماضية لا تشي بأن الدروس والعبر استُخلصت من قبل القائمين على الأوضاع العربية من مراجعة أسباب تلك الهزيمة وحيثياتها، أو أنهم اعتمدوا سياسات اجتماعية وسياسية وثقافية لمنع تكرار الهزيمة.
أعتقد أن كثيراً مما كتب عن هزيمة حزيران / يونيو بني على افتراض وجود سلوك نمطي واحد وعقل جمعي خاص بالعرب؛ ولذا كان الحديث عن "الذهنية" السائدة في المجتمعات العربية آنذاك، وقد حُدد منها: الجهل بالذات والآخر؛ سيادة عقلية قدرية وسلطوية؛ غياب مفهوم المواطنة؛ هيمنة الولاء للعائلة والقبيلة والطائفة والمجتمع المحلي؛ حضور واسع للفهلوه كنمط سلوكي؛ الميل إلى تسويغ إعفاء الذات من المسؤولية؛ تحميل قوى خارجية (الإمبريالية والاستعمار وإسرائيل) اللوم دائماً على كل تقصير أو عجز ذاتي؛ أي أن بنية المجتمعات العربية من حيث أشكال اللامساواة البنيوية السائدة فيها، وآليات انتاجها وإعادة انتاجها داخل كل مجتمع، وعلى الصعيد الإقليمي والدولي، لم تنل اهتماماً كافياً في تحليل أسباب الهزيمة. إن غياب تكافؤ الفرص في الوصول إلى التعليم والعمل والعلاج والتمتع بالحقوق الاجتماعية الاقتصادية والثقافية، في المجتمعات العربية، أرسى ووسع من ظواهر الحرمان والإفقار والبطالة والفساد، ومنح نخباً (طبقية؛ عائلية؛ طائفية؛ جهوية؛ إثنية) امتيازات سلطة وثروة ونفوذاً، وبالتالي قدرة غير منضبطة على ممارسة الاستبداد.
كما غاب عن عدد وافر من مراجعات أسباب هزيمة حزيران / يونيو، التدقيق في أدوات التغيير السياسي والاقتصادي - الاجتماعي والثقافي لمصلحة التركيز المبالغ فيه على سمات الدولة القائمة، من دون الالتفات إلى دور (أو غياب دور) الأحزاب والاتحادات الشعبية والنقابات والحركات الاجتماعية والثقافية في عمليات التغيير، ومن دون الانتباه إلى أهمية تكريس استقلالية الحقل السياسي عن الحقل الديني، واستقلالية الحقل الثقافي عن كليهما، ولا لأهمية الفصل بين السلطة السياسية والسلطة الاقتصادية.
إن الانتباه إلى ما سبق أمر مهم لعملية مأسسة الديمقراطية السياسية، ولتوسيعها كي تشمل الديمقراطية الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، ذلك بأن غياب الديمقراطية (كتدابير مشاركة الفرد في انتخاب مسؤوليه وفي تقرير مصيره، وكقيم تعلي شأن الحرية والمساواة) هو من أسباب تفجر الحروب الأهلية واستدعاء الاعتداءات والتدخلات الخارجية وما رافق ويرافق ذلك من تدمير وخراب وتهجير.
