مضى خمسة عشر عاماً على هذه المقالة التي كتبها إدوارد سعيد عن الوضع في مدينة القدس، إلاّ إن دقّته في وصف حال المدينة تبقى لافتة، على الرغم من التدهور الهائل الذي لحق بها خلال هذه الفترة. بل إن اللافت أكثر من البصر الثاقب لسعيد حيال نيات إسرائيل في القدس هو عمق فهمه منهج العمل الذي اتّبعته إسرائيل منذ سنة 1967؛ ذاك المنهج الذي يتمثل أولاً في بناء تصوّر لما تريد أن يصدقه العالم، ثم العمل بكل عزيمة وتصميم على تحويل تلك الرؤيا إلى واقع. هكذا سبقت سياسةُ الإعلان التغيرات الفعلية على الأرض، وكان الجهر بالقدس "عاصمة أبدية موحدة" لإسرائيل، وترسيخ هذه الفكرة عبر الأقنية الكثيرة المتاحة، طليعةَ العمل الفعلي لتحويل هذه الرؤيا إلى واقع؛ ذاك العمل الذي اشتمل على ابتلاع القدس العربية، وتحويل سكانها، من خلال تكثيف الاستيطان، إلى أقلية حتى في الشطر الشرقي من المدينة، وفصلها عن محيطها في الضفة الغربية. ولا تزال هذه الأعمال مستمرة منذ ما يزيد على أربعة عقود، غير أن الشرط المسبق لنجاحها كان سياسة الإعلان التي لخصها سعيد على نحو دقيق. فعلى الرغم من الحديث الفارغ كله عن "الدعاية الصهيونية"، إلاّ إنه قلّما كُتب شيء بمثل هذه البصيرة التي امتلكها سعيد بشأن الترابط الوثيق بين الجوانب الخطابية والفعلية في السياسات الإسرائيلية. ومما يستحق التشديد عليه أيضاً، ذلك الغضب الذي لا يكاد يخفى في مقالة سعيد حيال عجز القيادات الفلسطينية والعربية، سياسياً وفكرياً على حد سواء، عن بناء رؤيا للقدس يمكن أن تقف إزاء قدس يهودية تاريخية تعود إلى إسرائيل على وجه الحصر. وهذا البكم، وهذا العمى عن أهمية امتلاك رؤيا وإبرازها واضحة للعالم، كثيراً ما كانا مصدر إحباط لإدوارد سعيد الذي ما انفك ينبّه إلى أهمية أن يكلّم الفلسطينيون العالم بوضوح عن أهدافهم وآمالهم ورؤاهم وفهمهم للتاريخ. والمحزن، أن الأعوام التي تلت وفاته في سنة 2003 قلّما شهدت تحسناً على هذا الصعيد: فما من إفصاح مطلقاً عن أي رؤيا عربية تجاه القدس، أَكانت لدى المجتمع المدني الفلسطيني، أم لدى مئات الوزراء والموظفين الكبار في "السلطتين الفلسطينيتين" الواهيتين في رام الله وغزة، فضلاً عن الأنظمة الأوتوقراطية التي ابتُلي بها العالم العربي من المحيط إلى الخليج. وما يستوقف أيضاً، أن نقد سعيد "عملية السلام" الهزلية كان في محله، على الرغم من مرور خمسة عشر عاماً على كتابته. فمعظم ما يحذر منه في المقالة حلّ بالقدس، بل إن الأمور تزداد سوءاً بمرور الوقت، إذ بدلاً من أن تقرّب هذه العملية السلام العادل، فإنها زوّدت الاحتلال الإسرائيلي والمشروع الاستيطاني بمزيد من التمكين، وأتاحت لإسرائيل إحكام قبضتها على القدس. غير أن لا شيء يمنع الفلسطينيين والعرب، كما يشير سعيد، من أن يعاودوا القتال على جبهة المعلومات، لا بشرح فداحة ما ترتكبه إسرائيل في القدس فحسب، بل أيضاً ببناء رؤيا أصحّ لما كانت عليه القدس، وما هي عليه الآن، وما يمكن أن تكون عليه. كان ذلك صحيحاً في سنة 1995، ولا يزال صحيحاً اليوم.
وضع القدس ومستقبل عملية السلام
القسم الرقمي:
كلمات مفتاحية:
القدس
عملية السلام
تهويد القدس
الاستيطان الإسرائيلي في القدس