الإدارات الأمريكية.. وإسرائيل
هشام الدجاني. دمشق: وزارة الثقافة السورية، 1994، 174 صفحة
منذ اندلاع الصراع العربي – الصهيوني وحتى الوقت الراهن، ما زال الفكر السياسي العربي، بتجلياته وتصنيفاته المختلفة، "يحاول استقراء الظواهر السياسية ذات العلاقة بالصراع. وتتراوح حاله بين الشطط الفكري والمبالغة وبين القصور في فهم "الآخر"، أكان عدواً أم صديقاً!
ومن المسائل التي لم يتكون بشأنها إجماع لدى المفكرين والساسة العرب، والفلسطينيين أيضاً، نذكر مسألة العلاقات الأميركية – الإسرائيلية، التي تنوس صورتها في الفكر السياسي العربي ما بين اعتبار الولايات المتحدة الأميركية "إيباكية" وصهيونية أكثر من الصهاينة أنفسهم، أو خاضعة لإملاءات تل أبيب وتابعة لها، وبين اعتبار إسرائيل أداه أميركية صماء لا تقوى إلا على تقديم خدمات لمصلحة واشنطن، عن طيب خاطر أو على الرغم منها.
لقد وقعت مسألة العلاقات الأميركية – الإسرائيلية، وعلى الرغم من كثرة الكتابات العربية والمؤلفات التي ناقشت مختلف أوجهها وجنحت نحو إطلاق أحكام قيمة فقط، في فخ الإطلاقية. وهنا يقوم الأستاذ هشام الدجاني بمعالجتها من جديد في كتابه الصادر حديثاً تحت عنوان: "الإدارات الأمريكية.. وإسرائيل". ويعتبر أن هدفه الأساسي هو "محاولة استقراء طبيعة العلاقة الخاصة القائمة بين واشنطن وتل أبيب، وتبيان حقيقة النفوذ الصهيوني والعوامل المؤثرة في تزايده في الولايات المتحدة الأميركية، وتقويم طبيعة العلاقة بين "البلدين"؛ إذ إن وصف العلاقة بينهما بأنها "فريدة" أو "نوعية" أو "مميزة" أو "خاصة"، وصف لا يقدم ولا يؤخر كثيراً في عملية فهم الأسس التي تقوم عليها، وبالتالي فهم سياق تطورها وآفاقها المستقبلية.
وتستند محاولة الاستقراء هذه إلى رصد قام به المؤلف للمراحل التي مرت العلاقة بين واشنطن وإسرائيل بها منذ إعلان قيام إسرائيل سنة 1948. ويعتقد المؤلف أنها مراحل ست، تعاقب خلالها على سدة الرئاسة في البيت الأبيض تسعة رؤساء، أولهم هاري ترومان الديمقراطي، وآخرهم جورج بوش الجمهوري.
ونشير إلى أن الدجاني لم يغفل جذور العلاقة الأميركية – الإسرائيلية قبل قيام إسرائيل، بل استند إلى نتائجها في تحديد سياق تطور العلاقة بعد قيام إسرائيل. وهذا ما بدا واضحاً خلال إلقائه الضوء على حقيقة الدور المهم الذي قام، ويقوم به، اللوبي الصهيوني، أما ما يعرف باسم لجنة الشؤون العامة الأميركية – الإسرائيلية (إيباك AIPAC)، الذي يستند في نجاحه في أداء دوره إلى عيوب النظام السياسي الأميركي التي تظهر جلية في الدورة الانتخابية القصيرة نسبياً.
ونتيجة لتتبع المؤلف لنشاط اللوبي الصهيوني وحقيقة نفوذ اليهود الانتخابي والاقتصادي في الولايات المتحدة الأميركية، فإنه يخرج باعتقاد مفاده أن "اللوبي الصهيوني لم يجترح المعجزات داخل الولايات المتحدة، وهو ليس ذلك الوحش الأسطوري الذي لا يقاوم. إنه لوبي صديق وحليف [لإسرائيل]، يعمل وفق خطط مبرمجة ومنظمة لتعميق مزيد من المكاسب لدولة إٍسرائيل أو للحيلولة دون ما يتعارض مع مصالح إسرائيل ومطامحها الإقليمية قدر الإمكان" (ص 15).
ويعتقد الدجاني "أن قوة النفوذ الصهيوني لا تعود إلى قوة يهود الولايات المتحدة الصهاينة بقدر ما تعود، ربما بدرجة أكبر بكثير، إلى الصهيونية غير اليهودية، أي الصهيونية المسيحية" (ص 24).