بعد هزيمة حزيران / يونيو، طرحت حركة المقاومة الفلسطينية على نفسها، في سنواتها الأولى، هدف تحرير فلسطين وأعلت شأن الكفاح المسلح، ومنحت اللاجئ هوية الإنسان المناضل، ورفعت شعار دولة ديمقراطية علمانية على أرض فلسطين التاريخية لليهود الإسرائيليين ولكل الفلسطينيين على قدم المساواة. لكنها تكاسلت عن تحويل الشعار إلى برنامج سياسي لجميع الشعب الفلسطيني، بحيث يستميل قوى داخل إسرائيل وتتفهمه قوى إقليمية ودولية، وذلك لعدة اعتبارات، منها: لم يجد الشعار صدى مشجعاً بين أوساط اليهود في إسرائيل، وخصوصاً بعد انتصارها العسكري الساحق في 1967؛ أن قضية الدول العربية بعد حرب حزيران / يونيو باتت استعادة الأرض التي احتلتها إسرائيل في تلك الحرب استناداً إلى القرار 242 الصادر عن مجلس الأمن؛ أن منظمة التحرير دخلت اعتباراً من أوائل سبعينيات القرن الماضي في صراعات دامية مع الأنظمة العربية، التي وجدت أن تمركز المقاومة على أرضها يتناقض مع مفهومها للسيادة، وخصوصاً السيطرة العسكرية والأمنية. ومن هنا جاءت الصدامات المسلحة بين المقاومة الفلسطينية والجيش الأردني في أيلول / سبتمبر 1970 ثم تورطها في حرب أهلية في لبنان، ودخولها مع حليفتها الحركة الوطنية اللبنانية في مواجهة مع سورية التي دفعت بقواتها للبنان سنة 1976، وعودة المجابهات مع القوات السورية في لبنان سنة 1983 بعد إخراج منظمة التحرير من لبنان بعد اجتياحه من إسرائيل وحصار العاصمة بيروت في صيف 1982.
حرب 1973 تقود إلى هزيمة سياسية
بعد وفاة عبد الناصر في سنة 1970، تولي أنور السادات رأس السلطة في مصر، وباشر تبني أجندة إسلامية يواجه بها الناصرية واليسار. واتضح لاحقاً أن شن السادات حرب تشرين الأول / أكتوبر 1973، كان هدفه تحريك المفاوضات مع إسرائيل التي وقّع السادات مع رئيس حكومتها مناحم بيغن اتفاق كامب ديفيد في أيلول / سبتمبر 1978، وهو الاتفاق الذي أخرج مصر، كأكبر دولة عربية وكقوة عسكرية وكمركز ثقل سياسي وثقافي في العالم العربي، من حالة مواجهة إلى حالة سلام مع إسرائيل.
وكان من تداعيات حرب تشرين الأول / أكتوبر، توليد طفرة في أسعار النفط الذي جيّر جزء من عائداته الهائلة لتمويل حركات إسلامية أصولية في المنطقة وخارجها، استهدفت إضعاف التيارات اليسارية والديمقراطية الليبرالية في العالم العربي، وخلخلة علاقاته مع الاتحاد السوفياتي الذي كان يُعد القوة الأكبر في مواجهة الولايات الأميركية. ولذا شهدت العقود الأخيرة تنامياً لتيارات أصولية وجهادية إسلامية عديدة. وتزامن توقيع اتفاقية كامب ديفيد مع اندلاع الثورة الإسلامية في إيران التي أطاحت بنظام الشاة الموالي للولايات المتحدة ولإسرائيل، وهو حدث تاريخي ساهم أيضاً في استنهاض التيارات الإسلامية الأصولية، وفي تراجع اليسار والاتجاهات الديمقراطية الليبرالية على تنويعاتها.
أفقدت معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل منظمة التحرير الفلسطينية قوة إسناد عربية لا تعوّض، ومهدّت الطريق أمام إسرائيل لاجتياح لبنان في صيف 1982، وبمساندة نشطة من الولايات المتحدة، فُرض إبعاد منظمة التحرير عن لبنان وبعثرة قواها على عدة بلدان. وهذا الضعف الذي تلا إخراج منظمة التحرير من لبنان دفع بعض العواصم العربية إلى تغذية مزيد من الإضعاف أملاً في السيطرة على قرار المنظمة لتحسين مواقع تلك العواصم التفاوضية إقليمياً ودولياً. كما أن الانشقاق داخل حركة "فتح"، سنة 1983، وما تبعه من انقسام سياسي داخل منظمة التحرير أشغلا مكوناتها الرئيسة في مفاوضات وترتيبات استعادة وحدتها وهو ما تم في سنة 1987. وفي نهاية تلك السنة انفجرت الانتفاضة الأولى، وكان على قيادة المنظمة، وهي في حالة ضعف وعزلة في تونس، الإشراف على انتفاضة شعبية في الضفة الغربية وقطاع غزة، أغنت النضال الوطني الفلسطيني بأشكال مبدعة ومدهشة من المقاومة، لكن تلك الحالة تركت أثاراً سلبية على الانتفاضة ليس هنا مجال مناقشتها، فضلاً عن أن اقتحام الإسلام السياسي للحقل السياسي الوطني في تلك اللحظة التاريخية، وتحديه لمنظمة التحرير، لم يساهما في تماسك الحقل الوطني، ولا سيما العزلة السياسية والمالية التي فرضت على المنظمة بعد حرب الخليج في بدابة التسعينيات.
