ثورة حتى النصر؟ سياسة وتاريخ منظمة التحرير الفلسطينية
Revolution Until Victory? The Politics and History of the PLO
Barry Rubin. Cambridge, MA: Harvard University Press, 1994. 271 pages, £19.85.
هذا كتاب مراجعته صعبة، إنه ينم عن فطنة، والمؤلف جهد في التفتيش كي يُبرز تصريحات لقادة منظمة التحرير الفلسطينية، بما فيها تصريحات في وسائل الإعلام العربي. إن المناقشات والتعليقات انتقادية بصورة جارفة، وجارفة أحياناً إن لم نقل عدائية، لكنها مبرَّرة في الأغلب. غير أن مواطن القوة هذه تظهر مواطن الضعف أيضاً. فالمؤلف بحث على نحو منظَّم عن نوع محدد من تصريحات قادة م.ت.ف.، ولا سيما التصريحات التي توائم فرضيته الأساسية. وعليه، فإن مناقشة النقاط الإفرادية التي يسجلها صعبة بالنسبة إلى مراقب ناقد، بيد أنها لا تتوصل إلى حجة مقْنعة، ولا تشرح أيّاً من سائر أبعاد الظاهرة الأكثر تعقيداً والتي جاءت سياسة م.ت.ف. وتاريخها عنواناً لها.
إن المقولة المركزية التي طرحها روبين هي أن م.ت.ف. لم تتغير، حتى أوائل التسعينات، بأي مقدار مهم لجهة موقفها الأساسي من السلام مع إسرائيل. ويعيد بدايات التغيير إلى سنة 1988، عندما تبنت م.ت.ف. [خيار] الدولتين حلاً للمشكلة الفلسطينية، لكنه يشير إلى وقوفها الكارثي إلى جانب صدام حسين سنة 1990 بوصفه دليلاً على أن التغيير كان سطحياً أو من النوع الذي يزول سريعاً. وليس سوى هزيمة العراق الحاسمة وبداية عملية [السلام] في الشرق الأوسط ما جعل م.ت.ف. تجد أخيراً ان لا خيار لها غير التفاوض، بشروط أميركية – إسرائيلية. وهنا ينتقد روبين، وبحق، اضطراب م.ت.ف. ورغبة عرفات في الاحتفاظ بجميع الخيارات، ومراوغته المحيطة، وإحجامه عن التغيير، وعجزه عن مخاطبة الجمهورين الأميركي والإسرائيلي على نحو مؤثر.
والآن، وقد أوفيناه حقه في ذلك، ثمة مشكلتان رئيسيتان تتعلقان بالكتاب. الأولى هي مسألة الأسلوب؛ فهو في أن واحد لاهث في محاولته للتطرق إلى جميع النقاط ودحض جميع الحجج المتخيلة المخالفة لوجهة نظره، وجارف في تبسيطه للأفكار الرئيسية وتعميماته المستخلصة من النقاط البارزة. وهذا بيَّن، على سبيل المثال، في الفصل الذي يتناول العلاقات بين م.ت.ف. والعرب؛ إذ يحاول أن يفعل ما يفعله كتيب سياحي لرحلة سياحية في عواصم أوروبية مدتها ثلاثة أيام. قد يبدو هذا قاسياً، غير أن المؤلف ظل مصمّماً على إثبات فكرته وإدراج جميع التفصيلات "المهمة" في الوقت نفسه إلى حد أن الكتاب فقد بنيته وسياقه. وقد تكون النقاط التي توصل إليها صحيحة في حد ذاتها ولذاتها، إلا إن القارئ يتوه في تتبعه لها بسبب ضآلة الإحساس بأهمية التصنيف أو إبراز الأولويات ضمن الفصول، وبسبب فقدان موضوع محدد باستثناء المقولة المركزية، وهي أن م.ت.ف. لا تتغير، وليست كفوءة، وغير محبوبة.
وبمعنى ما، فإن المشكلة السابقة نابعة من فهم معين لمجرى التاريخ. فبالنسبة إلى روبين، هناك م.ت.ف. واحدة ذات طبيعة جوهرية، وبالتالي ثابتة، لذلك، فإنه ليس هناك ما يُطرح سوى فكرة مركزية واحدة. أما التفصيلات، فإنها تثبت المسألة ليس إلا، ولا تحتاج إلى إدراجها في تصنيفات أو في بنى هرمية ذات منطق داخلي خاص بها. إن هذه، في الواقع، نظرة لا علاقة لها بالتاريخ الموثَّق، حيث يجد المؤلف أنه ليس أمراً غير طبيعي أن يثبت أن هدف م.ت.ف. في سنة 1985 كان تقويض السلام بالإشارة إلى هجوم إرهابي ارتكبه أحد فصائلها قبل ذلك بستة أعوام، أي في سنة 1974 (ص 47-48). والنتيجة تاريخ مكثَّف، لا رؤية تاريخية.