والفكرة الجوهرية التي يعالجها الدجاني في كتابه تتعلق بجملة التساؤلات التي طرحتها مرحلة إدارة الرئيس الأميركي جورج بوش على صعيد مستوى العلاقة بين واشنطن وتل أبيب – هل انخفض مستوى العلاقة إلى حد "تايونة" إسرائيل نتيجة لانهيار عنصرين مهمين من عناصر التحالف (الأميركي – الإسرائيلي) وهما: العداء للاتحاد السوفياتي ونفوذه في المنطقة، وضرب القوى الراديكالية فيها، أم أن مكانة إسرائيل بالنسبة إلى الولايات المتحدة الأميركية ازدادت أهمية في ظل النظام العالمي الجديد؟
إجابة المؤلف عن هذه التساؤلات تبدو في مقولته الرئيسية التالية: "في تقديرنا إن الولايات المتحدة لا يمكن أن تسقط إسرائيل من المعادلة الاستراتيجية في الشرق الأوسط. وستظل إسرائيل (احتياطياً) استراتيجياً أميركياً تستخدمه الولايات المتحدة عند اللزوم، كالأزمات الطارئة، أو لإجهاض تحولات جذرية في المنطقة العربية، (أصولية) كانت أو قومية، يمكن أن تلحق الضرر بمصالح الولايات المتحدة. وإسرائيل ستستمر في هذا الدور، دور مراقبة الوضع العربي، حتى بعد التسويات السلمية، حتى لا يحدث أي خلل حقيقي في ميزان القوى القائم لصالح إسرائيل، وحتى لا تملك أية دولة عربية قوة غير تقليدية، والتعامل مع مثل هذه التحولات إن حدثت" (ص 160).
وفي طيات هذا الكتاب نجد تحديدات وتوصيفات لمراحل العلاقة الأميركية – الإسرائيلية. ففي عهد ترومان برز التعاطف الأميركي الكامل مع المطالب الصهيونية، وبرز أيضاً الدعم المطلق لقيام إسرائيل. وفي عهد إدارتي أيزنهاور وكينيدي، برز التوازن في العلاقة وبداية التحول والصعود في خطها البياني على المستويات كافة. أما مرحلة إدارات جونسون ونيكسون وفورد، فهي مرحلة "التواطؤ والتحالف" بين واشنطن وتل أبيب لضمان مصالح الإقليمي بالقوة، في حين تميزت مرحةل إدارة كارتر بأنها مرحةل "السلام المنفرد" وإخراج مصر، أكبر دولة عربية، من دائرة الصراع.وهذه المرحلة مهدت طبيعياً لمرحلة إدارة ريغان، التي تميزت بأنها عبّرت عن وجود قرار أميركي يقضي بإطلاق يد إسرائيل في المنطقة العربية. وتمثل هذا في إقدام إسرائيل على القيام بعدد من المهمات العدوانية بدا ظاهرياً أن واشنطن لا تقرّها، بينما هي في الواقع موافقة عليها ضمنياً. ونذكر من تلك المهمات: قرار ضم الجولان؛ تدمير المفاعل النووي العراقي؛ غزو لبنان؛ إسقاط طائرة مدينة ليبية بعملية قرصنة جوية.
أما مرحلة إدارة بوش، فهي مرحلة التساؤلات عن دور إسرائيل. وعلى الرغم من التعارضات في هذه المرحلة بين واشنطن وتل أبيب بشأن مسألة القروض المصرفية، ومسألة تسوية الصراع في الشرق الأوسط، فإن تلك التعارضات لم تهدد أسس العلاقة. ومع أن مجيء طواقم صواريخ الباتريوت الأميركية إلى إسرائيل لجم ذراع إسرائي العسكرية فإنه لم يحول إسرائيل إلى محمية أميركية، ولم يرفع علامات استفهام حول مصيرها أو وظيفتها أو مبرر وجودها أو اعتبارها بمنزلة "لزوم ما لا يلزم".
ويمكن القول إن المؤلف نجح في محاولته استقراء طبيعة العلاقة القائمة بين الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل وفي بلورة فكرته الجوهرية بشأن تلك العلاقة وآفاقها بوضوح وجلاء، استناداً إلى مادته ومعلوماته المستقاة من مصادر أميركية وإسرائيلية وعربية والمنظمة جيداً، واستناداً كذلك إلى خلفية ما يتمتع المؤلف به من خبرة سياسية؛ حيث سبق له أن وضع عدداً من الكتب عن إسرائيل وعن النفوذ الصهيوني في الولايات المتحدة الأميركية، كما ترجم كتباً سياسية وأدبية خلال فترة عمله الطويلة في مجال التأليف والترجمة.
إن تفسير المؤلف لحيثيات وملابسات تطور العلاقة الأميركية – الإسرائيلية، ولمراحل "الخلاف" التي تدفع أياً من الطرفين إلى اتباع أسلوب "ضرب الآخر من تحت الحزام"، هو تفسير موضوعي، يضع العلاقة الأميركية – الإسرائيلية في سياقها التاريخي والسياسي. لذا وبناء على فهم سليم لهذه العلاقة، يمكن للمفكرين والساسة العرب وضع سياسات صائبة وغير قاصرة إزاء كل من واشنطن وتل أبيب في الوقت ذاته. ولهذا الأمر أهميته المتزايدة راهناً، سواء تم إنجاز "سلم بارد" أو "دافئ"، سواء عاد الصراع العربي – الصهيوني إلى مرحلة التصعيد العسكري أو لم يعد. ومن هنا تأتي أيضاً أهمية هذا الكتاب أكان بالنسبة إلى القارئ العادي، أم بالنسبة إلى السياسي، وتحديداً إلى صاحب القول الفصل في صنع القرار السياسي العربي.