عالم رأسمالي يتوحّش
ساهم انهيار النظام الاشتراكي في الاتحاد السوفياتي ودول أوروبا الشرقية، وما تبعه من احتفاء الرأسمالية الغربية بانتصارها والاندفاع في العولمة بصيغتها النيوليبرالية المدمرة لدولة الرعاية، والمطلقة العنان لحرية السوق ورأس المال الخاص (وتحديداً الماليمنه) كمحددين وموجهين للعلاقات الاجتماعية، في تغذية الحركات الأصولية والقومية المتعصبة والشعبوية اليمينية. واعتمدت النخب الحاكمة في العالم العربي النيوليبرالية كاستراتيجيا اقتصادية- اجتماعية- ثقافية، وهو ما تزامن مع تراجع دور قوى اليسار والقوى الديمقراطية المستنيرة، وبالتالي تراجع دور القوى المدافعة عن مصالح الفئات المحرومة والمستغلة والمستثناة في المجتمع. ونتيجة هذه التحولات كلها زادت معدلات البطالة والإفقار في معظم المجتمعات العربية، وكذلك الفوارق الاقتصادية والمعيشية بين المواطنين على أسس طبقية وجهوية وطائفية وإثنية وقومية ونوع اجتماعي، بالترافق مع تعاظم سطوة أجهزة الأمن والمخابرات وبيروقراطية الدولة وفساد الحياة السياسية والقطاع الخاص.
إن الانتفاضات الشعبية التي تفجرت في أوائل العقد الثاني من القرن الحالي في عدد من الدول العربية هي النتيجة الطبيعية للسياسات التي أشرت إليها، لكن عفوية هذه الانتفاضات وضعفها على صعيد التنظيم، وعدم بلورة برامج ملموسة لتوليد التغيير الاقتصادي - الاجتماعي لمصلحة القوى المهمشة والمحرومة، وغياب برامج ملموسة لتوليد نظام سياسي ديموقراطي يرعى مصالح وحقوق جميع المواطنين من دون تمييز بمن في ذلك المرأة والأقليات، أمور مكّنت قوى الثورة المضادة، المسنودة من قوى إقليمية ودولية، من إعادة فرض سيطرتها وتجديدها للنظام القديم وإن بوجوه جديدة. غير أن الأوضاع التي ولّدت هذه الثورات الشعبية بقيت كما كانت، وبالتالي فإن تواصل إنتاج اللامساواة والفساد والمظالم يبقي الأوضاع في حالة متفجرة.
دول عربية تتفكك واستعمار استيطاني يتغوّل
إن مسارعة قيادات عربية إلى زيارة الرئيس الأميركي الجديد دونالد ترامب في واشنطن، على الرغم من اتضاح انحيازه إلى سياسة اليمين الصهيوني المتطرف في إسرائيل وعدائه للإسلام وقضايا التحرر والحداثة، مؤشر إلى واقع حال النظام العربي الرسمي الراهن. كما أن حالة الضعف العربي يظهرها قرار حكومة إسرائيل، في نيسان/أبريل من هذا العام، بناء مستوطنة جديدة في صلب الضفة الغربية بعد يوم واحد من تجديد التزام القمة العربية بالشروط التي كانت قد طرحتها في سنة 2002 لتطبيع علاقاتها مع إسرائيل. وتجدر الإشارة أيضاً إلى أنه بعد ثلاثة أيام من إعلان المبادرة العربية في تلك السنة اجتاح الجيش الإسرائيلي مدن الضفة الغربية واحتلها، وحاصر ياسر عرفات في مقر إقامته في رام الله.