وتنضاف إلى أخطار التأريخ غير الموثَّق مشكلة ثانية، هي بالتحديد التحليل القائل إن م.ت.ف. ذات بُعد واحد. فالمؤلف، عملياً، لا يقول شيئاً عن سائر مستلزمات أي نشاط سياسي أو نضال وطني، كالقاعدة الجماهيرية، والمال، والسلاح، والتنظيم، أو حتى السياسة الداخلية. وبالنسبة إليه، فإن القصة "الحقيقة" هي تلك التي ظهرت في تصريحات لقادة م.ت.ف. أو لحلفائهم ومناوئيهم. وهذا تفسير كاف، ولا حاجة لنا إلى معرفة شيء عن العملية التراكمية والمعقدة والمتعددة الوجوه التي هي السياسة البشرية في أي مجتمع.
وعلاوة على ذلك، فإن التصريحات التي تناقض ما تزعمه م.ت.ف. من اعتدال هي، في نظر المؤلف، وحدها التي ينبغي أن تصدّق، متجاهلاً بحبور حقيقة أن عدة على فصائل فدائية أخذت خطاب الاعتدال محمل الجد إلى درجة أنها أقامت "جبهة رفض" سنة 1975، واصطدمت مراراً بـ "فتح" عرفات في أواخر السبعينات، وشقت "فتح" و م.ت.ف.، وشنت حرباً أهلية مصغرة سنة 1983. والكلام العلني من نوع محدد هو الدليل الوحيد على النيات والتعبير الحقيقي عن الجوهر، عوضاً عن اعتباره جزءاً أساسياً من مناقشات داخلية مطولة أو من تفاعلات معقدة بين الإمكانات والقيود الخارجية في واقع موضوعي. فلا عجب، إذاً، في أن روبين يجد صعوبة في الموافقة على أن م.ت.ف. يمكن أن تكون قد خضعت لتغييرات تراكمية، طفيفة أحياناً لكنها حقيقية، لفترة أطول كثيراً مما يريد الاعتراف به. وأي تغيير لم يكن ينجم، بحسب رأيه، عن تراكم عوامل وإنما كان يحدث من خلال تحولات مفاجئة عقب حوادث درامية معينة.
ومن المشكلتين الرئيسيتين تنشأ عيوب أقل شأناً، منها مثلاً أن روبين يستشهد بتعليقات عدائية تجاه م.ت.ف. صدرت عن إمام الشيعة موسى الصدر وزعيم الدروز اليساري كمال جنبلاط، إلا إنه يتجاوز كلياً ما صدر عنهما من عدد كبير جداً من التعليقات المؤيدة، وخصوصاً ما صدر عن جنبلاط الذي ظل حتى وفاته واحداً من أقرب الحلفاء اللبنانيين إلى م.ت. ولا يعني هذا أن ملاحظاته النقدية غير صحيحة، لكن يظهر هنا أيضاً ان اختيار الوقائع تم بصورة انتقائية متمادية، فلا يحظى القارئ بالتالي إلا بأقل كثيراً من الصورة بكامل اتساعها وعمقها. كما أن روبين يشير إلى الكليشهات العسكرية في برامج م.ت.ف. السياسية في سنة 1988، ولدى "فتح" عرفات سنة 1989، غير أنه يتجاهل العبارات الأساسية التي سمحت لعرفات بأن يسير بسياسة م.ت.ف. في اتجاه معاكس كلياً.
وثمة ملاحظة أخيرة تدل حقاً على العيب الحقيقي للكتاب. ببساطة تامة، إذا كان كل ما يريد روبين أن يقوله هو أن م.ت.ف. لم تتغير فعلاً قط، فإذاً كيف يفسَّر اتفاق أوسلو والسلام المنطوي على قدر كبير من عدم الرضى، مع إسرائيل في 13 أيلول/سبتمبر 1993؟ إن في الكتاب مقداراً يسيراً مما يفضي إلى هذه الخاتمة غير المريحة من وجهة نظر البحث. ولا شك في أن عند المؤلف جواباً، لأن التحليلات "الجوهرية" والتي لا علاقة لها بالتاريخ الموثَّق تميل إلى أن تكون تامة في ذاتها ومفسرة نفسها بنفسها، وإذا ما حدث أن سلمت بحتى أقل عنصر تغيير، لأي سبب كان، فلا بد للصرح المفاهيمي كله أن بيدأ في الانهيار. وأخيراً، لقد أقدم روبين على محاولة جرئية إزاء موضوع عسير، وقدّم، على الأقل، نصف صورة لسياسة م.ت.ف. وفلسفتها، لكن ما لا يستطيع هو ولا ناشرو كتابة الادعاء أنهم فعلوه هو شرح "سياسة وتاريخ" م.ت.ف.