في حزيران / يونيو 1967 استكملت إسرائيل احتلالها ما تبقى من أرض فلسطين (علاوة على سيناء والجولان)، ومنها الجزء الذي تسميه إسرائيل "يهودا والسامرة" لارتباطه بجغرافيا الرواية التوراتية التي تسند إليها الصهيونية مسوّغها الديني لاستعمارها الاستيطاني لفلسطين. لذا باشرت استعمارها الاستيطاني، الذي لم يتوقف لحظة خلال العقود الخمسة الماضية، كما أن احتلال هذا الجزء من فلسطين كان سبباً في ظهور مجموعات قومية دينية يهودية متطرفة، وفي توطيد نفوذ المستوطنين في مؤسسات الدولة الصهيونية كافة.
لقد وفّر احتلال بقية الأرض الفلسطينية في حزيران / يونيو 1967 لإسرائيل الفرصة كي تعلن ضم القدس الشرقية، وتعتبر القدس الموحدة عاصمتها الأبدية، وتتعامل مع سكانها الفلسطينيين كمهاجرين في مدينتهم، يمنحون إقامة دائمة، مع الحرص على اعتماد تدابير متنوعة لتغيير التركيبة السكانية والجغرافية للمدينة، شملت مصادرة مساحات واسعة من أراضي القدس وجوارها، وتشييد أحياء يهودية جديدة داخلها، وفرض قيود صارمة على البناء في الأحياء الفلسطينية، في مقابل تشجيع المستوطنين على التمدد في هذه الأحياء، والتمييز تمويلاً وخدماتياً ضد كل ما هو فلسطيني.
ولجأت إسرائيل مع بداية عقد التسعينيات إلى وضع الحواجز العسكرية، واعتماد نظام حصول الفلسطينيين من بقية الضفة الغربية وقطاع غزة على تصاريح لدخول القدس. وزاد بناء جدار الفصل العنصري (بُدئ في سنة 2002) من القيود المفروضة على حركة الفلسطينيين، كما أدى إلى فصل ثمانية أحياء مقدسية عن المدينة بعد أن باتت على الجانب الأخر من الجدار، مع الاستمرار في إلزام سكانها تسديد الضرائب من دون أن تُوفر لهم الخدمات التي توفرها للأحياء اليهودية.
وعندما أخلت إسرائيل مستعمراتها داخل قطاع غزة في أيلول / سبتمبر 2005، اعتبرت أنها أنهت احتلالها لقطاع غزة، وهي، خلاقاً للقانون الدولي، لا ترى أن حصارها التام للقطاع، أرضاً وجواً وبحراً (منذ عشرة أعوام) وإحكامها قبضتها الأمنية والعسكرية والاقتصادية عليه، وتقييدها حركة السكان والسلع منه وإليه، إنما هو احتلال وفرض عقوبة جماعية، وممارسة لشكل من أشكال الإبادة الجماعية المتدرّجة. فقد أشار تقرير مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (UNICTAD) لسنة 2015، إلى أن قطاع غزة مرشح لأن يصبح مكاناً غير قابل للحياة البشرية في سنة 2020 إذا ما استمر وضعه على ما هو عليه، وبعد أن تجاوزت نسبة البطالة فيه 44%، وحيث يعاني ما لا يقل عن 72% من السكان من غياب الأمن الغذائي، بينما تعتمد نسبة عالية منهم على المساعدات الإنسانية، فضلاً عن أن البنية التحتية والخدمات العامة باتتا في وضع مزرٍ، إذ إن، ما يزيد عن 95% من مياه الأنابيب لم يعد صالحاً للشرب، كما أن الكهرباء لا تتوفر إلاّ بضع ساعات يومياً. ومن هنا، لا يختلف وضع قطاع غزة عن معسكر اعتقال يضم قرابة مليونين من البشر له سبع بوابات (معابر) تسيطر إسرائيل عليها سيطرة تامة باستثناء بوابة رفح المتخصصة للمغادرين والوافدين من مصر، علاوة على أنها تسيطر، سيطرة تامة، على سماء القطاع ومياهه الإقليمية وتتحكم بعلاقاته التجارية والاقتصادية الخارجية، وهي شنت عليه ثلاث حروب تدميرية بين سنتي 2008 و2014، وتهدد بشن حرب تدميرية جديدة.
تعاملت إسرائيل مع الضفة الغربية عند احتلالها سنة 1967 مثلما تعاملت مع الأراضي الفلسطينية التي استعمرتها في سنة 1948، أي كأرض تقع في نطاق سيادتها بشكل مستديم. ولذا، فإنها تفرض سيطرتها على الأرض والموارد الطبيعية والحياة الاقتصادية، وعلى حركة السكان والسلع، وتمارس الاعتقال الإداري (وهو اعتقال تعسفي تماماً لأنه يتم ويتجدد من دون محاكمة)، وتفرض على سكان الضفة الفلسطينيين المثول أمام القضاء العسكري الذي يحاكم آلاف الفلسطينيين سنوياً وأغلبهم من المنطقتين "أ" و"ب" (المنطقتان المفترض أن تكونا تحت السيطرة الأمنية والإدارية الفلسطينية) في الضفة الغربية، فضلاً عن هدم بيوت أسر كعقوبة لأي فلسطيني يقاوم الاحتلال، أو كإجراء لحصر ممارسة النشاط العمراني الفلسطيني ضمن مناطق مقيدة بمخططاتها التوسعية.
استثمرت إسرائيل اتفاق أوسلو في مواصلة سياستها تجاه الأرضي الفلسطينية التي احتلتها في سنة 1967 لتوليد وهم أن السلطة الفلسطينية هي المسؤولة عن واقع الفلسطينيين في هذه الأراضي، في حين أن لا قرار تأخذه السلطة مهما يكن صغيراً إلاّ ويستدعي موافقة إسرائيلية، علنية أو ضمنية. إن أهمية وجود سلطة فلسطينية بالنسبة إلى إسرائيل قائمة على كون الأولى من يتحمل تكلفة احتلالها لهذه الأراضي، وأن السلطة هي المسؤولة عن الإنفاق على خدمات التعليم والصحة وعلى البنية التحتية في المنطقتين "أ" و"ب"، عبر ما تتلقاه من تحويلات ومساعدات خارجية، وما تجبيه من ضرائب مباشرة وغير مباشرة من المواطنين، ومستندة أيضاً إلى كون السلطة أخذت على عاتقها توفير الحماية للإسرائيليين بما فيهم المستوطنون، وهذا هو مغزى التنسيق الأمني.
مع وصول اتفاق أوسلو لطريق مسدود، وتواصل الانقسام والتفكك في الحركة السياسية الفلسطينية، تفاقم تغوّل اليمين الإسرائيلي الديني والقومي الأصولي في ممارساته ليس فقط تجاه الأراضي التي احتلت سنة 1967، بل أيضاً تجاه تلك التي احتلت سنة 1948. وهذه الممارسات يحركها تعميق غرس سيطرة إسرائيل على أرض فلسطين وحشر سكانها الأصليين في معازل وقضم ما صنّف بالمنطقة "ج" وغور الأردن، فضلاً عن الكتل الاستيطانية والقدس، واتاحة حكم ذاتي إداري للسلطة الفلسطينية - تحت السيطرة الأمنية الإسرائيلية والهيمنة الاقتصادية - على معازل سكانية فلسطينية.
ما يخشاه بعضنا هو أن يقود التوهم بأن الإدارة الجديدة في الولايات المتحدة مستعدة لأن تأخذ موقفاً منصفاً للشعب الفلسطيني، السلطة الفلسطينية إلى اتخاذ إجراءات قاسية تجاه قطاع غزة باعتبارها إجراءات ضاغطة على حركة "حماس" تهدف إلى استعادة سيطرتها على قطاع غزة. وهذه الإجراءات، إذا اتخذت، سوف تفاقم البؤس والشقاء للغالبية العظمى من السكان، لكنها لن تمس بسلطة حركة "حماس"، ولن تدفعها إلى التخلي عن سلطتها لمصلحة سلطة حكومة توافق وطني تقودها حركة "فتح"، وهذا أمر لن يقود سوى إلى المزيد من تهميش القضية الوطنية الفلسطينية وتشوشها.
صناعة وعي جديد
نحن بحاجة إلى وعي جديد بعد خمسين عاماً على هزيمة حزيران / يونيو وما تلاها من هزائم وكوارث ودمار، وبعد هذا الكم كله من الاستعمار الاستيطاني وبناء المعازل والاعتقال والتمييز العنصري، وبعد ربع قرن من إنكار الكارثة التي أورثنا إياها اتفاق أوسلو. وعي جوهره، عربياً، الوعي بالحاجة الماسة إلى تفكيك آليات إنتاج اللامساواة والتمييز والاستبداد وسيطرة نخب صغيرة على القرار الوطني السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وجوهره، فلسطينياً، الحاجة إلى إعادة بناء الحركة السياسية الفلسطينية على أسس ديموقراطية تمثيلية جامعة، وتخطي حالة إنكار غياب فرص إقامة دولة فلسطينية مستقلة لا تفرط في حق العودة. لقد عرّض الجري وراء سراب اتفاق أوسلو التجمعات والمجتمعات والجاليات والمخيمات الفلسطينية داخل فلسطين التاريخية وخارجها لأشكال من الانكشاف المرعب رأينا أمثله صادمة له في العقدين الأخيرين في التجمعات الفلسطينية كافة.
ليس في الأفق ما يؤشر إلى قرب التوصل إلى تسوية للصراع الفلسطيني- الإسرائيلي تتجاوز صيغة حكم ذاتي إداري بائس على "معازل" محاصرة بمستعمرات صهيونية وطرق التفافية للمستوطنين وحواجز عسكرية إسرائيلية دائمة وطارئة. أي ليس في الأفق ما يشي بقيام ـ على المدى المنظور ـ دولة فلسطينية قادرة على ممارسة السيادة على شبر واحد من أرض فلسطين وإن سُمح لها بأن ترفع العلم الفلسطيني، وأن تعزف النشيد الوطني وتستقبل زوارها الرسميين بالبساط الأحمر، فالسلطة الفلسطينية تقوم بهذه كله الآن. كما لن يغيّر من واقعها الفعلي، اعتمادها جميع مسميات الدولة السيادية، كما تفعل الآن. أما مكونات الشعب الفلسطيني خارج الضفة والقطاع، فسوف يحظر على الدولة العتيدة التكلم باسمهم، لأن "التسوية" التي يُهيأ لها ستشترط إنهاء جميع المطالب بما فيها حق العودة.
لقد استُغلت المفاوضات الثنائية لتعميق الاستعمار الاستيطاني وترسيخ نظام الأبرتهايد وبناء المعازل، ولتهويد القدس وللتغطية على الاعتقال التعسفي والإذلال اليومي على الحواجز واقتحامات المدن والقرى والبيوت. ولذا، علينا التخلص نهائياً من زيف الوعي بقدرة المفاوضات على توصلينا إلى حل، واستبدالها بالثقة بأن لا قوة قادرة على أن تلزم الشعب الفلسطيني بقبول تسوية تفصّلها دولة استعمارية عنصرية متوحشة، وترعاها إمبراطورية هي الأشرس والأقل أخلاقية في التاريخ المعاصر.
نحن بحاجة إلى وعي جديد تستدعيه المتغيرات التي شهدتها المنطقة العربية والإقليم والعالم في العقود الأخيرة، وما دخل على حقل السياسة الفلسطينية من تبدلات طالت تكوين وأهداف قواه السياسية والاجتماعية والثقافية، وعلاقات هذه مع بعضها مع بعض ومع قوى خارجية.
ليس لدى الحركتين السياسية والثقافية الفلسطينية ما يبرر التردد في توليد رؤية كفاحية جديدة بأبعادها المختلفة، فمقولة أن موازين القوى لا تسمح بتجاوز مطلب إقامة دولة فلسطينية على حدود الأراضي التي احتلت سنة 1967 هي دعوة إلى انتظار ما يتيح به ميزان القوى القائم، متجاهلة أن العديد من التحولات ذات الأثر والقيمة في العالم (بما فيها في المنطقة العربية) تم بصورة معاكسة لما تقترحه موازين القوى المرئية في حينه. وهذا الأمر يسري على انطلاق الثورة الفلسطينية في الستينيات. ولهذا يجب التمعن في مدلولات فشل ربع قرن من المفاوضات المباشرة مع إسرائيل من أجل قيام دولة مستقلة على حدود الخامس من حزيران / يونيو 1967، كما يجب عدم التفريط فيما امتلكته الثورة الفلسطينية من تفوق أخلاقي يمثله نضال الشعب الفلسطيني، ومن قيم تحررية وانعتاقية، وهي القيم التي يتعين على الرؤية الفلسطينية الجديدة تجسيدها.
ويتوجب على الوعي التحرري الجديد أن يتلمس حقوق جميع الفلسطينيين ومصالحهم، وما لحق بهم من ظلم وإنكار لحقوقهم التاريخية والسياسية والإنسانية، وكذلك أن يخاطب يهود إسرائيل ويقنعهم بأنهم لن يكونوا أحراراً ما دام الاحتلال والتشريد والتطهير العرقي والتمييز تمارس من طرفهم ضد الشعب الفلسطيني، وما دامت الصهيونية كحركة عنصرية هي المهيمنة في مجتمعهم.
هذا قد يعني رفض تقسيم فلسطين إلى دولتين، ويفترض بناء وطن تعددي قائم على المساواة والإنصاف للجميع، وعلى حق كل مشرد من الشعب الفلسطيني في العودة إلى وطنه، وحقه في التعويض عن الأضرار التي لحقت به جراء الاستعمار الاستيطاني والتطهير العرقي.
هذا ما حاولت منظمة التحرير طرحه، غداة هزيمة حزيران / يونيو، لكنها لم تحوله إلى مشروع سياسي ديموقراطي نضالي، وإلى بديل تحرري وتقدمي إنساني من المشروع الصهيوني الاستعماري الاستيطاني العنصري. إن الخطوط الأولية لهذه الرؤية تطرحها حركة المقاطعة لإسرائيل (BDS) لكنها مبادرة بحاجة إلى استكمال كي تتحول إلى رؤية ديمقراطية تقدمية بديلاً من مشروع الدولة اليهودية الواحدة العنصري، ومن مشروع الدولة الإسلامية الواحدة الإقصائي، ومن مشروع "حل الدولتين" الذي يشكل غطاء لدولة الأبارتهايد الصهيونية الواحدة.
ولعل في إضراب الأسرى في السجون الإسرائيلية عن الطعام الذي بدأ في أواسط شهر نيسان / أبريل الماضي، والتفاعل والتضامن الواسع مع نضالهم، ما يبشر بعودة الوعي إلى السياسة الفلسطينية، وما يحث على الحاجة إلى تنويع فعل المقاومة ضد الاحتلال ومستوطنيه، وإلى خلق حالة نهوض جديدة في مواجهة محاولات شيطنة النضال الوطني الفلسطيني ووصمه بالإرهاب.